الفصل الأول: وسيط العهد
قصدُ الفداء ليس مشروعاً بشرياً يتعلق تنفيذه بالظروف غير المتوقعة، ولذلك هو بعيد عن الإتمام. إنه قصد جرى، بل إنه خطة قد نفذت بتمام اليقين، لأنه قرار اتخذته مشيئة الله المتّصفة بالنعمة والقدرة وهي ثابتة منذ الأزل، فهكذا لا بد أن تتحقق في الزمن. وعليه، فإن كل ما ينبغي أن يبحث فيه تعليم العقيدة إنما هو الطريقة التي بها تنفذ وتحقق مشورة الله هذه غير المتغيرة والمتعلقة بخلاص البشر الذين أوجدهم تعالى. ولما كانت تلك المشورة تتعلق أساساً بثلاث قضايا رئيسية – ألا وهي الوسيط الذي به ينبغي الحصول على الخلاص، والروح القدس الذي به يتم تنفيذ الخطة، والبشر الذين ينالون الخلاص – فإن تعليم الإيمان المسيحي بهذا الشأن لا بد أن يتناول فيما يلي هذه القضايا الثلاث.
فينبغي أن يتناول التعليم أولاً شخص المسيح الذي أنجز الخلاص بآلامه وموته. وثانياً، ينبغي أن يوضح الطريقة التي بها يجعل الروح القدس المختارين يشتركون في المسيح وفي التمتع بفضائله. وثالثاً، ينبغي الاهتمام بالبشر الذين صار لهم نصيب في الخلاص الذي أكمله المسيح، مع الأخذ في الاعتبار أن الكنيسة جسد المسيح.
ولا بد في الختام أن يبلغ التعليم ذروته في التطرق إلى إتمام الخلاص الذي ينتظره المؤمنون في ما بعد. وسيثبت البحث بجملته أن قصد الفداء، بكل أجزاءه، محكم الترتيب ومضمون التنفيذ، ففيه تُعلَنُ نعمة الله التي لا يعبر عنها، وحكمته المتنوعة، وقدرته الخارقة.
في شخص المسيح تظهر في التو وبكل وضوح هذه السجايا السامية كلها، وإن كان صحيحاً أن الإيمان بوسيط لا يقتصر على المسيحية. ذلك أن جميع البشر والأمم يعيشون ولديهم شعور لا ينحصر فقط في حقيقة كونهم لا يملكون نصيباً في الخلاص، بل يتعدى ذلك إلى امتلاكهم اقتناعاً قلبياً راسخاً بأن هذا الخلاص يجب أن يدلّهم عليه ويعطيهم إياه أشخاص مخصوصون، بطريقة ما. إذ تشيع عموماً الفكرة التي مفادها أنَّ الإنسان على حاله لا يستطيع أن يقترب إلى الله ولا يستطيع أن يقيم في حضرته؛ فهو يحتاج إلى وسيط يفتح له الطريق إلى الله. ولذلك يوجد في جميع الديانات وسطاء يُعرِّفون البشر بالإعلانات الإلهية من جهة، ويحملون لهم صلواتهم وتقدماتهم إلى الإله من جهة ثانية.
و يكون هؤلاء الوسطاء أحياناً من الآلهة الأدنى مقاماً، أو من الأرواح، لكنهم أيضاً غالباً ما يكونون أناساً وُهِبُوا معرفة فائقة وقوة خارقة وفهماً ممتازاً بحيث تحيط بهم هالة خاصة من القداسة. لهؤلاء الوسطاء عند الأمم مقام هام في الحياة الدينية، وهم أهل مشورة في جميع المناسبات المهمة في الحياة الخاصة والشؤون العامة، كالكوارث والحروب والأمراض والمشاريع وما شابه. وسواء كانوا عرّافين أو سحرة، أم قديسين أو كهنة، فهم يدلّون الناس على الطريق التي يزعمون أن عليهم سلوكها لكي ينعموا برضى الإله؛ غير أنهم- هم أنفسهم- ليسوا على تلك الصورة. فإن أديان الأمم ليست متعلقة بأشخاص وسطائها. وهذا ينطبق حتى على أديان أسسها أشخاص معينون. ففي الواقع أن بوذا وكونفوشيوس وزرادشت هم أول المعترفين بالأديان التي أسسها كل منهم، إلا أن مضمون أديانهم ليس أشخاصهم. فارتباط كل منهم بدينه هو- بمعنى ما- عرضي وخارجي. حتى إن أديانهم يمكن أن تظل على ما هي عليه ولو نسيت أسماؤهم أو بدلت بشخصياتهم شخصيات غيرهم.
بيد أن الحال في المسيحية ليست البتة على هذا المنوال. صحيح أن قوماً ذهبوا إلى أن المسيح أيضاً لم يقصد قط أن يكون هو الوسيط الوحيد، وأنه يقبل بسرور أن ينسى اسمه لو أن مبدأه وروحه فقط استمرا في الكنيسة، على أن آخرين ممن لا صلة لهم بالمسيحية هاجموا بنـزاهة هذا الزعم ودحضوه. فإن المسيحية تنفرد بارتباطها الخاص بشخص المسيح على نحو يختلف كثيرا عن ارتباط سائر الأديان الأخرى بأشخاص مؤسسيها. ذلك أن المسيح لم يكن هو أول معترف بالدين الذي سُمّيَ باسمه. إنه لم يكن المسيحي الأول والأهم. بل إنه يشغل في المسيحية مكانة فريدة كاملة. فهو ليس "مؤسس" المسيحية بمعنى الكلمة العادي، بل إنما هو المسيح، أي الشخص الذي أرسله الآب، والذي أسس ملكوته على الأرض، وهو الآن ينشره ويحفظه إلى آخر الدهور. إن المسيح نفسه هو المسيحية. فهو يقف لا خارجها، بل في قلبها. ولولا اسمه وشخصه وعمله، لما كان هنالك شيء يدعى "المسيحية". بكلمة أخرى، ليس المسيح هو من يدلنا على طريق المسيحية، بل إنه في نفس الطريق. إنه الوسيط الحقيقي الكامل والوحيد بين الله والناس. فما تطلعت إليه مختلف الأديان وترجّته في اعتقادها بوسيط، إنما هو متحقق في المسيح فعلاً وتماماً.
لكي نقدّر بالتمام مكانة المسيح الفريدة هذه حق قدرها، ينبغي لنا أن ننطلق من الفكرة التي يبينها الكتاب المقدس والتي تفيدنا أن المسيح، على خلافنا، لم يبدأ وجوده عند الحبل به وولادته، وأنه موجود قبل ذلك منذ أجيال لا حصر لها – بل إنه بالحقيقة كائن أزلاً بوصفه ابن الآب الوحيد والحبيب. وقد سبق العهد القديم فسمى المسيح الآتي "أبا الأبدية" الذي هو أب أبدي لشعبه (أشعياء 9: 6)، وقال أن مخارجه (أصله ومصدره) هي منذ القديم، منذ أيام الأزل (ميخا5: 2). ثم يوالي العهد الجديد الفكرة عينها، لكنه أيضاً يقدم تعابير أوضح عن أزلية المسيح. فذلك متضمن في جميع تلك الفصول الكتابية التي تعرض كامل عمل المسيح على الأرض باعتباره إتماماً لعمل أوكله الله إليه من قبل. صحيح أنه قيل عن يوحنا المعمدان أيضاً أنه لا بد أن يأتي – وقد أتى فعلاً – كإيليا ثان (مرقس11:9-13 ويوحنا 7:1) غير أن في التشديد على حقيقة كون المسيح قد جاء إلى العالم لإتمام عمله الإلهي، وفي كثرة المرات التي يُشار إلى هذه الحقيقة، دليل على أن هذا التعبير مستعمل حقاً بمعنى خاص.
فنحن لا نقرأ فقط بمعنى عام أنه خرج من لدن الآب لكي يكرز (مر38:1)، وأنه أتى لكي يدعو الخطاة إلى التوبة ويقدم نفسه فدية عن كثيرين (مر17:2؛45:10). بل يضاف شيء آخر أيضاً إذ يقال صراحة إنه مرسل لينادي بالبشارة (لوقا 43:4)، وإن الآب هو الذي أرسله (متى 40:10 ؛ يوحنا 24:5 وما يليها)، وإنه قد خرج من قبل الآب وجاء باسمه (يوحنا 43:5 ؛42:8، ومواضع أخرى)، وإنه نـزل من السماء وجاء إلى العالم. وهكذا يعرف الرب يسوع نفسه أنه الابن الوحيد الحبيب عند الآب والذي أرسل إلى الكرم بعد سائر العبيد (مرقس 12:6). ومن كان ابن داود سبق أن كان رب داود (مر 37:12)، وهو الكائن قبل إبراهيم (يوحنا 58:8)، وقد كان له عند الرب مجد قبل تكوين العالم (يو 7:15 24).
ثم أن شهادة الرسل تكشف النقاب على نحو أكثر تحديدا عن هذا الوعي الذاتي لدى المسيح بخصوص وجوده الأزلي. فالمسيح هو الكلمة الأزلي الذي كان عند الآب في البدء، والذي كان هو الله، وقد صار جسداً (يوحنا1: 1، 14). إنه بهاء مجد الله، ورسم جوهره، وله مقام أسمى جدا من الملائكة. ليس ذلك وحسب، بل له أيضاً أن يطالب الملائكة بالسجود له، وهو الإله الأزلي والملك السرمدي الذي هو دائما وسنوه لن تفنى (عبرانين3:1 -13). إنه الغني (2 كورنثوس9:8) الكائن بذاته في صورة الله بحيث كان مساوياً للآب لا في الجوهر وحده بل أيضاً في المقام والمجد. وهو لم يعتبر هذه المساواة لله غنيمة ينبغي التمسك بها واستخدامها لنفسه (فيلبي 6:2)، بل أخلى نفسه آخذاً هيئة البشر وصورة العبد (في7:2،8)، ولذلك رفع إلى مقامه الأعلى بوصفه الرب من السماء، وهكذا كان نقيضاً لآدم الإنسان الترابي من الأرض (1 كورنثوس47:15). وبعبارة واحدة، فإن المسيح – مثله مثل الآب تماماً- هو الألف والياء، الأول والآخر البداية والنهاية (رؤيا 11:1،17؛ 13:22).
من هنا أن عمل ابن الله المتجسد لم يبدأ فقط عند ظهوره على الأرض، بل يرقى أيضاً رجوعاً إلى الخلق. فبالكلمة صنع كل شيء غير استثناء (يوحنا3:1؛ عبرانيين2:1، 10). إنه البكر والرأس ومبدأ كل خليقة (كولوسي15:1؛ رؤ14:3). هو كائن قبل كل شيء (كو17:1). وليس فقط أن الخلائق كلها خلقت بيده، بل فيه تقوم كلها أيضاً (كو16:1، 17) وهي من لحظة إلى لحظة محمولة بكلمة قدرته (عبرانيين3:1). كما أنها أيضاً له قد خلقت (كولوسي16:1)، لأن الله جعله، وهو الابن، وارثاً لكل شيء (عبرانيين 1: 2، رومية8: 17). ولذا فإن للابن منذ البداية علاقة وثيقة بالعالم، وعلاقة أوثق بالبشر. إذ فيه كانت الحياة، الحياة الكاملة الغنيّة غير المعرضة للفناء والتي هي مصدر كل حياة في العالم. هذه الحياة كانت نوراً للناس الذين خُلقوا على صورة الله ولهم طبيعة أدبية عاقلة، مصدراً للحق الإلهي الذي ينبغي للناس أن يعرفوه ويعتبروه (يوحنا 4:1). حقاً أنّ الإنسان صار ظلمةً في ما بعد من جرَّاء الخطيّة، إلا أنّ نور العالم رغم ذلك قد أضاء في تلك الظلمة (يو 5:1)، وقد أنار كل إنسان جاء إلى العالم (يو 9:1)، لأن الكلمة كان في العالم ومكث فيه، وظلَّ يعمل في العالم، وإن كان العالم لم يعرفه (يو 10:1).
إذاً المسيح الذي ظهر في العالم في ملء الزمان – بحسب ما تخبرنا عنه الكلمة المقدّسة – ليس هو مجرد إنسان كغيره من الناس، ولا مؤسس ديانة، ولا مبشراً بناموس خُلقي جديد. إنّهُ صاحب مقام فريد. إذ أنه كائن أزلاً بصفته ابن الآب الوحيد وهو خالق كل الأشياء ومدبرها وضابطها. وفيه كانت حياة الناس ونورهم. ولما ظهر في العالم، لم يدخله كغريب، بل جاء بوصفه ربّه الذي له علاقة به. فالفداء، أو الخلق من جديد، مرتبط بالخلق؛ والنعمة مرتبطة بالخليقة؛ وعمل الابن بعمل الآب. ذلك أن الفداء مبنيّ على أساسات أرسيت في الخلق.
و تتضح لنا مكانة المسيح الفريدة، على نحو أكثر وضوحاً، إذا نحن تأملناها في ارتباطها بشعب العهد القديم. فقد كان الكلمة (اللوغوس)، بشكل ما، ماكِثاً وعاملاً في العالم كله وفي جميع البشر. ولكن على الرغم من أن النور كان يضيء في الظلمة، فإن الظلمة لم تدركه؛ ومع أن الكلمة كان في العالم، فإن العالم لم يعرفه (يوحنا 10،5:1). غير أنّ الكلمة كانت له علاقة أوثق بالشعب القديم، إذ إن تلك الأمة وحدها، بين جميع الأمم، كانت هي الأمة التي حُسبت ميراثاً له، ولذلك تدعى في يوحنا 11:1 خاصة الكلمة الذي كان في البدء عند الله والذي كان هو الله. فإسرائيل كانت خاصته وقد كان هو بينها كما لم يكن بين البشر الآخرين. وهو جاء إلى تلك الأمة عمداً وبعد قرون من التحضير. والمسيح، بحسب الجسد، هو من نسل الآباء (رومية 5:9). وصحيح أن "خاصته" قد رفضته، غير أن مجيئه لم يكن عبثاً، لأن جميع الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله (يوحنا 12:1) – علماً بأننا نقرأ عن العالم أنه لم يعرفه، ولكن عن اليهود تُقال عبارة أقسى، ألا وهي أنهم لم يقبلوه، أي احتقروه ورفضوه.
و عندما نقرأ في يوحنا 11:1 أن الكلمة قد جاء إلى خاصته فلا شك في أن الإشارة هي إلى التجسد، إلى مجيء المسيح في الجسد. غير أن العبارة أيضاً تعني ضمناً أن علاقة الملكية الموجودة بين الكلمة وإسرائيل لم تبرز إلى حيز الوجود أولاً بالتجسد وبعده، بل هي بالأحرى حاصلة قبل ذلك بزمن طويل. فقد كان الشعب خاصته وهو بالتالي جاء إلى خاصته في ملء الزمان. ولحظة قَبِلَ يهوه شعب إسرائيل خاصة له. لحظتئذٍ دخل الشعب أيضاً في علاقة خاصة بالكلمة (اللوجوس)، وهو نفسه في نهاية المطاف الرب الذي التمس الشعب وجهه، وملاك العهد المزمع أن يأتي بغتة إلى هيكله (ملاخي 1:3) والذي سكن بين شعبه وعمل وسطهم منذ القديم. ونقرأ في مواضع عديدة من العهد القديم عن ملاك العهد أو ملاك الرب. فعلى حدٍّ ما أشرنا إليه فيما يتعلق بعقيدة الثالوث، كان الرب بواسطة ذلك الملاك يُعلن ذاته لشعبه بطريقة خاصة. ومع أن هذا الملاك مميز من الرب، فإنه رغم ذلك موحّد به إلى أبعد حدّ بحيث يمكن أن يعزى إليه عين ما يعزى إلى الله نفسه من أسماء ومزايا وأعمال وكرامة. فهذا الملاك هو إله بيت إيل (تكوين 13:31)، وإله الآباء (خروج 6،2:3)، من وعد هاجر بتكثير نسلها كثيراً (تكوين 10:16؛ 18:21)، واقتاد الآباء وأنقذهم (تك 16،15:48)، واقتاد الآباء وأنقذهم ملاك الحضرة الإلهية إلى الشعب توكيداً بأن الرب نفسه في وسطهم بوصفه إله الفداء والخلاص (إشعياء 9:63). وقد كان ظهور هذا الملاك إعداداً وتقديماً لإعلان الله الشخصي الكامل الذي سوف يحصل في ملء الزمان بالتجسد. فإن تدبير العهد القديم بكامله كان افتراباً متزايداً على الدوام من قبل الله نحو شعبه، ولسوف يبلغ غايته بسُكنى المسيح إلى الأبد في وسطهم (خر 43:29- 46).
إن هذا التعليم المختص بطبيعة وعمل الكلمة، قبل ظهوره في المسيح بالجسد، لهو أمر بالغ الأهمية في سبيل الإتيان بتفسير سليم لتاريخ البشرية وامتلاك نظرة صحيحة في ما يتعلق بالشعب العبراني والديانة اليهودية. إذ يُتاح لنا بذلك أن نقر بكل ما هو حق وخير وجميل مما يمكن أن نلقاه بعد في العالم الوثني، مع التشديد في الوقت عينه على الإعلان الخاص الذي أعطاه الله لشعب العهد القديم. فبينما كلمة الله، وحكمته، فعال في العالم أجمع، أظهر نفسه لبني إسرائيل بصفة ملاك العهد مثل إعلان اسم الرب. والواقع أن عهد النعمة هو واحد في كلا العهدين، القديم والجديد. فإن مؤمني العهد القديم لم ينالوا الخلاص بطريقة أخرى غير التي بها خلصنا نحن، ولا نحن مخلَّصُون بطريقة أخرى غير التي بها خُلِّصوا هم. إنه الإيمان الواحد بالوعد، والاتكال عينه على نعمة الله، ما يجعل الخلاص في متناول البشر آنذاك والآن. وقد أُعطيَ المؤمنون آنذاك، كما نعطى نحن الآن، البركات نفسها – من غفران وتجديد، وولادة ثانية وحياة أبدية. فالجميع سائرون في الطريق الواحد بعينه، وإن يكن النور الذي يهدي المؤمنين في العهد الجديد أكثر إشراقاً وبهاءً من نور مؤمني العهد القديم.
على أن هذا يقترن بنقطة تفصيلية مهمة أخرى، فبولس يقول عن أهل أفسس إنهم سابقاً، لمّا كانوا ما يزالون يعيشون كالوثنيين، كانوا بلا مسيح، غرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لهم، وبلا إله في العالم (أفسس 12،11:2). وبعبارة أخرى، فإنهم عاشوا في حالة مختلفة تماماً عن حالة اليهود قبل مجيء المسيح. إذ لم يكن لديهم وعد من الله يتمسكون به. وقد عاشوا بلا رجاء في العالم، ولم يكن عندهم إله يعرفونه ويخدمونه من القلب. بالطبع، لا يعني الرسول هنا أن الوثنيين لم يؤمنوا بآلهة ما، إذ يقول في موضع آخر عن الأثينويين إنهم من كل وجه متدينون كثيراً، ويتحدث عن إعلان سمح الله بأن يأتيهم جزئياً (أعمال 24:17 وما يليها ؛ رومية 19:1 وما يليها)، ولكنهم، مع أنهم عرفوا الله، لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وعبدوا آلهة ليست بالطبيعة آلهة (رومية 21:1 وما يليها ؛ غلاطية 8:4)كما أن بولس لا ينكر أيضاً أن الوثنيين يعللون أنفسهم بمختلف الآمال المستقبلية قبل القبر وبعده، غير أنه يعبر عن فكرة كون هذه الآمال كلها، شأنها شأن الآلهة التي تعبّدوا لها، باطلة جميعاً، وذلك لسبب افتقار أساسها إلى وعد ثابت قاطع من الله بالمسيح.
ولكن حال شعب العهد القديم كانت بخلاف ذلك. فإن الله استأمن هذا الشعب على أقواله تعالى (رو 2:3). وقد تبناهم كأولاد له، وحل بمجده في وسطهم، وأعطاهم تدابير متتالية متعلقة بالعهد، على أشكال منها الشريعة، والعبادة المرتبة، وخصوصاً تلك المواعيد المنصبة على مجيء المسيا والمشيرة إليه طالعاً من بني إسرائيل حسب الجسد (رو 5،4:9). لكن المسيح، وإن كان من الآباء من حيث الجسد، هو أكثر من مجرد إنسان. إنه الله، الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد (رو 5:9)، وهو كان موجوداً وفعالاً أيضاً في أزمنة العهد القديم. فالمسيحيون في أفسس، لما كانـوا وثنيين، كانوا عائشين بلا مسيح؛ غير أن الشعب الإسرائيلي القديم، في المقابل، كان مرتبطاً بالمسيح، أعني المسيح الموعود، والذي كان موجوداً أيضاً آنذاك وناشطاً باعتباره الوسيط. وقد كان عاملاً في القيام بعمله الخاص. لكنه كان مهتماً أيضاً في هذا العمل: أنه – بالكلمة والنبوءة والتاريخ – مهد السبيل لمجيئه الشخصي في الجسد، وألقى على جميع الشعب ظِلّ توقع قدومه. ذلك هو ظِلّ مجموع الخيرات العتيدة التي سوف ينجزها ويجزلها هو شخصياً في ملء الزمان.
ويتحدث الرسول بطرس بصراحة ووضوح، على هذه الطريقة عينها في الإصحاح الأول من رسالته الأولى، فحينما يتناول الرسول هناك موضوع الخلاص العظيم الذي يشترك فيه المؤمنون الآن مبدئياً، والذي يرجون اكتماله في المستقبل بكل يقين، يبين مجد ذلك الخلاص بالإشارة على الخصوص إلى أن أنبياء العهد القديم اتخذوه غرضاً للبحث والتأمل. والحاصل أن السمة المشتركة التي كانت للأنبياء جميعاً في أنهم تنبأوا عن النعمة التي تمنح على المؤمنين الآن في زمن العهد الجديد. وقد تلقى الأنبياء هذه المعرفة بالإعلان، ولكن هذا الإعلان لم يجعلهم خاملين، بل إنه بالأحرى دفعهم شخصياً لأن يكونوا عاملين، فقد حثهم الإعلان ودفعهم إلى الدرس والبحث بكل اجتهاد، لا على طريقة الفلاسفة الذين حاولوا بعقولهم فهم أسرار الخليقة، بل باعتبارهم أناس الله القديسين الذين اتخذوا الإعلان الخاص المتعلق بالخلاص العتيد على يد المسيح موضوعاً لأبحاثهم. ولم يقادوا في دراستهم هذه بوحي أفكارهم الخاصة، بل سمحوا لروح الله بأن يقودهم. أما المسألة التي نظروا فيها وبحثوا فهي: "أي وقت، أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح، والأمجاد التي بعدها؟" (1 بطرس 11،10:1). فالمسيح نفسه هو الذي أعطى أنبياء العهد القديم روحه، فأعلن بذلك الروح مجيئه وأنبأ بعمله الكفاري. وشهادة يسوع في قلوب خاصته عما يتعلق بشخصه إنما هي بينة على حقيقة امتلاكهم روح النبوة (رؤيا 10:19).
بشهادة هذا الروح بلغ شعب العهد القديم تلك الآمال المجيدة والغنية التي يلخصها عنوان "الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم".
تدرج الانتظارات المستقبلية لملكوت الله ضمن مجموعتين. وتنتمي إلى المجموعة الأولى تلك الآمال التي لها عموماً علاقة بمستقبل ملكوت الله. لهذه التطلعات أيضاً أهمية كبيرة، ولها أوثق علاقة ممكنة بعهد النعمة، إذ يتضمن ذلك الوعد يقيناً أن الله سوف يكون إلهاً لشعبه ولنسلهم ولذا فهو ذو علاقة بالمستقبل أيضاً، لا بالماضي وحده. صحيح أن ذلك الشعب يذنب المرة تلو المرة بالعصيان والارتداد ونقض العهد أمام وجه الرب. ولكن لأن العهد هو بالتحديد عهد النعمة، فإن التمرد وعدم الأمانة من قبل الشعب لا يمكن أن يفعلا شيئاً يبطل أمانة الله. ذلك أن عهد النعمة هو بطبيعة حاله عهد أبدي يتجدد من جيل إلى جيل. فعندما لا يسير الشعب في طريق العهد، عندئذ يمكن أن يتخلى الله عنهم إلى حين ويعرضهم للتأديب والعقاب أو السبي، ولكنه لا يمكن أن ينقض عهده، لأن عهده غير مبني على تصرف البشر، بل هو مؤسس فقط على مراحم الله. فلا يمكن أن يبطل الله عهده، لأن ذلك يهين اسمه ومجده وكرامته وعليه، فبعد إظهار الله لغضبه يعود نور محبته ساطعاً بكل ثبات، وبعد القصاص تأتي الرحمة، وبعد الآلام يظهر المجد.
في ذلك كله، وعلى مر الأجيال، تلقى الشعب التعليم والتوجيه بواسطة النبوة. وقد كانت لهم عبر النبوة بصيرة نافذة من جهة جوهر التاريخ وغايته. على نحو لا نجد له مثيلاً لدى أي شعب آخر. ويوضح لنا كتاب العهد القديم أن إتمام مشيئة الله وتحقيقها بإقامة ملكوت الله هما مضمون التاريخ ومجراه وغايته، على نحو لا نجد له مثيلاً لدى أي شعب آخر. تلك هي مشورة الله، مشورة النعمة والفداء، الموجودة منذ الأزل والتي ستقهر كل مقاومة، فبعد الآلام مجد، وبعد الصليب تاج. ويوماً ما سينتصر الله على جميع أعدائه ويجعل شعبه يشترطون في إتمام كل مواعيده. فلسوف يأتي ملكوت البر والسلام والخير الروحي والمادي. ولن تشترك في مجد تلك المملكة إسرائيل وحدها، بل جميع الأمم أيضاً. لأن وحدانية الله تحمل معها وحدة البشرية ووحدة التاريخ. حينئذ تمتليء الأرض من معرفة الرب ويبلغ موعد العهد كمال التحقيق: أنا أكون لكم إلهاً، وأنتم تكونون لي بنين وبنات. يقول الرب.
وتزخر النبوات والمزامير بهذه التطلعات. وليس ذلك فقط، بل تستمر فتخبر عن الطريقة التي بها سوف يؤسس الله بها ملكوته في المستقبل ويوطده. ومن ثم تصير تلك التطلعات هي الآمال النبوية بالمعنى الحصري. وهي تبين لنا كيف أن مُلك الله على الأرض في المستقبل سينحصر في شخص معين يتحقق على يده، ألا وهو المسيح. صحيح أن قوماً في أيامنا حاولوا عزل هذه التطلعات النبوية كلها عن الديانة اليهودية الأصلية ونسبوها إلى زمن السبي. غير أن هذا الموقف لقي رفضاً شديداً من قبل آخرين وتم دحضه على نحو وافٍ. فإن الرجاء المستقبلي، بكل عناصره، يتمحور حول فكرتين، وهما: يوم الرب الذي سيكون يوم محاكمة للشعوب ولإسرائيل؛ والمسيح الذي سيحقق الفداء بالتالي. وكل من هاتين الفكرتين ليستا من الأفكار التي شاعت أولاً لدى أنبياء القرن الثامن ق.م، بل كان لهما وجود قبل ذلك بزمن طويل، وكانتا بالأحرى من الأفكار التي عالجها على نحو أكثر تحديداً الأنبياء الذين حفظت أسفارهم لنا.
ويخبرنا الكتاب المقدس نفسه بالكثير. إذ يُرجع آثار تطلعات المستقبل إلى أقدم الأزمنة. وقد كان لها بالطبع صفة عامة آنذاك، إلا أن حقيقة وجودها إنما هي بالتحديد برهان على قدم عهدها. كما أن التطور التدريجي الذي يمكن أن يُلاحظ منذ وقت هذه التطلعات هو بمثابة دليل داعم قوي. ففي الوعد الرئيسي الوارد في تكوين 15:3، توضع عداوة بين نسل المرأة ونسل الحية، ويُقطع الوعد بأن الأول سيسحق رأس الأخير.
وأول ما ينبغي أن نفكر فيه من جهة "نسل المرأة"، على رأي كالفن، هو كل الجنس البشري الذي لا بد له وقد استعيد إلى جانب الله بفضل عهد النعمة، من أن يخوض الحرب ضد جميع القوى المعادية لله. والذي له المسيح رأسه وربه. إنما يبت التاريخ أن هذا الجنس البشري الذي يخوض الحرب ضد نسل الحية، لا يشمل بحال من الأحوال البشر جميعاً، بل إنه يتناقض عدداً وينحصر أكثر فأكثر في جماعة قليلة، ذلك أن الوعد يحفظ فقط في نسل شيث.
وبعد إبادة البشرية الأولى بالطوفان، سرعان ما يدخل العائلة فاصلاً بين حام ويافت وسام من جهة أخرى. وإذا الوعد الآن يخصص على نحو يصير فيه يهوه إله سام، ويتوسع يافث كثيراً ثم يصل أخيراً إلى السكن في خيام سام، ويصير كنعان عبداً لهم (تكوين 27،26:9). وإذ تصبح في ما بعد معرفة الله وعبادته الصحيحتان مهددتين بالضياع، يختار الله من نسل سام إبراهيم الذي سيصير بركة لكثيرين بعد أن يباركه الرب. ففي الواقع إن جميع شعوب الأرض سوف ترغب بشدة وتطلب باجتهاد البركة التي يهبها الله لإبراهيم ونسله، وهكذا يتباركون في المسيح الذي هو نسل إبراهيم (تكوين 3،2:12). ومن بني يعقوب وأسباط إسرائيل يحدد يهوذا في ما بعد باعتباره من سيحظى بمقام أرفع من مقام إخوته جميعاً. ووفقاً لاسمه، صار هو المحمود والمقتدر بين إخوتك (تك 35:29؛ 1أي 2:5). فإخوته يمدحونه ويحمدونه وأعداؤه يخضعون له، وسيدوم ملك يهوذا حتى يأتي ذاك الذي ستخضع له الشعوب (تك 8:49 – 10)، أما الاسم "شيلون" في الآية العاشرة من تكوين 49، واضحة كل الوضوح رغم ذلك، فليهوذا المقام الأول بين أسباط إسرائيل كلها، والسيادة على إخوته، ومنه سيطلع حاكم الشعوب في المستقبل.
وقد تحقق هذا الوعد جزئياً في داود، وبه انتقل إلى مرحلة جديدة من التطور، فحينما استراح داود من جميع أعدائه، تبادر إلى ذهنه مشروع بناء بيت للرب، وبدلاً من أن يبني داود بنفسه بيتاً للرب، أعلمه الرب بفم ناثان النبي بان الله سيؤسس له بيتاً بجعل السلالة الملكية إرثاً لنسله. فالرب سيجعل اسم داود عظيماً كأسماء العظماء الذين في الأرض. وبعد وفاة داود، سيقيم الرب سليمان ابنه على العرش ويكون له أباً، وأخيراً سيثبت بيته ومملكته إلى الأبد، إذ يجعل كرسي داود ثابتاً إلى الأبد (2 صم 9:7-16؛ مزمور 19:89-38). من ذلك الوقت فصاعداً تركزت آمال قديسي الله على بيت داود، وأحياناً تكتفي النبوة بالتوقف عند هذا الحد.
لكن التاريخ أثبت أنه لم يحقق هذا الرجاء أي ملك من بيت داود. وارتباطاً بهذا التاريخ، أشارت النبوة بوضوح أكثر إلى المستقبل الذي فيه يظهر ابن داود الحقيقي ويجلس على عرش أبيه إلى الأبد. وشيئاً فشيئاً بات ابن داود هذا الآتي في المستقبل بعرف باسم "المسيا". هذا الاسم مسيا ظل زمناً طويلاً، يُطلق على أي شخص في الأمة يُختار ويمُسح، أي وظيفة ما. وكان المسح بالزيت عند شعوب الشرق قديماً ممارسة عامة، ومن شأنه تليين البشرة التي لوّحتها الشمس، وإعادة الراحة والطراوة إلى الجسم (مزمور 15:104؛ متى 17:6). كما كان علامة فرح (أمثال 9:27) يُمْتَنَعُ عنها عند التذلل (2 صم 2:14؛ دا 3:10)؛ وكان أيضاً إشارة إلى الإكرام والمودة؛ وقد استُعمل لمعالجة المرض؛ وكان يستعمل مع الحنوط تكريماً للموتى. كذلك دخلت العبادة إجراءات مسح بالزيت، فكان له أهمية دينية. وقد أقام يعقوب الحجر الذي أسند إليه رأسه في بئر سبع ليكون عموداً تذكارياً وصب عليه زيتاً، علامة على تكريسه للرب الذي ظهر له (تك 20:28 – 22). وبحسب الشريعة التي أعطيت لموسى فيما بعد، مُسحت بالزيت خيمة الاجتماع وأثاثها ومذبحها لتقديسها وتكريسها للرب. وجرى المسح نفسه للأشخاص المدعوين إلى خدمة خاصة.
فإننا نقرأ عن مسح الأنبياء بضع مرات فقد مسح إيليا أليشع (1 ملوك 16:19) وفي المزمور 5:105 تستعمل كلمة مسحاء (أي ممسوحين) مرادفة "للأنبياء". ثم إن الكهنة، بمن فيهم رئيس الكهنة خصوصاً. كانوا يمسحون (لا 30،13:8 ؛ مز 2:133). وهكذا كان يمكن أن يدعي رئيس الكهنة "الكاهن الممسوح" (لا 5،3:4؛22:6). كذلك نقرأ خصوصاً عن مسح الملوك، كشاول (1صم 1:10)، وداود (1 صم 13:16، 2صم 4:2)، وسليمان (1 مل 34:1). وسواهم، من هنا دعي الملوك مسحاء الرب (1 صم 11:26؛ مز 2:2). وفي استعمال المسح هذا ما يلقي الضوء على أغراض أخرى. فإن التعبير "مسيح" (أو ممسوح) يستخدم في الكتاب المقدس عدة مرات للدلالة على أولئك الأشخاص الذين يختارهم الله ويُعدهم لخدمته، حتى وإن لم يحدث مسح فعليٌّ بالزيت. ففي المزمور 15:105 يسمى الآباء "مسحاء" و"أنبياء"، وفي إشعياء 1:45 يطلق الاسم عينه على كورش، ومهما يكن، فليس المسح بالزيت إلا علامة تشير من جهة إلى التكريس لخدمة الله؛ ومن جهة أخرى إلى الاختيار للخدمة والدعوة إليها والإعداد لأجلها من قبل الله بالذات. ولما مُسِحَ داود على يد صموئيل حل عليه روح الرب منذ اليوم فصاعداً (1 صم 13:16).
بهذا المعنى صار "المسيا" (أو المسيح) يعني على نحو مميز ملك المستقبل الآتي من بيت داود. فهو على كل حال الممسوح بصورة فريدة. لأن الله نفسه عينه ومسحه لا بالزيت الرمزي فقط بل بالروح القدس نفسه وبلا حساب (زك 6،2:2؛ إش 1:61) ولا يمكن أن نحدد على نحو قاطع متى ابتدئ يستخدم الاسم "مسيا" (مسيح أو ممسوح) كاسم علم دون أداة التعريف. ولكن يبدو أن الاسم في دانيال 25:9 قد بات يظهر بهذا الشكل، وكان هذا الاسم، مستعملاً بهذا المعنى، قد شاع زمن وجود الرب يسوع بجسده على الأرض، ففي يوحنا 25:4 تقول السامرية للمسيح: أنا أعلم أن مسيّا يأتي – وهنا لا تظهر أداة التعريف وعليه، فمع أن اللفظة "مسيح" كانت بادئ ذي بدء ذات معنى عام ويمكن أن تستخدم للدلالة على أشخاص شتى، فإنها أصبحت بالتدريج اسم علم يستعمل فقط للإشارة إلى ملك المستقبل الآتي من بيت داود، فهو وحده المسيّا، أي المسيح، ولا أحد سواه.
صورة ذلك المسيّا تطورت الآن وظهرت في نبوة العهد القديم بطرق متنوعة، وفي مقدمتها دائماً فكرة كونه ملكاً، فهو يدعى المسيح لأنه قد مُسِحَ ملكاً (مز 6،2:2). ويتوقع داود نفسه، على أساس الوعد المعطى له، أنه من نسله سيطلع رئيس للشعب يملك ويحكم بالبر. وقد وضع الله لبيت داود عهداً أبدياً، متقناً في كل شيء ومحفوظاً (2 صم 3:23-5). هذا هو رجاء جميع الأنبياء وناظمي المزامير. فإن خلاص الشعب في المستقبل مرتبط ببقاء بيت داود الملكي، وملك المستقبل الآتي من ذلك البيت هو في الوقت عينه الملك على مملكة الله. وليس ملكوت الله صورة شعرية مجازية أو مفهوماً فلسفياً، بل هو حقيقة واقعة وجزء لا يتجزأ من التاريخ. إنه يأتي من فوق، وهو وحي روحي ومثالي، لكنه مع ذلك سيبرز إلى الوجود في الزمان تحت ملك من بيت داود. فهو ملك إلهي، إلا أنه مع ذلك مملكة بشرية وأرضية وتاريخية، بكل معاني الكلمات. من هنا ترسم أمامنا، في النبوة، مملكة الله الآتية بظلال وألوان مستمدة من الظروف الراهنة آنذاك، على نحو ينبغي ألا يؤخذ بحرفيته، لكنه مع ذلك يخلّف انطباعاً عميقاً عن حقيقة تلك المملكة. فليس أمامنا صورة حلم. بل واقع سوف يتحقق هنا على الأرض، وفي التاريخ، في ظل ملك من بيت داود.
ولكن مع أن مملكة المسيح هذه على الأرض لا يعلى عليها كواقع ملموس، فهي تختلف كثيراً عن سائر الممالك الأرضية. فعلى الرغم من حقيقة كونها تبرز إلى الوجود بمحاربة جميع الأعداء وهزيمتهم فإنها مملكة بر وسلام كاملين، قوام برها في الأساس إغاثة للبائس وتخليص الفقراء (مز 12:72-14). وفي ما عدا ذلك، فإنها تنتشر إلى أقاصي الأرض فوق جميع الأعداء، وتظل قائمة إلى الأبد.
وعلى رأس تلك المملكة رئيس هو إنسان حقاً إلا أنه سما على جميع البشر قدراً وكرامة. إنه إنسان، يولد من نسل داود، وهو ابن داود، ويدعى ابن الإنسان، ومع ذلك فهو أكثر من مجرد إنسان. إذ أنه يجلس في مقام الكرامة عن يمين الله (مز 1:110)، وهو رب داود (مز 1:110)، وابن الله بمعنى خاص جداً (مز 7:2). إنه عمانوئيل، أي الله معنا (إش 14:7)، والرب برنا (إر 6:22؛16:33)، من فيه يأتي الرب نفسه في النعمة إلى شعبه ويسكن بينهم. وفي النبوة سيان أن يملك الرب أو المسيح على شعبه. فأحياناً يقال إن الرب - ثم يقال أيضاً أنه مسيحه – سوف يظهر ليدين الشعوب ويفدي الشعب. وهكذا نقرأ مثلاً في أشعيا 10:40،11: "هوذا السيد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له...... كراع يرعى قطيعه". كما نقرأ في حزقيال 23:34 أن الرب سيقيم راعياً واحداً، ألا وهو عبده داود، فيرعى شعبه ويكون لهم راعياً. ويقول النبي حزقيال عن أورشليم الجديدة إن اسمها سيكون "يوه شمَّه" أي الرب هناك (حز 35:48). ويعرض إشعياء الحقيقة عينها بقوله إن الله معنا في المسيح (إش14:7). ويجمع حزقيال الفكرتين إذ يقول: "وأنا الرب أكون لهم إلهاً، وعبدي داود رئيساً في وسطهم"(حز 24:34)، كما أن ميخا أيضاً يقول إن المسيح سوف يرعى الشعب بقدرة الرب، بعظمة اسم الرب إلهه (مي 4:5). لهذا السبب، وفي ضوء العهد الجديد، نستطيع تأويل هذه الفصول بوصفها ذات مدلول نبوي. ففي المسيح يري الله نفسه إلى شعبه: وهو أكثر من مجرد إنسان. إنه إعلان الله الكامل والصورة المنظورة التي بها يحل بين الناس، ولذلك أيضاً يسمى بأسماء الله. إذ يدعى عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام (إش 5:9).
بصرف النظر عن تفوق هذا المسيا بعظمته ومكانته وقدرته، فإن النبوة تضيف إلى ملامحه الفريدة لمحة رائعة جداً. إذ يقال لنا أنه سيولد في زمن عصيب جداً وفي ظروف وضيعة للغاية، ولعل هذه الفكرة متضمنة في نبوة إشعياء أن العذراء الشابة سوف تحبل وتلد ابناً، وأن هذا الابن سيشترك في معاناة شعبه، إذ يأكل فقط زبداً وعسلاً، وهذان هما المنتجان الرئيسيان في بلد حل به الخراب ولم يجر بناؤه من جديد (إش 15،14:7). ولكن هذه الفكرة، على كل حال، معبر عنها بوضوح في أشعياء 1:11 (قارن إش 2:53). ففي هذا الموضع يقول النبي أنه سوف يخرج قضيب من جذع يسّى وينبت غصن من أصوله. وتفسير ذلك أن بيت داود الملكي سيبقى موجوداً زمن ميلاد المسيح، ولكن ذلك البيت سيكون بلا عرش، فهو يشبه جذعاً قد قطع، ولكنه مع ذلك يخرج قضيباً. ويعبر ميخا عن الفكرة عينها بكلام آخر عندما يقول إن بيت لحم أفراتة – كناية عن بيت داود الملكي إذ كانت بيت لحم مدينة داود واقعة في أفراتة – وإن اعتبرت هي الصغرى بين ألوف يهوذا، فمنها يطلع الرئيس الذي سيكون عظيماً إلى أقاصي الأرض (مي 2:5). ومن هنا أيضاً يدعى المسيح "غصناً" في إرميا 5:23، 15:33، وزكريا 8:3، 12:6. فعندما تهلك اسرئيل وتحل الكارثة بيهوذا، إذ يزول بالفعل كل أمل وينقطع كل رجاء، عندئذ يقيم الرب غصناً من بيت داود الملكي فيبني هيكل الرب ويؤسس ملكوته على الأرض. وعليه، فمع أن المسيح سيظهر بقوة ومجد كثير، فهو أيضاً سيظهر متواضعاً، راكباً لا على فرس حرب بل بالأحرى على حمار. على جحش ابن إتان، علامة على المسالمة (زك 9:9) إنه سيكون ملكاً، لكن كاهناً أيضاً. ففيه ستجتمع هاتان الوظيفتان كما في ملكي صادق، وسيشغلها معاً إلى الأبد (مز 4:110؛ زك13:6).
وتستخدم فكرة تواضع المسيح كفكرة انتقالية إلى الفكرة الأخرى التي فيها يقدم إشعياء الشخص الآتي باعتباره عبد الرب المتألم. فكان ينبغي أن يكون الشعب القديم مملكة كهنة (خروج 6:19)، إذ كان ينبغي أن يخدم الله ككاهن ثم يحكم الأرض كملك، تماماً كما خلق الإنسان أصلاً على صورة الله، ولذلك أعطي السيادة على الأرض كلها، وعليه ففي صورة المستقبل تبرز إلى المقدمة حيناً هذه الناحية، وحيناً آخر تلك. فنقرأ مراراً وتكراراً في النبوات والمزامير أن الله سيجري الحق بواسطة شعبه. وينصرهم على جميع أعدائهم ويوصف هذا النصر أحياناً بعبارات قوية: سيقوم الله فيتبدد أعداؤه، ويهرب من أمام وجهه مبغضوه؛ يذريهم كما يذري الدخان؛ وكما يذوب الشمع قدام النار يبيد الأشرار من قدام الله وسوف يسحق رؤوس أعدائه وإلهامه الشعراء للسالكين في الذنوب؛ ويرجع شعبه من أعماق البحر، لكي يصبغوا أرجلهم بدماء أعدائهم، وتصطبغ بها ألسن كلابهم. هذه اللعنات كلها ليست تعبيراً عن الانتقام الشخصي بل هي أوصاف بلغة العهد القديم لغضب الله على أعداء شعبه. غير أن ذلك الإله الذي سوف يعاقب الأشرار على هذا النحو، هو نفسه سيعطي جميع شعبه البر والسلام والفرح، وذلك أن الشعب يخدمه بإجماع تام، ففي أعقاب معاناة الظلم والآلام يبلغ شعب الله حالة من المجد والخلاص فيها يقيم الله عهداً جديداً، فيكتب ناموسه في داخلهم ويهبهم قلباً جديداً وروحاً جديداً، فيسلكون في فرائضه ويحفظون أحكامه ويعملون بها (حز 25:36، ومواضع أخرى).
هذان الوجهان من ملامح صورة المستقبل لشعب العهد القديم سيظهران أيضاً في المسيّا. فلسوف يكون هو ملكاً يحطم أعداءه بقضيب من حديد ويكسرهم كإناء خزف (مز 9:2 ؛ 6،5:110). وليس ثمة عرض لانتصار الله هذا على أعدائه أكثر واقعية مما نجده في إشعياء 1:63-6. فهناك نقرأ أن الرب سيأتي في ثياب مصبوغة بالدم، بهياً بملابسه، متعظماً بكثرة قوته، متكلماً بالبر العظيم للخلاص. وجواباً عن سؤال النبي: ما بال لباسك محمر، وثيابك كدانس المعصرة؟ يقول الرب: قد دست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد، فدستهم بغضبي، ووطئتهم بغيظي، فرُشّ دمهم على ثيابي، ولطخت كل ملابسي؛ لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفديّيَّ قد أتت. وفي (رؤيا 13:9-15) تُنسب إلى المسيح بعض ملامح هذه الصورة، عندما يأتي في الأيام الأخيرة ويغلب أعداءه. وهذا الأمر هو تماماً كما ينبغي أن يكون، لأن المسيح مخلص وديان، وحمل وأسد في آنٍ واحد.
وبالحقيقة أن المسيح هو أيضاً مخلّص وفادٍ. فكما أن الرب بارٌ ورحيم، وكما أن يومه هو يوم غضب ويوم فداء، وكما أن الشعب القديم سيملك على أعدائه بسلطان ملوكي، كذلك تماماً المسيح هو في الوقت عينه ملك الله الممسوح وعبد الرب المتألم. وهو يعلن نفسه على هذه الصورة الأخيرة في إشعياء خصوصاً، بهذا الصدد يفكر النبي أولاً في شعب إسرائيل العائش في حال السبي، والذي له – بتألمه على هذا النحو – دعوة يتممها اتجاه جميع الشعوب. ولكن إذ تتطور هذه النبوة في إشعياء، تتركز ملامح هذا المتألم، أكثر فأكثر، في ثورة شخص واحد، وهذا الشخص، من حيث كونه كاهناً، يكفر بآلامه عن خطايا الشعب، ومن حيث كونه نبياً يعلن هذا الخلاص إلى أقاصي الأرض، ومن حيث كونه ملكاً ينال نصيبه بين الأعزاء ويقسم غنيمة مع العظماء (إش 13:52- 12:53).
ففي الملك الممسوح، يعلن الرب مجده وقوته، وجلال اسمه وسموه (مي 3:5). وفي عبد الرب المتألم، يعلن نعمته وغنى رحمته (إش 11:53). وتنتهي النبوة عند بني إسرائيل إلى هاتين الصورتين وللنبوة تلك جذور ضاربة في التاريخ. فإسرائيل، من حيث هو أمة، يعتبر ابناً له (هو 1:11). ومملكة كهنة (خر 6:19)، مخلوعاً عليها بهاء الرب (حز 14:16)؛ إلا أنه في الوقت عينه يعد أيضاً عبداً لله (إش 9،8:41)، متلقياً التعبيرات التي بها عبر الرب أعداؤه (مز 52،51:89)، ومن أجل الرب يمات اليوم كله ويُحسب مثل غنم للذبح (مز 22:44). وهناك صفة نبوية لمجد إسرائيل وآلامه معاً، سواء كأمة على العموم أم كأفراد يمثلونها، مثل داود وأيوب. فكل ذلك يشير إلى المسيح. والعهد القديم كله، بنواميسه وفرائضه، بوظائفه وخدماته، بوقائعه ومواعيده، إنما هو بالآلام التي ستأتي على المسيح والأمجاد التي بعدها (1بط11:1). وكما أن الكنيسة في أيام العهد الجديد صارت مع المسيح نبتةً واحدة بكونها ماتت عن الخطية وتعيش لله (رو 11:6)، وكما أن بوجودها تكمّل ما يتبقى لها أن تتحمله من آلام مع المسيح (24:1)، وعلى صورة المسيح أيضاً تتغير من مجد إلى مجد (2كو 18:3)، فكذلك تماماً كانت جماعة العهد القديم أيضاً – في كل معاناتها وعزّها – تمهيداً وظلالاً لإذلال المسيح وترفيعه، وهو الكاهن الملك الذي سيؤسّس في وقته ملكوت الله على الأرض.
وما من شك أن العهد الجديد ينظر إلى ذاته في هذا الضوء وبهذه الطريقة يتصور علاقته بالعهد القديم. فالمسيح يقول إن الكتب المقدسة تشهد له (يو 39:5 ؛ لوقا 27:24)؛ وهذه الفكرة عينها تكمن في أساس العهد الجديد بكامله، وغالباً ما تذكر فيه بصراحة أيضاً. فإن تلاميذ المسيح الأولين اعترفوا به بوصفه المسيّا لأنهم وجدوا أنه ذلك الشخص الذي سبق أن تنبأ عنه موسى والأنبياء (يو 45:1) ويشهد بولس أن المسيح مات، وأنه دُفن، وأنه قام حسب الكتب (1كو 3:15، 4). ويكتب بطرس أن روح المسيح في الأنبياء سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها (1بط 11:1). وتبيّن جميع أسفار العهد الجديد، تصريحاً أو تلميحاً، أن العهد القديم بكامله قد بلغ إتمامه في المسيح. وقد سبق أن أُشير إلى المسيح، بوصفه إتماماً وتحقيقاً، في الناموس بما فيه من مطالب خُلقية وطقسيّة ومدنيّة، وبهيكله ومذبحه، وكهنوته وذبائحه، وكذلك تماماً في النبوة بوعدها بالملك الممسوح من بيت داود، وبشهادتها أيضاً لعبد الرب المتألم. كما أن ملكوت الله بجملته، على حد ما أُنبئ به في الشعب القديم وتاريخه، ورسمت خطوطه مسبقاً في الناموس على نحوٍ قوميّ، وأعلن في الأنبياء بلغة العهد القديم، قد اقترب في المسيح، وبه وبكنيسته نـزل من السماء على الأرض.
هذه العلاقة الوثيقة بين العهدين القديم والجديد هي ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى أصالة الإيمان المسيحي وصحته. فإن الاعتراف بأن يسوع هو المسيح، أي المسيّا الموعود به، لهو لب الإيمان المسيحي ومميزه عن سائر الأديان الأخرى. لذلك يلقى هذا الاعتراف أشد المقاومة من قبل اليهود وغيرهم، وأيضاً من قِبل كثيرين من أهل زماننا ممن يُدعون مسيحيين. ويحاول هؤلاء بأن يجادلوا أن يسوع ما فكر في نفسه قط بوصفه المسيح ولا قدّم نفسه بهذه الصورة، أو أنه، على الأغلب، صاغ في هذه الصورة العرضيّة وعيه الديني الداخلي ودعوته الأخلاقية السامية. غير أنّ شهادات العهد الجديد أكثر جداً وأقوى من أن تسمح بالبقاء على هذا الموقف طويلاً. لذا نجد آخرين ممن هم أقرب عهداً إلينا يذهبون مذهباً أبعد من ذلك كثيراً، فهم لا يستطيعون أن ينكروا أن يسوع اعتبر نفسه أنه المسيح، وأنه قد نسب إلى ذاته كل أنواع الخصائص والقدرات الخارقة. لكنهم بدل الانحناء أمام هذا الواقع، وقبول المسيح باعتبار أنه فعلاً ما قاله عن نفسه، يذهبون إلى أن يسوع كان كائناً بشرياً عرضةً للأوهام والحماسة وكل أنواع الشذوذ. وبالحقيقة أن هذا الهجوم يوغل في الباطل حتى ينسب بعضهم إلى يسوع كل نوع من مرض النفس والجسد، زاعمين أنهم بذلك يفسرون التصور الرفيع الذي كان له بخصوص ذاته. وهذا النـزاع حول شخصية المسيح، وقد اتخذ في السنوات الأخيرة من جديد صفةً خطيرة، إنما يثبت مجدداً أن السؤال "ماذا تظنون في المسيح؟" قد عاد الآن يشغل أذهان البشر ويقسمهم كما فعل في عهود التاريخ السالفة. فكما أن اليهود فكروا في المسيح أفكاراً شتىّ، فظنّ بعضهم أنه يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء (متى 13:16، 14)، وكما ظنّ بعضهم آنذاك أنه مجنون ومسكون بالشياطين (مر 21:3، 22)، كذلك تماماً استمرت الحال على ذلك المنوال طوال القرون وما تزال حتى الآن. فحتى لو نحّينا جانباً أولئك الذين يزعمون أن المسيح هو متوهم أو متعصب، لبقي آلاف لا يعترفون أن الربّ يسوع هو مسيح الله في حين يقرّون بأنه نبيّ.
غير أن المسيح جدير كلياً بهذه التسمية ولا يرضى باعتراف آخر سواها. صحيح إنه إنسان، ويوصف هكذا على صفحات العهد الجديد كلها. إلا أنه مع ذلك الكلمة الأزلي الذي ولد في الزمن (يو 18:1 ؛ في 7:2). إنه اشترك معنا في اللحم والدم، ويشبه إخوته في كل شيء (عبرانيين 14:2، 17). فهو من الآباء بحسب الجسد (رومية 5:9)، ومن نسل إبراهيم (غلاطية 16:3)، وقد طلع من يهوذا (عب 14:7 ؛ رؤيا 5:5)، وتحدّر من نسل داود (رو 3:1)، وقد ولِد من امرأة (غل 4:4). إنه كائن بشري بكل معنى الكلمة الحقيقي، لأن له جسداً (متى 26:26)، ونفساً (مت 38: 26)، وروحاً (لوقا 46:23)، وذهناً بشرياً (لو 52:2)، وإرادةً بشرية (لو 42:22)، ومشاعر بشرية من راحة واستراحة وأكل وشرب (يوحنا 6:4، 7، ومواضع أخرى). ففي كل مكان وكل حين يُعلن يسوع نفسه في العهد الجديد بوصفه كائناً بشرياً ليس من شيء بشري غريب عنه. والواقع أنه تجرّب في كل شيء مثلنا، إلا أنه كان بلا خطية (عب 15:4). وفي أيام جسده قدّم، بصراخ شديد ودموع، طلباتٍ وتضرعات، وتعلّم الطاعة مما تألم به (عب 7:5، 8).
وعليه، فإن معاصريه لم يشُكُّو لحظة في طبيعته البشرية الحقيقية. وهو يُسمى في الأناجيل عادةً باسمه العادي البسيط "يسوع". صحيح أنه هذا الاسم قد أُطلق عليه امتثالاً للرسالة التي بلّغها الملاك وأن له دلالةً على أنه – له المجد – هو مخلّص الشعب (مت 21:1). ولكن هذا الاسم بحد ذاته كان معروفاً بين العبرانيين من قديم الزمان، وقد دُعي به أشخاص كثيرون. فالاسم "يسوع" بالعربية هو تعريب للاسم العبري "يهوشع" أو "يشوع"، وأصله جذر يفيد الإنقاذ أو التخليص. وكان خليفة موسى يدعى أولاً هوشع، ولكن موسى دعاه فيما بعد يهوشع أو يشوع (عدد 16:13)، ويدعى في أعمال 45:7 وعبرانيين 8:4 "يسوع" (باليونانية). وهكذا نقرأ في العهد الجديد أيضاً اسمي شخصين آخرين دُعيا بالاسم نفسه (لوقا 29:3، في الأصل ؛ كولوسي 11:4). فالاسم بحد ذاته إذاً ما كان ممكناً أن يحمل اليهود على الاعتقاد أنّ ابن مريم هو المسيح.
ولذا كان مألوفاً أن يتحدثوا عنه بوصفه الإنسان الذي يقال له يسوع (يو 11:9)، وابن يوسف النجار المعروف عندهم أخواته وإخوته (متى 55:13 ؛ يو 42:6)، وابن يوسف الذي من الناصرة (يو 45:1)، ويسوع الناصري، ويسوع الذي من الجليل (متى 69:26)، والنبي الذي من ناصرة الجليل (مت 11:21). وقد كان اللقب العادي الذي خُوطب به يسوع هو رابيّ أو ربّوني، ومعناه: معلّم، سيد، أو سيدي (يو 38:1 ؛ 16:20)، وهو اسم خُوطب به في ذلك الزمن الكتبة والفريسيّون عادةً (مت 8:23). ولا يقتصر المسيح على استعمال هذا اللقب لنفسه، بل يُضفي عليه أيضاً معنىً فريداً بالنسبة إلى شخصه (مت 8:23 – 10). وطبعاً، لا تفيد هذه الأسماء والألقاب أنّ الناس اعترفوا به أنّه المسيح. وليست هذه بالضرورة هي الحال عندما يخاطبونه مستخدمين اللفظة العامة "يا سيد" (مر 28:7). أو العبارة "ابن داود" (مر 47:10)، ولا عندما يدعونه نبياً (مر 15:6 ؛ 28:8).
ومع أن يسوع، وإن بدا إنساناً حقيقياً بكل معنى الكلمة، فهو عالمٌ منذ البداية أنّه أكثر من مجرد إنسان، وقد اعترف به تلاميذه وأقرّوا على نحوٍ متزايدٍ وضوحاً بأنه هو حقاً هكذا. وليست هذه فقط هي الحال في إنجيل يوحنا وفي رسائل الرسل، كما يتضح غالباً، بل إن ذلك يُرى أيضاً بوضوح عند قراءة أناجيل متى ومرقس ولوقا. ومهما يكن، فلا يمكن الدفاع البتّة عن تلك المفارقة التي يحول قومٌ في العصر الحديث أن يُقيموها بين يسوع التاريخ ومسيح الكنيسة. فهم يزعمون أن الربّ يسوع لم يكن – ولم يرغب أن يكون – أكثر من مجرّد إسرائيلي تقيّ، وعبقريّ دينيّ، ومعلّم عظيم للشبان، ونبيّ كغيره من الأنبياء الذين ظهروا سابقاً في إسرائيل. ويذهبون إلى كل ما تعترف به الكنيسة مما يتعدى يسوع التاريخ هذا إنما من نسج الخيال وقد أضافه تلاميذ المسيح إلى صورة السيد. وهذه الإضافات، في رأيهم، هي الحبل المعجزي بالمسيح، ووظيفته النبوية، وموته الكفاري، وقيامته، وصعوده إلى السماء، وما إلى ذلك.
ولكن في مواجهة هذا التصور بمجمله اعتراضات عديدة وخطيرة بحيث لا يمكنه الصمود في وجه أي منها. ومهما يكن، فإن كانت الوقائع العديدة المشار إليها آنفاً من نسج الخيال ومُضافة إلى أسطورة يسوع، فينبغي للمرء أن يأتي بتفسير ما يبيّن كيف توصل التلاميذ إلى مثل هذه الروايات ومن أين استقوا المواد التي بها لفقّوا هذه الخرافات المحكمة. وما كان الانطباع الذي تُخلّفه شخصية المسيح الفائقة للطبيعة ليتلاءم البتة مع تصورات كهذه. فالصورة الحاصلة هنا، ولو كانت لشخص مميز رفيع المقام، لن يدخل في قوامها أي عنصر مكوّن لشخصية المسيح الذي تعترف به الكنيسة. والعناصر المكونة لصورة المسيح عند أولئك ينبغي أن تُلتمس بالتالي – والواقع أنها تلتمس فعلاً – لدى الفرق اليهودية في ذلك الزمان، أو لدى الديانات اليونانية والفارسية والهندية والمصرية والبابلية، وهكذا تُحرم المسيحية استقلاليتها وفرادتها وتغدوا أشتاتاً مجمعة من البدع الوثنية واليهودية.
علاوة على أن تلك الأناجيل الثلاث قد كتبها أُناس كان لهم في أنفسهم اقتناعاً راسخاً بأن يسوع هو المسيح. فقد كُتبت في وقت كانت الكنيسة فيه على قيد الوجود زمناً، وكانت الكرازة الرسولية قد سبق أن انتشرت في جميع أنحاء العالم المعروف آنذاك، وكان بولس قد كتب عدة رسائل. ولا يُعرف في الفترة الأولى من تاريخ الكنائس أي شيء عن نـزاع قام بين الرسل وشركائهم في العمل حول شخصية المسيح. بل إنهم جميعاً راسخون في الإيمان بأنّ يسوع هو المسيح، وبأنّ الله جعل يسوع الذي صلبه اليهود ربّاً ومسيحاً، وباسمه يهب الله التوبة ومغفرة الخطايا (أعمال 22:2 – 38).
وقد كان هذا الإيمان منذ البدء هو أساس الكنيسة المسيحية. فيؤكد بولس في الأصحاح الخامس عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس أنّ مسيح الكتاب المقدس، المسيح الذي مات ودُفن وأُقيم، كان هو موضوع الكرازة الرسولية وغرض الإيمان المسيحي، وأنه لولا هذه الحقائق لكانت الكرازة والإيمان باطلين ولكان خلاص الذين رقدوا في المسيح وهماً وبلا أساس. فلا خيار بين هذين الأمرين: إما أن يكون الرسل شهود زورٍ لله، وإما أن يكونوا قد شهدوا بالحق وأعلنوا ما كان منذ البدء، ما رأوه بعيونهم وشاهدوه، ما لمسته أيديهم بخصوص كلمة الحياة (1يو 1:1). كذلك أيضاً لابدّ أن يكون المسيح إما نبياً زائفاً وإما الشاهد الأمين، البكر من الأموات، ورئيس ملكوت الأرض، الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه (رؤيا 5:1، 6). فلا تضارب بين يسوع والتاريخ ومسيح الكنيسة. وما شهادة الأنبياء إلا ما وهب لهم بإرشاد الروح القدس من إعلان وتفسير لشهادة المسيح عن نفسه. وبُنيان الكنيسة موطد على أساس الرسل والأنبياء، حيث المسيح نفسه هو حجر الزاوية (أف 20:2). ولا أحد يستطيع أن يضع أساساً آخر غير الذي وضعه هؤلاء (1كو 11:3).
بالرغم من أن الموضوع يبدو مشوقاً إلا أن المجال لا يتسع الآن لإيراد عرض وافٍ لمضمون تلك الشهادة التي قدّمها المسيح عن نفسه والتي أدلى بها الرسل عن سيدهم وربّهم. ويجدر بنا بعض الوقت لفت الانتباه إلى بعض النقاط التفصيلية.
لقد جاء الربّ يسوع مبشراً باقتراب ملكوت الله، كما سبق أن نادى بذلك يوحنا المعمدان، وأعلن يسوع أن الدخول في ذلك الملكوت هو عن طريق الإيمان والتوبة (مرقس 15:1). إنّ المسيح يضع نفسه في علاقة خاصة بذلك الملكوت مختلفة تماماً عن علاقة يوحنا أو أيّ أحد آخر من الأنبياء. فهؤلاء جميعاً قد تنبأوا عن الملكوت (متى 11:11 – 13)، ولكن المسيح هو صاحبه ومالكه. صحيح أنّه قد قبله من عند الآب الذي جعله له في المشورة الأزلية (لوقا 29:22)، لكنه بالتالي ملكوت الله بالتحديد، والمسيح على رأسه يدير شؤونه، بسلطانه المطلق، لأجل خير تلاميذه فالآب هو من أعدّ وليمة عرس لابنه (مت 2:22)، إلا أنّ الابن هو العريس (مر 19:2 ؛ يوحنا 29:3)، وهو الذي سيحتفل بعرسه إذ يتحد بخاصته في المستقبل (مت 1:25). والآب هو صاحب الكرم، إلا أنّ الابن هو الوارث (مت 33:21، 38). وهكذا يدعو المسيح ملكوت الله ملكوته هو أيضاً، وهو يتحدث عن كنيسته الخاصة مبنية على أساس صخرة الاعتراف به (مت 39:12، 42). ولأجله ينبغي أن يُهجر ويُنكر كل شيء، من أبٍ وأم، وإخوة وأخوات، وبيوت وحقول، ونفس أو ذات. ومن أحبّ أباً أو أمّاً أكثر منه فلا يستحقه. ومن ينكره ويعترف به قدّام الناس، فتبعاً لذلك سيُنكر أو يُعترف به قدّام الآب الذي في السماء.
هذه المكانة الرفيعة التي ينسبها المسيح إلى نفسه في ملكوت السماء تؤيدها جميع أقواله وأفعاله، وهذه كلها توافق مشيئة الآب تماماً. والمسيح هو الوحيد الذي بلا خطية على الإطلاق. فلم يصدر عنه قط أيّ تعدٍّ لمشيئة الله، ولا يعترف البتة بأيّ خطية ولا بأيّ خطأ. صحيح أنه سمح لنفسه أن يعمده يوحنا المعمدان، ولكن ذالك لم يكن قط لكي ينال كغيره غفران الخطايا (متى 6:3). إذ إنّ يوحنا المعمدان يبادر تواً إلى ممانعة اعتماد المسيح، علماً منه بأنّ معموديته هي للتوبة ومغفرة الخطايا. وقد أقرّ المسيح بصوابية ممانعة يوحنا، إلا أنّه ردّها بالقول أنّه يطلب المعمودية لا لينال شخصياً غفران الخطايا بل ليكمل كلّ برّ (مت 14:3، 15). أضف إلى هذا أنه يستنكر مخاطبة الشاب الغني له بقوله "أيها المعلّم الصالح" (مر 18:10)، لكنه لا يفعل ذلك لينكر كماله الأدبي. فقد قصد الشاب الغني إلى يسوع كما كان المرء يتوجه يوم ذاك إلى الكتبة والفريسيين مخاطباً إياهم بكل أنواع التحيات وعلامات الاحترام (مت 7:23). وقد أراد أن يتملق المسيح ويفوز بالحظوة لديه من طريق دعوته إياه معلماً صالحاً. ومثل هذه المداهنة لا تنطلي على المسيح. فهو لا يريد أن يحيا ويُكرم على طريقة الفريسيين والكتبة. والصالح، بمعنى الكلمة المطلق، هو الله وحده لأنه مصدر كل خير وبركة. وعليه، فالمسيح هنا لا ينكر البتة كماله الأدبي المطلق، بل إنما يعترض بالأحرى على التملق بغير تروٍّ من قبل الشاب الغني. وهكذا كانت الحال أيضاً في جثسيماني. فإن طبيعته الإنسانية ترى الآلام تنتظره وهي تلوح هائلة جداً، فتبرهن (تلك الطبيعة) حقيقتها بالصلاة إلى الآب لأجل أن تعبر تلك الكأس، غير أن المسيح يعلن في اللحظة عينها خضوعه الكامل وطاعته التامة إذ يضيف قائلاً: ولكن ليس كما أريد أنا، يا أبتاه، بل كما تريد أنت (مت 39:26)!
ولكن حتى في تلك اللحظة، سواء في جثسيماني أو فوق الجلجثة، لم تخرج من شفتيه كلمة واحدة بأية خطية. بل بالعكس، فكل ما هو عليه، وما يقوله، وما يفعله، متوافق تماماً مع مشيئة الآب المقدسة.
وقد علّم المسيح، لا كالكتبة، أي بتكرار أجوف للتقليد، بل كمن له سلطان، كمن تلقى سلطاناً نبوياً كاملاً من الله نفسه (مت 29:7). والسلطان نفسه ظاهراً في أعماله. فهو يخرج الشياطين بروح الله (مت 28:12)، وبإصبع الله (لو 20:11)، وله سلطان أن يغفر الخطايا (مت 6:9)، وأيضاً سلطان أن يضع حياته وأن يأخذها من جديد (يو 18:10). هذا السلطان كله تلقاه من الآب. وهو يرد كل أقواله وأفعاله إلى وصية الآب. وطعامه هو أن يفعل مشيئة الآب (يو 34:4)، بحيث إنه استطاع قبيل نهاية حياته على الأرض أن يقول إنه مجد الآب، وأعلن اسمه، وأنهى عمله (يو 4:17، 6). فالعلاقة بالملكوت هذه التي وضع المسيح – بشخصه وأقواله وأفعاله – نفسه فيها، معبراً عنها على نحوٍ وافٍ في أنه المسيّا المنتظر. وهنالك الآن، كما كان على مدىً طويل، قدرٌ غير يسير من التساؤل حول "هل اعتبر يسوع نفسه المسيّا الموعود أم لا؟ وإن كان نعم، فكيف توصلّ إلى هذا الإدراك؟".
فيما يتعلق بالسؤال الأول، لا يمكن أن يوجد في ذهن أحد أيّ شك في أنّ الجواب هو نعم، وذلك بعد قراءة الأناجيل بفكر متجدّد – ولا أعني إنجيل يوحنا وحده، بل أيضاً أناجيل متى ومرقس ولوقا. لذلك نذكر بعض الآيات. فإن المسيح أعلن في مجمع الناصرة أن نبوة أشعياء تمت في ذلك اليوم (لو 17:4 وما يليها). وجواباً عن سؤال يوحنا المعمدان: هل كان يسوع هو المسيح؟ يُشير يسوع إلى أعماله مؤكداً على نحوٍ قاطع أنه المسيح (مت 4:11 وما يليها). وهو يصادق على اعتراف بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي، ويرى فيه إعلاناً من أبيه (مت 16:16، 17). وطلبة أم ابني زبدي تصدر عن الإيمان بأنّ يسوع هو المسيح، وهو ينظر إليها من هذه الزاوية ويفسرها (مت 20:20). ثم إنّ تفسيره للمزمور 110 (مت 24:22)، ودخوله إلى أورشليم (مت 2:21 وما يليها)، وظهوراته في الهيكل (مت 12:21 وما يليها)، وتأسيسه للعشاء المقدس (مت 26:26 وما يليها) – هذه كلها – مؤسسة على إقراره بأنّه هو المسيح، وابن داود وربّه، وأنه يقدر أن يحل عهداً جديداً محل القديم. والأمر الحاسم نهائياً في هذه المسألة هو أنه قد حُكم عليه وقُتل ولا شيء آخر سوى اعترافه بأنه المسيح ابن الله (مر 62:14). والعنوان الذي كُتب على الصليب، يسوع الناصري ملك اليهود، يضع ختم الصحة على ذلك.
أما كيف وبأيّة طريقة بلغ المسيح هذا الإدراك، فمسألة أخرى. وتزعم الفكرة العامة بخصوص ذلك، والتي تحظى الآن بقبول واسع جداً، أنّ يسوع لم يكن يعرف شيئاً في بادئ الأمر عن مفهوم كونه مسيّا، وأنّ هذا المفهوم جاءه لاحقاً، بعد معموديته أيضاً، بل أيضاً فيما بعد، أي بعد اعتراف بطرس وبسببه. وهكذا يفترض أن الربّ يسوع قبل هذا المفهوم وتحت الضغط، أو كشكل لدعوته الدينية الخُلقية أقل وفاءً بالغرض ولكن لابدّ منه. على أنّ جميع الافتراضات من هذا القبيل تبقى خارج نطاق الحقيقة وتناقض على خط مستقيم الكلمة المقدسة وجوهر شخصية المسيح، لا ننكر أنّ إدراك المسيح البشري قد شهد تطوراً طبيعياً، إذ نقرأ بصريح العبارة أنه كان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لو 52:2). فإن إدراكه البشري لشخصه الخاص، وللعمل الذي أعطاه إياها الآب ليعمله، ولماهيّة الملكوت الذي جاء ليؤسسه، قد شهد تنويراً تدريجياً وتعميقاً مطرداً في كنف الأسرة الهادئة في الناصرة، بمعونة أسفار العهد القديم المقدسة وفي عهدة أبويه التقييّن.
إلا أن المسيح، وهو بعد فتىً، كان يعلم – كما صرّح في الهيكل أنه ينبغي أن ينهمك في عمل أبيه (لو49:2). وقبل أن يعتمد على يد يوحنا، كان عالماً أنه لا يحتاج إلى تلك المعمودية لمغفرة الخطايا بل إنه طلب قبولها لكي يكون مطيعاً لمشيئة الله في كل شيء. وعلى هذه، لم تكن تلك المعمودية بالنسبة للمسيح حداً لماضٍ أثيم، لأن ذلك لم يكن لديه قط؛ بل كان ذلك بالأحرى خضوعاً كاملاً وتكريساً كلياً من جانبه للعمل الذي أعطاه إياه الآب كي يعمله، كما كان من جانب الله تأهيلاً شاملاً وتجهيزاً للقيام بذلك العمل. وقد عرفه يوحنا حالاً أنّه المسيّا، وفي الغد اعترف به بهذه الصفة التلاميذ الذين اختارهم (يو 52:29:1).
غير أن هذا الاعتراف، إن صح التعبير، كان اعترافاً مبدئياً. فلم يكن بحال من الأحوال ما كان ينبغي أن يكونه، وما كان سيصير إليه. ذلك أنه كان مقروناً بكل أنواع الخطأ في ما يتعلق بطبيعة كونه المسيّا. فالتلاميذ – رغماً عنهم – ظنّوا أن يسوع سيكون مسيحاً كما صوره يهود ذلك الزمان عموماً، أي ملكاً يشنّ الحرب على الأمم الوثنية ويقيم إسرائيل مجدداً على رأس تلك الأمم المقهورة. حتى أن يوحنا المعمدان وقع فريسة للشك بعد ظهور المسيح علناً وعدم قيامته بهذه التطلعات (متى 2:11 وما يليها). ثم إن التلاميذ كان يصحح المسيح أفكارهم ويعلّمهم الحق فيما يخص ذلك. فقد كان الرجاء المسيّاني اليهودي عميق الجذور في نفوس التلاميذ بحيث إنهم، بعد القيامة أيضاً، سألوا يسوع في هذا الوقت يرّد الملك إلى إسرائيل (أعمال 6:1).
فبسبب من هذه التصورات المغلوطة التي كانت ذائعة وشائعة حتى ضمن جماعة التلاميذ، رأى المسيح من اللازم أن يتبع في كرازته خطاً تفسيرياً تعلّيمياً محدداً. ومن المعلوم جيداً أن الربّ يسوع، في الفترة الأولى من خدمته، لم يقل قط بصريح العبارة إنه المسيح. فقد كان مضمون كرازته هو ملكوت السماء، وهو يشرح بإسهاب طبيعة هذا الملكوت وأصله ومسراه واكتماله، مستعملاً الأمثال بصورة خاصة. ثم إن أعمال المسيح هي أعمال الرحمة، ألا وهي شفاء كل مرض وضعف في الشعب. هذه الأعمال تشهد له، ومنها ينبغي لتلاميذه – وليوحنا المعمدان أيضاً – أن يكوّنوا فكرة صحيحة عن هويته وطبيعة رسالته. حتى إننا نستطيع التعبير عن المقصود هنا على نحوٍ أقوى، فنقول إنّ كونه المسيّا تبدو سراّ لا يجوز أن يذاع. فأكثر من مرة دفعت أعماله الذين حوله إلى التفكير في كونه المسيح، إلا أنه كان عندئذ يوصيهم بشدة بألا يطلعوا أحداً على ذلك. حتى إنه في أواخر حياته فعلاً، حينما صار معرفة التلاميذ به أفضل، وحينما اعترفوا على لسان بطرس بأنه المسيح ابن الله الحي، وقد كان ذلك في قيصرية فيلبس، فحينئذ أيضاً، ورغم كل شيء، نهاهم بتشديد عن الإفصاح عن ذلك (مت 20:16 ؛ مر 30:8). حقاً، كان يسوع هو المسيح، لكنه كان كذلك بمعنىً آخر يختلف عما تصوره يهود ذلك الزمان. فهو لم يرد، ولا سمح لنفسه، أن يكون مسيحاً بحسب توقعاتهم. ولما لاح خطر ذلك، انسحب لئلا يؤخذ بالقوة ويُنصب ملكاً (يو 14:6، 15). لقد كان هو المسيح، وهو أراد أن يكون، إنما ليس كما يتفق مع مشيئة الناس ومسرّتهم، بل إنه أراد أن يكون هو المسيح على ما يتفق مع مشيئة الآب ومشورته، ومع نبوات العهد القديم.
لذلك اختار المسيح التعبير "ابن الإنسان" كاسم خاص دعا نفسه به. وهذا الاسم يخرج من شفتيه مراراً وتكراراً في الأناجيل. لا شك أن هذا الاسم مقتبس من دانيال 13:7، حيث تصور ممالك العالم بهيئة حيوانات ولكن ملكوت الله يأتي على يد ابن إنسان. والمقطع الذي ترد فيه الآية المشار إليها جرى تأويله في بعض الأوساط اليهودية بمعنىً نبوي، ولذلك عُرف هذا اللقب (أي "ابن الإنسان") عند بعضهم على الأقل، بأنه تسمية للمسيح (يو 34:12). ومع ذلك يبدو أن هذا الاسم لم يكن شائعاً، وكذلك لم تُضف عليه أهمية خاصة. إذ لا يمكن أن يربط بهذا الاسم مثل ما ارتبط بالاسم "ابن داود، ملك إسرائيل" من آمال وتطلعات جسدية. من هنا كان الاسم "ابن الإنسان" أنسب اسم ليسوع – إذ أنه عبر من جهة عن فكرة كونه المسيح الموعود به في النبوة، ومن جهة أخرى عن فكرة كونه كذلك بغير مفهوم الفكر الشائع بين اليهود.
ويمكن أن نبرهن على ما نذهب إليه بطريقة استعمال المسيح لهذا الاسم. فهو يستعمل هذا اللقب بالإشارة إلى نفسه في مواضع يمكن أن تندرج ضمن مجموعتين: الأولى حيث يتحدث عن فقره وآلامه وتواضعه؛ والثانية حيث يتحدث عن قدرته وجلاله ومجده. فمما قاله، مثلاً، ضمن المجموعة الأولى: أن ابن الإنسان لو يأتِ ليُخدم، بل ليخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت 28:20). ومن المجموعة الثانية أنه أعلن أمام المحكمة العليا أنه حقاً المسيح، وقد أضاف إلى هذا الإعلان تصريحه: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء (مت 64:26). وترد إلى خواطرنا مثل هذه الأفكار بعينها إذ نقارن آيات مثل متى 20:8 و19:11 و40:12 و12:17 و11:18 و18:20، وآيات أخرى مثلها وبآيات مثل متى 6:9 و23:10 و8:12 و41:13 و27:16 و9:17 و28:19 و27:24 و13:25، وما شابهها. فالمسيح يعرّف نفسه بهذا اللقب في شخصيته الكاملة، وفي تواضعه وتمجيده، وفي نعمته وقدرته، باعتباره المخلّص والديّان.
بهذا الاسم يلخص المسيح نبوة العهد القديم بكاملها عن المسيّا الآتي. وعلى حد ما سبق الإشارة، فإن الرجاء المسيّاني سار في شعبتين، إحداهما تختص بالملك الممسوح من بيت داود، والثانية بعبد الرب المتألم. وفي الحالتين، تتوازى هاتان الشعبتان إحداهما مع الأخرى خلال أسفار العهد القديم، لكنهما في سفر دانيال تتلاقيان. فإن ملكوت الله سيكون سلطاناً بمعنى الكلمة الحقيقي والكامل، غير أنّ ذلك السلطان سيكون سلطاناً بشرياً، أعني سلطان ابن الإنسان. وهكذا يقول المسيح الآن أيضاً إنه حقاً ويقيناً ملك، فهو ملك إسرائيل، الملك الموعود به والممسوح من قبل الله. لكنه مع ذلك ملك بمعنىً يختلف عن الذي تعارف عليه اليهود. إنه ملك يركب حماراً، جحشاً ابن أتان؛ ملك بر وسلام؛ ملك هو أيضاً كاهن؛ ملك هو أيضاً مخلّص. ففيه تتحد القوة والمحبة، والبر والنعمة، والرفعة والتواضع، والله والإنسان.
فإن المسيح هو الإتمام الكامل لشريعة العهد القديم ونبوته، ولكل الآلام والأمجاد التي حصلت تمهيداً وكمثالاً لما يأتي – عند بني إسرائيل، وهو النظير المثالي للكهنة والملوك عندهم، والنظير أيضاً لشعب إسرائيل نفسه، إذ كان ينبغي أن يكون ذلك الشعب مملكة كهنوتية وكهنوتاً ملوكياً. إنه الملك الكاهن، والكاهن الملك؛ عمانوئيل، الله معنا. من هنا أنّ الملكوت الذي جاء ليبشر به ويؤسسه هو في آن واحد معاً داخلي وخارجي، غير منظورٍ ومنظورٌ، روحي ومادي، حاضرٌ وآتٍ، خاصٌ وكوني، من فوق ومن تحت، نازل من السماء لكن قائمٌ على الأرض. ولسوف يعود المسيح حقاً. فقد جاء ليخلص العالم وينقذه؛ وسيعود ليدينه ويحكمه.
لمحةٌ أخرى يجب أن تضاف إلى صورة يسوع هذه التي تبرزها لنا الأناجيل، ألا وهي أنّه مدركٌ كونه ابن الله بمعنىً خاص جداً.
استعمل هذا الاسم "ابن الله" في العهد القديم، للدلالة على الملائكة أيضاً (أيوب 7:38)، وعلى شعب إسرائيل، وعلى القضاة في ذلك الشعب (مز 6:82)، وعلى الملوك. وفي العهد الجديد يسمى آدم ابن الله (لو 38:3)، ويسمى بهذا الاسم أولاد الله (2كو 18:6)، إلا أنّه هنا يُطلق على المسيح بصورة فريدة. فهو يُدعى بهذا الاسم من عدة جهات ومن قبل أشخاص مختلفين: يوحنا المعمدان ونثنائيل (يو 34:1، 49)، الشيطان والمسكون، رئيس الكهنة وجمهور اليهود وقائد المئة (مت 63:26 ؛ 40: 27، 54)، التلاميذ (مت 33:14 ؛ 16:16)، كتبة الأناجيل (مر 1:1 ؛ 31:20). صحيح أن المسيح لم يَدْعُ نفسه بهذا الاسم عادةً، إلا أنه مع ذلك قبل بلا اعتراض هذا الاعتراف ببنوته الإلهية، وأشار في بعض الأحيان صراحةً إلى كونه ابن الله.
لا شك طبعاً في أنّ مختلف الأشخاص الذين دعوا المسيح بهذا الاسم لم يستعملوه جميعاً بالمعنى العميق عينه. فلم يكن لهذا الاسم المعنى والمغزى الواحد بعينه على لسان كل من قائد المئة (مت 54:27) ورئيس الكهنة (مت 63:26) وبطرس (مت 16:16). فقائد المئة كان وثنياً ولم يدعُ المسيح ابن الله بل ابناً لله. ورئيس الكهنة كان يفكر خصوصاً بكونه المسيح، فيما كان يستجوب يسوع هل هو المسيح ابن الله. ولكن عندما اعترف بطرس، بعد زمنٍ طويل من إتباعه المسيح، أنه يقيناً المسيح ابن الله الحي من عنده كلام الحياة الأبديّة، فعندئذ هناك – بلا شك – في تصريحه معنىً أعمق مما قصد الآخرون، معنىً أصبح التلاميذ يفهمونه تدريجياً على نحوٍ أكثر عمقاً وغنىً بعد قيامة المسيح.
صحيح أنه بمعنى الحكم الديني منسوب إلى العهد القديم، يمكن أيضاً أن يدعى الرب يسوع بهذا الاسم. فبوصفه الملك الذي مسحه الله، يمكن ويجوز أن يدعى ابن الله. فهو ابن العليّ الذي يعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه (لو 32:1). وهو القدوس المولود من مريم (لو 35:1)، وقدوس الله كما دعاه المسكون (مر 24:1). وهو ابن الله المبارك، بحسب التعبير الذي استخدمه رئيس الكهنة على سبيل تعريف المسيّا بأكثر تحديد (مر 61:14). غير أن هذه النبوة عن حكومة الله لها في المسيح معنىً أعمق مما أدركه الآخرون، إذ إنها فيه تصدر عن علاقة مختلفة بالآب. فهو حُسب ابن الله لا لمجرد كونه قد حُبل به في مريم على نحوٍ خارق (لو 35:1) ولا لكونه عند المعمودية وُهِبَ الروح القدس بغير حساب (مت 16:3). ولا هو كذلك أيضاً فقط لأنه بفضل قيامته جعله الله ربّاً ومسيحاً (أع 36:2). صحيح أن الآب، في هذه المناسبات، اعترف به وحيّاه باعتباره الابن، غير أنّ أهليته المسيانية لم تبدأ أولاً عند ذاك، بل إنها ترجع إلى ماضٍ أكثر قدماً. ويعلمنا الكتاب المقدس أن يسوع بالحقيقة لا يدعى ابن الله لأنه المسيّا، ملك إسرائيل الممسوح؛ بل بالعكس تماماً، فإياه قد جعل الله ملكاً لأنه كان ابن الله بمعنىً فريد تماماً.
وليس من شكٍ على الإطلاق في أن الكلمة المقدسة تعرض هذه القضية بهذه الطريقة تماماً. فحتى في زمنٍ مبكر كالذي كُتبت فيه الآية الثانية من ميخا 5، نقرأ أن مخارج الرئيس الذي سيملك على إسرائيل هي منذ القديم، منذ أيام الأزل. وفي عبرانيين 5:1، 5:5 نجد أن الآية السابعة من المزمور الثاني: "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك" تُفسر بالإشارة إلى الأزل الذي فيه كان المسيح الابن وهو بهاء مجد الله ورسم جوهره، موجوداً في حضن الآب. وفي رومية 4:1 يصرح الرسول أن المسيح قد تبرهن بالقوة أنه ابن الله بالقيامة من الأموات. فهو، بمعنىً خاص، ابن الله منذ الأزل، ولكن ذلك ظهر بأكثر جلاء وكمال في الحبل الخارق به، وفي معموديته، وفي قيامته.
هذا التعليم عينه نجده في الأناجيل بحسب متى ومرقس ولوقا. فالمسيح مدرك أن له بالآب علاقة تختلف جوهرياً عن علاقة الآخرين كلهم به. وقد كان عالماً، وهو فتىً بعد، أنه ينبغي أن يُعنى بعمل أبيه (لو 49:2). وعند معموديته، ثم أيضاً فيما بعد عند التجلّي على الجبل، أعلن الله صراحةً، بصوت جاء من السماء، أن هذا هو ابنه الحبيب الوحيد الذي به سرّ كل السرور (مت 17:3 ؛ 5:17).
ويتحدث المسيح عن نفسه باعتباره الابن المرتفع فوق الملائكة كثيراً جداً (مت 36:24 ؛ مر 32:13). فالآخرون المرسلون من عند الله هم عبيد، أما هو فالابن الوحيد، حبيب الآب ووارثه (مر 6:12، 7). وهو من يرسل إلى تلاميذه موعد أبيه (لو 49:24). ولسوف يأتي ذات يوم في مجد أبيه (مر 38:8). وهو لا يتكلم عن الله البتة بمخاطبته "أبانا"، بل يتكلم عنه دائماً بالقول "أبي"، وتبعاً لذلك يضع الصلاة الربانية "أبانا"، على ألسنة تلاميذه (مت 9:6). وبكلمة واحدة: هو الابن مع أداة التعريف (مر 32:13)، في حين جميع تلاميذه هم أبناء الآب (مت 45:5). وكل شيء قد دُفع إليه من الآب، فليس أحدٌ يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له الآب (مت 27:11). وهو بعد القيامة أعطى تلاميذه تفويضاً أن يتلمذوا جميع الأمم ويعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، ويعلموهم جميع ما أوصى به (مت 19:28).
أما إنجيل يوحنا، وفيه لا يتكلم البشير فقط بل الرسول أيضاً، فلا يضيف جديداً على ذلك بصورة جوهرية، بل يعرضه على نحو أعمق وأوسع. حقاً أن الاسم "ابن الله" له في هذا الإنجيل أيضاً معنىً ثيوقراطي أحياناً، غير أن له على العموم معنىً ومغزىً أعمق. فليس الآخرون فقط يدعون المسيح مراراً ابن الله (34:1، 50 ؛ 69:6)، بل هو أيضاً يدعو نفسه بهذا الاسم. وفي حالات أخرى أكثر عدداً، يتكلم عن ذاته بوصفه الابن، دون إضافة أي مضاف إليه. وبهذا الوصف ينسب إلى نفسه القدرة على إجراء العجائب (35:9 ؛ 4:11)، وإقامة الموتى – في الروح والجسد – وإحيائهم (20:5 وما يليها)، ويساوي نفسه بالله – كما فهم اليهود من ذلك أيضاً (18:5 ؛ 33:10 وما يليها). وفقاً لذلك يتحدث عن الآب وعن ذاته بصفته الابن، بطريقة فريدة بحيث تكون أقواله عديمة الصلة والملاءمة لو لم يكن الله أباه بمعنىً خاص جداً، ولو لم يكن بينه وبين الآب وحدة تامة (18:5). فكل ما ينسبه إلى الآب، ينسبه أيضاً إلى نفسه. فالآب أعطاه سلطاناً على كل جسد، حتى إن مصير جميع البشر منوط بالعلاقة التي يضعون أنفسهم فيها من جهته (يو 17:3 ؛ 40:6). ومثله مثل الآب، يقيم ويُحيي من يشاء (21:5)، ويُجري الدينونة على الجميع (27:5)، ويعمل كل ما يعمله الآب (19:5)، وقد تلقى من الآب سلطاناً أن تكون له حياةٌ في ذاته (26:5). إنه والآب واحد (30:10). وهو في الآب، والآب فيه (38:10)، ومن رآه فقد رأى الآب (9:14). صحيح أن الآب أعظم منه (28:14)، لأن الآب قد أرسله، كما يعلن غير مرة (24:5، 30، 37). ولكن هذا لا ينتقص شيئاً من حقيقة كونه في مجد الآب قبل التجسد وسيعود إلى ذلك المجد حالاً (5:17). فبنوته ليست قائمة على إرساليته، بل إرساليته قائمة على بنوته. ولذلك فهو الابن (مع أداة التعريف)، الابن الوحيد، الوحيد من الآب (14:1)، والكلمة الذي في البدء كان عند الله وكان هو الله (1:1)، ومخلّص العالم (42:4) الذي يعترف به توما ويخاطبه قائلاً "ربيّ وإلهي" (28:20).
- عدد الزيارات: 500