Skip to main content

الفصل الثاني عشر: سفر يونان

لم يوجد في النقوش القديمة على أسوار مقابر رومية نقش أكثر تكراراً من صورة يونان مقذوفاً من بطن الحوت كرمز للقيامة. قال بعضهم: ظهرت دائماً في أفق العهد القديم قيامة السيد المسيح مرموزاً إليها بآية يونان النبي. وقال المسيح إن لا تعطي آية لبني جيله إلا آية يونان النبي (مت 12: 39). صلب المسيح، ومن قبر المصلوب قامت قوة حددت حياة ألوف وربوات في كل العصور. وعد مخلصنا بانه يقوم في اليوم الثالث ووفى بوعده وبرهن دعواه بالبنوة الإلهية وتخليص العالم "وتعين ابن الله بقوة .. بالقيامة من الأموات" (رو 1: 4).

النبي: هو يونان بن أمتاي، من قرية جت حافر من أعمال الجليل واقعة شمالي الناصرة. جاء في التلمود أنه ابن أرملة صرفة صيدا الذي أقامه إيليا إلا أنه ليس ثمة سند كاف لإثبات هذه الرواية. وعلى كل فإنه كان خليفة إيليا وأليشع. ومن المحتمل أنه تعارف بهما كليهما وشغل الفترة التي بينهما وبين هوشع وعاموس وأشعيا. ولا مانع من الظن أنه تعلم بمدرسة الأنبياء وتدرب على خدمته في حكم يربعام الثاني وربما قبله.

ومعنى اسمه بالعربية "الحمامة"، وأول نبوة فاه بها تلائم اسمه لأنه تنبأ بتعزية شعب الله وأخبرهم أن الله نظر لمذلتهم وأنه سيخلصهم من الآراميين كما نجد ذلك في سفر الملوك الثاني (14: 25 – 27) وهو خبر لعله كُتب بعدما كتب يونان سفره بزمن طويل توخى فيه الكاتب كرامة يونان الذي اعترف بزلته في أول سفره.

حكاية يونان عن أخلاقه تبرهن أن السفر واقعةٌ حقيقية لا مجرد مَثَل، لأن كاتب الأمثال لا يرى من الصواب أن يسند قصة خيالية إلى رجل حقيقي لما في ذلك من الخلط والتشويش. وإن صراحة يونان وتدوينه زلته في صدر نصنيفه برهان ثان على صحة الرواية. وعدا هذا فإن اليهود قبلوا ضمن قائمة أسفارهم المقدسة في حين أنه يخالف مبادئ تعصبهم الجنسي لأنه يتضمن إعلان نعمة الله لأمة أجنبية.

لماذا خالف يونان ربه: "وصار قول الرب إلى يونان ين أمتاي قائلاً قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم امامي فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب" (يونان 1: 1 – 3). فما الذي حمله على التردد والعصيان؟ لم يكن ذلك جبناً منه لأن الرجل كان شجاعاً غير هياب من الموت بدليل ما ظهر من شجاعته عند هبوب العاصفة على المركب الذي فيه. ولا كان السبب بعد المسافة ووعورة الطريق إذ أن ترشيس التي قصد أن يهرب إليها واقعة على سواحل إسبانيا فهي أبعد بكثير من نينوى، فضلاً عن مخاوف البحر. أما نينوى فكانت تسير إليها القوافل من آونة إلى أخرى إذ كانت عاصمة العالم المعروف في ذلك العصر. وأما السبب الحقيقي فلا يخلو من الفكر الذي أسلفنا ذكره وهو أن اليهود لا يودون أن تشاركهم أمة أجنبية في نعمة الله. وعدا ذلك فإن يونان قد علم من النبوات أن الله سيستخدم هذه الأمة يوماً ما للانتقام من اليهود، وأنها أمة قاسية القلب شرسة الطباع لا تنفك تشن الغارات على جاراتها وتعامل أسراها معاملة وحشية حتى قيل عنها أنها كانت تسلخ جلودهم وهم أحياء. وقد اعترفت بهذه القساوة هي بنفسها وعددتها في جملة معاصيها يوم تابت إلى الله (3: 8).

رأى يونان أن النداء على نينوى ربما يحملها إلى التوبة، وعلم أن الله رحوم يندم على الشر فلا يهلكها وهي عدوة أمته (4: 2). ولعله كان يود أن يقع عليها القصاص حتى تعتبر أمته بها وترجع إلى الله على وفق قول بعضهم "مصائب قوم عند قوم فوائد".

أرسل يونان نبياً للشعب المختار فكرس نفسه لخدمة أمته وإنقاذها من الأعداء. ولشدة محبته للوطن لم يدر ما الحكمة التي قصدها الله من تكليفه بهذه المأمورية، وخاطر براحته وبوظيفته النبوية في سبيل الاحتفاظ على مصلحة بلاده.

ويظهر أنه كان واسع الإطلاع على سفر المزامير. عرف تمام المعرفة أنه إن أخذ جناجي الصبح وسكن في أقاصي البحر لا يقدر أن يهرب من وجه الله. إلا أنه ظن ككثيرين من خدام الله أنه إذا تبدلت ظروفه يتساهل معه الله في تأدية المأمورية ويسكن تبكيت ضميره "فنـزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيس فدفع أجرتها ونـزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب".

العاصفة: هاكم ما حصل في رحلته. إنها لقصة جميلة جداً على قصرها، يشخّص فيها الكاتب بمشهد حيوي النوء الشديد ومساعي النوتية وغضب الرئيس على يونان لعدم إكتراثه بالحادثة في حين أن كل الركاب كانوا يصلون لآلهتهم. ألقوا القرعة ليعلموا من هو المسؤول عن هذه الحالة الغريبة فأصابت يونان. وعند ذلك احتاطت به الركاب والنوتية يجهدونه بالأسئلة: "أخبرنا بسبب من هذه المصيبة علينا"؟ وقال آخر "ما هو عملك ومن أين أتيت"؟ وسأله غيره: "ما هي أرضك ومن أي شعب أنت"؟ وما كان أشد خوفهم ودهشتهم عندما علموا من نفس جوابه أنه هرب من وجه إلهه الذي صنع البحر والبر. وشاوروه ماذا يعملون به حتى تهدأ الحال. وخافوا أن يلقوه في البحر حسب طلبه لئلا تلحقهم بلية أخرى بسببه. وأخيراً اضطروا أن ينقادوا لمشورته فطرحوه في البحر سائلين الله أن يبرئهم من دمه.

بيلاطس الأممي كان يريد أن يطلق يسوع، ولكن الأمة اليهودية، في هياجها، لم ترد إطلاقه. وازداد الشعب صراخاً "اصلبه اصلبه". فغسل بيلاطس يديه وقال "إني بريء من دم هذا الإنسان".

حالما طرح يونان في قلب البحر سكن هياجه وخمدت ثورته. وارتضاء يونان بأن يطرح في البحر يمثل لنا موت يسوع الاختياري بالنيابة عنا حيث يقول "أضع نفسي لآخذها ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي".

وأما الرب فأعدَّ حوتاً عظيماً: استعمل يونان كلمة "أعد: مراراً. قال "أعد الرب الإله يقطينة" "أعد الله دودة". أرسل الله ريحاً شديدة إلى البحر. فكما أعد هذه الأشياء أعد أيضاً حوتاً عظيماً ليبتلع يونان لنجاته.

ولنا كلمة نقولها للذين يسخرون بهذا السفر ويعدونه قصة خيالية: إن الرب يسوع أشار إلى سفر يونان واتخذ منه شاهداً على قيامته. واعتبر القيامة خير آية لبني جيله وهددهم تهديداً صارماً حيث يقول لهم: إن أهل نينوى سيقومون في يوم الدين ويدينونهم لأنهم تابوا بمناداة يونان وهوذا أعظم من يونان ههنا. ولسنا نقدر أن نتصور أن مخلصنا يقول هذه الأقوال عن توبة وهمية وأناس لا وجود لهم إلا في عالم الخيال.

أما نحن المؤمنين الذين نؤمن بمعجزتي تجسد المسيح وقيامته من الأموات فما أيسر علينا أن نؤمن بأن الله أعد حوتاً ليبتلغ يونان ويقذفه على ساحل البحر حياً رمزاً إلى قيامة مخلصنا في اليوم الثالث. لا مجال لنا أن نشك في أن يسوع قال ما قاله في صدد يونان؛ إلا أننا نقدر أن نقول أن الكلمة المترجمة "حوت" في العهدين تفيد نوعاً آخر من السمك يسمى "كلب البحر" يبلغ طول بعضه ثلاثين قدماً؛ وهو عظيم الشره حتى أنه يبتلغ كل ما أمكنه أن يبتلعه من الخيل أو الثيران وبني آدم. وقد وجد في بطن واحد منها رجل عليه لباس البريد.

وفي سنة 1758 سقط رجل في البحر الأبيض المتوسط من إحدى السفن فابتلعه كلب البحر على مرأى من ربان السفينة، فأطلق عليه عياراً نارياً فقذف الرجل حياً وقد أصيب بجروح بسيطة. واصطادوا السمكة وجففوها وطافوا بها في أوروبا وكان طولها عشرين قدماً.

ويوجد في البحر نوع من الحيتان عظيم الحلق حتى لقد يمر منه ما هو أكبر من حجم الرجل بكثير. ومن عاداته أن يتقيأ، قبل أن يموت، الأشياء التي ابتلعها. وقصت إحدى الجرائد الدينية في أغسطس سنة 1906 أنهم وجدوا في جزيرة تسمى فالكند في أغسطس سنة 1891 رجلاً حياً في بطن حوت لكنه مغشيّ عليه. فوجه الإعجاز الذي في قصة يونان إنما هو بقاؤه حياً مدة ثلاثة أيام، وحفظه في حالة الشعور برهة من الساعات. ومن المحتمل تفسير الثلاث أيام بمدة تتراوح بين اثنين وثلاثين أو أربع وثلاثين ساعة لأن اليهود يعدون بعض اليوم يوماً كاملاً أي يوماً وليلة. ولا شك أن خالق كل شيء قادر على هذه المعجزة وليس هو أقل قدرة من مهندسي اليوم الذين يعلمون جهازاً يحفظون به المرء حياً تحت البحر حصة من الوقت.

صلاة يونان إلى الله من جوف الحوت كصلاة رجل ألف مطالعة المزامير زمناً طويلاً، لأنه اقتبس فقرات من مزامير مختلفة ولاءم بينها وبين ظروفه الخصوصية. وقد اشتملت على بعض الإشارات والرموز إلى المسيح وهي تلك المقتبسة من المزامير (22 و 96 و 16). وأكثرها صراحة الاقتباس الأخير: "لن تترك نفسي في الهاوية لن تدع تقيك يرى فساداً". فما أشبه هذا القول بعبارة يونان: "صرخت من جوف الهاوية" "ثم أصعدت من الوهدة حياتي" "وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر".

تكليفه بالرسالة من جديد: "ثم صار قول الرب إلى يونان ثانية قائلاً: "قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد لها المناداة التي أنا مكلمك بها". كرر الرب على عبده يونان هذه العبارة "قم" مرتين، وأعادها عليه ربان السفينة مرة ثالثة. فكأنه يمثل حالة الخطاة المستغرقين في النوم، وليس بينهم وبين الأبدية إلا ألواح السفينة "استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح". غير أن الذي نبّه يونان رجل الله من نومه رجل وثني. ولنا من ذلك أنه قد يعمل الله بآلة غير صالحة للاستعمال. فلنكن على استعداد لنسمع صوته على لسان من يرسله مهما كانت حالته.

قلنا سابقاً إن الله كلم يونان رأساً مرتين وقال له "قم" ولم يوبخه في المرة الثانية على عصيانه في الأولى لأنه كان يكفيه ما لحقه من الأخطار بسبب هذا العصيان. وعندما لأن قلبه صار كفوءاً أن يليّن قلوب نينوى. آه! ما أشد حاجة شعب الله، في عصرنا الحاضر، إلى انكسار القلب! فإن لانت قلوبهم يؤثروا في العالم الوثنيّ!..

إن خبر نجاة يونان بمعجزة إلهية، لا بد أن يكون انتشر في بقاع كثيرة من الأرض بواسطة الملاحين الذين شاهدوا الواقعة. وبلغ بني إسرائيل، ولعله بلغ مدينة نينوى ذاتها. وعلى كل حال بلغها خبر المجزة من يونان نفسه. فلم ينظروا إليه كمنذر بسيط يحثهم إلى التوبة، بل نظروا إليه كآية الله إليهم. وبسبب تلك الآية انقادوا إلى التوبة، كما أشار مخلصنا إلى ذلك.

نينوى – المدينة العظيمة: الله نفسه دعاها المدينة العظيمة. لم يكن يعلم عن هذه المدينة العظيمة حتى سنة 1841 سوى ما كتب عنها في التوراة وبعض شذرات من تاريخ الآشوريين، فتخيل لبعضهم أن ما ورد عنها في التوراة خرافة من أساطير الأولين. ولكن حوالي ذلك التاريخ نقب بعض علماء الآثار في ذلك الإقليم ومن وقتها أخذوا يتحققون صحة خبر التوراة عن نينوى. فقد وجدوا ما يدل على عظمتها من عظمة آثارها. أسسها نمرود. وأحاطها بسور ضخم بحيث تسسير عليه ثلاث عربات صفاً واحداً. تقول عبارة الكتاب أن المدينة "مسيرة ثلاثة أيام"، وكذا أثبتت الآثار وجد علماء الآثار مدارها نحو ستين ميلاً يقطعها السائر المجدّ في لا أقل من ثلاثة أيام. ومن ضمن هذه المساحة كثير من الأراضي الزراعية للمواشي، وهذا أيضاً يوافق نص التوراة: "وبهائم كثيرة". ومن حيث أنها تشتمل على مائة وعشرين ألف نفس لا يعرفون يمينهم من شمالهم أي من الأولاد الصغار، فلا يقل مجموع سكانها عن مليون نفس. ويؤيد هذا قصورها الشامخة، وهياكلها الضخمة، وحصونها المنيعة، وأعمالها الصناعية العظيمة – تماثيل أسود، وثيران ذوات وجوه بشرية وأجنحة – مما يدل على سعة حضارتها ورسوخ مدينتها. وعلى قدر ذلك عظمت شرورها.

إلى هذه المدينة أرسل الله يونان – بعد أن عصى المرة الأولى – برسالة مختومة: "ناد لها المناداة التي أنا مكلمك بها". فلم يتردد هذه المرة، بل قام مسرعاً يبلغ الرسالة، وهاك هي "بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى".

فآمن أهل نينوى بالله ونادى بصوم الخ. إن حادثة يونان كسرت قلبه وسحقت نفسه. وبهذا صار موصلاً صالحاً ينقل التأثير والقوة من جانب الروح إل الشعب فكان آية لهم. وعمل فيه الروح بقوة فائقة بحيث تأثرت المدينة العظيمة من كرازته يوماً واحداً "فآمن أهل نينوى بالله". وقرنوا في الحال الإيمان بالعمل، ونادوا بصوم وتذلل. وبلغ الخبرُ الملك فخاف الله، وتذلل لعزته الإلهية، وصام ولبس المسح على الرماد كأحد رعاياه (3: 6)، ثم أصدر أمراً رسمياً بتقديس صوم عام يشمل البهائم أيضاً. فصامت المدينة كلها – الناس والبهائم – ولبست المسوح وقد اختلطت صلوات الناس بتصويت البهائم الجائعة. وصعدت هذه الجلبة إلى أذني من هو طويل الأناة وكثير الرحمة. وإذ رأى أن توبتهم حقيقية ندم على الشر الذي أنذر به المدينة عل يد رسوله يونان وصفح عنها.

ولقائل يقول: هل يعقل أن الحكومة تتداخل في شؤون كهذه، ويمضي الملك أمراً بصوم طويل هكذا؟ - يجيب الأستاد سايس الأثري الشهير على هذا الاعتراض مستدلاً على آثار نينوى فيخبرنا أن في مدة حكم أسر حدون الثاني احتشدت جيوش من الشمال للهجوم على دولة آشور فأصدر الملك منشوراً رسمياً أن ينادي بتذلل وتنسك مدة مائة يوم

ثم بقي اعتراض آخر وهو قولهم: لا يعقل أنهم ألبسوا البهائم مسوحاً أسوة بالبشر. قال هيرودتس المؤرخ: لما نـزلت الجيوش الآشورية بأرض اليونان ومات قائد لهم أقاموا له مناحة في محلة الحرب وجزوا شعورهم وشعور خيولهم ودوابهم شعاراً للحداد. ترى من هنا شيوع عادة إشراك البهائم، بين أولئك الشعوب، في المناحات الكبرى والكوارث الفادحات.

نرى، من معاملة الله لنينوى وليونان المتضجر، سعة رحمته تعالى ولطفه نحو خليقته. استاء يونان من عفو الله عن نينوى عدوّة أمته كما أنه استاء من إهلاك شجرة اليقطين التي كانت تظلله. فقال له الله بلطف: "هل اغتظت بالصواب من أجل اليقطينة"؟ "أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة"؟ لم يكتم يونان قومه سقطاته التي يؤاخذ عليها ليقدم لهم ولنا درساً مؤثراً عن رحمة الله الشاملة للعالم كله من بشر ودواب ونبات.

إن سفر يونان هو سفر الإرساليات في جوهره لأنه يمثل مأمورية المسيح العظيمة حيث يقول: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها".

لما خرج المسيح من القبر نفذت رسالة إنجيله إلى كل أقطار الأرض، وتبرهنت بقوة الروح لكل الذي آمنوا، وما زالت تتبرهن للذين يؤمنون.

  • عدد الزيارات: 6728