الحجج التي يقال بورودها في العهد الجديد، والرد عليها
الباب الثاني: الحجج القائلة بوجوب كهنة بالمعنى الحرفي في العصر المسيحي يكونون خلفاء للمسيح في كهنوته، الرد عليها
1-(إن حرف الكاف، في كلمة "ككاهن" الواردة في قول الرسول عن نفسه "مباشراً لإنجيل الله ككاهن" (رومية15: 16)، ليس له وجود في النسخة اليونانية التي هي النسخة الأصلية للكتاب المقدس. ولذلك فإن الرسول المذكور لم يكن ككاهن، بل كان كاهناً_ وهذا دليل على وجود كهنة بالمعنى الحرفي في العهد الجديد).
الرد: (أ)-إذ قابلنا بين النسخة اليونانية للكتاب المقدس، وبين أي ترجمة لها، يتضح لنا أن بعض المترجمين اضطروا إلى استعمال الحرف المذكور، لكي يوضحوا المعنى الوارد في الأصل اليوناني. لأن الكلمة اليونانية المترجمة إلى العربية "ككاهن"، ليست هي "هيرؤس"، أي "كاهن" بالمعنى الحرفي (كما هي الحال في الآية "اذهب أرِ نفسك للكاهن" الواردة في (متى8: 4)، وغيرها من الآيات مثل (متى12: 4، مرقس1: 44، لوقا1: 5، أعمال14: 13، عبرانيين7: 17، 10: 21)، بل إنها "هيرورجو"- وهذه الكلمة لا يراد بها "كاهن بالمعنى الحرفي"، بل "الشخص الذي له امتياز الخدمة لله"[1]، كما كان يفعل الكاهن في هيكل الله في العهد القديم[2].
(ب)-ولذلك قال الكاثوليك في ترجمتهم العربية لهذه الآية "وأباشر خدمة إنجيل الله الكهنوتية". ووصف خدمة الإنجيل بأنها كهنوتية, لا يدل على أن الشخص القائم بها كاهن (بالمعنى الحرفي) يناط به تقديم ذبيحة كفارية لله، بل يدل على أن هذا الشخص يؤدي الخدمة المذكورة لله بكل تقوى وقداسة، كما كان يفعل الكاهن في العهد القديم، وبالنسبة إلى الذبائح، لأن المناداة بالإنجيل هي خدمة روحية محض. وقالوا هم أنفسهم في ترجمتهم الإنجليزية (مثلاً) للآية المذكورة ما تعريبه "حتى أخدم إنجيل الله بقداسة"، الأمر الذي يثبت أنهم لم يفهموا من هذه الآية أنها تدل على وجود كهنوت بالمعنى الحرفي. كما أننا إذا رجعنا إلى النسخ الإنجليزية الأخرى، نرى أنها قد ترجمت الآية المذكورة بما تعريبه، حتى أكون خادماً ليسوع المسيح لأجل الأمم، أخدم إنجيل الله خدمة مقدسة" أو "مجاهداً في الخدمة المقدسة الخاصة بإنجيل الله[3]". وهذه الترجمات مع اختلاف ألفاظها، لها معنى واحد، وهو: أن الرسول لم يكن كاهناً بالمعنى الحرفي يقوم بتقديم ذبيحة كفارية عن الناس، بل كان يخدم الإنجيل بينهم بقداسة وورع، كما كان يفعل الكاهن عند تقديم الذبائح في هيكل الله في العهد القديم، كما ذكرنا. ولذلك فالقول إن الرسول كان يخدم الإنجيل "ككاهن"، أو "بقداسة" أو "إن خدمة الإنجيل هي خدمة كهنوتية"- كل ذلك يتفق في المعنى مع الأصل اليوناني كل الاتفاق.
هذا مع العلم بأن بولس الرسول بوصفه مؤمناً حقيقياً كان كاهناً حقيقياً بالمعنى الروحي، مثل غيره من المؤمنين الحقيقيين.
2-(بما أن المسيح كاهن إلى الأبد (عبرانيين5: 6). وبما أن دوام الكهنوت يتطلب دوام تقديم الذبائح، لذلك من الواجب أن تكون للمسيح ذبيحة يقدمها باستمرار، لئلا يتعطل كهنوته. فمكتوب "لأن كل رئيس كهنة يقام لكي يقدم قرابين. فمن ثم يلزم لهذا (أي المسيح) أيضاً شيء يقدمه" (عبرانيين8: 3). وإذا كان الأمر كذلك، يكون العشاء الرباني هو ذبيحة الصليب نفسها، ويكون المسيح هو الذي يقدمه لله على أيدي خدامه في العهد الجديد، ومن ثم يكونون كهنة بالمعنى الحرفي).
الرد: فضلاً عن أنه لا يجوز القول إن العشاء الرباني هو ذبيحة أو ذبيحة غير دموية، وفضلاً عن أنه ليس هناك مجال لأي قربان أو ذبيحة بعد كفارة المسيح، كما ذكرنا فيما سلف، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة نقول:
(أ)-إن المسيح قدم على الصليب الذبيحة الكفارية اللازمة، بناء على الآية الواردة في (عبرانيين8: 3). لكن هذه الذبيحة تختلف كل الاختلاف عن ذبائح الكهنة ورؤساء الكهنة في العهد القديم، لأن ذبائحهم كانت ذبائح حيوانية ليست في ذاتها بكافية للتكفير عن الخطية. أما ذبيحة المسيح فكانت نفسه التي هي أغلى من نفوس كل البشر بما لا يقاس، ولذلك استطاع له المجد أن يكفر بها عنهم جميعاً- ليس تكفيراً رمزياً وقتياً كالتكفير الذي يحصل عليه الكهنة ورؤساء الكهنة في العهد القديم لجماعتهم، ومن ثم كانوا يقدمون الذبائح مراراً كثيرة (عبرانيين10: 11)- بل تكفيراً فعلياً أبدياً لكل الناس، فمكتوب عن المسيح "وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس (السماوية) فوجد فداء أبدياً" (عبرانيين9: 12)، ومن ثم لا يكون هناك مجال لأي ذبيحة فيما بعد، أو لتقديم ذبيحة المسيح الكفارية نفسها من وقت لآخر، تحت أي شكل من الأشكال بواسطته أو بواسطة غيره، كما يقول أصحاب هذه الحجة.
(ب)-ومما يدل أيضاً على أن ذبيحة المسيح لها كفاية لا نهائية لكل البشر في كل العصور والأجيال، أن الوحي سجل عن المسيح أنه "بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا (جميعاً)، جلس في يمين العظمة في الأعالي" (عبرانيين1: 3) وجلوس المسيح يراد به استراحته تماماً من كل الأعمال الخاصة بالتكفير عن الخطية. أما لو كان له المجد يقدم ذبيحة نفسه من وقت لآخر للتكفير عن الخطيئة، تحت هيئة العشاء الرباني أو هيئة غيرها (وإن كان عمل مثل هذا لا يجوز بأي حال من الأحوال كما ذكرنا) لما كان قد جلس. ولكان مثله في ذلك مثل الكهنة قديماً، فإنهم لعدم كفاية ذبائحهم للتكفير عن الخطية، لم يكن لواحد منهم أن يجلس في أقداس الله. ولما كانت أيضاً المرة الواحدة التي قدم نفسه فيها على الصليب بكافية للتكفير عن البشر إلى الأبد. وتبعاً لذلك لكان مثله (والعياذ بالله) مثل الذبائح الحيوانية تماماً. ومن ثم فالحجة التي أمامنا لا نصيب لها من الصواب على الإطلاق.
3-(بما أن المسيح رئيس كهنة كما جاء في (عبرانيين7: 26). والرئيس له مرؤوسون يشاركونه في خدمته (كما كانت الحال مع هرون رئيس الكهنة في العهد القديم)، إذاً لا بد أن يكون للمسيح كهنة بالمعنى الحرفي رئاسته).
الرد: (أ)-وإن كان المسيح بموته على الصليب، قام فعلاً مرة واحدة وإلى الأبد (بما كان يقوم به هرون ورؤساء الكهنة بعده رمزياً مراراً كثيرة في العهد القديم)، من حيث تقديم دم نفسه إلى الله في أقداسه السماوية نيابة عنا غير أنه بعدما قام من الأموات وجلس في السموات ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا (عبرانيين9: 24)، صار كاهناً أو رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق[4]لكي يقوم له المجد بخدمته الكهنوتية طوال وجودنا على الأرض[5]- وملكي صادق هذا كان وحيداً فريداً في خدمته الكهنوتية فلم يكن له خلف أو سلف فيها (عبرانيين7: 3). ومن ثم لا يكون للمسيح في الوقت الحاضر مرؤوسون له يشاركونه في خدمته المذكورة أو يخلفونه فيها، لاسيما أن الذين يتصدون للقيام بهذا العمل يجب أن يشاركوه أولاً في تقديم أنفسهم للموت كفارة عن غيرهم كما فعل، الأمر الذي لا يمكن لأحدهم أن يعمله بأي حال من الأحوال.
(ب)-فضلاً عن ذلك، فإن الله كان قد أقام أبناء هرون كهنة، لأسباب ثلاثة:
(الأول)-عدم استطاعة هرون القيام بمفرده بكل الأعمال الكهنوتية اللازمة للشعب.
(الثاني)-إنه كان معرضاً للنجاسة التي كانت تمنعه من ممارسة هذه الأعمال في بعض الأوقات.
(الثالث)-إنه كان معرضاً كذلك للمرض والموت اللذين يؤديان إلى تأجيل الأعمال المذكورة أو توقفها نهائياً- ولذلك لو فرضنا جدلاً أن المسيح هو الآن على رتبة هرون الذي كان له خلفاء في كهنوته، لما كانت هناك أيضاً حاجة إلى خلفاء أو شركاء له في خدمته الكهنوتية، إذ بالإضافة إلى أنه يستطيع القيام بكل أعباء هذه الخدمة بمفرده لكل الناس في كل العصور، فهو له المجد لا يتعرض للنجاسة أو الضعف أو المرض على الإطلاق. كما أنه بعدما مات مرة كفارة عن خطايانا بإرادته الشخصية، لا يمكن أن يسود عليه الموت فيما بعد، بأي شكل من الأشكال (رومية6: 9).
(ج)-كما أننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن المسيح، وإن كان قد أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين (أفسس4: 11- 12). وأن الرسل، وإن كانوا قد أقاموا في كل كنيسة أساقفة (أو قسوساً[6]) وشمامسة، لكن لا المسيح أقام فئة خاصة تدعى كهنة، ولا الرسل أقاموا هذه الفئة من بعده. كما أننا إذا فحصنا الأعمال التي أقيم الأساقفة أو القسوس لتأديتها، والواردة في (أعمال20: 18و 31، تيطس1: 7- 9، 1بطرس5: 2)، لا نرى من بينها عملاً كانوا يتفردون بالقيام به يدعى "تقديم العشاء الرباني لله" أو حتى "تقديمه للناس"، الأمر الذي يبطل القول بأن العشاء الرباني هو ذبيحة لمغفرة الخطايا، وأنه يتطلب وجود كهنة بالمعنى الحرفي.
(د)-أخيراً نقول إنه بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن ربنا يسوع المسيح هو رئيس كهنة، ليس لأن له كهنة بالمعنى الحرفي يتولى الرياسة عليهم، بل لأنه قام ويقوم بمفرده بعمل رئيس الكهنة. وإن كان له كهنة في العهد الجديد، فهؤلاء الكهنة هم المؤمنون الحقيقيون جميعاً، لأنهم يقومون بخدماتهم الكهنوتية الروحية (1بطرس2: 5) تحت رياسته وإرشاده، كما ذكرنا فيما سلف. فهو المثل الأعلى الذي يقتدون به في صفات الطهارة والقداسة والمحبة والعطف والتضحية وإنكار الذات، التي هي العناصر الأساسية لهذه الخدمات. ومن ثم ليس هناك مجال للظن بأنه من الواجب أن يكون هناك كهنة بالمعنى الحرفي في العهد الجديد[7].
4-(إن الرسل أقاموا قسوساً وأساقفة، والقسوس والأساقفة هم كهنة بالمعنى الحرفي).
الرد: فضلاً عن أن الكهنة بالمعنى الحرفي هم الذين يقامون لتقديم ذبائح كفارية لله، وهذه الذبائح لا مجال لها في العهد الجديد، لأن كفارة المسيح التي قدمها مرة على الصليب وفت كل مطالب عدالة الله من جهتنا جميعاً إلى الأبد كما ذكرنا، الأمر الذي لا يدع مجالاً بعد لوجود كهنة بهذا المعنى، نقول: إننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس نرى:
(أ)-إن كلمة "أسقف" معربة من الكلمة اليونانية "أبسكوبوس"، ومعناها "ناظر" أو "مشرف". وكلمة "قسيس" معربة عن الكلمة اليونانية السريانية "قشيشو"، ومعناها شيخ أو شخص متقدم في السن كما ذكرنا فيما سلف. وهاتان الكلمتان لا علاقة لهما بالكهنوت على الإطلاق.
(ب)-إن القسيس هو الأسقف بعينه. وكل ما في الأمر أنه يسمى بالاسم الأول من جهة السن، وبالاسم الثاني من جهة الخدمة التي يقوم بها وهي النظارة أو الرعاية. فقد قال الوحي عن الرسول بولس إنه من ميليتس استدعى قسوس الكنيسة. فلما جاءوا إليه، قال لهم: احترزوا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة" (أعمال20: 17و 28). وقال بولس لتيطس "... وتقيم في كل مدينة شيوخاً (أي قسوساً) كما أوصيتك- لأنه يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل الله" (تيطس1: 5و 7).
(ج)-كما أننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن الخدمات التي أقيم القسوس أو الأساقفة لتأديتها، تنحصر في التعليم والوعظ وتوبيخ المناقضين (تيطس1: 7- 9)، ورعاية المؤمنين (1بطرس5: 1- 2)، الأمر الذي لا يدع مجالاً للقول بأنهم كهنة بالمعنى الحرفي.
50-اقرأ مثلاً (أ) Greek-English Lexicon, PP. 293-300.
(ب) Exhaustive Analytical Concordance
51-مما تجدر الإشارة إليه أن علماء الكتاب المقدس أجمعوا على أن كلمة "هيرورجو" هذه لم تستعمل فيه، إلا في الآية المذكورة أعلاه. كما أنها تستعمل في الكتب القديمة إلا في كتاب الميكابيين (7: 9)، فقد جاء به أن الملك ديمتريوس بن سلوقس من رومية قلد الكيمس الكافر الكهنوت، وأمره أن ينتقم من بني إسرائيل. فالكيمس هذا لم يصبح كاهناً بل أصبح فقط ككاهن عن المرجعين السابق ذكرهما.
52-اقرأ مثلاً (أ) Standard Revision (ب) New World Translation
53-المسيح كاهن ورئيس كهنة معاً على رتبة ملكي صادق (عبرانيين6: 6، 8: 1)، لأن هذا بسبب تفرده بالكهنوت، كان كاهناً ورئيس كهنة في نفس الوقت، كما ذكرنا في كتاب "كهنوت المسيح".
54-فدائرة خدمة المسيح الكهنوتية هي في السماء وليس على الأرض، ولذلك قال الرسول عن المسيح أنه لو كان على الأرض لما كان كاهناً (عبرانيين8: 4). وإذا كان الأمر كذلك، فليس هناك مجال لوجود كهنة بالمعنى الحرفي على مثاله في الأرض- وخدمة المسيح الكهنوتية السماوية تتضمن تمثيلنا في كماله الذاتي أمام الله، ورفع صلواتنا إليه مقبولة كل القبول في شخصه المبارك، كما تتضمن عطفه علينا وتعضيده لنا طوال سيرنا في البرية، الأمر الذي لا يستطيع القيام به سواه، كما ذكرنا في كتاب "كهنوت المسيح".
55-كان الأساقفة هم القسوس في أول الأمر، كما سيتضح فيما يلي من هذا الباب.
56-أما باقي الاعتراضات الخاصة بهذا الموضوع فقد شجيناها في كتاب "العشاء الرباني"، فليرجع إليه القارئ إذا أراد.
- عدد الزيارات: 3511