تطور الاعتقاد بشأن العشاء الرباني، وأثره في كيفية ممارسة هذا العشاء
رأينا فيما سلف أن العشاء الرباني ليس ذبيحة. وأن القسوس في العصر الرسولي، كانوا لا يعتبرون أنفسهم رؤساء على المؤمنين أو قادة لهم في العبادة، بل أخوة لهم يشتركون معهم فيها جنباً إلى جنب- لكن لم ينته النصف الأول من القرن الثاني، حتى أخذت نظرة بعض المسيحيين تتغير من جهة ماهية العشاء الرباني، ومن جهة مركز القسوس تبعاً لذلك، كما يتضح مما يلي:
1-أخذ المسيحيون ابتداء من منتصف القرن الثاني تقريباً يفكرون في قول الوحي عن المسيح إنه بارك، قبل تقديم خبز العشاء الرباني لتلاميذه (متى26: 26، مرقس14: 22). وفي معنى قوله عن الخبز والخمر اللذين استعملهما في هذا العشاء، إنهما جسده ودمه. فرأى فريق منهم أن الخبز والخمر لا بد أنهما يتحولان إلى جسد المسيح ودمه على نحو ما، ويكونان تبعاً لذلك ذبيحة. ورأى الفريق الآخر أن حديث المسيح عن الخبز والخمر هو حديث مجازي فحسب، وأن كلمة "بارك" في هذا المجال لا تعني أكثر من "شكر"، كما ذكرنا في الباب الأول من هذا القسم.
2-وقد نشأ عن الاختلاف من جهة ماهية العشاء الرباني، اختلاف بين القسوس من جهة مركزهم بالنسبة إلى باقي المؤمنين. فالذين لم يؤمنوا منهم بالتحول ظلوا على الاعتقاد بأنهم لا يزيدون عن كونهم أخوة لباقي المؤمنين، لأنهم وإياهم مخلصون بالنعمة المجانية مثلهم (أفسس2: 8)، وأعضاء جسد المسيح الروحي معهم (أفسس5: 30)، كما ظلوا على الاعتقاد بأن خدمة القسوسية التي أسندت إليهم، لا تجعلهم أقرب إلى الرب من هؤلاء المؤمنين. لأن هذا الاقتراب ليس مؤسساً على المراكز الدينية، بل على كفارة المسيح من جهة الامتياز، وعلى الحياة الروحية من جهة المسئولية- وذلك الامتياز هو لجميع المؤمنين، وهذه المسئولية عليهم جميعاً القيام بها. ومن ثم كانوا لا يتفردون بالصلاة في اجتماع العشاء الرباني (أو غيره من اجتماعات العبادة)، بل كانوا يشتركون فيها جنباً إلى جنب مع غيرهم من المؤمنين، وذلك تحت قيادة الروح القدس وإرشاده، كما كانت الحال في العصر الرسولي.
3-أما القسوس الذين قالوا بالتحول، فقد اعتبروا أنفسهم كهنة. وكان أول من قال بذلك شخص يدعى كبريانوس سنة 258م. كما اعتبروا أنفسهم رؤساء على المؤمنين وأقرب إلى الله منهم، ولذلك أخذوا يتقدمونهم في الصلاة أو يقومون بمعظمها عوضاً عنهم، كما كان يفعل رجال الدين في الأديان الأخرى. ويتضح هذا من القول المنسوب إلى أغناطيوس: "صلاة العشاء الرباني التي تتم برياسة الأسقف[1]هي وحدها، الصلاة القانونية.وبدونها لا يكون هذا العشاء مقبولاً لدى الله" والمنسوب إلى غيره "إذا وقفتم (للصلاة)، وقف الرؤساء (يقصد الأساقفة أو القسوس) أولاً، ثم الرجال والنساء" (الدسقولية وتاريخ الآباء في القرون الثلاثة الأولى).
ولعل الغرض من إسناد صلاة العشاء الرباني إلى الأساقفة وحدهم كان إيجاد جو من النظام البشري الظاهري في الاجتماعات الدينية الرئيسية (لأنها كانت تتكون وقتئذ من أشخاص حديثي الخروج من اليهودية والوثنية، لم يكونوا قد أدركوا بعد ماهية الحرية الروحية في العبادة المسيحية. ومن ثم كان من الجائز أن يستغلوا هذه الحرية في ترك العنان لأفكارهم الشخصية في الصلاة، فتضطرب اجتماعات العبادة وتسودها الفوضى، ولكن وإن كان هذا الغرض طيباً من جهة النظر البشرية، بيد أنه من الخطأ الفاحش أن ندخل نظاماً في العبادة لا يتفق مع كلمة الله، إذ أن هذه تنص بكل صراحة على أن لكل واحد من المؤمنين الحرية للتعبير عما في نفسه من حب وإكرام للرب، وذلك بإرشاد الروح القدس وقيادته كما ذكرنا. وإذا كان هناك أفراد لا يقدرون هذه الحرية، فالواجب ليس إلغاءها، بل توضيح حدودها لهم بكل الطرق الممكنة. وإذا استغلوا الحرية المذكورة بعد ذلك في التظاهر والتفاخر، يمكن توجيه الإنذار اللازم إليهم كما أعلن الوحي (رومية15: 14).
4-وبعد ذلك أخذ رجال الدين المذكورين يعزلون أنفسهم عن باقي المسيحيين، كما كان يفعل رجال الأديان الأخرى بالنسبة إلى أتباعهم، فأطلقوا على أنفسهم اسم "إكليروس" وهي كلمة يونانية معناها "النصيب أو الميراث"، قاصدين بذلك أنهم وحدهم نصيب الله وميراثه الخاص. وأطلقوا على الذين لم ينخرطوا في سلكهم اسم "لاؤس" أي الشعب أو العامة- مع أننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس نرى أن اسم "إكليروس" بمعنى "النصيب أو الميراث"، يطلق على جميع المؤمنين الحقيقيين في العهد الجديد (أفسس1: 18)، وفي العهد القديم أيضاً (1ملوك8: 51).
5-ولما كثر عدد القسوس استحسنوا أن يقيموا رئيساً لهم، يتصف بصفة خاصة بالرزانة والحكمة والتقوى، لكي يرتب لهم أعمالهم ويقضي على كل خلاف يمكن أن يقوم بينهم، وقد أطلقوا على هذا الرئيس وحده اسم "الأسقف"، مع أن الأسقف في العصر الرسولي، كان هو القسيس بعينه كما ذكرنا. ولما انتشرت المسيحية في أقطار كثيرة، وازداد عدد الأساقفة في كل قطر منها، استحسنوا أن يقيموا عليهم جميعاً رئيساً يكون أيضاً أكثرهم رزانة وحكمة وتقوى، وذلك لكي يجمع صفوفهم ويرأس اجتماعاتهم، وقد أطلقوا على هذا الرئيس اسم "رئيس الأساقفة" أو "البطريرك" والاسم الأخير كان يطلق على كل من إبراهيم واسحق ويعقوب وداود عند اليهود.
ولما أصبح القسوس كهنة في القرن الثالث كما ذكرنا، كان من البديهي أن يصبح البطريرك رئيس كهنة. ولذلك أخذ مركزاً يعادل مركز هرون (الذي أقامه الله رئيساً لكهنة اليهود قديماً[2]) من بعض الوجوه، كما أخذ كهنته مركز كهنة العهد القديم- فقد قال موسهيم "ومذ فاز الناس الذين بيدهم زمام الكنيسة بإقناع الشعب أن يعتبروهم كخلفاء لكهنة اليهود. حصلوا على جانب عظيم من الكرامة. ومن ثم جعلوا بين المعلمين فرقاً أكثر مما تقتضيه حقيقة الديانة المسيحية" (تاريخه ص64و 72و 73).
6-أما الشعب فبسبب انهماكه في الأعمال الدنيوية من جهة، وعدم درايته بكلمة الله من جهة أخرى، فقد قبل هذا التطور الديني كما أهمل امتيازاته الطيبة التي كان يتمتع بها المؤمنون فيما سلف من جهة حرية العبادة في حضرة الرب، والتي ذكرنا شيئاً عنها فيما سلف. فازداد بذلك نفوذ رجال الإكليروس وجمعوا السلطة في أيديهم، وأصبحوا هم الذين يقومون بكل الخدمات الدينية. ومن ثم لم يعد الشعب إزاءهم إلا متفرجاً أو تابعاً تقريباً.
65-كان الأسقف هو القسيس بعينه في أول الأمر، كما ذكرنا فيما سلف.
66-ومما يثبت ذلك أنه جاء في صلاة الشكر بالقداس لدى القائلين بالكهنوت الحرفي "يا كل حكماء إسرائيل، صانعي خيوط الذهب، اصنعوا ثوباً هارونياً لائقاً بكرامة كهنوت أبينا المكرم رئيس الكهنة (فلان) حبيب المسيح". وجاء في الألحان السابقة "للبوليس"، أو بالحري الأصحاح الذي يقرأ من رسائل بولس الرسول: "هذه المجمرة الذهب النقي حاملة العنبر التي في يد هرون الكاهن يرفع بخوراً على المذبح" قاصدين بـ "هرون" رئيس الكهنة لديهم.
- عدد الزيارات: 2803