الغفران
لما بدأ يدب عمل روح الله في دواخلنا، كانت النتيجة في معظم الحالات أننا بدأنا نحس بخطايانا والمذنوبية التي تلازم هذه الخطايا، وبالتبعية بدأنا نبحث ونطلب الغفران، بدأنا نشعر بالحاجة إلى الصفح عن خطايانا وإلى معرفة هذا الصفح.
ونحن نعتقد أن قارئ هذه السطور له معرفة بالغفران ومع ذلك يحسن أن نتناول بالتعليق تعليم الكتاب عن هذا الموضوع بهدف الوصول إلى إدراك مرتب ومنظم لهذه البركة العظيمة والأساسية من بركات الإنجيل.
ولنلاحظ قبل كل شيء أنه لما دخلت الخطية بمعصية آدم وتردي الجنس البشري كله في السقوط كانت النتائج كثيرة جداً ومتنوعة ومتشعبة وأول وأكبر أثر للسقوط أن أصبح آدم مذنباً. يستشعر الذنب في ضميره جميع الناس تحت قصاص من الله- أخطأ الجميع.
لكن الكتاب يتكلم عن أناس يسميهم "أهل التحزب" ولا يطاوعون الحق (رو2: 8) تبلّد الضمير في هؤلاء وهم كثيرون لا يقرون بالذنب وينكرون حقيقة السقوط ويتحدّون كلمة الله إذ يرفضون ما تقرره الكلمة من أنهم خطاة. بل ويدافعون عن مبدأ وجود الخير في الإنسان وأن الإنسان بطبعه يتّطلع إلى ما هو أفضل ويرفضون حتى وجود حدود للخير وللشر ويقولون أن الخير والشر كلمتان لهما معاني نسبية. فالخير هو ما يقبله الإنسان المتعلم المتقدم والشر هو ما يرفضه هذا النوع من البشر. وإذن فالصواب والخطأ هما قيمتان تتفاوت مناسيبهما حسب مفهوم العصر للأدبيات والأخلاقيات. والحكم في ذلك هو العقل البشري. والشر أو الذنب هو الخروج على مبادئ وأوضاع ما ارتضاه المجتمع الراقي المتعلم. فالمذنب هو المذنب أمام الناس من حوله.
أما كلمة الله فترينا أن القضية مع الله وليست مع الناس، والمذنب هو المذنب ليس أمام الناس بل أمام الله. ورسالة رومية تضع أمامنا من أولها هذه الأشياء:
(7) دينونة الله.
والله القوي البار الديّان هو نفسه الخالق، إذن مستويات الإدراك والفهم والاستنارة في الناس وهي أمور غير ثابتة أو راسخة لا تصلح قياساً وإنما نجد أنفسنا أمام قياس الله الخالق ذي البر الذي لا يتذبذب ولا يتأرجح ولا يتغير.
قد يحتاج الأمر إلى بعض الجهد لإقناع الضمير بأنه مذنب لدى الله، لكن هذا الإقناع ليس على هذه الدرجة من الصعوبة مع الناس البرابرة والوثنيين ويكفي أن تُتلى عليهم قائمة الخطايا والرذائل المذكورة في (رو1: 18- 32) لإقناعهم بأن لا عذر لهم في هذا الإسفاف نتيجة تحوّلهم عن الله.
لكن غير البرابرة ممن وصلوا إلى مستويات من الحكمة البشرية والحضارة- هؤلاء عندهم الشر نفسه والخطايا نفسها التي عند البرابرة لكنها فقط مُقَنّعة مهذبة وهؤلاء أيضاً بلا عذر. هؤلاء وأولئك ينتهي النقاش معهم بأن يُذَكِرهم بولس بأن:
(1)-أن دينونة الله على هذه الشرور هي حسب الحق.
(2)-أن هناك يوم سوف تستعلن فيه دينونة الله العادلة.
(3)-أن ليس عند الله محاباة.
وإذن فلا مفر من دينونة الله التي حسب الحق بلا أقل انحراف وحسب العدل بلا أقل تساهل ولا تدخل فيها أية محاباة. لذلك ليس هناك أمل في تفادي هذه الدينونة إنها دينونة يستَد أمامها كل فم. فم البربري وفم اليوناني- المتحضر وغير المتحضر، المتخلف والعصري ثم هناك قطاع آخر من البشر هم اليهود- الذين نشأوا في ظل ثقافة ليست مجرد ثقافة طبيعية بل هي ديانة بترتيب إلهي. هؤلاء بالدليل الكتابي من واقع المكتوب الذي بين أيديهم وُجدوا مديونين لأنهم بالطبيعة يعملون ما يعمله الخطاة من غير اليهود وبكسر الناموس يهينون الله، واستحقوا دينونة الناموس "لأن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس "أي اليهود لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله.
إذن وقد ثبت الذنب ووجب الحكم، صار الغفران ضرورة عاجلة وحاجة أمام النفس ماسة. لذلك يضع الرب غفران الخطايا في مقدمة تعليماته لتلاميذه قبيل الصعود حين قال "كان ينبغي أن المسيح يتألم...... وأن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم" (لو24: 46، 47).
وهناك أمثلة عملية- فإن الرسول بولس في (أع26: 16- 18) يذكر قصته وكيف تجدد على طريق دمشق وكيف أرسله الرب" قم وقف.. لأني لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادماً وشاهداً... لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور وسلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين".
وبطرس يتكلم إلى الجموع التي نُخست في قلوبها يوم الخمسين عن التوبة "وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا" (أع2: 38) وأمام المجمع شهد بطرس عن "غفران الخطايا" "هذا رفّعه الله بيمينه رئيساً ومخلصاً ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا" (أع5: 31) وكذلك أمام كرنيليوس قال "له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا" (أع10: 43) وفي أنطاكية قال بولس "فليكن معلوماً... أنه بهذا (بهذا الإنسان) يُنادى لكم بغفران الخطايا" (أع13: 38).
إذن بولس يثبت الاتهام ضد جميع الجنس البشري بأنهم مذنبون أمام الله وذلك في رسالة رومية- فلماذا لا يعلن مباشرة بعد الاتهام خبر الإعفاء من الحكم (غفران الخطايا) بل الواقع أن الغفران لا يُذكر في كل رسالة رومية إلا مرة واحدة عند ذكر ما قاله داود في مز32 "طوبى لمن غفر إثمه وسترت خطيته" هذا الكلام قاله بولس عند توضيح حقيقة التبرير. والحق أن حسبان البر للخاطئ الذي يؤمن هو عينُه غفران خطاياه- أي أن التبرير هو في معناه الغفران. إن تطويب إنسان يَحسِب الله له براً بدون أعمال الناموس (ص4: 7) هو عينُه تطويب الإنسان الذي يُغفر إثمه. (ص4: 6، 7) وهل تُغفَر آثام شخص دون أن يتَبرر هذا الشخص؟ أو هل يتبرر إنسان دون أن تُغفَر آثامه؟ إن كنا نُعفى من خطايانا أو تُطرَد عنا خطايانا (الغفران) فهذا هو الوجه السلبي وإن كنا نأخذ التبرير أو ننال التبرير فهذا هو الوجه الإيجابي والتعبيران يتضمنان الجوهر الواحد.
س: إذا كان الله في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم (2كو5: 19) فهل معنى هذا أن كل واحد قد غُفِرَت خطاياه؟
ج: كلا. حقيقة إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وحقيقة قال الرب للمرأة الخاطئة "ولا أنا أدينك" يو8: 11- إن الله جاء بالرحمة في المسيح لكن الناس رفضوا رحمة الله. لكن بدلاً من أن يرد الله على الإنسان الرافض الجاحد ويُصب جامات غضبه عليه توَسطت طول أناته وأُعطي مهلة خلاص للإنسان أو هدنة سلام للإنسان هي زمان النعمة الذي ينادى فيه بغفران الخطايا- فيه يعلن العفو عن العصاة المتمردين. فإذا تواضع واحد منهم وجاء تائباً تُغفَر آثامه هناك فرصة غفران للجميع لكن ليس الجميع يؤمنون.
س: في مثل لو7 الذي قاله الرب في بيت سمعان الفريسي عن المديونين- قال الرب إن صاحب الدين سامحهما جميعاً إذ لم يكن لهما ما يوفيان أفلم يُسامح سمعان كما سومحت المرأة؟
ج: كلمة سامحهما هي في الأصل اليوناني تعني "أظهر عطفه أو نعمته لهما" وعلى ذلك فالرب يُعلن في المثل الله كالمُنعِم العطوف مع الناس بغض النظر عن درجة تورطهم في الخطايا. وهذا هو بالضبط موقف الله الآن بالنسبة للناس. لكن المرأة هي التي نالت غفران خطاياها لأنها هي التي جاءت نادمة تائبة إلى من يخلصها والنعمة كانت مقدمة بالسوية لسمعان لكنه من أجل كبريائه لم يستفد منها. هي سومحت وهو لم يُسامَح.
س: هل حقيقة ينال الخاطئ التائب غفراناً لخطاياه في الحال بمجرد إيمانه وتوبته؟
ج: نعم بكل تأكيد ونلاحظ أن الإصحاح التاسع من رسالة العبرانيين (من ص9: 1 إلى ص10: 18) وهو يتناول موضوع ذبيحة المسيح، تبرز فيه هذه الحقيقة بكل جلاء فالرسول يؤكد ست مرات أن ذبيحة المسيح هي ذبيحة واحدة وقُدمت مرة واحدة وفي نفس الإصحاح يؤكد الرسول أيضاً أن الذين يقدمون السجود على أساس ذبيحة المسيح يطهرون مرة واحدة ولذلك يقتربون بضمائرهم مُكملَّة (ص10: 1- 2). إن الغفران يتم مرة واحدة وإلى الأبد.
س: يقول البعض إن كنا نُعلِّم بأن المؤمن ينال غفراناً كاملاً فهذا مما يشجعه والتراخي. أليس من الأفضل أن نقول له أنه يحصل على غفران لغاية يوم تجديده؟
ج: إن الذين يقولون هكذا هم غير المؤمنين الذين ينكرون أو يتناسون أن الذي يتجدد بعمل الروح القدس يأخذ طبيعة جديدة تكره الشر. ولو أُعطيت هذه الحقيقة وزنها الصحيح لأخذ الموضوع كله شكلاً جديداً. فإن الذي يؤمن تُغفر له الخطايا ويأخذ طبيعة جديدة ويسكن فيه الروح القدس ويتعلم من النعمة (تي2: 11- 14). وليكن معلوماً أننا أخذنا الغفران عند الإيمان لكننا أخذناه على أساس ذبيحة المسيح- وكل خطايانا (في كل حياتنا وليس لغاية يوم تجديدنا فقط) كانت يوم صليب المسيح كلها مُستقبلة. ولنعلم أيضاً أن الله يتعامل معنا للغفران- يتعامل معنا كالأب مع أولاده، عندما نخطئ- عندما نعترف بخطايانا ننال الغفران والتطهير من كل إثم "لنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار" (1يو1: 9و 2: 1) هذا هو غفران الله كأبينا لرد الشركة وليس الغفران الأبدي الذي نناله منه بمجرد الإيمان- منه لأنه "دَيَّان الجميع بيسوع المسيح".
س: وما معنى الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله؟ رومية 3: 25.
ج: الخطايا السالفة على أي شيء؟ ينبغي تحديد نقطة تكون الخطايا سالفة لها أو لاحقة لها. يقول الرسول "لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله. لإظهار بره في الزمان الحاضر" (رومية2: 25، 26). إذن السالفة هي السالفة على موت المسيح- أي خطايا المؤمنين الذين عاشوا في العهد القديم وليس السالفة على يوم تجديد المؤمن. فلما مات المسيح وتم صنع الكفارة تبين أن الله كان متمهلاً في العهد القديم لأنه كان واثقاً من جهة عمل المسيح أنه يوفي كل مطاليب عدله ضد هذه الخطايا. تماماً كما يصفح من أجل دم المسيح عن خطايا المؤمن في عهد النعمة.
- عدد الزيارات: 6923