Skip to main content

كيفية ممارسة العشاء الرباني في العصر الرسولي

1-من جهة المظهر العام لممارسته: كان المؤمنون في العصر الرسولي يعتقدون أن العشاء الرباني هو فقط تذكار كريم لموت المسيح كفارة عن البشر كما ذكرنا فيما سلف، ومن ثم لم يكن يخطر ببالهم مطلقاً أن هذا العشاء يتحول فعلاً إلى ذات جسد المسيح ودمه. وبناء عليه نرى:

(أ)-أن الرسل لم يشيدوا لممارسة العشاء الرباني بناء خاصاً يدعى هيكلاً، أو أقاموا مذبحاً ليضعوا عليه هذا العشاء، بل كانوا يقومون به في بيوت عادية، وطبعاً على موائد الطعام العادية التي فيها (أعمال2: 42).

(ب)-أنهم كانوا يمارسون العشاء الرباني دون أن يلبسوا ملابس خاصة، أو يستعملوا شموعاً أو بخوراً أو طقوساً أياً كان نوعها. كما أنهم لم يصلوا بنغمة معينة أو استعملوا آلات موسيقية مثل الدفوف والصنوج. ولم يقسموا المؤمنين إلى فرق كقسوس وشمامسة، لتقوم كل فرقة بدورها في العبادة. فضلاً عن ذلك فإن الخبز والخمر اللذين كانوا يستعملونها في هذا العشاء لم يكونا من نوع خاص، بل كانا يؤخذان من الخبز والخمر العاديين اللذين كان المؤمنون يأتون بهما إلى ولائم المحبة (كتاب الخريدة النفسية ج1 ص147).

(ج)-أنهم، مع باقي المؤمنين، كانوا يعبدون الله بنفس واحدة (أعمال2: 1)، بعيداً كل البعد عن الرياسة الدينية التي نشاهدها في الوقت الحاضر. كما أن قول الرسول للمؤمنين "إذاً يا إخوتي. حين تجتمعون للأكل (من عشاء الرب) انتظروا بعضكم بعضاً[1]"(1كورنثوس11: 33)، يدل على أنه لم يكن هناك بين المؤمنين شخص مسئول يناول بيده المشتركين في هذا العشاء، لأنه لو كان هناك مثل هذا الشخص، لكان الرسول قد أوصاه وحده أن ينتظر، حتى يحضر جميع المشتركين. ومن ثم فالعشاء الرباني كان يوضع بين أيدي المؤمنين جميعاً، وكانوا هم الذين يوزعونه بينهم وبين أنفسهم، وهم في حالة الشركة الروحية مع الرب، والخضوع القلبي لإرشاد الروح القدس لهم.

(د)-أخيراً إن قول الرسول "ولكن ليمتحن الإنسان نفسه، وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس" (1كورنثوس11: 28)، يدل على أنه لم يكن في العصر الرسولي شخص مسئول كالكاهن (مثلاً) يعترف المؤمنون أمامه بخطاياهم، حتى يصرح لهم بالاشتراك في هذا العشاء، بل أن كل واحد منهم كان يمتحن نفسه أمام الله. فإن وجد خطأ في تصرفه، اعترف به أمام الله، ثم ندم لارتكابه، واضعاً في قلبه ألا يعود إلى مثله. وبعد ذلك يشترك من تلقاء نفسه في العشاء المذكور، بما يتفق مع قدسية الذكرى التي يدل هذا العشاء عليها، وذلك تحت مسئوليته الشخصية.

2-من جهة رفع الشكر لله: بالرجوع إلى الكتاب المقدس، لا نعثر على عبارة من عبارات الشكر[2]التي رفعها مرة واحدة من الرسل لله، عند ممارسة العشاء الرباني. ويرجع السبب في ذلك إلى أنهم لم يعملوا صيغة ما للشكر يجب استعمالها عند ممارسة العشاء المذكور، بل كانوا يقومون بهذا الشكر بإرشاد الروح القدس[3]وقيادته. ومن ثم كان الشكر يختلف من رسول لآخر، بل ومن وقت لآخر، حتى بالنسبة إلى الرسول الواحد[4]،وذلك تبعاً لإرشاد الروح القدس. فضلاً عما تقدم، فإن الله لا يريد أن نستعمل عبارات الشكر التي نطق بها آخرون، لئلا تصبح عبادتنا عبادة تقليدية آلية لا قيمة لها في نظره، إذ أن العبادة التي تسره هي الصادرة من قلوب متأثرة فعلاً بنعمته، بواسطة عمل الروح القدس فيها كما ذكرنا. وكلمة "له" التي تتكرر أربع مرات في الآية "متى اجتمعتم، فكل واحد منكم، له مزمور (د) له تعليم، له لسان، له إعلان، له ترجمة" (1كورنثوس14: 26)، مع القول "كل واحد منكم..."، تدل فيما تدل عليه، على أنه لم يكن في ذلك العصر شخص ما ينفرد بالشكر، بل أن كل مؤمن كانت له الحرية، يعمل الروح القدس في نفسه، للتعبير عما يشعر به من حب وإكرام لله. ولا غرابة في ذلك، فالعلاقة بين كل واحد منا وبين الله، يجب أن تكون علاقة شخصية مباشرة، وإلا فلا معنى للصلاة له.

3-من جهة الوعظ والتعليم: وهذان لم يكونا في العصر الرسولي وقفاً أيضاً على أشخاص معينين، بل كانت تعطي حرية القيام بهما لكل الذين نالوا مواهب روحية من الله، تحت إرشاد الروح القدس وقيادته. فقد قال الرسول للمؤمنين "ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا. أنبوة فبالنسبة إلى الإيمان، أم خدمة ففي الخدمة أم المعلم ففي التعليم، أم الواعظ ففي الوعظ..." (رومية12: 6- 8). ومن ثم كان المؤمنون (كما يعلن الوحي) يعظون بعضهم بعضاً، ويعزون بعضهم بعضاً، ويبنون أحدهم الآخر (عبرانيين10: 25، 1تسالونيكي5: 11). فضلاً عن ذلك فإن أصحاب المواهب كانوا ينظرون إلى المواهب التي أعطاها الله لهم، ليس كوسيلة للفخر أو التباهي أو السيادة على المؤمنين، بل كوسيلة لخدمتهم وإفادتهم (1بطرس4: 10 -11).

أما القول (إن فتح المجال أمام المؤمنين عامة للصلاة والترنيم والوعظ والتعليم، دون رئيس منظور يقودهم وينظم عبادتهم، لا بد أنه يؤدي إلى الفوضى بينهم) فلا مجال له. لأن المسيح يوجد بلاهوته في وسط المؤمنين الحقيقيين، الذين يجتمعون باسمه (متى18: 20). ووجوده بلاهوته في وسطهم، ليس مجرد عقيدة دينية، بل إنه حقيقة واقعة، ومن ثم فإن هؤلاء المؤمنين عندما يكونون خاضعين بقلوبهم له، يشعرون جميعاً بالهيبة التي تلازم حضوره في اجتماعهم باسمه. وتبعاً لذلك لا يجرؤ واحد منهم في هذا الاجتماع على الاندفاع والتسرع. نعم إن الحرية مكفولة لهم جميعاً للقيام بالصلاة والتسبيح والوعظ والتعليم، لأنه حيث روح الرب فهناك حرية (2كورنثوس3: 17). لكن هذه الحرية ليست لهم بل للروح القدس العامل فيهم، ومن ثم لا يكون هناك مجال للفوضى بينهم على الإطلاق.

والاجتماع باسم الرب ليس مقصوراً على جماعة خاصة من المؤمنين الحقيقيين، بل إنه من امتيازهم جميعاً في كل زمان ومكان. لكن يجب ألا يغيب عنا أنه ليس كل من يجتمعون منهم ليصلوا، أو لينشدوا بعض الترانيم الروحية أو ليتأملوا في بعض الآيات الكتابية، يكونون مجتمعين باسم الرب، لأن الاجتماع باسم الرب يراد به أولاً وقبل كل شيء، تقابل نفوس المؤمنين الحقيقيين مع الرب على أساس الإيمان الحقيقي بحضوره، ووجودها في حالة الخضوع التام لرياسته، وذلك لأجل تمجيده والتمتع به والإفادة منه.

كما أنه ليس كل من يصلي صلاة مؤثرة أو يلقي عظة بليغة، يكون منقاداً بالروح القدس، إذ من المحتمل جداً أن يكون منقاداً في هذه وتلك بالحماسة أو الفصاحة البشرية فحسب، لأنه لا يستطيع القيام بالصلاة والوعظ بالروح القدس، إلا من كان مملوءاً به ومنقاداً به في حياته اليومية، إذ أن الإناء ينضح بما فيه، فالينبوع العذب يخرج ماء عذباً، والشجرة الجيدة تعطي ثمراً جيداً.

4-أثر تعيين القسوس في ممارسة العشاء الرباني: (أ) إن القسوس الذين عينهم الرسل في بعض الكنائس[5]لم يكونوا كهنة بالمعنى الحرفي، كما ذكرنا فيما سلف. ولذلك كانوا يشتركون في العبادة جنباً إلى جنب مع باقي المؤمنين، وإذا كانوا أصلاً من أصحاب المواهب الروحية، فطبعاً كان لهم أن يستخدموا مواهبهم داخل هذه الاجتماعات، جنباً إلى جنب غيرهم من أصحاب المواهب المذكورة.

(ب)-أما من جهة تصرفات القسوس العامة، فإنهم مع تقدمهم في السن واختباراتهم في حياة الإيمان وأهمية المواهب التي يمكن أن يكونوا قد أخذوها من الرب، كانوا يعيشون مع باقي المؤمنين في أول الأمر، لا حياة الرياسة والسيادة، بل حياة التواضع والوداعة. وذلك عملاً بقول المسيح لتلاميذه "وأما أنتم فلا تدعوا (من أحد) سيدي لأن معلمكم واحد المسيح، وأنتم جميعاً أخوة" (متى23: 8- 11)، وعملاً أيضاً بقول الرسول إن الأسقف يجب ألا يكون معجباً بنفسه (تيطس1: 7)، وإن القسوس يجب أن يقوموا بعملهم ليس لربح قبيح بل بنشاط، وليس كمن يسود على الأنصبة[6]، بل صائرين أمثلة للرعية (1بطرس5: 1- 3)، وبقوله عن نفسه "فإني إذ كنت حراً من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين" (1كورنثوس9: 19)، ومن ثم فإن العبادة، مع وجود القسوس (والشمامسة أيضاً) كانت تسير في اجتماع العشاء الرباني وغيره من اجتماعات العبادة (كما كانت تسير قبل تعيينهم) تبعاً لقيادة الروح القدس وحده.

(ج)-هذه هي حالة الاجتماعات في القرن الأول، وفيها تتجلى البساطة الروحية التي لم يتدخل فيها الفكر البشري بتنظيماته المتعددة. وبساطة مثل هذه لها قدسيتها الخاصة أمام الله، لأن هذه القدسية ليست في الأبنية الشاهقة، أو الملابس المزركشة، أو الطقوس المنمقة، أو الأصوات الرخيمة، بل إنها في حضور الرب وبسط هيبته على الاجتماعات الروحية. لذلك كانت هذه الاجتماعات تسير ببركة الرب، وكانت تنمو وتزداد، وكان الرب يضم كل يوم إلى الكنيسة الذين يخلصون (أعمال2: 47).


59-ويرجع السبب في الانتظار المذكور إلى ثلاثة أمور: (الأول) إن هذا العشاء يدل، فيما يدل عليه، على وحدة المؤمنين الروحية في المسيح، (الثاني) إنه ليس عشاء واحد أو جماعة منهم بل هو عشاء الرب، وما هم إلا ضيوف لديه والضيوف، لاسيما الضيوف لدى الرب، يجب أن يحافظوا على الهدوء والتريث أمامه، فلا يتسرع أحدهم بالتناول من هذا العشاء قبل حضور باقي المشتركين فيه. (الثالث) إن جمع المؤمنين الحقيقيين كانوا أمواتاً بالذنوب والخطايا ومعرضين للهلاك الأبدي، وأنهم أيضاً جميعاً خلصوا من هذا الهلاك وذلك الموت بواسطة كفارة المسيح دون غيرها، ولذلك ليس هناك فضل لبعضهم على البعض الآخر أمام عشاء الرب، لأنه تذكار لهذه الكفارة.

60-إن فرصة ممارسة العشاء الرباني فرصة صلاة لأجل المرضى والمتألمين وغيرهم، بل إنها من أولها إلى آخرها شكر لله. لأننا في هذه الفرصة لا نضع أمامنا إلا محبة المسيح وفداءه الكريم الذي قام به على الصليب لأجلنا. ومن ثم لا يكون هناك مجال أمامنا وقتئذ للانشغال بظروفنا أو ظروف الناس. أما الصلاة من أجل هذه وتلك، فتكون في أوقات الصلاة الفردية، أو في اجتماعات الصلاة العامة. وقد عرف هذه الحقيقة الأتقياء منذ القديم فقال ذهبي الفم عن العبادة التي ترفع عند ممارسة العشاء الرباني إنها "صلاة شكرية" (مواعظه ص203). وقال أغناطيوس من قبله "فاسمحوا لهم أن يشكروا بقدر ما يريدون" (تاريخ الآباء في القرون الثلاثة الأولى ص28).

61-وقد عرف هذه الحقيقة كثيرون من أتقياء القائلين بالكهنوت بالمعنى الحرفي. فقد قالوا "الآن نترك لك مطلق الحرية لتصلي كيفما تريد. فقط حاول أن تكرس أوقات يقظتك لله وأن تسلم نفسك لإرادته" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 459).

62-فقد قال أيضاً الأتقياء المذكورون في الحاشية (2): "يجب أن لا نقول في كل صلاة، ما نقوله في الأخرى. وأن لا نقول صلاة واحدة محفوظة في سائر الأوقات التي نجتمع فيها... بل نقول في كل وقت ما يليق به من صلاة" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 607).

63-كانت هذه الكنائس بصفة عامة، مكونة من يهود وغيرهم من الأجناس، وقد أقامهم الرسل بسبب ما كان ينشب من هؤلاء وأولئك من نزاع.

64-كلمة "أنصبة" هنا، يراد بها المؤمنون أنفسهم، بوصفهم "ميراث الله ونصيبه". فقد اختارهم من العالم لنفسه (2صموئيل21: 3، 1ملوك8: 51). ولذلك يطلق عليهم رعيته (1بطرس5: 2)، وليس رعية القسوس (أو الأساقفة) ومن ثم لا يجوز لهؤلاء أن يسودوا عليهم.

  • عدد الزيارات: 3201