الفصل الرابع: عمل المسيح في ارتفاعه
إن الخيرات التي حققها لنا المسيح بمحبته العظمى هي من الغنى بحيث يصعب احتساب قيمتها أو تقديرها حق قدرها. فهي تشتمل ليس على الأقل من خلاص تام وكامل، وقوام هذه الخيرات الافتداء من أعظم الشرور، أعني الخطية مع جميع عواقبها من شقاء وبؤس وموت؛ ومنح الخير الأسمى، وهو الشركة مع الله بكل ما تنطوي عليه من بركات. وسوف يتسع المجال في ما بعد للنظر في هذه البركات بالتفصيل. إنما لا بد من المرور بها هنا مرور الكرام إذا شئنا أن نفهم عمل المسيح بأعمق معانيه ودلائله.
فالكفارة هي الفضل العظيم الرئيسي من بين جميع الخيرات التي نحن مدينون بها لاتضاع المسيح العميق. ويتضمن معنى لفظة "الكفارة"، كما هي مستعملة في العهد الجديد، الستر والتغطية والتعويض. وهي ترجمة لكلمتين في اللغة الأصلية، توجد أولاهما بصورة أو بأخرى في رومية 25:3 وعبرانيين 17:2 و1يوحنا 2:2 و10:4. ومعنى هذه الكلمة أصلاً هو "التغطية"، وهكذا فهي تشير إلى التعويض عن الخطايا بواسطة الذبيحة (لأن الدم هو مقر الحياة، فإذا سفك ورُش كان العنصر المناسب للتكفير) يستر الخطية (الذنب والدنس) المنسوبة إلى الشخص الذي يقرّب الذبيحة، يسترها عن وجه الله، وهكذا يحجب بفضل فاعليته غضب الله المثار. فبسبب سفك الدم ورشه اللذين بهما تزهق حياة حيوان بريء وخالٍ من العيب، إذ إن النفس في الدم، يطرح الله غضبه جانباً ويتبدل موقفه من الخاطي، ويصفح عن معصيته، ويقبله من جديد في رحاب حضرته وشركته. عندئذ تكون المغفرة التي تحصل بعد التكفير كاملةً بحيث يمكن أن تدعى محواً للخطايا (إش 25:43 ؛ 22:44) وطرحاً لها وراء الظهر (إش 17:38) أو في أعماق البحر (مي 19:7). فالكفارة تستر الخطايا كلياً حتى كأنها لو لم تكن. وهي تصرف الغضب وتجعل وجه الله يشرق على شعبه بالرضى الأبوي والمسرة الصالحة.
وهذا كله في العهد القديم إنما يشير إلى ذبيحة المسيح الآتية. فالمسيح هو رئيس الكهنة الذي بدمه الكفاري يستر خطايانا عن وجه الله، ويحول عنا غضبه، ويمتّعنا بنعمه ورضاه. والرب يسوع ليس محقق التكفير فقط، بل إنه هو الكفارة (رو 25:3 ؛ 1يو 2:2 ؛10:4). وبصفته رئيس الكهنة، فهو بديل لدى الله لأجل خيرنا، مكفّراً خطايا الشعب (عب 17:2). حقاً إن كثيرين يرفضون فكرة المصالحة هذه الموضوعة بين الله وبيننا بواسطة المسيح. فهؤلاء يقولون إن الله محبة، وإنه لا يطلب مصالحة، وإن كفارة كهذه لا تناسب إلا مفهوماً عن الله بدائياً وناموسياً خليقاً بالعهد القديم، وهم يذهبون إلى أن هذه الفكرة يدينها العهد الجديد وينحيها جانباً. غير أن هؤلاء ينسون أن الخطية، بسبب طبيعتها المتصفة بالذنب والدنس، تثير غضب الله وتستحق العقاب لا تحت شريعة موسى فقط، بل خارجها أيضاً، وفوقها، وفي العهد الجديد. إنهم ينسون أن المسيح وقربانه الواحد ليسا فقط عطيّة محبة الله وإعلانها، بل هما أيضاً عطية عدالته وإعلانها (أع 28:4 ؛ رو 25:3)، كما يتناسون أن محبة الله الغافر لا تستبعد الكفارة بل بالأحرى تستدعيها وتؤيدها. ذلك أن المغفرة هي دائماً عمل من أعمال الله اختياري ومقترن بالنعمة كلياً. وهكذا فهي تستلزم شرطاً مفاده أن لله الحق في القصاص، وينبغي بالتالي أن تشتمل على ذلك النوع من الصفح الذي يتوافق مع الحفاظ على العدالة. فإن انطلق المرء إذاً من إنكار حق الله في القصاص، فهو لا يسيء فقط تمثيل طبيعة الخطية الأثيمة وغير المقدسة، بل إنه يرفض أيضاً أن تجري محبة الله الغافر المنعمة في مجراها. إذ ذاك تبطل الكفارة أن تكون عملاً شخصياً اختيارياً كريماً، وتتحول إلى عملية طبيعية. على أن الكلمة المقدسة تُعلّم أن صهيون تُفدى بالحق والبرّ، وأنّ المسيح قد وفى مطالب الحق والبر بقربانه الواحد، كما صرف عنا غضب الله الذي أثارته خطايانا.
وهذه المصلحة هي أيضاً شيء موضوعي وملموس. فهي ليست أمراً يبرز إلى الوجود أول مرة بفضل إيماننا وتوبتنا، بل إنها ترتكز على عمل التعويض (وفاء الدين) الذي أتمّه المسيح. وقوام هذه المصالحة إحداث علاقة بين الله وبيننا، مقترنة بالنعمة، على أن نتلقاها نحن ونقبلها بالإيمان (رو 11:5). فلأن الله قد نحا جانباً موقف المعاداة اتجاهنا على أساس موت المسيح، تحضنا نحن أيضاً على تنحية أعدائنا وعلى التصالح مع الله والدخول في علاقة المصالحة الجديدة التي فيها وضع الله نفسه قبالتنا. إن كل شيء قد أُعد وانتهى. ولم يبقَ لنا نحن أيّ شيء لنعمله. ففي وسعنا، من كل النفس وفي كل آن، أن نستريح في رحاب عمل الفداء الكامل الذي أنجزه المسيح. ولنا أن نقبل بالإيمان حقيقة أن الله قد نحّى غضبه جانباً، وأنه في المسيح قد أصبح لنا نحن الخطاة المذنبين الدّنسين إلهاً وأباً متصالحاً معنا.
وأي من يقبل بالإيمان بشارة المصالحة هذه مبدئياً ينال في الحال جميع الخيرات الأخرى التي أتى بها المسيح. فإن سائر الخيرات الأخرى المرتبطة بعهد النعمة متضمنة في موقف المصالحة الذي يقفه الله من العالم في المسيح. ولا يخفى أن المسيح واحد ولا يمكن أن ينقسم أو يقبل قبولاً جزئياً. فحلقة الخلاص لا يمكن أن تنكسر. فإن الذين سبق فعيّنهم، فهؤلاء دعاهم أيضاً؛ والذين دعاهم، فهؤلاء بررهم أيضاً؛ والذين بررهم، فهؤلاء مجّدهم أيضاً (رو 30:8). إذاً، جميع الذين صولحوا مع الله بموت ابنه قد نالوا مغفرة الخطايا، والتبني كأولاد، والسلام مع الله، والحق في الحياة الأبدية والميراث السماوي. ولهم مقام الشركة مع المسيح في المحبة، وقد صُلبوا ودُفنوا وأُقيموا معه، وأُجلسوا معاً في السماء، وجُعلوا مشابهين صورته أكثر فأكثر. وهم قد قبلوا الروح القدس الذي يجددهم ويرشدهم إلى جميع الحق، ويشهد لحقيقة بنويتهم كأولاد، ويصحبهم إلى يوم الفداء النهائي. وفي هذه الشركة مع الآب والابن والروح القدس، غدا المؤمنون أحراراً من الناموس، وقد رُفعوا فوق كل سلطة من العالم والموت والجحيم والشيطان. كما أن الله صار معهم، فمن ذا يمكن أن يقف ضدهم؟ (رو 31:8).
إن القربان الكامل الذي أنجزه المسيح على الصليب له قوة وقيمة غير محدودتين، بحيث يكفي تماماً للتكفير عن خطايا العالم أجمع. ويربط الكتاب المقدس دائماً العالم كله بالفداء والتجديد. فإن العالم كان غرض محبة الله (يو 16:3). والمسيح جاء إلى العالم لا ليدين العالم بل ليخص به العالم. وبه صالح الله لنفسه العالم، كل ما في السماء وما على الأرض. وعليه، فقد كان المسيح كفارةً لا لخطايا الذين يؤمنون به في زمن معين، بل للعالم كله أيضاً (1يو 2:2). وكما أن العالم قد خُلق بيد الابن، فمصيره أيضاً بالتمام سوف يؤول إلى يده بوصفه الابن والوارث لكل شيء (يو 29:1 ؛2كو 9:5 ؛ كو 20:1). ومسرّة الآب هي أن يجمع في المسيح – في تدبير ملء الأزمنة – كل شيء لكيان واحد رأسه المسيح، أي كل ما في السماء وعلى الأرض (أف 10:1). ولسوف تأتي أزمنة رد كل شيء، وبحسب وعد الله ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر (أع 21:3 ؛ 2بط 13:3 ؛ رؤ 1:21).
وبسبب هذه الكفاية الكلية لذبيحة المسيح لأجل العالم كله، يجب أيضاً أن يكرز ببشارة المصالحة للخليقة كلها. فوعد البشارة هو أن كل من يؤمن بالمسيح المصلوب لن يهلك بل تكون له الحياة الأبدية. وهذه البشارة ينبغي أن تعلن وتقدم بلا تمييز إلى جميع الأمم والبشر الذين إليهم يُرسل الله الإنجيل بمقتضى مسرته الصالحة. ويجب أن يصحب هذه البشارة تبليغ أمر الله بالتوبة والإيمان. ولا يدع الكتاب المقدس أي مجال للشك في هذا. فقد سبق أن قيل في العهد القديم إن الله لا يسر بموت الشرير بل بأن يتوب ويحيا (حز 23:18 ؛ 11). كما قيل أيضاً هناك أن الأمم ستشارك يوماً في بركات الشعب القديم. ففكرة التبشير متضمنة أيضاً في القصد من عهد النعمة في العهد القديم. غير أنها بلغت أوفى تعبير وأوضحه لما ظهر المسيح نفسه على الأرض وأكمل عمله. فهو نور العالم، والمخلص الذي يعطي العالم حياةً، وله خِراف أُخر ليست من حظيرة إسرائيل ينبغي أن يأتي بها أيضاً (يو 16:10). ولذلك يُنبئ ويأمر بأن يبشر في الإنجيل في العالم أجمع.
حتى إذا انطلق الرسل بعد يوم الخمسين حاملين هذه البشارة إلى اليهود والأمم على السواء، ومؤسسين الكنائس في كل مكان، يمكن القول: إلى جميع الأرض خرج صوتهم، وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم (رو 18:10)، وإن نعمة الله المخلصة قد ظهرت لجميع الناس (تي 11:2). والواقع أن التضرع لأجل جميع الناس، ولاسيما الملوك وذوي المناصب، هو أمر حسن ومقبول لدى الله، لأنه يريد لجميع الناس أن يخلصوا ويقبلوا إلى معرفة الحق (1تي 4:2). وما تأنّي المسيح في رجوعه سوى دليل على طول أناة الله، إذ لا يشاء أن يهلك أحد من الناس بل يقبل الجميع إلى التوبة (2بط 9:3).
ولعمومية الكرازة بالبشارة حسناتها بالنسبة إلى العالم بأسره وإلى الذين ما كانوا ليؤمنوا البتة بالمسيح مخلصاً لهم. ذلك أن المسيح بتجسده شرّف الجنس البشري كله، وصار أخاً لجميع الناس حسب الجسد. فهوذا النور قد شع في الظلمة، وبمجيئه إلى العالم ينير كل إنسان. وبه كون العالم – هذه حقيقة ثابتة لا تتغير، مع أن العالم لا يعرفه (يو 3:1 – 5). وبالدعوة إلى الإيمان والتوبة يوجهها المسيح إلى كل من يعيشون في زمن الإنجيل، يُقدم عدة بركات خارجية، في البيت والمجتمع، في الكنيسة والدولة، وهذه أيضاً يتمتع بها الذين لا يطيعون الإنجيل في قلوبهم. فإن هؤلاء يقعون ضمن نطاق الكلمة الأزلي، ويحمون من خطايا رهيبة، وعلى خلاف الأمم الوثنية يشتركون في عدة امتيازات خارجية. ثم لا ينبغي أن ننسى أن المسيح، بآلامه وموته، ضمن اعتاق المخلوق من عبودية الفساد، وتجديد السماء والأرض، وردّ كل شيء ومصالحة جميع الأشياء فيما بينها، وكذلك جميع الملائكة وجميع البشر أيضاً. ففي المسيح تصان وتستعاد الوحدة العضوية للجنس البشري وللعالم بوصفه خليقة الله (أف 10:1 ؛ كو 20:1).
ومهما شددنا على التمسك بهذه العمومية المطلقة المتعلقة بالتبشير بالإنجيل، لا يجوز أن نستنج منها أن بركات المسيح تم إنجازها وقُدرت لكل إنسان فرد. فمثل هذا الاستنتاج يناقضه على نحو حاسم كون الله في أيام العهد القديم قد ترك الأمم يسلكون طرقهم الخاصة واختار شعباً واحداً ليكون له. كما يناقضه أيضاً واقع كونه – في ملء الزمان وبصرف النظر عن شمولية الكرازة بالإنجيل مبدئياً – قد قصر مواعيد نعمته على جزء يسير من البشر على مر العصور.
فالتصريحات العامة الموجودة هنا وهناك في الكلمة المقدسة لا يمكن أن يحملها أحد على أنها مطلقة، بل ينبغي أن يحملها الجميع على أنها نسبية. فهي جميعها قد كُتبت في ظل الانطباع البالغ الأثر بالفرق بين تدابير العهدين القديم والجديد. ومع أننا لا نكاد نتصور الأمر بعد، فإن الرسل الذين نشأوا في ظلال خصوصية اليهودية قد شعروا أعمق شعور بالتغيير الهائل الذي أدخله المسيح على علاقة جميع الأمم فيما بينها. فهم يتحدثون عن هذا الواقع دائماً باعتباره سراً عظيماً كان مكتوباً على مدى العصور السالفة لكنه أُعلن الآن للرسل والأنبياء القديسين بوحي الروح القدس. فقد رأوا سراً في أن يكون المؤمنون بالمسيح من الوثنيين شركاء في الميراث ضمن الجسد الواحد وأن تكون لهم شركة في العد بالمسيح. فحائط السياج المتوسط قد نُقض. ودم المسيح قد صنع السلام. وفي المسيح لا فرق بين يهودي ويوناني، ولا بين بربري وسكيثي. فها قد سقطت كل الحدود الفاصلة العائدة إلى اختلاف الأوطان والألسنة، والأعراق والألوان، والأعمار والأسر، والزمان والمكان. وكل ما يهم في المسيح هو الخليقة الجديدة. والكنيسة مجموعة من بين كل قبيلة ولسان وشعب وأمة.
ولكن ما إن يتوجه الكتاب المقدس للنظر في هذه المسألة "لمن أنجز المسيح خيراته، ولمن يهبها وعلى من يغدقها، ومن يشترك فيها فعلاً؟" حتى ينيط عمل المسيح بالكنيسة دائماً. فكما كان في العهد القديم شعبٌ خاص اختاره الله وارثاً له، كذلك تماماً تظل هذه الفكرة المتعلقة بوجود شعبٍ لله خاص به ساريةً في العهد الجديد. صحيح أن شعب العهد الجديد لم يعد محصوراً بعد بنسل إبراهيم من الناحية البشرية. فهو الآن – على نقيض ذلك – مؤلف من اليهود والأمم ومن جميع الشعوب والقبائل المختلفة. إلا أن كنيسة العهد الجديد هذه هي الآن الاجتماع الحقيقي لشعب الله (مت 18:16 ؛ 20:18) ومحفل شعب الله في العهد الجديد (2كو 16:6) ونسل إبراهيم الحقيقي (رو 8:9 ؛ غل 29:4). لأجل هذا الشعب سفك المسيح دمه وأنجز الخلاص. فهو قد جاء ليخلص شعبه (مت 21:1) ويبذل نفسه عن الخراف (يو 11:10) ويجمع أبناء الله المتفرقين إلى كيان واحد (يو 52:11) ويعطي الحياة لجميع الذين أعطاه الآب إياهم ويقيمهم في اليوم الأخير (يو 39:6 ؛ 2:17)، ويقتني كنيسة الله بدمه، وكي يقدسها ويطهرها بغسل الماء، أي بالكلمة (أع 28:20 ؛ أف 25:5، 26). وبوصف المسيح رئيس كهنة فهو يصلي لا لأجل العالم كله بل لأجل الذين أعطاه الآب إياهم والذين سوف يؤمنون به من خلال كلام الرسل (يو 9:17، 20).
وبالتالي، فإن بين عمل الآب والابن والروح القدس أكمل التوافق. فجميع الذين اختارهم الآب، اشتراهم الابن، وولدوا ثانيةً بالروح القدس الذي به يتجددون. ويفيدنا الكتاب المقدس بصراحة، بل بكل صراحة، أن هؤلاء كثيرون، بل كثيرون جداً. والكتاب يعلمنا هذا لا لكي نحدّ هذا العدو ونقيده، مستعملين بصيرتنا الناقصة ومعيارنا الكيفي، بل لكي يتأكد لنا يقيناً – في وسط النـزاع والضلال – أن الخلاص من أوله إلى آخره هو عمل الله، وأن هذا العمل بالتالي لا بد أن يكمل رغم كل مقاومة. فإن مسرة الربّ ستنجح على يد عبده، لا محالة (إش 10:53).
ولما كان عمل الخلاص هو عمل الله وحده دون سواه، فإن خيرات المسيح وبركاته ما كانت لتصلنا لو لم يكن أُقيم من بين الأموات وجلس مرّفعاً في مجد عن يمين الله. فإن موت يسوع كان يكفينا لو كانت المسيحية لا تعدو كونها مجرد عقيدة نعتنقها بعقولنا، أو مجرد مثال أدبي ونموذج خلقي علينا أن نحتذيه. غير أن الديانة المسيحية هي شيء آخر مختلف جداً عن هذا وأكثر منه كثيراً. إنها الفداء الكامل للإنسان بجملته، وللكيان البشري عامة، وللعالم بكامله. وجاء المسيح إلى الأرض لكي يخلص العالم، بهذا المعنى الكامل. لم يأتِ كي يحقق إمكانية الخلاص لنا جميعاً ثم يترك لإرادتنا الحرة مسألة الاستفادة من هذه الإمكانية، أو عدم الاستفادة منها. لكنه بدلاً من ذلك وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب، لكي يخلصنا حقاً خلاصاً أبدياً كاملاً.
من هنا، لم ينتهِ العمل عند موته ودفنه. حقاً أنه في صلاته لأجل إتباعه بوصفه رئيس الكهنة، قال أنه قد أكمل العمل الذي أعطاه الآب ليعمله (يو 4:17)، وأنه صرخ على الصليب قائلاً: قد أُكمل (يو 30:19). ولكن أقوالاً من هذا النوع كانت تشير إلى العمل الذي كان ينبغي أن يعمله المسيح على الأرض. فقد أشار بها إلى عمل اتضاعه وإنجاز الخلاص. وحقاً أن ذلك العمل قد تمّ وأنه كامل تمّ. فبموت المسيح أنجز الخلاص على النحو الأكمل بحيث لا حاجة بأي مخلوق، ولا قِبَلَ له، أن يزيد عليه أي شيء. غير أن إنجاز الخلاص يجب أن يميز من تطبيقه وتوزيعه. وهذان الأخيران ضروريان كذاك الأول. فماذا ينفعنا كنـز من النفائس إذا ظل بعيداً عن متناول يدنا دائما ولم يوضع قط في حوزتنا؟ وأي خيرٍ لنا في مسيح مات حقاً من أجل خطايانا لكنه لم يقم قط لأجل تبريرنا؟ وماذا يكون نفع ربٍّ مات لكنّه لم يُرفع إلى يمين الآب؟
على أننا نحن المسيحيون، نعترف ونبتهج بربٍّ مات لكنه في الوقت نفسه ربٌّ مُقام، بمخلصٍ متّضع لكنه أيضاً ممجد، بملك هو الأول لكنه أيضاً الآخر، بمسيح مات لكنه الآن حيّ إلى الأبد وله مفاتيح الهاوية والموت (رؤ18:1). فالمسيح بعد موته قام وعاش أيضاً لكي يسود على الأحياء والأموات جميعاً (رو 9:14). وبارتفاعه يكمل البناء الذي وضع له الأساس بموته. وهو قد أُقيم وأُجلس فوق كل رياسة وسلطان وقوة سيادة، وجُعل رأساً للكنيسة فوق كل شيء، لكيما يملأ الكل في الكل (أف 20:1 – 23). وبفضل قيامته جُعل ربّا ومسيحاً، رئيساً ومخلصاً، ليعطي شعبه التوبة ومغفرة الخطايا، وحتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه. وقد رفّعه الله جداًَ، وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة، ممن في السماء وممن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربٌّ، لمجد الآب (في 9:2 – 11).
فليس ارتفاع المسيح إذاً ملحقاً عارضاً، أو إضافة كيفية، للاتضاع الذي عاناه في أيام جسده. غير أنه، شأنه شأن الاتضاع، عنصر حتمي لا يستغنى عنه متمم لعمل الفداء الذي كان للمسيح أن ينجزه. في الارتفاع يبلغ الاتضاع ذروته وتُضفى عليه هويته الحقيقة. فالمسيح الذي نـزل إلى أقسام الأرض السفلى هو نفسه صعد أيضاً فوق جميع السماوات لكي يملأ الكل (أف 9:4، 10). ومثلما أُسند إليه عمل الاتضاع، فكذلك تماماً حال عمل الارتفاع. فينبغي له أن يعمله، إذ أنه عمله هو، ولا أحد سواه يقدر أن يعمله. وقد رفّعه الآب جداً لأنه وضع نفسه إلى آخر حد (في 9:2). والآب أعطى كل الدينونة للابن لأنه ارتضى أن يصير ابن الإنسان (يو 22:5). وقد رُفّع الابن ممجداً، وفي حال ارتفاعه يتابع عمله كي يبرهن أنه هو المخلص الكامل والصادق والقدير. وهو لن يستريح حتى يسلم الآب الملكوت كاملاً وتاماً، ويقدّم إليه العروس، أي الكنيسة، بلا عيب ولا غضن (1كو 24:15 ؛ أف 25:5). وكرامة المسيح بالذات متوقفة على إكماله عمل الخلاص هذا، فاسمه مقرون به وشرفه مُعلقٌ عليه. وهو يرفع خاصته ويأتي بهم إلى حيث يكون هو، لكي ينظروا مجده (يو 24:17). وسوف يعود بنفسه في آخر الدهور ليتمجد في قديسيه ويتعجب منه في جميع المؤمنين (2تس 10:1).
بحسب إقرار الإيمان عند الكنيسة المصلحة، بدأ ارتفاع المسيح بقيامته. ولكن بحسب كثير من قوانين الإيمان الأخرى، بدأ قبل ذلك، أي بنـزوله إلى الهاوية. ولهذا النـزول تفسيرات شتى. فالكنيسة الشرقية تعتقد أن ذلك يعني نـزول المسيح، بطبيعته الإلهية ونفسه البشرية، إلى العالم السفلي لكي يحرر نفوس الأجداد القديسين ويأتي بها إلى الفردوس، مع نفس اللص التائب على الصليب.
وتذهب الكنيسة الكاثوليكية إلى أن المسيح نـزل فعلاً إلى الجحيم بنفسه، وبقي هناك طيلة بقاء جسده في القبر، وذلك حتى يُعتق نفوس القديسين الذين كانوا ماكثين هناك بلا عذاب إلى أن يتم الخلاص، (يُعتقهم) من حالة الموت كي يأتي بهم إلى السماء ويجعلهم يشتركون في غبطة التفرس بالله. وتفرّق الكنيسة اللوثرية بين إحياء المسيح فعلاً وقيامته أو تجلّيه بالجسد بعد القبر، وتعلّم إن المسيح في الفترة القصيرة بين هذين الأمرين قد هبط إلى الجحيم ليُعلن هناك انتصاره للأبالسة والمحكوم عليهم بالعذاب. ويعتقد كثيرون من اللاهوتيين، ولاسيما في الزمن الحديث، أن المسيح قبل قيامته، وسواء بنفسه وحدها أم بجسده أيضاً، قد نـزل إلى العالم السفلي ليبشر بالإنجيل أولئك الذين ماتوا بخطاياهم ويعطيهم فرصة التوبة والإيمان.
وإن الاختلاف الواضح بالرأي بشأن هذه المسألة ليبرهن أن المعنى الأصلي للتعبير"ونـزل إلى الجحيم (أو الهاوية)" قد ضاع. فنحن لا نعرف مصدر هذه العبارة الواردة في قانون الإيمان، ولا ما هو المقصود بها فعلاً. والكلمة المقدسة لا تقول شيئاً عن حصول نـزول إلى الجحيم حرفيٍّ وفعليٍّ ومحدّد المكان. وفي أعمال 27:2 يطبق بطرس كلام المزمور 16 على المسيح: "لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً". ولكنه واضح في هذا المقام أن كلمة "هاوية" يجب أن تُفهم بمعنى "القبر". فمع أن المسيح كان في الفردوس بروحه البشرية، فإنه بجسده كان في القبر؛ وهكذا في الفترة الفاصلة بين موته وقيامته كان في حالة الموت. وفي أفسس 9:4 يقول بولس إن الذي صعد هو نفسه قد نـزل إلى أقسام الأرض السفلى. غير أن هذا القول ليس دليلاً على النـزول إلى الجحيم، بل بالأحرى إشارة إلى التجسد الذي فيه نـزل المسيح إلى الأرض في الأسفل، أو إلى موته الذي فيه نـزل إلى القبر. ثم إن بطرس في رسالته الأولى 19:3 – 21، لا يتحدث بأي حال من الأحوال عمّا فعله المسيح بين موته وقيامته، بل يتكلم بالأحرى عما فعله المسيح بروحه قبل تجسده، في أيام نوح، أو عمّا فعله بعد قيامته إذ كان مُحيياً بالروح فعلاً. فليس الكتاب المقدس أدنى أساس للتعليم القائل بنـزولٍ إلى الجحيم محدّد المكان.
وعليه، فإن الكنيسة المصلحة قد نبذت هذا التفسير للعبارة المذكورة من قانون الإيمان، وفسرتها باعتبارها تشير إما إلى الآلام والعذابات الجهنمية التي قاساها المسيح قبل موته، سواء في الجثسيماني أو على الجلجثة، وإما إلى ما يتعلق بحالة الموت التي مرّ فيها المسيح فيما رقد جسده في القبر. وكلا التفسيرين يتلاقيان في الفكرة التي توردها كلمة الله ومفادها أن ساعة تسليم المسيح نفسه للموت إنما كانت ساعة أعدائه وساعة سلطان الظلمة (لو 53:22). فقد علم المسيح أن تلك الساعة كانت آتية، وقد سلم نفسه لها طائعاً مختاراً. وفي تلك الساعة التي فيها أظهر ذروة القوة الروحية في ما يتعلق بمحبته وطاعته (يو 17:10، 18) بدا أنه في مسيس الحاجة إلى من يُعينه. فها هم الأعداء يفعلون به ما شاءوا، والظلمة قد خيمت حوله. وإذا به ينـزل إلى الجحيم بالحقيقة، لا بمعنىً مادي الآن، بل بمعنى روحي.
ولكن سلطان الظلمة لم يكن ذاتياً. فإنه قد أُعطي من لدن الآب (يو 11:19). ولم يدرك أعداء المسيح أنهم كانوا مجرد أدوات وآلات، وأنهم كانوا – على غير علم منهم وبغير إرادتهم – ينفّذون كل ما سبقت فعيّنت يد الله ومشورته أن يكون (أع 23:2 ؛ 28:4). وقد كان المسيح في اتضاعه أيضاً ذلك القدير الذي وضع حياته جانباً بملء حريته وبذل نفسه فدية عن كثيرين. فإن ساعة سلطان الظلمة كانت ساعته الخاصة أيضاً (يو 30:7 ؛ 20:8). وفي موته غلب الموت بقوة محبته، وبإنكاره الكامل لذاته، وبطاعته المطلقة لمشيئة الآب. ولذلك ما كان ممكناً، وهو القدّوس، أن يحتويه الموت ويسيطر عليه، ولا أن يتركه الله ويدعه فريسة في قبضة الفساد (أع 25:2 – 27). بل على نقيض ذلك، فإن الآب أقامه، وهو نفسه قام بحقه الشخصي وقوته الذاتية. وكانت أوجاع الموت، إذا صح التعبير، عبارة عن آلام مخاض حياة جديدة (أع 24:2). وهكذا كان المسيح هو البكر من الأموات (كو 18:1).
وقد احتوت قيامة المسيح هذه على إحياء جسده الميت ونهوضه من القبر. حتى أن منكري القيامة يتورطون في مشكلة صعبة بالنظر إلى هذه الحقيقة. ففيما مضى حاولوا أن يعلّلوا خبر هذه الحادثة الواقعة بقولهم أن المسيح مات موتاً ظاهرياً فقط، أو إن التلاميذ سرقوا جسده، أو أنهم كانوا في حالة توهّم صرف فخُيل إليهم أنهم رأوه. ولكن جميع هذه التعليلات فقدت التأييد، تعليلاً بعد الآخر. وفي زمن أقرب عهداً إلينا لجأ الكثيرون إلى الروحانية إذ رأوا فيها تعليلاً مقبولاً لقيامة المسيح. فبحسب هذا المذهب يقولون إن شيئاً موضوعياً قد حدث بالفعل. وقد رأى التلاميذ شيئاً ما. فالذي عاينوه إنما كان تجلياً للمسيح الذي مات بالجسد لكنه ظل حياً بالروح. ذلك أن روح المسيح ظهرت لهم وتجلت أمامهم. حتى أن بعضهم يُضفون لمسة تقوى على هذا الزعم فيقولون إن الله نفسه هو من جعل روح المسيح يظهر لهم لكي يسكّنَ حزنهم ويؤكّد لهم الانتصار على الموت، وعدم فناء الحياة. بكلام آخر، كانت ظهورات المسيح عدّة "برقيات من السماء" تتضمن رسالة إلهية عن قوة المسيح الروحية.
غير أن الرواية الروحانية، أو تحضير الأرواح، لا يعيرها الكتاب المقدس إلتفاتاً كما أنها على طرفي نقيض لشهادته. فبحسب جميع البشيرين، وُجد القبر فارغاً في اليوم الثالث، وحدث الظهور الأول في ذلك اليوم عينه. إذ إن البشيرين وبولس، دون إتباع ترتيب منظم ودون إيراد خلاصات وافية، يفيدوننا أن المسيح ظهر للنسوة، ولاسيما مريم المجدلية، ولبطرس، وللتلاميذ ما عدا توما ثم التلاميذ ومعهم توما؛ ولكثيرين آخرين – لخمس مئة أخ دفعة واحدة. وقد حدثت هذه الظهورات أولاً في أورشليم وقربها، ثم في الجليل حيث كان الرب قد سبقهم، كما يقول مرقس بصريح العبارة (مر 7:16). ويتفق البشيرون جميعاً على أن المسيح ظهر بالجسد نفسه الذي وضعه في القبر. وقد كان جسداً ذا لحم وعظم وليسا للروح (لو 39:24)، وكان يمكن أن يجس (يو 27:20) ويتناول طعاماً (لو 21:24 ؛ يو 10:21).
علاوة على هذا فإن المسيح خلق في الناس انطباعاً بعد القيامة يختلف عما كان قبلها. فالذين رأوه دُهشوا وخافوا وانطرحوا أمامه ساجدين له (مت 9:28، 10 ؛ لو 37:24). وقد ظهر بهيئة أُخرى غير التي ظهر بها قبلاً (مر 12:16) وأحياناً لم يكن يعرف للتو (لو 16:14، 31). فيوجد فرق شاسع بين قيامة لعازر وقيامة المسيح. إذ إن لعازر عاد من الموت إلى سابق حياته الأرضية، ولكن المسيح لم يفعل هكذا. فقد قام المسيح رأساً في الطريق المؤدي إلى الصعود. حتى إذا ظنت مريم أن معلّمها وسيدها قد عاد لها من الموت، وأن لها أن تتمتع من جديد بالشركة السابقة معه، صدها قائلاً: "لا تلمسيني، لأني لم أصعد بعد إلى أبي، ولكن إذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: "إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يو 17:20) فبعد القيامة لم يعد المسيح ينتمي إلى الأرض، بل ينتمي إلى السماء. ولهذا السبب تغيرت هيئته، مع أنه اتخذ الجسد نفسه الذي وُضع في القبر. ويعبر بولس عن هذا القول إنه في الموت يزرع الجسد جسماً حيوانياً (أي طبيعياً) ولكنه في القيامة (قيامة المسيح وقيامة المؤمنين أيضاً) يُقام جسماً روحانياً، أو روحياً (1كو 44:15). والجسد في كلتا الحالتين واحد، إذ أن الروحي لا يقارن هنا مع الجسدي، بل مع الطبيعي. ولكن في الجسد الذي أُعطي للإنسان الأول يقع قسمٌ كبيرٌ من الحياة خارج نطاق الروح ويتواجد على كيان مستقل تقريباً. وفي الجسد الروحي سيبيد الله "الجوف والأطعمة" (1كو 13:6)، وكل ما هو مادي سيصبح خاضعاً وخادماً للروح.
وليست قيامة المسيح بجسده حادثة تاريخية قائمة بذاتها. فهي تعني غنى لا ينضب معينه، بالنسبة إلى المسيح نفسه وإلى الكنيسة وإلى العالم أجمع أيضاً. فبصفة عامة، تعني القيامة الانتصار على الموت مبدئياً. فإنه بإنسان واحد دخل الموت إلى العالم. فإن التعدي على ناموس الله فتح طريق الموت للبشر، لأن أُجرة الخطية هي موت. لذلك هزيمة الموت تتم بإنسان واحد. فكان لا بد أن إنساناً يُحدث القيامة من الموت. حتى ولو كان ملاكاً، بل حتى ولو كان ابن الله بالذات، نـزل إلى عالم الموتى ثم من هناك عاد إلى السماء، لما كان ذلك يفيدنا شيئاً. ولكن المسيح كان ابن الله الوحيد عند الآب ليس ذلك فقط، بل كان أيضاً إنساناً حقيقياً وكاملاً. وبصفته إنسان فقد تألم ومات ودُفن، ثم قام وعاد من عالم الموتى. ففي قيامة المسيح تبرهن أنه كان هنالك إنسانٌ لم يكن ممكناً أن يمسكه الموت أو أن يملك عليه الشيطان وسلطان الفساد، إنسانٌ كان أقوى من القبر والموت والهاوية. من حيث المبدأ إذاً لم يعد للشيطان بالفعل أيّة سيادة على الموت. فالمسيح بموته غلب الموت (عب 14:2). وإذا كان هو وحده قد قام من القبر وما كان أحد سواه يقوم من القبر، يكون هنالك على أيّة حال إنسان أقوى من الموت. فإن أبواب عالم الموتى التي انغلقت على المسيح كان واجباً أن تنفتح امتثالاً لأمره، إذ لم يكن فيه لرئيس هذا العالم أيّ شيء (يو 30:14).
وما دام ذلك كذلك، فمن البديهي أن كل ما يهم بخصوص قيامة المسيح هو بالتحديد أنه قام بجسده. فإن قيامةً روحية غير كافية، إذ تكون نصف نصرٍ وحسب، أي عدم انتصار البتّة بل بالحري هزيمة. وعندئذ لا يكون الإنسان بكامله – من حيث روح وجسد – قد نُقل خارج نطاق سيادة الموت. كما يبقى الشيطان منتصراً في ميدان واسع. وليس ممكناً بحال من الأحوال أن تحدث للمسيح قيامة روحية، أي تجديد أو إحياء روحي، لأنه القدوس الخالي من أي ذنب أو عيب أو خطية. فلكي يبرهن قوته على الخطية كان ينبغي القيام بذلك فقط برجوعه بالجسد من عالم الأموات، وهكذا يبدي قدرته الروحية في عالم المادة. وبقيامته بالجسد، تبرهن أولاً أنه – بطاعته حتى الصليب والقبر – قد قهر تماماً الخطية وجميع عواقبها، بما فيها الموت الذي، إن صح التعبير، رده على أعقابه خارج عالم البشر، وأتى بحياة جديدة لا ينالها الفساد والفناء. فكما أن الموت دخل العالم بإنسانٍ، كذلك جاءت القيامة من الأموات بإنسانٍ أيضاً (1كو 21:15). فالمسيح هو نفسه القيامة والحياة (يو 25:11).
يكفي ما تقدم دليلاً على أهمية قيامة المسيح. ولكن يمكن شرح معانيها الغنية بأكثر تفصيل – وأول كل شيء ما تعنيه إلى المسيح نفسه. فلو كان الموت على الصليب هو نهاية حياة المسيح، ولو كانت القيامة لم تتبعه، لكان اليهود على حق في حكمهم عليه بالموت. إذ نقرأ في تثنية 23:21 أن الذي يُعلق على خشبة ملعون من الله. والتعليل الوارد في ذلك الموضع هو أن جثة المجرم المُعدم ينبغي ألا تبقى معلقة على خشبة الإعدام ليلاً بل يجب أن تُنـزل وتدفن في النهار عينه. وإن بقيت معلقة على الخشبة، تنجس الأرض التي أعطاها الرب لشعبه. إنما ناموس موسى لا يحتوي على ظاهرة الصلب. ولكن لّما سُلم المسيح إلى الأمم (مت 19:20) وصُلب بأيدي أثمة (أع 23:2)، فعندئذٍ صار مثلاً – لا بعد موته فقط بل قبله وخلاله أيضاً – مثلاً على قساوة الناموس الشديدة، وعلى صيرورته ملعوناً من الله. وفي نظر اليهود العارفين بالناموس، لو يكن الموت على الصليب عقاباً واقعاً تحت غضب الله ولعنته. من هنا كان يسوع المعلق على الصليب عثرةً لليهود وملعوناً في نظرهم (1كو 23:1 ؛ 3:12).
لكن الآن تأتي القيامة فتحول الإدانة في الاتجاه العكسي. فالذي جُعل خطية لأجلنا والذي لم يعرف أيّة خطية شخصياً. الذي صار لعنة لأجلنا هو مبارك الآب. والذي تركه الآب على الصليب هو الابن الذي سُرّ به جداً. والمرفوض من الأرض هو المتوج في السماء. فالقيامة إذاً هي البرهان على نبوة المسيح. إذ إن الذي صار من نسل داود، من جهة الجسد، قد تبين بقوة أنه ابن الله، من جهة روح القداسة. بالقيامة من الأموات (رو 3:1، 4). وقد تكلم المسيح بالحق واعترف الاعتراف الحسن أمام قيافا وبيلاطس البنطي، لمّا شهد بأنه ابن الله. فلم يكن اليهود والرومان على حقٍّ في الحكم على المسيح بالموت، بل تبرهن بالقيامة أن المسيح هو الذي كان على حق. فهو البار الذي سُمر على الصليب بأيدي أثمة وقُتل. والقيامة هي النقض الإلهي الذي أصدره العالم على المسيح.
على أن معنى القيامة بالنسبة إلى المسيح لا يقتصر كونها بيّنة على بنوة المسيح وكونه المسيّا. فقد كانت قيامة المسيح مدخلاً إلى حال حياة جديدة بالكامل، فاتحة لارتفاع تصاعدي دائم. فإن الله قال للمسيح "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك" لا في الأزل فقط (عب 5:1) ولا عند تعيينه رئيس كهنة وحسب، (عب 5:5)، بل في القيامة أيضاً (أع 33:13). كأن القيامة هي يوم تتويج المسيح. فقد كان هو الابن والمسيح قبل تجسده. وكانا كذلك أيضاً في اتضاعه. غير أن جوهره كان مستتراً إذ ذاك تحت حجاب صورة عبد. لكنما الآن يعلن الله جهاراً على الملأ أن يسوع هو ربٌ ومسيح، ورئيس ومخلص. والآن يتخذ المسيح من جديد المجد الذي كان له من قبل عند الآب (يو 5:17). بعد هذا يتخذ "هيئة أخرى" أي شكلاً آخر، أو صورة وجود أخرى. فذاك الذي كان ميتاً، عاد حيّاً إلى أبد الآبدين، وله مفاتيح الهاوية والموت (رؤ 18:1). وهو رئيس الحياة، وسبب الخلاص، والمعيّن من الله ديّاناً للأحياء والأموات.
ثم إن قيامة المسيح هي ينبوع بركات لكنيسته وللعالم أجمع. فهي بمثابة آمين قالها الآب إزاء عمل الابن الكامل. ذلك أن المسيح أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا (رو 25:4). فكما أن خطايانا مرتبطة بموت المسيح ارتباطاً وثيقاً، بل بموته (رو 9:5، 19)، لأن ذلك الموت كان ذبيحة كفّرت عن خطايانا إلى التمام وأتت ببرٍّ أبدي. ولكن لأنه أحرز لنا المصلحة الكاملة والغفران الشامل لجميع خطايانا بآلامه وموته، قام من الموت وكان ينبغي أن يقوم. ففي القيامة ثبت برّه هو، ونحن تبرّرنا معه. وكانت قيامته تصريحاً علنياً بالصفح عنا. وليس هذا كل شيء، بل أُقيم المسيح لأجل تبريرنا أيضاً، بهذا المنى الآخر، حتى يستطيع أن يحسب لنا شخصياً العفو المتضمن في قيامته. فلولا قيامته لما كان ممكناً للمصالحة التي أتمها بموته أن تتحقق وتصير موضوع التطبيق وكأنه برأسمال مجمد. أما الآن فبالقيامة نال المسيح مقام الرب والرئيس المخلص، يستطيع أن يجعلنا نتمتع بالمصالحة الفّعالة، وذلك بالإيمان به. فقيامته إذاً هي، في نفس الوقت ذاته، البيّنة على تبريرنا وعلّة هذا التبرير.
ولكن لما قام المسيح وصار ممكناً أن يُغدق علينا شخصياً المصالحة والمغفرة المنجزتين، فقد تضمن عمله بركةً أخرى. فمثلما لا توجد مغفرة بلا مصالحة سابقة لها، كذلك أيضاً لا مغفرة بلا تقديس وتمجيد لاحقين لها. ويكمن في المسيح بالذات الأساس الموضوعي لهذا الارتباط الوثيق غير المنفصم بين التبرير والتقديس. فالمسيح لم يمت فقط، بل أُقيم أيضاً. والموت الذي ماته قد ماته للخطية (أي بقصد التكفير عن الخطية ومحوها)، بحيث أن الحياة التي يحياها إنما يحياها لله (رو 10:6). فإن حياته الآن تخص الله فقط، بعدما فك بموته أغلال الخطية إلى التمام. ومن هنا إن المسيح عندما يُغدق الآن على شخص ما، من طريق الإيمان، ثمار موته – أعني التوبة والمغفرة أساساً – فهو يعطي ذلك الشخص حياةً جديدة في الوقت عينه. فهو لا يقدر أن يقسم نفسه، ولا أن يفصل موته عن قيامته. وهو بالحقيقة يقدر أن يوزع ثمار موته ويتمتع الإنسان بها لأنه هو نفسه قد قام. فبوصفه رئيس الحياة، له وحده السيطرة على بركات موته كلها. إذا كما أنه هو نفسه قد مات مرة واحدة لأجل الخطية، كي يحيا من ثم لله وحده، هكذا تماماً مات لأجل الجميع في موته، كي يعيش الأحياء (بفضل كونهم قد ماتوا مع المسيح وأُقيموا معه) في ما بعد ليس لأنفسهم، بل للذين مات لأجلهم وقام (2كو 15:5 ؛ غل 20:2).
بهذه الطريقة عينها تقوم علاقة ارتباط لا تنفصم عراها بين غفران الخطايا وتجديد الحياة، منظوراً إلى ذلك الآن من الناحية الذاتية. فإن كل من يقبل غفران الخطايا بقلبً مؤمن، يكون بتلك اللحظة قد قطع كل علاقة بالخطية، مثلما فعل المسيح ذلك في موته. إذ إن ذلك الإنسان قد قال للخطية: وداعاً، لأنه لا يمكن إلا أن يكره الخطية (أي بالنسبة إليهما – رو 2:6)، ولذلك لا يقدر أن يعيش بعد فيها. فبالإيمان وبالمعمودية كعلامة عليه وختم له، قد دخل في شركة مع المسيح، فصلب ومات ودفن معه، لكي يسلك من ثمَّ في جدّة الحياة (رو 3:6 وما يلي).
ويرتبط بهذا التقديس أيضاً التمجيد. فبالقيامة ولد المؤمنون ثانية "لرجاء حيّ" (1بط 3:1). وبها حصلوا على القناعة الراسخة بأنَّ عمل الخلاص لم يبدأ ويكمّل فقط بل سيتمّم إلى النهاية أيضاً. ففي السماء محفوظ لهم الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، وعلى الأرض هم بقوة الله محروسون للخلاص العتيد أن يعلن لهم في الزمان الأخير. وكيف يمكن بالحقيقة أن يكون الأمر خلاف هذا؟ فإن الله بيّنَ محبته لنا إذ مات المسيح لأجلنا ونحن بعد خطاة. فكم بالأحرى إذاً، وقد تبررنا بدم المسيح، يخلصنا الله من غضبه، ولاسيما الغضب الذي سيستعلن في الدينونة الأخيرة!
فالذين هم في المسيح لا غضب عليهم ولا دينونة، بل فقط لهم سلام مع الله ورجاء مجده. في السابق، لما كانوا أعداءً وعرضةً لغضب الله، صالحهم الله لنفسه بموت ابنه. أما الآن، وقد نحى الله جانباً غضبه اتجاههم وأعطاهم سلاماً ومحبة، فإنه سيحفظهم بالحياة التي للمسيح الآن بفضل قيامته، والتي فيها يقوم بعمله عند الآب شفيعاً لهم (رو 8:6 – 10). وهكذا تستمر فاعلية قيام المسيح إلى الأبد. وهي في الوقت المعين ستأتي معها بقيامة المؤمنين وإحيائهم والنصرة على السماء والأرض.
عندما نفهم هذه الأهمية الأبدية الغنية التي لقيامة المسيح، عندئذ فقط نقدر السبب الذي عند الرسل، ولاسيما بولس، إلى التشدد كثيراً على صفتها التاريخية. فالرسل جميعاً شهودٌُ لقيامة المسيح (أع 22:1 ؛ 32:2). وبولس يستنتج أنه لولا القيامة لكانت كرازة الرسل باطلة وزائفة. فهو يقول إن غفران الخطايا، المؤسس على المصالحة والذي يُقبل بالإيمان، ما كان ليحدث لولا القيامة، كما أن الرجاء بقيامة مجيدة يكون إذ ذاك أمراً عديم الأساس. ولولاها كانت بنوة المسيح الإلهية وهويته المسيويّة ذهبتا أدراج الريح، ولكان هو معلم فضيلة لا أكثر. ولكن ما دامت القيامة قد حدثت، ففيها أعلن الآب المسيح وتوجه بوصفه المكفّر عن الخطايا ورئيس الحياة ومخلص العالم.
إن القيامة هي بداءة ارتفاع المسيح، وقد تلاها الصعود بعد أربعين يوماً. وهذه الحادثة وردت بإيجاز. على أن المسيح كان قد سبق وأنبأ بها. وهي من المواضيع التي تضمنتها الكرازة الرسولية. ففي كل موضوع ينطلق الرسل من فكرة كون المسيح – بحسب طبيعته البشرية – هو بالسماء بجسده ونفسه. وعلى كل حال، كانت الأربعون يوماً التي قضاها المسيح على الأرض بعد قيامته إعداداً لصعوده وممراً له. فقد تضافر كل شيء ليبّين أنه لم يعد ينتمي إلى الأرض بعد. إذ كان على هيئة غير تلك التي كان عليها قبل موته. وكان يظهر ويختفي بطريقة مبهمة. وشعر التلاميذ أن علاقتهم به الآن تختلف عن ذي قبل. لم تعد حياته تنتمي إلى الأرض، بل تخص السماء.
لقد صار، في الصعود، غير مرئيّ. إنما لم يكن ذلك بعملية تحول إلى حالة روحية ولا بانتقال إلى مقام الألوهة. فالذي حدث كان تغييراً للمكان إذ كان على الأرض، وانتقل إلى السماء. وقد صعد انطلاقاً من مكانٍ محدد، هو جبل الزيتون، ويبعد عن أورشليم مسافة تقل عن كيلو متر واحد في اتجاه بيت عنيا (لوقا 50:24 ؛ أعمال 12:1). وقبل أن يفترق عن تلاميذه، باركهم. وقد غادر الأرض وصعد إلى السماء وهو واقفٌ موقف مباركة. فهكذا قد جاء، وهكذا قد عاش، وهكذا عاد الآن. إنه نفسه مضمون بركات الله ومنجزها ومالكها وموزعها جميعاً (أف 3:1).
وقد كان الصعود عمله الخاص أيضاً. فكان له الحق فيه والسلطان لفعله. إذ أنه صعد بقوته الخاصة. حتى إن صعوده هو انتصار بمعنى أقوى من قيامته. فبالصعود انتصر المسيح على الأرض كلها، وعلى جميع نواميس الطبيعة، وعلى جاذبية المادة. وفوق هذا، فإن صعود المسيح هو انتصار على جميع القوات الشيطانية والبشرية المعادية، إذ في صلب المسيح جرّدها الله من كل سلاحها، وفضح عجزها، وأوثقها بعربة نصر المسيح (كو 15:2). وهذه القوات يجرها المسيح الآن كسبايا (أف 8:4). وهذا الأمر عينه يعبر عنه بطرس بطريقة أخرى. فهو يقول إن المسيح، بعد إحيائه بالروح، صعد إلى السماء. (في 1بطرس 19:3، 22 تستعمل الكلمة اليونانية نفسها، لكنها تُترجم مرةً "ذهب" وأخرى "قد مضى"، وعليه فإن إضافة التعبير "إلى السماء" إنما يشير إلى أين ذهب المسيح). ويستفاد أن المسيح عند صعوده بشّر بانتصار الأرواح التي في السجن، ثم جلس في مكانه عن يمين الله، وقد أُخضعت له الملائكة وسلاطين وقوات.
والصعود الذي هو عمل المسيح الخاص، هو أيضاً إصعاد الله له إلى السماء. فلأن المسيح قد أكمل عمل الآب إلى التمام، لم يقف الآب عند حد إقامة الآب له بل استقبله أيضاً في حضرته بالذات. فالسماوات مفتوحة له والملائكة تخرج للقائه وتواكبه عند دخوله (أع 10:1). بل إنه اجتاز السماء، إذ صعد فوق جميع السماوات (عب 14:4 ؛ أف 10:4) كي يجلس في مكانه عن يمين الآب في عرش جلالته. فالمقام الرئيس إلى جانب الله هو المسيح. وكما أن القيامة هي إعداد للصعود، فكذلك تماماً الصعود هو إعداد لإجلاس المسيح عن يمين الآب. وقد سبق العهد القديم فوعد المسيح بهذا المقام (مز 1:110). وقال المسيح غير مرة إنه سوف يجلس على عرشه المجيد، وهو بعد صعوده احتل ذلك المجلس (مر 19:16). وفي الكرازة الرسولية غالباً ما يُذكر جلوس المسيح عن يمين الله كما يشدد على دلالته المهمة.
ومن الممكن أن نلاحظ اختلافاً معيناً في التعابير التي تستخدمها كلمة الله بالإشارة إلى هذه الخطوة المتعلقة بالارتفاع. فأحياناً يُقال أن المسيح "جلس" أو "قد جلس" (عب 3:1 ؛1:8)، ثم نقرأ أيضاً أن الآب قال له: اجلس عن يميني (أع 34:2 ؛ عب 13:1)، أو أن الآب "أجلسه" هناك (أف 20:1). وأحياناً يقع التشديد على فعل الجلوس (مر 19:16)، وأحياناً على وضع الجلوس أو حالته (مت 64:26 ؛ كو 1:3). كما يشار إلى المكان الذي جلس فيه المسيح بالقول: عن يمين قوة الله (لو 69:22) أو في يمين العظمة في الأعالي (عب 3:1) أو في يمين عرش العظمة في السماوات (عب 1:8) أو في يمين عرش الله (عب 2:12). وفيما التعبير عموماً هو أن المسيح جالس هناك، نجد أحياناً ما يفيد أنه موجود هناك (رو 34:8) أو أنه "قائم" هناك (أع 55:7، 56) أو أنه ماشٍ في وسط السبع المناير الذهبية (رؤ 1:2، ومواضع أخرى). ولكن الفكرة هي عينها دائماً: أن للمسيح، بعد قيامته وصعوده، المقام الأسمى قرب الله في الكون كله.
وهذه الفكرة مُعبرٌ عنها بصورة مجارية مستعارة من العلاقات الأرضية. فلا يمكن أن نتحدث عن الأمور السماوية إلا بطريق بشرية، من طريق المقارنة. فمثلما أكرم سليمان أمه بتشبع بوضع كرسي لها لتجلس عن يمينه، كذلك الآب أيضاً يمجد الابن بإجلاسه إياه معه في عرشه (رؤ 21:3). ومعنى ذلك أن المسيح، على أساس طاعته الكاملة، قد رُفّع إلى أسمى سيادة وجلال وكرامة ومقام ومجد. فهو لم يتلقَّ من الآب قبل كون العالم (يو 5:17)، بل كُلّل الآن أيضاً بالمجد والكرامة، بحسب طبيعته البشرية (عب 9:2 ؛ في 9:2 – 11). وقد أُخضع له كل شيء، باستثناء الذي أخضع له الكل (1كو 27:15). وإن كنا الآن لا نرى كل شيء مخضعاً له. فنحن نعلم أنه لابد أن يملك حتى يضع جميع أعدائه تحت قدميه (عب 8:2؛ 1كو 25:15). ولسوف يحدث ذلك عند رجوعه، إذ يأتي ليدين الأحياء والأموات. ففي عودته للدينونة يكتمل الغرض من جلوسه عن يمين الله ومن كامل ارتفاعه الذي يبلغ ذروته إذ ذاك (مت 31:25، 32).
ثم إن المسيح، وهو في حالة الارتفاع هذه، يتابع العمل الذي بدأه على الأرض. حقاً أن بين العمل الذي أنجزه في اتضاعه والعمل الذي يتمه في ارتفاعه فرقاً كبيراً. فكما أن شخصه يظهر في هيئة أخرى، هكذا يتخذ عمله أيضاً شكلاً مختلفاً وصورة أخرى. فبعد قيامته لم يعد عبداً في ما بعد، بل هو ربُّ ورئيس؛ كذلك لم يعد عمله في ما بعد ذبيحة وطاعة كالتي أتي بها على النحو الأكمل في موته على الصليب. ولكن عمله الشفاعي يستمر مع ذلك بشكل آخر. فهو عند صعوده يدخل راحة لا عمل فيها – إذ إن الابن يعمل دائماً كما يعمل الآب (يو 17:5) – لكنه بدلاً من ذلك يجري لكنيسته فوائد خلاصه الكامل الذي أنجزه. وكما أن المسيح، من طريق آلامه وموته، قد رُفّع بالقيامة والصعود رأساً للكنيسة، كذلك أيضاً الكنيسة ينبغي الآن أن تكون على صورة جسد المسيح وتُكمّل إلى ملء الله. فإن عمل الوسيط هو عمل إلهي عظيم وجليل، بدأ في الأزل ويدوم إلى الأبد. ولكن هذا العمل، في لحظة القيامة، قُسم إلى جزئين. فقبله كان اتضاع المسيح جارياً، وبعده ابتدأ ارتفاعه. وكلا الأمرين لابد منه في عمل الخلاص.
وبمقتضى ذلك، ظل المسيح ناشطاً في حالة ارتفاعه بوصفه نبياً وكاهناً وملكاً. وهو منذ الأزل مُسح بهذه الصفات. وقد مارس مهام هذه الوظائف الثلاث في حالة الاتضاع. وهو الآن يتابع ممارستها في السماء، ولو بطريقة مختلفة.
أما أنه ظلّ ناشطاً بعد القيامة كنبيّ، فأمر يتّضح من تعليمه. فقد بقي يعلّم تلاميذه حتى وقت صعوده. والأربعون يوماً التي قضاها المسيح على الأرض بعد قيامته، تشكّل جزءاً مهماً من حياته وتعليمه، وإن كنا لا نهتم عادةً بهذه الحقيقة اهتماماً كافياً. ولكن ما إن نتأمل بانتباه فيما قاله الرب يسوع وعمله خلال هذه الأربعين يوماً، حتى يتكشف لنا أن هذا الأمر يُلقي على شخصه وعمله ضوءاً جديداً تماماً. وبطبيعة الحال، لا نمتلك نحن إحساساً مرهفاً وعميقاً كالذي كان لدى الرسل، فنحن نعيش بعدهم ونستفيد من تعليمهم، غير أنهم – وقد رافقوا المسيح ثم فقدوا كل رجاء عند موته – صاروا أشخاصاً مختلفين جداً في تلك الأربعين يوماً، وتعلموا أن يفهموا شخص المسيح وعمله على نحوٍ لم يكن ممكناً لهم من قبل.
إنّ القيامة بذاتها تُلقي ضوءاً باهراً على موت المسيح وعلى حياته الأولى بكاملها. غير أن هذه الحادثة المرتبطة بالفداء، لم تبقَ أيضاً أمراً مستقلاً بذاته: فكما سبقتها لحقتها أيضاً كلمة تتعلق بالفداء. فقد أعلن الملائكة حالاً عند القبر للنسوة اللواتي كنّ يبحثن عن يسوع، إنه ليس هناك "كما قال" (مت 5:28، 6). والمسيح نفسه شرح لتلميذي عمواس أنه كان ينبغي أن يتألم المسيح ثم يدخل إلى مجده، وقد بيّن لهم ذلك من كل ما جاء في جميع الكتب من صورٍ مختصة به (لو 26:24، 27 ؛ قارن 44 – 47).
آنذاك تعلّم التلاميذ أن يعرفوا المسيح بصورة أخرى تختلف عن تلك التي بها جال معهم فيما مضى. فهو ليس بعد ابن الإنسان المتواضع الذي جاء لا ليُخدم بل ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين. ها هو قد وَضَعَ جانباً صورة العبد، وأعلن نفسه في صورة المجد. وهو الآن ينتمي إلى عالم آخر. فهو عائدٌ إلى أبيه، فيما يبقى التلاميذ لأن لهم في الأرض رسالة يتمّمونها. أما علاقة الشركة الخاصة بينه وبين تلاميذه فلم تعد إلى سابق عهدها. حقاً أنه ستقوم فيما بعد بين يسوع وتلاميذه علاقة أخرى مختلفة، بل أيضاً أوثق، بحيث يعلمون عندئذ أن انطلاقه كان خيراً لهم. ولكن تلك العلاقة ستكون شركة في الروح، تختلف كثيراً عن تلك التي تمتعوا بها من قبل. والآن بعد القيامة أعلن المسيح نفسَه لتلاميذه في مجد وحكمة فائقين حتى إن توما اعترف به الاعتراف الذي لم يسبق أن صرّح به أي أحد منهم، إذ قال أن يسوع هو ربّه وإلهه (يو 28:20).
لقد ألقى المسيح، خلال الأربعين يوماً، ضوءاً متزايداً على شخصه وعمله. لكنه أيضاً قدم تفسيرات أكثر تحديداً لما ينبغي أن تكون الآن دعوة التلاميذ ومهمتهم. فلما دُفن المسيح وبدا أن كل شيء قد انقضى ومضى، ربما تكونت لدى التلاميذ سراً خطة العودة إلى الجليل واستئناف العمل السابق. غير أنهم في اليوم الثالث سمعوا بظهورات حدثت، لمريم المجدلية ومريم الأخرى (مت 1:28، 9 ؛ يو 14:20 وما يلي) ولبطرس (لو 34:24 ؛ 1كو 5:15) ولتلميذي عمواس (لو 13:24 وما يلي)، ومن ثم مكثوا قليلاً في أورشليم. في مساء ذلك اليوم بعينه، أُكرم التلاميذ – ما عدا توما – بظهور الرب لهم. بعد ثمانية أيام تمتعوا بظهور آخر، وتوما معهم هذه المرة. ثم تبعوا المسيح، وقد سبقهم هو، إلى الجليل (مت 10:28). وعندئذ حدثت عدة ظهورات أخرى (لو 24:24 وما يلي؛ يو 21). وفي الوقت نفسه وجههم بأن يرجعوا إلى أورشليم ليكونوا شهوداً لصعوده.
وفي كل من هذه الظهورات، فسّر المسيح لتلاميذه ما ستكون عليه دعوتهم الآتية. فلم يكن لهم أن يرجعوا إلى عملهم السابق، بل كان عليهم أن يكرزوا، كشهود له، بالتوبة ومغفرة الخطايا ابتداءً من أورشليم. وقد تلقى الرسل وصايا من كل نوع (أع 2:1). وعلمهم المسيح ما يتعلق بملكوت الله (أع 3:1). وحدد لهم سلطانهم (يو 21:20 – 23 ؛ 15:21 – 17)، ووضع في قلوبهم واجب الكرازة بالإنجيل للخليقة كلها. آنذاك عرفوا ما كان عليهم أن يعملوه. فكان عليهم في تلك الأثناء أن يقيموا في أورشليم إلى أن يمنطقوا بالقوة من الأعالي (لو 49:24 ؛ 4:1، 5، 8)، ومن ثم يكونون له شهوداً في أورشليم واليهودية والسامرة، وإلى أقصى الأرض (أع 8:1).
ومضمون تعليم المسيح بكامله خلال الأربعين يوماً معبرٌ عنه باختصار في الكلمات الأخيرة التي تكلم بها إلى تلاميذه (مت 18:28 – 20)، حيث يقول أولاً أنه قد دُفع إليه كل سلطان في السماء والأرض. صحيح أنه صرّح سابقاًَ بحيازته ذلك السلطان (مت 27:11)، لكنه الآن يمتلكه على أساس استحقاقه الشخصي، ويمضي قُدماً فيستخدمه بغرض إغداق البركات التي حصّلها على الكنيسة التي افتداها بدمه. فباسم كمال سلطانه هذا – إذا جاز التعبير – يُعطي تلاميذه التفويض بأن يتلمذوا له جميع الأمم معمدّين إياهم باسم الآب والابن والروح القدس، وأن يعلّموهم بأن يحفظوا جميع ما أوصاهم به. ولأنه قد دُفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فمن حقه أن يطالب بتلمذة جميع الأمم. وجميع الذين يدخلون بالمعمودية إلى الشركة مع الله الذي عرّفه نفسه في إعلانه الكامل بكونه الآب والابن والروح القدس، ويسلكون الآن في وصاياه دائماً، جميع هؤلاء يعترف المسيح بهم تلاميذ له، وعلى سبيل التشجيع يُضيف المسيح أخيراً أنه سيكون معهم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر. فهو بالجسد مزمع أن يبرح عنهم، ولكن بالروح يبقى معهم، حتى إنه هو – وليس هم – من يجمع كنيسته ويحكمها ويحميها.
كذلك يبقى المسيح، بعد صعوده، ناشطاً كنبي أيضاً. فإن كرازة الرسل، سواء مشافهة أو كتابة في رسائلهم، ترتبط بتعليم المسيح مباشرةً، ليس فقط بما تلقوه منه خلال الأربعين يوماً في قيامته وصعوده.
وهذه الحقيقة المشار إليها أخيراً، جدير بنا ألا نغفل عنها. فهي وحدها ما يفسر لنا سبب ثبوت الرسل من أول الأمر على القناعة الراسخة بأن المسيح لم يمت فقط بل أُقيم أيضاً وأُجلس عن يمين الله ربّاً ومسيحاً، ورئيساً ومخلصاً، وبأن خلاص الخاطي الكامل متضمن في محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس.
ثم إن كرازة الرسل لا ترتبط فقط بتعليم المسيح ارتباطاً وثيقاً، بل هي أيضاً تفسير ذلك التعليم وبسطه. فقد واصل المسيح نفسه، بروحه، عمل النبوة في قلوب تلاميذه. وبروح الحق أرشدهم إلى جميع الحق، لأن ذلك الروح لم يشهد لنفسه، بل شهد للمسيح، وجعل التلاميذ يتذكرون ويتأملون ما سبق أن قاله لهم، وكشف لهم أُموراً آتية (يو 26:14 ؛ 26:15 ؛ 13:16). وهكذا أُعد الرسل للإتيان بكلمة العهد الجديد المقدسة التي وُضعت إلى جانب أسفار العهد القديم فكانت سراجاً يضيء سبيل الكنيسة ونوراً يُهدي خُطاها. فالمسيح نفسه هو من أعطى كنيسته هذه الكلمة، وهو الذي يواصل تأدية وظيفته خلال هذه الكلمة باطّراد. إنه يحفظها ويجريها، ويفسرها ويشرحها. والكلمة هي الوسيلة التي بها يُتلمذ المسيح الأمم، ويأتي بهم جميعاً إلى الشركة مع الله المثلث الأقانيم، ويجعلهم يسلكون وصاياه. وما يزال المسيح بكلمته وروحه، معنا الآن كل الأيام إلى انقضاء الدهر.
وما ينطبق بالنسبة إلى وظيفة المسيح النبوية، يصدق أيضاً على وظيفته الكهنوتية. فليست هذه وظيفة تولاها زمناً وحسب. بل إنه يضطلع بها إلى الأبد. وقد كان في فرز بيت هارون وسبط لاوي لخدمة الهيكل، في العهد القديم، رمزٌ سابق إلى طبيعة الكهنوت الأبدية هذه. ففي حين أن جميع الأفراد الذين مارسوا هذه الخدمة ماتوا حقاً، كلٌّ في دوره، كان آخرون يخلفونهم حالاً. أما الكهنوت فظل باقياً ومستمراً. على أن المسيّا الآتي لم يكن مقدراً له أن يكون مجرد كاهن عادي يخدم مدة ثم يخلفه آخر، بل بالأحرى كاهناً إلى الأبد على رتبة ملكي صادق (مز 4:110). فعلى خلاف سلالة هارون ولاوي الذين منعهم الموت عن البقاء كهنة كل حين (عب 23:7)، يُعطينا ملكي صادق بشخصيته العجيبة صورةً لاستمرار رئاسة كهنوت المسيح إلى ما لا نهاية. ذلك أن ملكي صادق كان ملك بر وسلام معاً في آنٍ واحد، وهو فريد في تاريخ الإعلان كلّه، إذ لا يذكر الكتاب شيئاً عن نسبه أو مولده أو موته. وهكذا كان بمعنى رمزي مشبّهاً بابن الله إذ يبقى كاهناً إلى الأبد (عب 3:7).
ولكن ما كان عليه ملكي صادق بصورة رمزية فقط، فالمسيح هو عليه فعلاً وحقاً. ففي وسع المسيح أن يكون رئيس كهنة أبدياً بكل معنى الكلمة تماماً، لأنه ابن الله الكائن أزلاً (عب 2:1، 3). إنه قدّم نفسه قرباناً على الأرض وفي ملء الزمان، غير أنه جاء من فوق، وهو في جوهره ينتمي إلى الأزل والأبد؛ لذا استطاع أيضاً أن يقدم نفسه في الزمان بالروح القدس الأزلي (عب 14:9). وعلى قدر ما كان المسيح – من حيث كونه ابن الله – مستعداً منذ الأزل لأن يجيء إلى العالم ويفعل مشيئة الله بالتمام(عب 5:10 – 9)، كان أيضاً كاهناً منذ الأزل. إنما بالنظر إلى إتمام مشيئة الله في أيام جسده، يمكننا القول أن كهنوته ابتدأ على الأرض فعلاً. وهكذا كان كهنوت المسيح هذا على الأرض، بقيامته وصعوده، سبيلاً لأن يغدو رئيس كهنة في المملكة السماوية ويظل كذلك إلى الأبد. وما يسترعي الإلتفات في الرسالة إلى العبرانيين أنه يجب ألا تعتبر حياة المسيح وعمله على الأرض خاتمةً للمطاف بل ينبغي اعتبارهما تمهيداً لخدمته الكهنوتية الأبدية في السماء.
وقد استنتج بعضهم من هذا أن المسيح، بحسب الرسالة إلى العبرانيين، لم يكن كاهناً بأية حال لمّا كان على الأرض، وأنه تولى هذا المنصب أول مرة لمّا صعد إلى السماء ودخل قدس الأقداس. وهؤلاء يؤسسون فكرتهم هذه على حقيقة كون الكهنة على الأرض هم من سبط لاوي، وكان لابدّ أن يكونوا هكذا ليُسمح لهم بأن يقدّموا القرابين بموجب الشريعة، وعلى كون المسيح قد طلع من سبط يهوذا لا من سبط لاوي ولذا لم يقدم قط أي قربان في الهيكل بأورشليم (عب 14:7 ؛ 4:8). فإذا كان المسيح مع ذلك كاهناً، فلا يقدر أن يكون كذلك إلا في السماء، ويلزم أن يكون له ما يقدّمه (عب 3:8). وهكذا استنتجوا أن ما قدّمه هنالك كان هو دمه الخاص الذي دخل به الأقداس السماوية (عب 11:9،12).
بيد أن هذا الاستنتاج غير دقيق يقيناً، فإن هذه الرسالة إلى العبرانيين – شأنه شأن سائر كتابات الرسل جميعاً – تشدد أقوى التشديد على حقيقة أنّ المسيح قد قدم نفسه مرةً واحدة فقط، أي على الصليب، فحصل لنا فداءً أبدياً. فإن غفران الخطايا – هذه البركة العظيمة بين بركات العهد الجديد ونعمه – قد أُحرز كلياً بفضل ذلك القربان الواحد، أن العهد الجديد المؤسس بدم المسيح قد وضع حداً للقديم. كذلك كسرت ذبيحة المسيح الواحدة شوكة الخطية والموت وإبليس، وقدّس المسيح بدمه وأكمل جميع الذين كانوا مطيعين له (عب 10:10، 14 ؛ 12:13). وبالتحديد، فلأن المسيح قدّم هذه الذبيحة الواحة على الصليب، صار من حقه أن يجلس في يمين عرش الله العظيم رئيس كهنة أبدياً (عب 1:8). وهو لن يتألم ويموت بعد، بل يجلس على العرش ظافراً. والأمر المهم في محاجة الرسول هو بالتحديد أن لنا رئيس كهنة مثل هذا قد جلس في يمين عرش العظمة في السماوات (عب 1:8). ولا إمكانية البتة الآن في السماء بتقديم أي قربان كذلك الذي قدّمه المسيح على الأرض.
ومع ذلك فالمسيح هو رئيس الكهنة في السماء، ويبقى كذلك. فبهذه الصفة أُجلس عن يمين الله. نعم، يمكن أن يقال، بمعنىً من المعاني، مع الرسالة إلى العبرانيين، إنه في السماء صار أولاً رئيساً للكهنة على رتبة ملكي صادق وتولى أولاً مباشرة كهنوته الأبدي. وقد كانت حياته كلها على الأرض تمهيداً وإعداداً ليقوم الآن في السماء بدور رئيس الكهنة الأبدي لأجل خيرنا. فقد كان هو الابن، وكان ينبغي أن يكون هكذا لكي يتمكن من أن يصير هو كاهننا الأعلى العظيم، غير أن هذا لم يكن يكفي. ذلك لأنه، مع كونه ابناً، كان لازماً أن يتعلم الطاعة مما تألم به (عب 8:5). والطاعة التي له لكونه ابناً (عب 5:10 – 7) كان ينبغي أن يبديها، بصفته كائناً بشرياً، في آلامه، ليصير بالتالي رئيس الكهنة الذي لنا. فجميع الآلام التي جاءت على المسيح، والتجارب التي تعرض لها، والموت الذي خضع له، هذه كلها كانت في يد الله بمثابة الوسيلة لتقديس المسيح وتكميله لأجل الخدمة الكهنوتية التي ينبغي الآن أن يقوم بها أمام وجه الله. طبعاً، لا يجوز أن نفهم تقديس المسيح وتكميله هذين بمعنىً أدبي، كما لو كان المسيح قد صار طائعاً بالتدريج من خلال الجهاد. إنما يفكر الرسول، بالأحرى، بوصفه ابناً، على طاعته في مواجهة كل تجربة، وبذلك يتأهل كلياً ليكون رئيس كهنة إلى الأبد.
فمن طريق الطاعة إذاً أحرز المسيح بكل جدارة منصبه هذا كرئيس كهنة عن يمين الله في عرش العظمة. فعلى أساس آلامه وموته، أي على أساس ذبيحته الواحدة الكاملة، هو الآن جالس عن يمين الجلالة في أعلى السماوات. إذ أنه بدم نفسه (والباء هنا لا تفيد المصاحبة بل السببية) دخل مرةً واحدة إلى الأقداس السماوية (عب 12:9) وهو الآن هناك، في المسكن الحقيقي الذي بناه الله نفسه. وهناك يقوم الآن بعمله خادماً للأقداس (عب 2:8). فالآن هو، أول مرة، كاهن على رتبة ملكي صادق، بكل معنى العبارة، وإلى الأبد (عب 10:5 ؛ 20:6). وكما كان رئيس الكهنة في العهد القديم يدخل قُدس الأقداس مرةً واحدة في السنة، وذلك في يوم الكفّارة العظيم، بدم التيس المذبوح لأجل نفسه، وبدم التيس المذبوح لأجل الشعب، بغية أن يرش الدم على كرسي الرحمة (غطاء التابوت) وحواليه، كذلك تماماً شق المسيح، بفضل دم ذبيحته على الصليب، الطريق إلى الأقداس الحقيقية في السماء (عب 12:9). فهو لم يأخذ معه إلى السماء الدم الذي سفكه فوق الجلجثة، بالمعنى الحرفي، ولا قدّمه ورشه هناك، بالمعنى الواقعي، بل إنه بدمه الخاص دخل المسكن الحقيقي. إذ عاد إلى السماء آنذاك بوصفه مسيحاً قد مات وأُقيم، فهو كان ميتاً أما الآن حيّ إلى أبد الآبدين (رؤ 18:1). وهو القائم في وسط العرش كالخروف الذي كان مذبوحاً (رؤ 6:5). إنه، في شخصه، واسطة الكفّارة: فهو كفّارة لخطايانا وللعالم أجمع (1يو 2:2).
وعليه، فإن خدمة المسيح في السماء بوصفه رئيس الكهنة تكمن في ظهوره، أمام وجه الله لأجلنا (عب 24:9). وبقيامه هناك بكل ما ينبغي القيام به أمام الله لأجل التكفير عن خطايا شعبه، يتبرهن أنه رئيس كهنة رحيم وأمين (عب 17:2). وهو يهبُّ كي يُعِيْنَ المجرَّبين (عب 18:2 ؛ 15:4)، ويأتي إلى المجد بأبناء كثيرين (10:2). وفي طريق الطاعة صار هو نفسه رئيساً لجميع الذين يتقدمون إلى الله بوساطته. وهو رائدهم وقائدهم في الإيمان، ولذلك يقدر أن يأتي بالآخرين إلى الإيمان ويحفظهم فيه إلى النهاية (عب 2:12). كما أنه أيضاً رئيس الحياة (أع 15:3) بالنسبة إلى المؤمنين به، لأنه كسب تلك الحياة أولاً بموته، ولذلك يقدر الآن أن يعطيها إلى الآخرين. كذلك هو رئيس الخلاص (عب 10:2) لأنه نفسه قد شق الطريق إلى الخلاص وسار فيها، ولذلك يقدر أن يقود الآخرين إليها ويدخل بهم إلى الأقداس (عب 20:10).
فالمسيح إذاً هو، دائماً وفي كل شيء، شفيعنا عند الآب. ومثلما صلّى لأجل تلاميذه لما كان على الأرض (لو 34:23)، وسلّم الكنيسة كلّها للآب في صلاته كرئيس كهنة (يو 17)، فكذلك أيضاً يواصل في السماء تشفعه لأجل خاصته. صحيح أنه ينبغي أن نفهم هذا بمعنى أنه ينطرح أمام الآب متضرعاً إليه ومناشداً إياه أن يبدي الرحمة. لأن الآب نفسه يحبنا وقد بذل ابنه بيّنة على محبته. ولكن شفاعة المسيح تعني ضمناً أن محبة الآب لا تمنح لنا البتة إلا في الابن الذي أطاع حتى الموت موت الصليب. فليس تشفع المسيح إذاً توسلاً لأجل النعمة، بل هو التعبير عن إرادة قائمة (يو 24:17)، إذ هي سؤال الابن أيعطيه الآب الأمم ميراثاً وأقاصي الأرض ملكاً له (مز 8:2). فأمامنا هنا المسيح المصلوب والممجد، ابن الآب الوحيد الحبيب، ذاك الذي أطاع ولكنه أيضاً رُفّع إلى عرش الظلمة. ههنا رئيس الكهنة الرحيم والأمين الذي قدّس وكمل خدمته في السماء، والذي بشفاعته تُقدم إلينا رحمة الآب.
فإزاء جميع التهم التي يوجهها إلينا الناموس والشيطان وقلوبنا، سيتولى المسيح بنفسه مهمة الدفاع عنا (عب 25:7 ؛ 1يو 2:2). وهو يأتي إلى معونتنا في جميع تجاربنا، ويرثي لضعفاتنا. وينقي ضمائرنا. إنه يقدس ويُخلص إلى التمام جميع الذين يتقدمون به إلى الله، ويعدّ لهم مكاناً في بيت الآب، المنازل كثيرة والمجال متسع للعديدين (يو 2:14، 3)، ويحفظ لهم ميراثهم السماوي (1بط 4:1). وإذاً، فلا شيء يخشاه المؤمنون. فمن حقهم أن يتقدموا بثقة إلى عرش النعمة (عب 16:4 ؛ 22:10) وقد نالوا أيضاً من عند المسيح في السماء روح التبني الذي به يصرخون "أباً، أيها الآب" وبه قد انسكبت محبة الله في قلوبهم (رو 5:5 ؛ 15:8). وكما أن المسيح هو شفيعهم عند الآب في قلوبهم. ومن المعتقدات الأساسية المهمة في إيماننا المسيحي إذاً إن لنا رئيس كهنة جالساً عن يمين عرش الجلالة في السماوات (عب 1:8). من هنا لا نحتاج بعد إلى كاهن ولا ذبيحة، ولا مذبح ولا هيكل، هنا على هذه الأرض.
ثم إن المسيح يواصل أيضاً ممارسة وظيفته الملكية في السماء بعد قيامته. وبخصوص هذه الحقيقة، يقلّ الاختلاف في الآراء طبعاً، لسبب أن المسيح بقيامته وصعوده قد رفّعه الآب ربّاً ومسيحاً، ورئيساً (قائداً) ومخلصاً، وأجلسه في يمين عرش العظمة، وأعطاه اسماً يفوق كلّ اسم. فإن كون المسيح ملكاً واضحاً بكل جلاء في ارتفاعه أكثر مما هو في اتضاعه.
وتضع الكلمة المقدسة حداً ضمن ملكوت المسيح هذا الواحد. فهنالك ملك المسيح على صهيون، أي على شعبه، وعلى الكنيسة؛ وهنالك أيضاً مُلكه الذي يمارسه على أعدائه. أما الأول فملك النعمة؛ وأما الثاني فملك قوة وسلطان.
وفيما يتعلق بالكنيسة، غالباً ما يستخدم العهد الجديد لفظة "الرأس" بالتبادل مع "الملك". فإن للمسيح بالكنيسة التي اقتناها بدمه علاقة حيوية وثيقة جداً بحيث لا يكفي اسم واحد للتعبير عن مضمونها. وهكذا يقدم الكتاب المقدس صور بيانية عديدة لإيضاح شيء ما عما يعنيه المسيح لكنيسته. فهو منها ما هو العريس من عروسه (يو 29:3 ؛ رؤ2:21)، والرجل من امرأته (أف 25:5 ؛ رؤ 9:21)، والبكر من أخوته (رو 29:8 ؛ عب11:2)، وحجر الزاوية من البناء (مت 24:21 ؛ أع 11:4 ؛ 1بط 4:2-8)، والكرمة من الأغصان (يو 1:15؛2)، والرأس من الجسد. نعم، إن المسيح بالنسبة إلى الكنيسة هو ذلك كله وفوق ذلك.
والصورة البيانية الأخيرة، على الخصوص، ترد في الكتاب مراراً وتكراراً. ويقول الرب يسوع نفسه في متى 42:21 إن التصريح الذي جاء في المزمور 22:118 قد تحقق فيه هو: الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية. وكما يعمل حجر الزاوية على ربط جدران البناء بعضها ببعض وعلى توطيدها، كذلك المسيح أيضاً، ولو رفضه اليهود، قد اختاره الله ليؤدي دور حجر الزاوية لكي تتحقق فيه الثيوقراطية، أي مُلك الله على شعبه. ويذكر الرسول بطرس هذه الفكرة في أعمال الرسل 11:4، كما يتوقف عندها في رسالته الأولى بأكثر تحديد، حيث لا يردها فقط إلى المزمور 22:118، بل أيضاً إلى أشعياء 16:28. فهو يصف المسيح بأنه الحجر الحي الذي وضعه الله في صهيون والذي إليه أُضيف المؤمنون كحجارة حية (1 بط 4:2-6). ويأتي بولس بوصف مكمل لهذه الصورة إذ يشير إلى أن الكنيسة قد بنيت على الأساس الذي أرساه الرسل والأنبياء في كرازتهم بالإنجيل، وأنّ المسيح نفسه هو حجر الزاوية في بناء الكنيسة المرفوعة على ذلك الأساس (أف 20:2). وفي موضع آخر يُدعى المسيح نفسه أساس الكنيسة (1كو10:3). لكنه هنا، في أفسس 20:2، يدعى حجر الزاوية. مثلما يكمن مبدأ الثبات في حجر زاوية البناء، هكذا تماماً لا وجود للكنيسة إلا في المسيح الحي وحده.
ولكنّ استعارة البناء، رغم أنها تصور المسيح بوصفه حجر الزاوية، لا تكفي وحدها للتعبير عن العلاقة الوثيقة بين المسيح وكنيسته. فالعلاقة بين حجر الزاوية والبناء هي علاقة اصطناعية رغم كل شيء، أما وحدة المسيح وكنيسته فهي رباط وحدة حي. وتبعاً لذلك تكلم المسيح لا كمجرد حجر جعله الله رأس الزاوية، بل أيضاً كالكرمة التي تفرخ الأغصان وتغذيها بعصارتها (يو 1:15 ؛ 2). وفيما عزز بطرس الاستعارة بوصفه الحجارة بأنها حية، لم يقف بولس عند ذكر بناء ينمو وجسد يبنى (أف 21:2 ؛ 12:4)، بل يصور المسيح أيضاً، ومرة تلو المرة، بوصفه رأس الكنيسة (جسده).
فإنّ كل كنيسة محليّة هي جسد للمسيح أعضاؤها مترابطون كأعضاء الجسد الواحد، يحتاج بعضهم إلى بعض ويخدم أحدهم الآخر (رو 4:12، 5 ؛ 1كو 12:12-27). ولكن كنيسة المسيح ككل هي جسد المسيح أيضاً. وهو بفضل قيامته وصعوده قد جُعل رأساً لها. وبهذه الصفة هو مصدر حياة الكنيسة. فهو يمنح الكنيسة حياتها في البداية، لكنه أيضاً يطعمها ويعتني بها ويحفظها ويحميها. وهو يجعل الكنيسة تنمو وتزدهر، ويجعل كل عضو من أعضائها يبلغ نضجه الكامل، وهو أيضاً يوحد الأعضاء جميعاً ويجعل كلاً منهم يعمل لخير الآخر. وبكلمة، إنه يملؤها إلى كل ملء الله.
عاش في أيام الرسول بولس معلموا بدع زعموا أنه من أعماق الكينونة الإلهية تنبثق كل أنواع الكائنات الروحية في سلسلة انحدارية، وإنّ هذه كلها تكون معاً ملئه أو قامته المكتملة. ففي مواجهة هذا الزعم يقدم بولس حقيقة أنّ ملء الله كله يحل في المسيح وحده وأنّه يحل فيه جسدياً، وأنّ المسيح يجعل هذا الملء بدوره يحل في كنيسته التي هي جسده وملؤه (أي الجسد مملوء إلى التمام بالمسيح) - ملء ذاك الذي يملأ الكل في الكل (أف 23:1). فلولا المسيح الذي منه كل شيء لما كان في الكنيسة شيء – لا موهبة ولا قوة ولا وظيفة ولا خدمة ولا إيمان ولا رجاء ولا محبة ولا خلاص. ولسوف يستمر المسيح في عمل الملء هذا إلى أن تمتلىء الكنيسة بجملتها وأجزائها بملء الله. عندئذ تكون الكنيسة قد اكتملت ويكون الله هو الكل في الكل (1كو 28:15).
غير أن المسيح يدعى أيضاً "الرأس" بمعنىً آخر. ففي 1كورنثوس 3:11 يقول إن المسيح هو رأس كل رجل. وفي 2تسالونيكي 10:2 يدعونه رأس كل رياسة وسلطان، أي الملائكة جميعاً، لأنه هو البكر على كلّ خليقة (كو 15:1). وفي أفسس 10:1 يذكر أنّ قصد الله من جهة تدبير ملء الأزمنة هو أن يجمع كل شيء في المسيح (الكلمة اليونانية تفيد معنى اختصار جميع الأشياء وحصرها تحت رأس واحد) ما في السماوات وما على الأرض. فواضح على كل حال أنّ اسم "الرأس" له في سياق هذه الآيّات معنىً يختلف عن مدلوله حيث يدعى المسيح رأس الكنيسة. ففي الحالة الأخيرة هنا يفكر بولس على الخصوص بالعلاقة العضوية – أي مبدأ الحياة الموّحد – بين المسيح والكنيسة. ولكن حيث يدعى المسيح رأس الرجل، أو الملائكة أو العالم، فالتشديد يكون على صورة الملك السيّد. فالخلائق كلها بغير استثناء خاضعة للمسيح، كما أنّ المسيح نفسه بوصفه وسيطاً هو خاضع للآب (1كو 13:11). وبينما يمارس سيادة النعمة على الكنيسة، ولذلك يُدعى غالباً رأس الكنيسة، فإنه يتقلد سيادة السلطة على الخلائق كلها. وفي هذه العلاقة نادراً ما يُدعى رأساً، وغالباً ما يُدعى ملكاً وربّاً. فهو ملك الملوك وربّ الأرباب، وبوصفه ملكاً سوف يملك حتى توضع جميع أعدائه تحت قدميه.
وينبغي عدم توحيد ملكوت السلطة هذا بالسيادة المطلقة التي يملكها المسيح، من حيث طبيعته اللاهوتية، مع الآب والروح على السواء. فمن الواجب أن نميز بين صفة القدرة على كل شيء التي هي بيد الابن منذ الأزل والسلطان الذي يذكره المسيح في مت 18:28 والذي يُدفع إليه خصيصاً باعتباره وسيطاً في كلتا طبيعتيه. فباعتبار المسيح وسيطاً، له أن يجمع كنيسته ويحكمه ويحميها، ولكي يقوم بذلك ينبغي قبلاً أن يكون أقوى من جميع أعدائه وأعداء الكنيسة. ولكن ذلك بالطبع ليس هو السبب الوحيد الذي لأجله دُفعت إلى يد المسيح سلطة الملك المطلقة. فثمّة أيضاً سبب آخر لذلك، وهو أنه للمسيح، بوصفه وسيطاً، من أن ينتصر حتماً على جميع أعدائه. وهو لا يواجههم في المعركة بقدرته الإلهية الكلية، بل يبدي لهم السلطان القاهر في كسبه بآلامه وموته. والنـزاع بين الله وخليقته نـزاع عدل وحق. فكما أن الكنيسة اُفتديت في طريق العدل، فأعداء المسيح كذلك لابدّ أن يُدانوا يوماً في طريق العدل. وفي مواجهتهم، لن يستعمل الله قدرته على كل شيء، الأمر الذي يستطيع يقيناً أن يفعله، ولكنه سيظفر بهم في صليب المسيح (كو 15:2). ولو شاء الله أن يطارد أعداءه بقدرته الكلية، لما استطاع الوجود لحظة. غير أنه يسمح لهم بأن يولدوا ويعيشوا، جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن. وهو يُغدق عليهم خيراته، ويهبهم جميع الهبات التي يملكونها في الروح والجسد، ولكنهم هم يسيئون استعمالها بتوظيفها ضدّه تعالى. لكن في وسع الله أن يفعل هذا، وهو حقاً يفعله، لأن المسيح هو الوسيط. ومع أن الآن ليس كل شيء مُخضعاً له بعد، فهو مع ذلك مكلل بالمجد والكرامة، ولسوف يسود ملكاً حتى تُخضع له جميع أعدائه قهراً. وأخيراً، في آخر الدهر، عندما ينتهي تاريخ العالم كله، وتاريخ كل إنسان فرد أيضاً، لابدّ أن يُقرّ كلّ امرئٍ، في ضميره الخاص، بسيادة المسيح، إذ يرى الجميع كل ما أسبغه الله من عطايا روحية ومادية لأجل خاطر الوسيط الوحيد. فطوعاً أو كرهاً، سوف تنحني له يوماً كلّ ركبة، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربّ، لمجد الله الآب (في 10:2، 11). ويوماً ما، لا بدّ أن ينطق المسيح بالحكم النهائي على كلّ مخلوق بشريّ. وهو لن يدين أحداً غير الذين قد دينوا قبلاً في ضمائرهم بتبكيتٍ من الروح القدس (يو 18:3 ؛ 8:16 – 11).
- عدد الزيارات: 535