Skip to main content

الفصل الثاني: طبيعتا المسيح الإلهية والبشرية

إن الشهادة التي قدمها المسيح عن نفسه، بحسب الكتاب المقدس، طورتها وأيدتها كرازة الرسل. الاعتراف بأن إنساناً يُدعى يسوع المسيح وحيد الآب، اعتراف كهذا إنما يتعارض تماماً مع اختبارنا وتفكيرنا، كما يناقض على الأخص ميول قلوبنا، بحيث إن أحداً لا يستطيع الإقرار به – عن إخلاصٍ ومن كل النفس – إلاّ بفاعلية عمل الروح القدس. فبالطبيعة، يقف كل إنسان معادياً هذا الاعتراف، لأنه ليس اعترافاً يلائم طبيعة الإنسان. وليس أحد يقدر أن يقول يسوع ربٌّ إلا بالروح القدس، وليس أحد يتكلّم بروح الله يقول يسوع أناثيما (ملعوناً). فعلى الإنسان أن يعترف به أولاً مخلصاً له وملكاً (1كو 3:12).

ومن هنا فلما ظهر المسيح على الأرض وصرّح بأنه ابن الله، لم يقتصر على مجرّد التصريح، بل اهتم – وما يزال يهتم – بأن هذا الاعتراف يجد طريقه إلى داخل العالم وأن تؤمن به الكنيسة. ولذا دعا رسله وأعطاهم تعليماته، وجعلهم شهوداً لأقواله وأعماله، ولموته وقيامته. وقد أعطاهم الروح القدس الذي أرشدهم شخصياً إلى الاعتراف بأنَّه ابن الله الحيّ (مت 16:16)، والذي جعلهم في ما بعد، منذ يوم الخميس فصاعداً، يعكفون على الكرازة بتلك الأمور التي رأوها بعيونهم، وشاهدوها، ولمستها أيديهم من جهة كلمة الحياة (1يو 1:1). والواقع أن الرسل لم يكونوا هم الشهود الأصليون. بل إن روح الحقّ، المنبثق من عند الآب هو الشاهد الأصيل والمعصوم والقدير للمسيح، وليس الرسل شهوداً إلاّ فيه وبه (يو 26:15؛ أع 32:5). وهو روح الحق نفسه الذي عن طريق شهادة الرسل يقود كنيسة كل العصور، إلى الاعتراف، ويعينها على التمسك به: يا ربُّ، إلى من نذهب؟ وكلام الحياة الأبديّة عندك. ونحن قد آمنّا وعرفنا أنّك أنت المسيح ابن الله الحيّ (يو 68:6،69).

عندما يقص كتبةُ الأناجيل الأربعة على التوالي أحداث حياة المسيح، يُشيرون إليه عادةً باستعمال الاسم "يسوع" فقط دون إضافة أيّ لقبٍ خاصٍّ أو تحديد آخر. فيعلنون أن يسوع ولد في بيت لحم، وأن يسوع اقتيد إلى البرّيّة، ويدوّنونه إنما هو يسوع التاريخ الذي عاش ومات في فلسطين. وهكذا لا نجد في رسائل الرسل إلاّ مراّت قليلةً يدعى فيه المسيح باسمه التاريخي فقط. فبولس مثلاً يقول إنّه ليس أحد يقدر أن يقول: يسوع ربّ إلاّ بالروح القدس (1كو3:12). ويوحنّا يشهد أن كل من يؤمن أن يسوع هو المسبح فقد ولد من الله (1 يو1:5؛ قارن 22:2 و20:4). ونقرأ في سفر الرؤيا عن إيمان يسوع وشهادة يسوع وشهوده.

إلا أنّ استعمال هذا الاسم مجرداً من أي لقب أو صفة يبقى نادراً في الرسائل. فعادةً يرد الاسم مقترناً بالرب، أو المسيح، أو أبن الله، وما شابه من تسميات؛ والاسم الكامل الذي نقرأه عادة هو: ربنا يسوع المسيح. ولكن بصرف النظر عن كون الاسم "يسوع" مستعملاً وحده أو مقترناً بسواه من الألقاب، نجد أنه ينطوي دائماً على التعبير عن ارتباطه بالشخص التاريخي الذي ولد في بيت لحم ومات على الصليب.

فإن العهد الجديد بكامله، سواءٌ في ذلك الرسائل أو الأناجيل، يستقر على أساس وقائع تاريخية. وليست شخصية المسيح فكرةً ولا مثالاً من نسج الذهن البشري، على ما ذهب إليه كثيرون في الماضي يجزم به قوم في زماننا، بل هو شخص حقيقي أعلن نفسه في زمن معيّن وظهر بهيئة بشريّة في يسوع الإنسان.

صحيح أن الأحداث التاريخية في حياة يسوع تتراجع في الرسائل إلى المؤخّرة. فلهذه الرسائل هدف مختلف عن غرض الأناجيل، إذ أنها لا تسد تاريخ حياة يسوع، يل تبرز الأهميّة التي كانت لتلك الحياة بالنسبة إلى فداء البشر. ولكنّ جميع الرسل عارفون بشخص يسوع وأقواله وأعماله، وهم يتقدّمون ليبيّنوا لنا أن يسوع هذا هو المسيح، وقد رفّعه الله إلى يمينه ليمنح التوبة وغفران الخطايا (أعمال 36:2؛ 31:5).

لذلك يذكر الرسل غالباً بعض وقائع حياة المسيح. فهم يصوّرونه أمام أعين سامعيهم وقارئيهم (غل 1:3). ويشدّدون على حقيقة كون يوحنا المعمدان هو سابقه الذي أعلن قدومه (أع 25:13؛4:19)، وعلى أنه جاء من سبط يهوذا ونسل داود (رو 3:1؛رؤ5:5؛16:22)، وعلى أنه ولد من امرأة (غل 4:4)، وختن في اليوم الثاني (رو 8:15)، وتربى في الناصرة (أع 22:2:6:3)، وكان له إخوة أيضاً (1كو 5:9 ؛غل 19:1). ويخبرنا الرسل أنّ المسيح كان قدوساً على نحو كامل، وكان بلا خطيّئة، وقدّم لنا نفسه كمثال (1كو 1:11 ؛ 1بط 21:2)، ولم يعرفه عظماء هذا العالم أنه هو رب المجد (1 كو 8:2)، وقد قتله اليهود (أع 10:4؛30:5؛ 1تس 15:2) إذ مات معلّقاً على خشبة الصليب. لكنّه وإن كان قد تألّم كثيراً في جثسيماني وفوق الجلجثة، فقد حصّل لنا بسفك دمه المصالحة والبر الأبدي. لذلك أقامه الله، ورفّعه إلى يمينه، وعيّنه رباً ومسيحاً، ورئيساً مخلّصاً جميع الأمم.

يتضح جلياً من هذه المعطيات القليلة أن الرسل لم ينكروا أو يتجاهلوا أو يهملوا وقائع المسيحية التاريخية، بل بالأحرى قدّروها أوفى تقدير ووصلوا إلى لبّ أهميتها الروحية. فليس من أثر لأي فصل أو تنازع بين حادثة الفداء وكلمة الفداء، ولو حاول قوم في ما مضى جاهدين أن يبرزوا مثل هذا التناقض المزعوم. ذلك أنّ حادثة الفداء هي تحقيق كلمة الفداء. وما الثانية إلا الشكل الملموس والحقيقي للتعبير عن الأولى، كما أنها بالتالي في الوقت عينه تنوير بشأنها وتفسير لها.

و إذا بقي من شكٍّ ما حول ذلك، فإنّه يتبدّد كلياً بنتيجة المعركة التي كان على الرسل أن يخوضوها حتى في زمنهم المتقدم. فليس فقط في القرنين الثاني والثالث والقرون التالية، بل أيضاً في العصر الرسولي بالذات، ظهر أناس حسبوا وقائع المسيحية ذات أهمية ثانويّة وعرضيّة، أو تجاهلوها بجملتها، ذاهبين إلى أنّ الفكرة هي الأمر الرئيسي أو أنّها كافية بحدّ ذاتها. وقد احتجوا قائلين: أيّ فرق يُحدثه كون السيد المسيح قام من قبره بجسده أو لم يقم؟ فلو أنه يحيا فقط بالروح لظلّ خلاصنا مضموناً على نحوٍ وافٍ! غير أنّ رأي الرسول بولس في القضية كان مختلفاً عن ذلك تماماً، وها هو في 1كورنثوس 15 يُلقي أوضح ضوء ممكن على حقيقة حادثة القيامة وأهميتها. فهو يكرز بالمسيح حسب الكتب المقدسة، بذلك المسيح الذي بمقتضى مشورة الآب مات ودفن وقام، بعد قيامته رآه جمهور من التلاميذ، وقيامته على أساس خلاصنا وضمانه اليقينيّ. كذلك يشدد يوحنا أكثر تشديد ممكن على واقع كونه معلناً لما رآه بعينيه وشاهده ولمسته يداه من وجهة كلمة الحياة (1يو 1:1-3). والمبدأ الرئيسي عند ضدّ المسيح هو إنكار لتجسد الكلمة. أما الاعتراف المسيحي، على العكس، فقوامه الإيمان أن الكلمة قد صار جسداً، وأن ابن الله قد جاء بالماء والدم (يو 14:1 ؛ 1يو 2:3، 3 ؛ 6:5). فالكرازة الرسولية كلها. في الرسائل والأناجيل، وفي العهد الجديد كله بالتالي، تُختصر وتُركّز في التصريح بأن يسوع، المولود من مريم والمصلوب: إنما هو المسيح ابن الله – ولنلاحظ ما في ذلك من دليل على ارتفاعه وتمجيده.

ومما تجدر ملاحظته الآن، فيما يتعلّق بمضمون الكرازة الرسولية وغرضها في استعمال الاسم "يسوع"، مجرّداً من كل قيد، هو نادر في الرسائل، فالرسل عادةً يتكلمون عن يسوع المسيح، أو المسيح يسوع، أو – على نحو أكمل بُعد – الربّ (أو ربّنا) يسوع المسيح. حتى أن البشيرين الذين يتكلمون عن "يسوع" عموماً في السياق التاريخي لأناجيلهم، يستعملون الاسم "يسوع المسيح"، إما في بداية الإنجيل أو في نقطة تحول هامة فيه. وهم إنما يفعلون هذا على سبيل التنويه بهوية الشخص الذي يكتبون الإنجيل عنه. وهم في أعمال الرسل والرسائل يصير هذا الاستعمال هو الممارسة الثابتة. فالرسل لا يتحدثون عن كائن بشريّ كان اسمه يسوع، بل إنهم بالإضافة إلى تعبيري الرب والمسيح، وما إليها، يعبرّون لتقديرهم عن هوية ذلك الشخص. فهم كارزون بالبشارة التي مفادها أنّ مسيح الله ظهر على الأرض في يسوع الإنسان.

هكذا عرف الرسل الربّ يسوع تدريجياً في أثناء مرافقتهم له، وخصوصاً بعد تلك الساعة الهامة في قيصريّة فيلبس، إذ هبط عليهم نور سُلّط على شخصه فاعترفوا جميعاً مع بطرس أن يسوع هو ابن الله الحيّ (مت 16:16) وهكذا أعلن الربّ يسوع نفسه لهم، أولاً تحت قناع الاسم "ابن الإنسان" على التقريب، ولكن بأكثر وضوح وصراحة وتدريجياً إذ قاربت حياته على الأرض نهايتها وفي صلاته الشفاعية يدعو نفسه باسم يسوع المسيح الذي أرسله الآب (يو 3:17) وقد اتهمه المجلس اليهودي بالتجديف وحكم عليه بالموت، ذلك لأنه عرّف نفسه باعتباره المسيح ابن الله (مت 63:26). وعنوان فوق صليبه: يسوع الناصري ملك اليهود (مت 37:27 ؛ يو 19:19).

صحيح أن التلاميذ لم يستطيعوا التوفيق بين تصريحات يسوع هذه المسيانية وقرب آلامه وموته (مت 22:16). ولكنهم بالقيامة، وما بعدها، أدركوا حتمية الصليب ومعناه. فالآن عرفوا بأنّ في القيامة جعل الله يسوع الذي قتله اليهود رباً ومسيحاً ورفّعه ليكون رئيساً ومخلّصاً (أع 36:2 ؛ 31:5). لا يعني هذا أن يسوع لم يكن قبل القيامة هو المسيح والربّ، وأنّه صار كذلك بعد قيامته فقط، إذ سبق أن أعلن نفسه بأنّه المسيح وقد آمن به تلاميذه بهذه الصفة واعترفوا به هكذا سابقاً (مت 16:16). غير أنّه قبل القيامة كان هو المسيّا في صورة العبد المتألم هذا حجب عن أنظار الناس كرامته الفائقة بوصفه ابن الله. وفي القيامة عاد واتخذ المجد الذي كان له قبل كون العالم (يو 5:17)، وبالتالي تعين ابن الله بالقوة، من جهة القداسة بالقيامة من الأموات (رو 3:1).

ولذلك استطاع بولس أن يقول أنّه الآن، بعدما سُرّ الله أن يعلن له ابنه، لا يعرف المسيح حسب الجسد بعدُ (2كو 16:5). فقبل توبته عرف المسيح حسب الجسد فقط، وحكم عليه بموجب هيئته الخارجية وحسب، وفقاً لصورة العبد التي فيها سار على الأرض. يوم ذاك لم يكن يستطيع أن يصدق أن يسوع هذا الذي لم يكن له أي مجد، حتى عُلق على الصليب أيضاً، كان هو المسيح. ولكن الحال تغيرت كلياً بعد اهتدائه أو تجديده. فهو الآن يعرف المسيح ويحكم عليه لا بحسب المظهر، أي صورة العبد الخارجية، بل بحسب الروح، أي بحسبما كان في المسيح، بحسبما كان عليه بالحقيقة في الداخل وتبرهن في الخارج من خلال قيامته.

يمكن أن يُقال القول عينه، بمعنى من المعاني، عن الرسل كلهم. حقاً أنّهم قبل آلام المسيح وصلوا إلى اعتراف إيماني بحقيقته النبوية. ولكن ظلّ قائماً في أذهانهم صعوبة التوفيق بين هذه الحقيقة وآلامه وموته. إلا أن القيامة حسمت هذا الصراع عندهم. فإذا يسوع في نظرهم هو نفسه المسيح. الذي نـزل إلى أقسام الأرض السفلى ثم صعد أيضاً فوق جميع السماوات، لكي يتم كل شيء (أف 9:4).وإذ يتكلم الرسل عن المسيح، يفكرون معاً وفي آن واحد بالمسيح الذي مات والمسيح الحي المُقام، بالمسيح متألماً وبه ممجّداً. فهم لا يربطون بشارتهم فقط بيسوع التاريخ الذي عاش منذ سنين في فلسطين ثم مات فيها، بل أيضاً بيسوع نفسه كما هو الآن، مُمجدّاً وجالساً عن يمين عظمة الله. إنهم يقفون – إذا صح التعبير – عند نقطة تقاطع الخط الأفقي المربوط بالتاريخ الماضي بالخط العمودي الذي يربطهم بالرب الحي في السماء. فالمسيحية إذاً دين تاريخي، غير أنّها في الوقت نفسه ديانة تعيش في الزمن آتية من الأزل. وتلاميذ المسيح لم يُلَقّبوا يسوعيّين، نسبةً إلى اسم "يسوع" التاريخي؛ بل إنهم مسيحيون، نسبةً إلى اسم "المسيح" الذي يبين مقامه ووظيفته.

هذا الموقف المميز الذي وقفه الرسل في كرازتهم بعد القيامة هو السبب الكامن وراء انقطاعهم عن الإشارة إلى يسوع باسمه التاريخي فقط، وتحدثهم عنه بدلاً من ذلك بالفعل دائماً بوصفه يسوع المسيح، أو المسيح يسوع، أو الرب يسوع المسيح، هلمّ جرّا. وفي الواقع أنّ اسم "المسيح" سرعان ما فقد في أوساط التلاميذ دلالته الوظيفيّة وصار متضمنّاً دلالة اسم العلم الشخصي وقد كان الاقتناع بأنّ يسوع هو المسيح قوياً جداً بحيث كان ممكناً أن يدعى "مسيّا" فقط، حتى دون أن تسبقه أداة التعريف، وقد ورد هذا الاسم في إنجيل يوحنا 44:1، 25:4. وبينما يقترن القول، يسوع والمسيح، في الإنجيل مرات عديدة (مثلاً، مت 18:1 ؛ 20:16 ؛ مر 1:1) فإن ذلك يصبح القاعدة عند الرسل، ولاسيما بولس. ثم إنّ الاسم المقرون- يسوع المسيح، حصل فيه غير مرةٍ تقديم وتأخير، ولاسيّما على يد بولس، بهدف تركيز مزيد من التشديد على أن يسوع هو المسيح، وعندئذ ورد الاسم بصورة "المسيح يسوع". وهذا الاسم، يسوع المسيح، أو المسيح يسوع، كان هو الأبرز في الكنائس الأولى. كذلك آلَ استعمال "الاسم" ودلالته في العهد القديم إلى المسيح أيضاً في العهد الجديد. فإن "اسم الربّ"، أو "الاسم" وحده، كان في القديم تسمية لمجد الله المعلن. وفي أيام العهد الجديد ظهر ذلك المجد في شخص يسوع المسيح، ولذلك تكمن قوة الكنيسة الآن في اسمه. فبذلك الاسم عمدّ الرسل (أع 38:2)، وتكلموا وعلّموا (أع 18:4)، وشفوا المقعد (أع 6:3)، ونادوا بغفران الخطايا (أع 43:10). وهذا الاسم يُقام ويهاجم (أع 9: 26)، والاعتراف به يجلب الاضطهاد (أع 41:5). وهو يُضطهد (أع 8:22) ويتعظّم (أع 17:19). بهذا المعنى كان اسم يسوع المسيح كناية عن خلاصة وافية لاعتراف الكنيسة وقوة إيمانها ومرساة رجائها. فكما افتخرت إسرائيل في قديم الزمان باسم يهوه، هكذا تجد الكنيسة في العهد الجديد قوتّها في اسم يسوع المسيح. ففي هذا الاسم بلغ اسم يهوه إعلانه الكامل.

ثم إن اسم "الربّ" الذي يقترن في العهد الجديد دائماً باسم يسوع المسيح، يشير إلى الاتجاه نفسه. وفي الأناجيل يُنادى المسيح باسم "يا ربّ" (أو "يا سيد") عدة مرات من قِبل أشخاص لم يكونوا من التلاميذ ومع ذلك استغاثوا به. ولا يحمل الاسم في حالات كهذه أكثر من المعنى المتضمن في "رابي" أو "يا معلم". ولكنّنا غالباً ما نجد تلاميذ المسيح أيضاً ينادونه بهذا الاسم. أضف أن اسم الربّ يستبدل أحياناً في كل من إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا باسم يسوع، ويحل محله، وأخيراً، يستعمل يسوع نفسه هذا الاسم، ملقباً نفسه ربّاً.

فعلى لسان يسوع نفسه، وبأفواه تلاميذه، تُضفى على اسم "الرب" دلالة أعمق مما يحمله اللقب "رابي" أو "يا معلم" ولا يمكننا أن نحدد تماماً ما قصده كل من تقدم إلى المسيح مخاطباً إياه بالقول "يا ربّ" أو "يا سيد". ولكن يسوع كان، في إدراكه الذاتيّ، بأنه هو المعلم والسيد والربّ العليّ، وقد نسب إلى نفسه سلطاناً جاوز سلطان الكتبة ومما يتضح جلياً في مقاطع مثل متى 11:23 – 11 ومرقس 22:1، 27، حيث يصف المسيح نفسه بأنه السيد ويعبر عن ذلك بوضوح لا يرقى إليه أيّ شك، عندما يدعو نفسه ربّ السبت (مت 8:12) وفي موضع آخر يدعو نفسه ابن داود وربّ داود (مت 43:22 – 45). فهذه المطالب تتضمن أنه هو المسيح، الجالس عن يمين الله، والمتمتع بسلطانه، والديّان للأحياء والأموات.

هذا المعنى العميق المرتبط باسم الربّ ربما يعود أيضاً في جزء منه إلى حقيقة كون اسمي يهوه وأدوناي الواردين في العهد القديم قد ترجما باللفظة "كيريرس"، أيّ الربّ، في العهد الجديد، وهي بعينها اللفظة المستعملة في الإشارة إلى المسيح. ولّما أظهر المسيح ذاته أكثر فأكثر مبيّناً من هو بوضوح، وإذ فهم التلاميذ أكثر فأكثر إيّ إعلان عن الله جاءهم في المسيح، أخذ اسم الربّ أهمية خاصة. وفي العهد القديم آيات تتحدث عن الربّ تنطبق على المسيح في العهد الجديد بلا تردد. ففي مرقس 3:1 تقتبس بالإشارة إلى المسيح الآية الواردة في أشعياء: أعدوا طريق الربّ، اجعلوا سبله مستقيمة، وتعني تمهيد يوحنا المعمدان الطريق أمام المسيح الآتي إتماماً لها. ففي المسيح جاء، الربّ، إلى شعبه. وباعتراف التلاميذ بيسوع ربّاً، عبّروا بوضوح ما بعده وضوح عن أن الله نفسه قد أعلن ذاته وأعطاهم نفسه في شخص المسيح. وقد بلغ توما ذروة هذا الاعتراف خلال إقامة الربّ يسوع على الأرض، وذلك حين خرّ عند قدمي المسيح المقام مخاطباً إياه بالقول: ربّي وإلهي (يو 28:20).

ثم صار اسم الربّ بعد القيامة هو الاسم الأكثر استعمالاً بالإشارة إلى المسيح بين التلاميذ. فنحن نجده باستمرار في سفر الأعمال وفي الرسائل، ولاسيما التي كتبها بولس. فأحياناً يستعمل اسم "الربّ" وحده، ولكنّه عادةً يأتي مقروناً بسواه من التسميات أو الألقاب: الربّ يسوع، أو الربّ يسوع المسيح، أو ربّنا يسوع المسيح، أو ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح، وهلّم جرّا. وباستعمال اسم الربّ هذا، يعبّر المؤمنون أن يسوع المسيح الذي أخلى نفسه حتى الموت موت الصليب، قد صار بفضل طاعته الكاملة ربّاً ورئيساً (أع 35:2 ؛ 31:5)، وهو جالس عن يمين الله (أع 33:2)، وهو ربّ الكلّ (أع 36:10)، ورأس هذا الكل الكنيسة التي اقتناها بدمه (أع 28:20) ثم الخليقة كلها التي تخضع له يوماً بصفته ديّان الأحياء والأموات (أع 42:10 ؛ 31:17).

ولذلك فإن كل من يدعو باسم يسوع مسيحاً وربّاً يخلص (أع 21:2، 1كو 2:1). وأن يكون المرء مسيحياً يعني أن يعترف بالفم ويؤمن بالقلب أن الله أقام المسيح من الأموات. ومضمون مناداتنا هو: المسيح يسوع ربّاً (2كو 5:4). والواقع أن جوهر المسيحية يُلخّصُ في هذا الاعتراف على أكمل نحو، بحيث أن الرسول بولس يكاد يستعمل في كتاباته اسم "الربّ" كاسم علم شخصي يدل على المسيح في تمييزه من الآب والروح. فنحن المسيحيين لنا إله واحد، هو الآب الذي منه كل شيء، ونحن له؛ وربّ واحد، هو يسوع المسيح الذي به كل شيء، ونحن به؛ والروح الواحد بعينه، قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء (1كو 6:8 ؛ 11:12). وكما أن اسم الله في رسائل بولس يصير هو الاسم المألوف للآب، فهكذا يصير اسم الربّ هو الاسم المألوف للمسيح.

وعلى ذلك، تطلب البركة الرسولية أن تكون للكنيسة نعمة الربّ يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس (2كو 13:13). واسم الله الواحد يفسر نفسه في الأقانيم الثلاث – الآب والابن والروح القدس (مت 19:28).

ولما كان المسيح، بحسب شهادة الرسل، يحتل مثل هذه المكانة السامية، فلا عجب أن تُعزى إليه كل أنواع السجايا والأعمال الإلهيّة، وأن تُميّز فيه حتى الطبيعة الإلهية.

إن شخصية المسيح التي تطالعنا بها صفحات الكلمة المقدسة هي شخصية فريدة. فهو، من جهة، إنسانٌ حقٌّ. إذ صار جسداً وجاء بالجسد (يو 14:1 ؛ 1يو 2:4، 3). وكان في شبه جسد الخطية (رو 3:8). وقد جاء، بحسب الجسد، من الآباء (رو 5:9)، ومن نسل إبراهيم (غل 16:3)، ومن سبط يهوذا (عب 14:7)، ومن ذريّة داود (رو 3:1). وقد وُلد من امرأة (غل 4:4)، واشترك معنا في اللحم والدم (عب 14:2)، وكان له روح (مت 50:27) ونفس (مت 38:26) وجسد (1بط 24:2) فكان كائناً بشرياً بكل معنى الكلمة تماماً. فلّما كان صبياّ، نما وتقوى بالروح، وتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لو 40:2، 52). وقد جاع وعطش، وحزن وفرح، وتأثّر شعورياً وغضب. ووضع نفسه تحت الناموس وكان مطيعاً حتى الموت. وقد تألم ومات على الصليب ودُفن في بستان. وما كان له صورة ولا جمال ننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. وكان محتقراً ومخذولا من الناس، رجل أوجاع ومختبِر الحزن (إش 2:53،3).

ومن جهة أخرى أن هذا الإنسان نفسه كان متميزاً عن جميع البشر ومتفوقاً عليهم جميعاً. فلا يقتصر الأمر على كونه – من حيث طبيعته البشرية – قد حُبل به بالروح القدس، ولا كونه عاش كل حياته بلا خطيئة رغم أنه تجرّب في كل شيء، ولا على كونه قد قام من الموت وصعد إلى السماء، بل إن هذا الشخص نفسه وبالذات – هو الذي وضع نفسه إلى أعمق حد حتى اتّخذ صورة عبد وأطاع حتى موت الصليب – قد كان له وجود في كيان آخر قبل تجسده واتضاعه أزلاً. فقد كان موجوداً آنذاك في البدء، ولم يحسب كونه معادلاً لله حالة مختلسة ينبغي التمسك بها كغنيمة (في 6:2) وعند قيامته وصعوده إلى المجد الذي كان له عند الآب قبل كون العالم (يو 5:17). إنه بشري إذ أنه كائن منذ الأزل (يو 1:1 ؛ 1يو 1:1). وهو الألف والياء، الأول والآخر، البداية والنهاية (رؤ 13:22). وهو حاضر في كل مكان بحيث أنه، وهو يمشي على وجه الأرض، كان على نحو متزامن في حضن الآب في السماء (يو 18:1 ؛ 13:3)؛ وبعد تمجيده يظلّ في كنيسته ويملأ الكلّ في الكلّ ؛ وهو غير متغير، إذ هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد (عب 8:3). وهو عليم بكل شيء، بحيث يسمع الصلوات؛ وهو العارف في قلوب الجميع (أع 24:1 – ويمكن أن يكون مقصود هنا هو الآب أيضاً). وهو قدير على كل شيء، حتى إنّ كلّ شيء مُخضع له، وكل سلطان في السماء والأرض مدفوع إليه، وهو ملك الملوك أجمعين.

وفي حين يمتلك المسيح جميع هذه السجايا الإلهيّة، يشارك أيضاً في الأعمال الإلهية. فهو مع الآب والروح خالق كل شيء (يو 3:1 ؛ كو 16 :1). وهو البكر والبداية ورأس الخلائق كلها (كو 15:1 ؛ رؤ 14:3). وهو يحمل كل الأشياء بكلمة قدرته، بحيث أن كل شيء ليس منه فقط بل فيه دائماً وبه أيضاً (عب 3:1 ؛ كو 17:1). ثم إنه فوق ذلك هو حافظ جميع الأشياء ويصالح ويسترد، ويجمعها في كيان واحد خاضع له بوصفه الرأس. ولكونه هكذا فهو يدعى بالذات مخلص العالم. وكما أُطلق اسم المخلص أو الفادي على الله في العهد القديم، هكذا يطلق في العهد الجديد على الابن كما على الآب. ففي بعض المواضع يطلق هذا الاسم على الله، وفي مواضع أخرى على المسيح. وفي بعض الأحيان لا يتّضح هل يعود الاسم إلى الله أو إلى المسيح (تي 13:2 ؛ 2بط 1:1). إنما في المسيح وبه تمّ عمل الله الخلاصي تماماً.

يدلنا هذا كله على وحدة بين الآب والابن، بين الله والمسيح، على نحو لا يوجد مثله على الإطلاق بين الخالق والمخلوق. فمع أن المسيح اتخذ طبيعة بشرية لها حدودها وكان لها بدءٌ في الزمان، فهو- من حيث كونه شخصاً أو ذاتاً – لا يوضع بحسب الكتاب المقدس في جانب المخلوقات بل في جانب الله. إنّه يشارك الله في فضائله وأعماله؛ وله الطبيعة الإلهية الواحدة بعينها. ويتم التعبير عن هذه النقطة الأخيرة على نحو مخصوص في الأسماء الثلاث التي يطلقها الوحي على المسيح، وهي: بهاء المجد ورسم الجوهر وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته.

فالمسيح صورة الله غير المنظور بهاء مجده ورسم جوهره. ومن رآه فقد رأى الآب (يو 9:14). فكل من يريد أن يعرف من هو الله، وما هو الله، عليه أن يرى المسيح. فكما هو المسيح، كذلك هو الآب. ثم إن المسيح هو كلمة الله (يو 1:1 ؛رؤ 13:19). ففيه عبر الآب التعبير الأكمل عن ذاته: عن حكمته ومشيئته وفضائله، وعن كامل كيانه. وهو قد أعطى المسيح أن تكون له حياة في ذاته (يو 26:5). وكل من يريد أن يدرك معرفة فكر الله ومشورته، ومشيئته من جهة البشرية والعالم، فليصغي إلى المسيح ويسمعه (مت 5:17). والمسيح، أخيراً، هو ابن الله، أو الابن كما يصفه يوحنا غالباً دون قيد آخر سوى أداة التعريف (1يو 22:2 وما يليه ؛ عب 1:1، 8)، الابن الواحد الوحيد، الابن الخاص الحبيب، الذي به سر الآب كل السرور. وكل من يريد أن يكون من أولاد الله، فليقبل المسيح، لأن كل الذين يقبلونه يعطون سلطاناً وحقاً أن يدعو أولاد الله (يو 12:1).

وأخيراً تضع كلمة الله المقدسة تاجها على شهادة الوحي هذه بأن تطلق على المسيح اسم الله أيضاً. وقد سبق توما واعترف بالمسيح قبل صعوده قائلاً: ربّي وإلهي (يو 28:20). ويشهد يوحنا عنه بأنه، من حيث هو الكلمة، كان عند الله في البدء، وكان هو الله. ويصرخ بولس أن المسيح هو من الآباء بحسب الجسد ولكنه من حيث الجوهر هو الله الكائن على الكل مباركاً إلى الأبد (رو 5:9). وتفيدنا الرسالة إلى العبرانيين أن المسيح ممجد فوق الملائكة وأن الله نفسه خاطبه قائلاً: يا الله (عب 8:1، 9) ويتكلم بطرس عنه بوصفه إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح (2بط 1:1). وفي تفويض المسيح لتلاميذه أمر المعمودية، كما هو مذكور في متى 19:28، وأيضاً في البركات الرسولية، يوضع المسيح على قدم المساواة مع الآب والروح، فإن اسم اللاهوت وجوهره، وسجاياه وأعماله، تتبين في الابن (والروح) كما في الآب تماماً.

يسوع المسيح ابن الله الحي: على هذه الصخرة بنيت الكنيسة. ومنذ البداية كانت مكانة المسيح الفريدة واضحة لجميع المؤمنين. فقد اعترفوا به جميعاً بوصفه الرب الذي بتعليمه وحياته وموته وقيامته حقق الخلاص وغفران الخطايا والخلود، ومن ثم أقام الله وأجلسه إلى يمينه وسيعود عن قريب ديّاناً ليدين الأحياء والأموات. والأسماء التي تطلق عليه في رسائل الرسل، هي عينها تطلق عليه أيضاً في الكتب المسيحية الباكرة. وبهذه الأسماء يُخاطب في صلوات المؤمنين الأوائل وترنيماتهم. فقد كان الجميع مقتنعين بأنه يوجد إله واحد، وهم أولاد له؛ وربُّ واحد أكد لهم محبة الله ووهبهم إياها؛ وروح واحد جعلهم جميعاً يسلكون في جدّة الحياة. ومأمورية المعمودية في متى 19:28، وقد غدا استعمالها عامّاً عند نهاية العصر الرسولي، بيّنةٌ على الإجماع في هذا الاقتناع.

ولكن لما بدأ المسيحيون يفكرون في مضمون هذا الاعتراف، ظهرت أنواع شتى من الاختلاف في الرأي حوله، ولم يكن أفراد الكنيسة في وضع يمكنهم حالاً من استيعاب التعليم الرسولي بعقولهم التي سبق أن تشربت تعاليم اليهودية أو الوثنية، ولاسيما لأن معظمهم كانوا من العامة الأميين. وقد عاشوا في مجتمع نشطت فيه وشاعت فيه كل أنواع الأفكار والتيارات الفكرية، فكانوا بالتالي معرضين دائماً لكثير من التجارب ومبادئ الضلال. حتى إننا نلاحظ أنه في أثناء حياة الرسل شقّ معلمو بدع شتى طريقهم إلى داخل الكنيسة وحاولوا زعزعتها عن ثبات عقيدتها. ففي كولوسي مثلاً قام من أساؤوا تفسير شخص المسيح وعمله وحولوا الإنجيل إلى ناموس جديد (كو 3:2 وما يليها و16 وما يليها) كما قام في كورنثوس بعض دعاة التحرر الذين أساؤوا استخدام الحرية المسيحية ودعوا إلى التحرر من كل قيد (1كو 12:6 ؛ 1:8). ويسوق الرسول يوحنا في رسالته الأولى محاجّةً موجّهة إلى قومٍ مزعومين أنبياء أنكروا أن المسيح جاء في الجسد، وبذلك طعنوا في حقيقة طبيعته البشرية (1يو 18:2 وما يليه ؛1:4 وما يليه ؛ 5:5 وما يليه).

وظلت الحال على هذا المنوال في عصر ما بعد الرسل. وبالحقيقة أن الضلالات والبدع تزايدت. منذ القرن الثاني فما بعد، تنوعاً وقوتاً وانتشاراً. فكان هنالك من آمنوا بطبيعة المسيح البشرية الحقيقة، وبولادته المعجزية، وبقيامته وصعوده. إلا أنهم اعتبروا أن ما هو إلهي فيه لا يعدوا كونه مقداراً فائقاً من مواهب الروح وقدراته. وقد اعتقدوا أن هذه القدرات وهبت له عند معموديته لتأهيله كي يؤدي مهمته الدينية الخلقية. وتأثر أتباع هذه الحركة بفكرة التأليه الطبيعي اليهودية حول علاقة الله بالعالم. فهم لم يستطيعوا التفكير بعلاقة بين الله والعالم غير تلك القائمة على المشاركة في المواهب والقدرات. وعلى ذلك، كان المسيح عندهم شخصاً غزير المواهب حقاً وعبقرياً دينياً، إلا أنهم قالوا بأنه كان إنساناً وظل إنساناً.

غير أن آخرين ممن نشأوا على الوثنية وجدوا أنفسهم أميل بالأحرى إلى فكرة تعدد الآلهة. فقد افتكروا أنهم يستطيعون جيداً أن يدركوا أن المسيح، بحسب طبيعته الجوهرية، ينبغي أن يكون واحداً من جمهرة الكائنات الإلهية أو ربما رأس تلك الكائنات. لكنهم لم يستطيعوا أن يصدقوا أنّ كائناً إلهياً صرفاً كهذا يمكن أن يكون قد اتخذ طبيعة جسدية مادية. وهكذا استبعدوا ناسوت المسيح الحقيقي وزعموا أنه جاء إلى الأرض، بصورة مؤقتة وفي المظهر فقط، إلى حدٍّ بعيد كما فعلت الملائكة غالباً بحسبما ورد في العهد القديم. هذان التياران الفكريان كلاهما، استمرّا كحركتين إلى يومنا الحاضر. فتارةً يضحى بلاهوت المسيح في سبيل ناسوته؛ وطوراً يضحى بناسوته في سبيل لاهوته. وثمة دائماً متطرفون يضحون بالجوهر في سبيل المظهر، أو بالمظهر في سبيل الجوهر. فهم لا يدركون أن بين الأمرين وحدةً وانسجاماً تاميّن.

غير أن الكنيسة المسيحية قامت منذ البدء على أساس آخر، إذ اعترفت باتحاد اللاهوت والناسوت في شخص المسيح على النحو الأوثق والأعمق، وبالتالي على نحو فريد تماماً. وقد عبرت رجالات الكنيسة في أوائل عهدها عن هذا الحق أحياناً بطريقة تعوزها البراعة. فقد كان عليهم أن يجاهدوا، أولاً ليُكَوّنوا مفهوماً واضحاً إلى حدٍّ ما بشأن هذا الحق، وليعبّروا عن ذلك المفهوم بلغة واضحة. ولكن الكنيسة بالرغم من ذلك لم تسمح لنفسها، ولأجل ذلك السبب، بأن تتزحزح عن قواعدها. بل إنها بالأحرى تجنبت التطرف إلى جانب أو آخر وتمسكت بتعليم الرسل في ما يتعلق بشخص المسيح.

ولكن حين يكون الشخص الواحد نفسه مشاركاً في الطبيعة الإلهية وإنساناً بكل معنى الكلمة أيضاً، يترتب على ذلك أن يبذل جهداً ما لتعريف الحقيقة، ولتحديد دقيق لكيفية اتصال ذالك الشخص باللاهوت والعالم في آن معاً. مع كل ما بذل من مثل هذا الجهد، ظهر أيضاً سبيل ضلالٍ وبدعة إلى اليمين وإلى اليسار.

بلغة أخرى، لما فُهمت وحدانية الله – وهي من حقائق المسيحية الأساسية – على نحوٍ اعتبرت معه كينونة الله محصورة في شخص الآب بصورة قاطعة جامعة مانعة، لم يبق متسع في فهم لاهوت المسيح. عندئذ دُفع المسيح إلى خارج دائرة اللاهوت، ووُضِع جنباً إلى جنب مع الإنسان، لأنه لا انتقال تدريجياً من الخالق إلى المخلوق. ومن ثم كان ممكناً أن يساير المرء بدعة آريوس في القول بأن المسيح في الزمان والمقام متفوّقاً على العالم أجمع، وأنه كان الأول بين الخلائق المخلوقة، وهو يفوقها مقاماً وكرامةً. على أن المسيح بموجب هذا الرأي لا يعدو كونه مخلوقاً. وعلى زعمه، كان وقت لم يكن المسيح فيه، ثم كان وقت أوجده الله فيه، شأنه شأن سائر الخلائق.

على أنه من السهل، في معرض التمسك بوحدانية الله مع منح شخص المسيح ما يستحقه من إكرام، أن يقع المرء في ضلالة أخرى، هي تلك المنسوبة إلى داعيتها الأول سابليوس. ففيما حصر آريوس كينونة الله في أُقنوم الآب، إذا جاز التعبير، ضحّى سابليوس بالأقانيم الثلاث كلها في سبيل كينونة الله. فبحسب تعليمه أن الأقانيم الثلاث، الآب والابن والروح، ليست حقائق أزلية تحتوي عليها كينونة الله، بل هي صور وتجليات بها يعلن الكائن الإلهي الواحد نفسه على مر العصور المتوالية، أي في العهد القديم، ثم في فترة إقامة المسيح على الأرض، ثم بعد يوم الخمسين. وقد كان لكلتا البدعتين مؤيدوها على مر العصور. فاللاهوت الفروننجي كما يسمى، مثلاً، جدد تعليم آريوس؛ واللاهوت العصري سار أولاً في طريق سابليوس.

وقد اقتضى الأمر كثيراً من الصلاة والجهاد من قِبل الكنيسة لتسلك سبيل الصواب وسط مثل هذه الضلالات كلها، ولاسيما لأن كلاً منها تبدلت وامتزجت بأنواع شتى من الاختلافات والتحويرات. غير أن الكنيسة ظلت أمينة لتعليم الرسل، بقيادة رجال عظام تميزوا بتقواهم ورجاحة عقولهم، فدعيُوا بالحق آباء الكنيسة. وفي مجمع نيقية عام 325م اعترفت الكنيسة بإيمانهم بالإله الواحد: بالآب الضابط الكل الخالق لكل شيء، ما يُرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح، ابن الله، الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، به كان كل شيء على السماء وعلى الأرض ؛......

ومع أن قانون الإيمان النيقوي هذا كان بالغ الأهمية، فهو لم يضع حداً للمنازعات العقائدية قط؛ بل على العكس أفسح في المجال أمام أسئلة جديدة وأجوبة مختلفة. فإنه وإن حدّدت الآن علاقة المسيح بكينونة الله وبعالم البشر، بالإشارة إلى أنه في شخصه مشارك في الاثنين وأنه إله وإنسان بالحق في ذات شخصه، ما كان ليهدئ السؤال عن كيفية تلك العلاقة بين هاتين الطبيعتين في شخص المسيح الواحد. وجواباً على هذا السؤال أيضاً، ذهب الناس مذاهب شتى.

فقد ارتأى نسطوريوس أنه إن كان للمسيح طبيعتان، فينبغي أن يكون فيه أيضاً شخصان، أو ذاتان، ولا يمكن توحيدهما إلا برباط معنوي كذلك الذي يحصل في زواج رجل بامرأة. وذهب أوطيخس، منطلقاً من تحديد مماثل للشخص والطبيعة، إلى أنه إن كان في المسيح أقنوم أو شخص واحد، أو ذات واحدة، فإن الطبيعتين ينبغي أن تكونا ممتزجتين ومنصهرتين بحيث تنتج منهما طبيعة واحدة فقط هي طبيعة إلهية إنسانية. وهكذا أكد نسطوريوس تمايز الطبيعتين على حساب وحدة الشخص أما أوطيخس فأكد وحدة الشخص على حساب ثنائية الطبيعة.

ولكن بعد نـزاع عنيف ومرير، تجاوزت الكنيسة هذه الخلافات ففي مجمع خلقيدونية عام 451م نصّت على أن شخص المسيح الواحد فيه طبيعتان، غير متغيرتين ولا ممتزجتين (ضد أوطيخس)، وغير منفصلتين ولا منقسمتين (ضد نسطوريوس)، وأن هاتين الطبيعتين تواجدتا جنباً إلى جنب، وحصل بينهما اتحاد في الشخص الواحد. وبهذا القرار الذي ناله في ما بعد توسيع وإكمال في مجمع القسطنطينية عام 680م، بخصوص نقطة واحدة محددة، حسم النـزاع الذي دام قروناً حول شخص المسيح. وخلال هذه النـزاعات حافظت الكنيسة على جوهر المسيحية، وطبيعة الدين المسيحي المطلقة، كما حافظت أيضاً على استقلالها.

من البديهي حقاً أن إقراريّ كل من نيقية وخلقيدونية لا يرقى إلى حد العصمة. فالمصطلحات التي تستخدمها الكنيسة لاهوتية في هذا الباب، كالشخص أو الأقنوم والطبيعة ووحدة الجوهر وما إلى ذلك، ليست نقلاً من الكتاب المقدس، بل هي حصيلة التفكير الذي كان على المسيحية أن توليه تدريجياً لسر الخلاص هذا. وقد اضطرت الكنيسة إلى التعمق والتفكير بهذا الموضوع من جرّاء البدع التي لاحت من جهة، سواء داخل الكنيسة أو خارجها. لا يقصد بها أن تفسر السر الذي يوجهها في هذه المسألة، بل بالأحرى أن تحافظ على نقائه وقدسيته في وجوه الذين يسعون إلى إضعافه أو إنكاره. فليس تجسد الكلمة معضلة ينبغي أن نحلها، أو نستطيع أن نحلها، بل هو بالأحرى حقيقة معجزية نعترف بها شاكرين كما يقدمها لنا الله في كلمته.

ولكن الإقرار الذي رسخته الكنيسة في نيقية وخلقيدونية، منظور إليها من هذه الزاوية، فهو ذو قيمة عظيمة. فقد ظهر كثيرون، ومازال حتى الآن كثيرون، ممن ينظرون بازدراء إلى عقيدة الطبيعتين، وهم ينظرون إليها بتشامخ، ويحاولون أن يُحلّوا محلها كلمات وتعابير مختلفة. وقد انطلق هؤلاء من القول: أي فرق يحدثه إقرارنا بهذه العقيدة أو عدمه؟ ما يهم أن لنا شخص المسيح المرتفع ممجداً وسامياً يفوق هذا الاعتراف غير الملائم. ولكن هؤلاء أنفسهم ما يلبثون أن يبدأوا يأتون بكلمات وتعابير يصفون بها شخص المسيح الذي يقبلونه. فلا أحد يمكنه أن يتجنب هذا الوضع، لأننا لا نستطيع أن ندّعي امتلاك ما لا نعرفه، فإن كنا نؤمن أن لنا المسيح، وأن لنا شركة معه، وأننا له، فلا بد إذاً من أن نعترف بهذا الإيمان بأفواهنا ونعبر عنه بكلمات وألفاظ وتعابير وأوصاف مختلفة. ثم إن التاريخ يخبرنا أن ألفاظ مهاجمي عقيدة الطبيعتين هي إلى أبعد حد أقل قيمة وقوة، وأنهم غالباً ما يتورطون فعلاً في الإساءة إلى التجسد كما يقدّمه لنا الوحي الإلهي.

وفي أيامنا مثلاً كثيرون ممن يعتقدون أن عقيدة الطبيعتين هي عبارة عن منتهى اللاعقلانية، ويكوّنون في أذهانهم صورة لشخص المسيح مختلفة تماماً. فهم لا يستطيعون أن ينكروا أن في المسيح ما يميزه عن سائر البشر ويرفعه إلى مقام أسمى منهم جميعاً. غير أنهم لا يعتبرون هذا العنصر الإلهي الذي يميزونه في المسيح مشاركة في الطبيعة الإلهية ذاتها، بل قدرة إلهية أو قوة حصل عليها المسيح بدرجة متفوقة على نحوٍ ممتاز. وعليه، فهم يميلون إلى القول أن للمسيح جانبين، واحد إلهي وآخر بشري؛ أو إنه يمكن النظر إليه من وجهتي نظر اثنتين، أو إنه عاش في حالتين متعاقبتين، هما حالة الاتضاع ثم حالة الارتفاع، أو إنه – مع كونه إنساناً – فبكرازته بكلمة الله وتأسيس ملكوت الله صار الوسيلة الفائقة والكاملة لإعلان الله، ولذلك استحق عندنا مقام الله. غير أنّ أيّ قارئ غير متحيز لا بد أن يرى أن هذه التعبيرات ليست فقط تعديلات كثيرة للغة الكنيسة، بل أنها أيضاً تجعل شخص المسيح شيئاً آخر غير الذي اعترفت به الكنيسة على مر العصور بناءً على شهادة الرسل.

فوق ذلك بأن المواهب والقدرات الإلهية تُعطى، بمعنى من المعاني، لكلٍّ واحد، لأن كل عطية صالحة وموهبة كاملة هي نازلة من فوق، من عند أبي الأنوار (يع 17:1). حتى إن المواهب غير العادية، كتلك التي كانت من نصيب الأنبياء مثلاً، لا ترفع هؤلاء الأنبياء فوق مستوى الكائنات البشرية. فالأنبياء والرسل كانوا أُناساً تحت الآلام مثلنا. فإن كان المسيح لم يحصل إلا على مواهب خارقة وقدرات فائقة فقط، فهو لا يعدو كونه كائناً بشرياً، ومن ثم لا يعقل أن يكون شيء مثل تجسد الكلمة قد حدث فيه. ولكنه عندئذ لا يمكن، على ما يذهب إليه قومٌ، أن يعادل الله بفضل قيامته وصعوده، ولا أن تكون له – على ما يقولون – مقام الله أو قدره عندنا. ذلك أن الفاصل بين الله والإنسان ليس تبايناً تدريجياً بل هوّة عميقة. فههنا علاقة خالق بمخلوق، والمخلوق – بطبيعة كيانه – لا يمكن أن يصير خالقاً البتّة، كما لا يمكن أن تكون له عندنا – نحن الخلائق البشرية – مكانة الخالق أو مقامه، في حين أن اتكالنا هو اتكال كليّ مطلق.

لذلك يجدر بنا أن نلاحظ أن بعض أبناء الجيل، بعد أن قارنوا جميع هذه المزاعم الجديدة في ما يتعلق بشخص المسيح بتعليم الكنيسة الذي هو تعليم الكلمة المقدسة، وقد توصّلوا إلى هذه النتيجة الخالصة: أن عقيدة الكنيسة – في نهاية المطاف – تُنصف عقيدة الكلمة المقدسة خير إنصاف. فالتعليم بأن المسيح ذو طبيعتين فعظيم هو سر التقوى، ليس حصيلة الفلسفة الوثنية، بل مؤسّس على شهادة الرسل.

فهذا هو يقينية سر الخلاص: أن ذاك الذي كان في البدء عند الله وكان هو الله (يو 1:1)، الكائن في صورة الله لكن لم يحسب كونه معادلاً لله حالة مختلسة أو غنيمة ينبغي التمسك بها (في 6:2)، الذي هو بهاء مجد الله ورسم جوهره (عب 3:1)، في ملء الزمان صار بشرياً (يو 14:1) وولد من امرأة (غل 4:4) ووضع نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس (في 7:2).

كان المسيح الله، هو الله، وسيظل هو الله إلى الأبد. ليس هو الآب، ولا الروح، بل الابن الوحيد الحبيب عند الآب، ليس هو الكائن الإلهي، بل هو أقنوم الابن. ولما صار في الهيئة كإنسان، وجال على الأرض كإنسان، بل أيضاً لما تألم في جيثسيماني وعُلّق على صليب الجلجثة، ظل هو ابن الله الحبيب الذي به سرّ الآب كل سرور. حقاً بالتأكيد ما يقوله الرسول، أن المسيح أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس (في 6:2، 7). إلا أنه من الخطأ أن يفهم من هذا، كما يحلو لبعضهم، أن المسيح في تجسّده، أي في حالة اتضاعه، جرّد نفسه من لاهوته كلياً أو جزئياً، فوضع جانباً سجاياه الإلهية ثم عاد فاتخذ تدريجياً في حالة ارتفاعه أو تمجيده. ولكن كيف يمكن أن يحصل ذلك ما دام الله لا يقدر أن ينكر نفسه (2تي 13:2) وهو المنـزه عن كل صيرورة وتحول بوصفه الصّمد غير المتغير؟ كلا، فإنه لما صار ما عليه، ظل أيضاً على ما كان عليه أي ابن الآب الوحيد. وهذا واقع ما يعنيه الرسول بقوله إن المسيح أخلى نفسه: أنه وهو في صورة الله اتخذ هيئة إنسان وصورة عبد. وفي وسعنا أن نعبر عن هذا بكلام بشري بسيط على النحو التالي: إن المسيح كان قبل التجسد مساوياً للآب لا في الجوهر والسجايا فقط بل كانت له أيضاً صورة الله. كان يشبه الله تماماً، إذ هو بهاء مجده ورسم جوهره. ولو استطاع أحد أن يراه، لكان رأى فيه الله حلاً. ولكن هذا تغير عند تجسده. فهو اتخذ عندئذ هيئة إنسان وصورة العبد. ومن كان ينظر إليه وقتئذ لا يقدر أن يرى فيه الابن الوحيد عند الآب، إلا بعين الإيمان. فهو قد وضع جانباً صورته الإلهية وبهائه، وحجب طبيعته الإلهية خلف صورة العبد. وعلى الأرض كان كواحد منا وشبيهاً لنا.

لذلك يتضمن التجسد أيضاً من الناحية الأخرى أن ذاك الذي ظل على ما كان، في الجسد. وقد صار هكذا عند نقطة من الزمن، في لحظة من التاريخ محددة، ساعة حل الروح القدس على مريم وظلّلتها قوة العليّ (لو 35:1) علماً بأن التجسد أعد له عبر الأجيال.

فإذا أردنا أن نفهم التجسد فهماً صحيحاً فإننا، نستطيع القول إن وجود الابن الأزلّ وخلق العالم كانا إعداداً لتجسيد الكلمة. وهذا لا يعني القول إطلاقا أن وجود الابن الأزليّ والخلق يحويان التجسد. إذ أن الكلمة المقدسة تربط دائماً تجسد الابن بالفداء من الخطية وإتمام الخلاص. ولكن وجود الابن الأزليّ والخلق، ولا سيما الإنسان على صورة الله، يبينان كلاهما أن مشاركة الله ممكنة، داخل الكينونة الإلهية بمعنىً مطلق، وخارجها بمعنىً نسبي. ولو لم يكن ذلك كذلك، لما كان ممكناً قط أن يتجسد الله. فكل من يعتقد أن تجسد الله مستحيل من حيث المبدأ، يُنكر أيضاً خلق العالم وتولّد الابن. وكل من يعترف بالخلق والتولد لا يمكن أن يكون له اعتراضٌ مبدئي على تجسد الله في طبيعة بشرية.

وقد تمّ الإعداد – على نحو أكثر مباشرة – لتجسد الكلمة، في الإعلان الذي تم بعد السقوط تواً، واستمر في تاريخ شعب العهد القديم، وبلغ ذروته في بركة مريم. فالعهد القديم هو تقارب مستمر من قبل الله نحو الإنسان، بالنظر إلى اتخاذ إياه مسكناً دائماً يحلّ فيه عند ملء الزمان.

ولما كان ابن الله الذي اتخذ طبيعة بشرية في مريم موجوداً قبل ذلك الزمان ومنذ الأزل باعتباره أقنوم الابن، فإن الحبل به في أحشاء مريم لم يحدث بمشيئة جسد ولا بمشيئة رجل، بل بتظليل الروح القدس لها. صحيح أن التجسد مرتبط بالإعلان الذي سبقه ومتمم له، غير أنه ليس بحد ذاته حصيلة للطبيعة أو البشرية. إنه عمل من أعمال الله وإعلانٌ منه، بل الإعلان الأسمى. وكما أن الآب أرسل الابن إلى العالم، والروح القدس ظلّل مريم، كذلك تماماً اشترك الابن نفسه معنا في اللحم والدم (عب 14:2). فقد كان التجسد عمل الابن الخاص، إذ أنه لم يكن غير عاملٍ فيه. فهو صار جسداً بملء إرادته وبعمله الخاص. ومن هنا يستبعد مشيئة الرجل، ويعد لنفسه طبيعة بشرية في أحشاء مريم بتظليل الروح القدس.

تلك الطبيعة البشرية لم يكن لها وجود سابق. فهي لم يؤتَ بها مع المسيح من السماء لتحبل بها مريم من الخارج – إذا جاز التعبير – وتنقلها من خلال جسدها. ويعلم معيدو العماد بهذا تشديداً منهم على تنـزه طبيعة المسيح البشرية عن الخطيئة. غير أنهم إذ يقفون هذا الموقف يسيرون على خطى الغنوصية أو الأدرية القديمة، وينطلقون من الاعتقاد أن الجسد والمادة هما شرٌ في ذاتهما. إلا أن الكلمة المقدسة، في التجسد، تؤكد أيضاً جودة الخلق ومصدر المادة الإلهي.

إن المسيح اتخذ طبيعته البشرية من مريم. وبحسب الجسد، هو من نسل داود ومن الآباء. ولذلك فهذه الطبيعة فيه هي طبيعة بشرية كاملة، مثلنا في كل شيء ما خلا الخطيئة. فما من شيء بشري كان غريباً على المسيح. ونكران مجيء المسيح في الجسد هو منطلق ضد المسيح (1يو 22:2).

وكما أن طبيعة المسيح البشرية لم تكن موجودة قبل الحبل في مريم، فهي كذلك لم تكن موجودة قبل ذلك بزمن، ولا بعده في زمن، في حالة انفصال عن المسيح. فالجنين الذي حبل به في مريم، ثم الطفل الذي ولد منها، لم ينمُ أولاً على نحو مستقل ليصبح إنساناً أو ذاتاً كي يتخذ المسيح من ثم ويتحد به. هذه البدعة أيضاً كان لها مناصروها في الأزمنة المبكرة والمتأخرة؛ غير أن الكتاب المقدس لا يقرأ شيئاً منها. فذلك القدوس الذي حُبل به في أحشاء مريم كان من البداية ابن الله، وقد أطلق عليه هذا الاسم منذ البداية (لو 35:1). إذ إنّ الكلمة لم يتحد فيما بعد بكائن بشري صار هو إيّاه، بل إنه صار جسداً (يو 14:1). ولذلك لم تقل الكنيسة المسيحية في اعترافها إنّ أقنوم الابن قد اتخذ شخصية بشرية بل بالأحرى طبيعة بشرية. فبهذه الطريقة وحدها يمكن الإبقاء على ثنائية الطبيعة ووحدة الشخص.

وآخر نقطة تستدعي انتباهنا في هذه المسألة، هي أن الكتاب المقدس يقدم لنا دائماً شخصاً واحداً في المسيح، وإن كان ينص بأوضح ما يمكن على أن المسيح كان هو الكلمة وأنه صار جسداً، وأنه بحسب الجسد جاء من الآباء ولكنه من حيث الجوهر هو الله الكائن على الكل مباركاً إلى الأبد. فالولد الذي ولد يدعى الله القدير والآب الأبدي (إش 6:9). وابن داود هو في الوقت عينه رب داود. والذي نـزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السماوات (أف 10:4). ومن هو من الآباء حسب الجسد، هو من حيث الجوهر الله الكائن على الكل مباركاً إلى الأبد (رو 5:9). وبينما هو يجول على الأرض، كان مع ذلك في السماء، وظل فيها، في حضن الآب (يو 18:1 ؛ 13:3). ومع أنه ولد في الزمان، وعاش في الزمان، فهو رغم ذلك كائن قبل إبراهيم (يو 58:8). وفيه يحل ملء اللاهوت جسدياً (كو 9:2).

و بالاختصار، تعزى إلى الشخص الواحد بعينه سجايا وأعمال إلهية وإنسانية، كما ينسب إليه الأزل والزمن، والحضور في كل مكان والمحدودية، والقدرة الخالقة لكل شيء والضعف الذي تتميز به المخلوقات. ولما كان هذا هو الواقع، فإن اتحاد الطبيعتين في المسيح لا يمكن أن يكون اتحاد شخصين. صحيح أن شخصين ما قد يتحدان أحدهما بالآخر عن طريق المحبة، ولكن لا يمكن البتة أن يصيرا شخصاً واحداً أو ذاتاً واحدة. وبالحقيقة أن المحبة تقتضي مشاركة شخصين وينتج منها وحدة أدبية معنوية وحسب. ولو كان اتحاد ابن الله بالطبيعة البشرية من هذا النوع، لكان يمكن في أفضل الحالات تمييزه – في الدرجة لكن ليس في النوعية- من تلك العلاقة التي تجمع بين الله وخليقته، ولاسيما أولاده. غير أن المسيح يحتل مكانة فريدة. فهو لم يتحد بالإنسان بطريقة معنوية، ولا اتخذ كائناً بشرياً موجوداً كشريك له، بل أعدّ لنفسه طبيعة بشرية في أحشاء مريم، وصار كائناً بشرياً وعبداً. فكما يقدر الكائن البشري أن ينمو من إحدى مراحل الحياة إلى سواها، ويستطيع أن يعيش ضمن دائرتين من دوائر الحياة في الوقت نفسه أو على التوالي، فكذلك تماماً – وبالمشابهة – جال المسيح على الأرض في صورة عبد وهو الكائن في صورة الله. ولم يكن الاتحاد الذي نتج من تجسده اتحاداً معنوياً بين شخصين، بل اتحاد طبيعتين في الشخص الواحد بعينه. فالرجل والمرأة، مهما كانا متحدين بالمحبة، يظلان شخصين اثنين. والله والإنسان، وإن اتحدا بأوثق عرى المحبة، يبقيان مختلفين في الجوهر. ولكن المسيح الإنسان هو بعينه الكلمة الذي كان في البدء عند الله وكان هو الله. فاتحاد الله هذا بالإنسان هو أمر فريد لا مثيل له ولا يُسبر غوره. وبداية كل حكمة ونهايتها أن الكلمة صار جسداً، وحل بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً (يو 14:1).

وهكذا تُعزى إلى المسيح، في وحدة شخصه مع اتحاد الطبيعتين فيه، جميع الصفات والقدرات ذات الصلة بهما. وقد حاول بعضهم أن يطلعوا باتحاد للطبيعتين أقوى وأوثق إذ قالوا بأن هاتين الطبيعتين، عند التجسد مباشرةً، انصهرتا في طبيعة واحدة إلهية إنسانية، أو أن الطبيعة الإلهية جردت نفسها من خصائصها وتنازلت إلى حدود الطبيعة البشرية، أو بأن الطبيعة البشرية فقدت ميزاتها وتلقت مميزات الطبيعة الإلهية (سواءٌ كان كلها، أو بعضها – مثل الحضور في كل مكان والقدرة على كل شيء والعلم بكل شيء وقوة الاحياء). إلا أن إقرار الإيمان لدى الكنيسة المصلحة طالما رفض وقاوم فكرة انصهار الطبيعتين في طبيعة واحدة، شأنها شأن القول بانتقال خصائص الطبيعة الواحدة إلى الأخرى. وإن هذا الرأي في الطبيعتين قد أفضى إلى مزجهما وخلطهما، وبالتالي إنكار الفرق في الجوهر بين الله والإنسان، والخالق والمخلوق، وذلك على نحو يوافق القول بوحدة الوجود.

صحيح أنّ بين الطبيعتين وخصائصهما وقدرتهما علاقة وثيقة. غير أنها علاقة تبرز إلى الوجود في وحدة الشخص. ولا يمكن تصور اتحاد أقوى وأوثق. كما أن النفس والجسد- على سبيل المقارنة لا المساواة بينهما – متحدان في شخص واحد ومع ذلك يظلان متميزين أحدهما عن الآخر من حيث الجوهر والخصائص، فكذلك حال المسيح حيث الشخص الواحد هو موضوع كلتا الطبيعتين. وتمايز النفس والجسد افتراض وشرط للاتحاد الداخلي بين الاثنين في الكائن البشري الواحد بعينه. كذلك أيضاً تمايز الطبيعتين الإلهية والإنسانية شرط وأساس لاتحادهما في المسيح. أما انصهار الطبيعتين في طبيعة واحدة، وانتقال الخصائص من طبيعة إلى أخرى، فلا يوطدان علاقة أوثق بل يؤديان إلى امتزاج أو اندماج، ويضعفان بالحقيقة الملء الذي في المسيح. فهما ينقصان إما من الطبيعة الإلهية وإما من الطبيعة البشرية أو كلتيهما معاً، ويضعفان كلمة الوحي القائلة أنه فيه- أي في المسيح- يحل ملء اللاهوت جسدياً (كو 9:2 ؛ 19:1). ولا يحافظ على ذلك الملء إلا إذا كانت الطبيعتان متميزتين إحداهما عن الأخرى، وغير ناقلتين خصائصهما ومزاياهما بعضهما إلى بعض، بل بالأحرى واضعتين إياها في خدمة الشخص الواحد. وهكذا هو المسيح الواحد الغني دائماً؛ من يستقطب في اتضاعه وارتفاعه الخصائص والقدرات العائدة لكلتا الطبيعتين وهو الذي يستطيع بهذه الوسيلة على وجه التحديد أن يجري تلك الأعمال التي تتميز- بوصفها أعمال الوسيط- عن أعمال الله من جهة، وعن أعمال الإنسان من جهة، تلك الأعمال التي تحتل مكاناً فريداً في تاريخ العالم.

بعقيدة الطبيعتين هذه يتسنى لنا أن نرى كل ما تقوله كلمة الله المقدسة عن شخص المسيح وكل ما تعزو إليه إنما هو في مكانه الصحيح. فمن جهة يتبين أن المسيح كان ويبقى ابن الله الوحيد والأزلي الذي – مع الآب والروح – قد صنع كل الأشياء وهو حامل لها ومسيطر عليها، والذي له أن يظل بالتالي غرض سجودنا. وقد كان هو غرض السجود أيضاً في أيام الرسل، كما كان آنذاك ومازال الآن غرض الإيمان وموضع الثقة لجميع أتباعه. ولكن لا يمكن أن يكون هكذا ما لم يكن هو الله حقاً، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد (مت 10:4). فلا يعقل أن يكون أساس التعبد للمسيح شيئاً آخر سوى طبيعته الإلهية، حتى إن من ينكر هذه ويبقى على عبادة المسيح يأثم بتأليه المخلوق وبالوثنية. فليس لاهوت المسيح عقيدة مجردة بل هو أمر مهم للغاية بالنسبة إلى حياة الكنيسة.

ومن جهة أخرى نرى أن المسيح صار إنساناً حقاً وإنساناً متكاملاً، مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية. فقد صار طفلاً فولداً فشاباً فرجلاً، وقد نما في الحكمة والنعمة عند الله والناس (لو 40:2، 52). وهذا كله ليس مجرد مظهر ووهم – كما يُضطر أن يقول أولئك الذين يزعمون أن الخصائص الإلهية تنتمي إلى الطبيعة البشرية – بل هو الحق كل الحق. فقد خبر المسيح تقدماً تدريجياً أو نمواً مطرداً، في الجسد وفي قوى النفس وفي النعمة عند الله والناس. وهو لم يعطى مواهب الروح دفعة واحدة، بل على التوالي وبمقدارٍ متزايدٍ دائماً فكان ثمة أشياء ينبغي أن يتعلمها ولم يكن يعرفها بادئ بدء (مر 32:13 ؛ أع 7:1). ومع أنه كان يمتلك كياناً لا يمكن أن يخطئ، فقد كان عنده – بسبب طبيعته الإنسانية الضعيفة – احتمال بأن يُجرَّب ويتألم ويموت. وطوال إقامته على الأرض لم يكن بطبيعته الإنسانية في السماء، ومن هنا فهو أيضاً لم يحيَ بالعيان بل بالإيمان. وقد جاهد وتألم، وفي ذلك كله تمسك بكلمة الله ووعده بكل ثبات. وهكذا تعلّم الطاعة مما تألم به، مقيماً دائماً على الطاعة، وبذلك قدّس ذاته. وفي هذا ترك لنا مثالاً، وفي الوقت عينه صار مصدر خلاص أبدي لجميع الذين يطيعونه (عب 9:5).

  • عدد الزيارات: 545