الحجج التي يقال بورودها في الرسائل، والرد عليها
1-(قال الرسول: "إذاً أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق، يكون مجرماً في جسد الرب ودمه" (1كورنثوس11: 27)- فهذه الآية تدل على أن العشاء الرباني يتحول إلى ذات جسد المسيح ودمه، لأنه ليس من المعقول إطلاقاً أن يعطينا المسيح خبزاً عادياً وخمراً عادية، ثم يعتبر الذين يتناولون منهما بدون استحقاق مجرمين في جسده ودمه. ولذلك فإن هذا العشاء هو ذبيحة يتطلب كهنة بالمعنى الحرفي).
الرد: نظراً لأن العشاء الرباني هو تذكار لموت المسيح على الصليب كما يتضح من (لوقا22: 19)، فإن الاستهانة به تعتبر إهانة للمسيح نفسه. ولا غرابة في ذلك، فكلنا يعلم أن احتقار صورة إنسان أو تذكاره، هو في الواقع إهانة لشخصه. والكتاب المقدس يعلن هذه الحقيقة بكل جلاء. فهو ينبئنا أنه عندما مد أحد اليهود يده إلى تابوت الله، مات في الحال (2صموئيل6: 6- 7)، لأن هذا التابوت كما يتضح من الكتاب المقدس كان رمزاً إلى المسيح "الذي لم يكن لأحد أن يلمسه أو يدنو منه، قبل التجسد، وذلك لوجوده وقتئذ في حالة اللاهوت المطلق. والقائلون بالاستحالة يعرفون هذه الحقيقة كل المعرفة، فقد قالوا "أما التابوت فكان كشخص الله" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص564)، مع أن التابوت لم يخرج عن كونه صندوقاً ليست له في ذاته قيمة، غير قيمته المادية.
2-قال الرسول: "كأس البركة التي نباركها، أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأننا جميعاً نشترك في الخبز الواحد" (1كورنثوس10: 15- 16). فتسمية الكأس، بكأس البركة، تدل على أن فيها بركة، أو بالحري تدل على أن الخمر التي فيها هي دم المسيح، مصدر كل بركة. كما أن القول عن الاشتراك في العشاء الرباني إنه اشتراك في جسد المسيح ودمه، يدل على أنه يتحول إليهما، ومن ثم فإنه ذبيحة يتطلب كهنة بالمعنى الحرفي).
الرد: (أ)إن العبارة كأس البركة التي نباركها" معناها: "كأس الشكر التي نشكر الله لأجلها، أو بالحري لأجل ما تدل عليه من معنى"، لأن المسيح شكر عندما أعطاها لتلاميذه، ونشكر نحن أسوة به عندما نتناولها. وقد أشار إلى ذلك الأستاذ أترميلاس أحد علماء الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية فقال في تفسيره للكتاب المقدس (ج1 ص218): "نباركها"، أي نقدسها (أو بالحري نخصصها) بصلاة الشكر[1]. ومما يثبت ذلك الأدلة الآتية (أولاً) أننا مهما بلغنا أسمى درجات التقوى، لا نستطيع أن نودع في كأس العشاء الرباني بركة ما (ثانياً) أن لوقا البشير وبولس الرسول عند تسجيلهما حديث المسيح عن خبز العشاء الرباني وخمره، لم يذكرا مطلقاً أنه بارك، بل ذكر أنه شكر فقط (لوقا22: 19- 20) و (1كورنثوس11: 24و 25). وأن متى ومرقس البشيرين وإن كانا قد ذكرا أن المسيح بارك عندما أعطى الخبز لتلاميذه، غير أنهما ذكرا أنه شكر فقط عندما أعطاهم الكأس (متى26: 26، مرقس14: 22). وليس من المعقول إطلاقاً، أن تكون البركة قد حلت وقتئذ في الخبز دون الكأس. وإذا كان الأمر كذلك أدركنا أن السبب في استعمال الشكر بدلاً من المباركة في هذا المقام، يرجع إلى أنهما يأتيان بمعنى واحد. فقول النبي "باركي يا نفسي الرب" (مزمور103: 1) معناه "اشكريه". (ثالثاً) إن البركة لا تحل في المادة ثم تنتقل منها إلى نفس من يستعملها، بل إنها تنتقل مباشرة من الله إلى النفس المؤمنة به والمتفتحة له. (رابعاً) وبالإضافة إلى كل ما تقدم، فالكأس التي كان يتناولها اليهود في عيد الفصح قبل المسيح بمئات السنين، كانت تدعى "هارباراكا" وترجمتها الحرفية "كأس البركة"، والحال أنه لا يراد بها إلا "كأس الشكر" لأنه لم تكن فيها بركة تقدس النفس وتطهرها، وتغفر لها خطاياها وآثامها، كما نعلم جميعاً.
(ب)أما من جهة قول الوحي عن الاشتراك في العشاء الرباني إنه اشتراك في جسد المسيح ودمه، فنقول: إن الاشتراك يكون بمعنى مادي، كما يكون بمعنى روحي، والقرينة هي التي تحدد المعنى المقصود. ولما كانت علاقتنا بالمسيح هي علاقة روحية لا مادية (2كورنثوس5: 16)، وتغذيتنا به تبعاً لذلك هي تغذية روحية لا مادية، إذاً فالاشتراك في جسده ودمه يراد به الاشتراك فيهما بالمعنى الروحي، أو بالحري الاشتراك في الفوائد التي ترتبت على بذلهما نيابة عنا- وهذه الفوائد هي الغفران والتبرير والتطهير والتقديس والبنوة لله والاتحاد بالمسيح، كما ذكرنا بالتفصيل في كتاب (قضية الغفران في المسيحية).
(ج)ومما يثبت أيضاً أن الآيات التي نحن بصددها لا تدل على أن العشاء الرباني يتحول إلى جسد المسيح ودمه، أن الرسول أعلن مرتين فيها أن ما نكسره ونتناوله هو خبز (فحسب). وغني عن البيان أنه لو كان خبز العشاء الرباني يتحول إلى جسد المسيح، لما دعاه الوحي خبزاً على الإطلاق، وذلك لكي لا يتسرب الشك إلى أحد من جهة الاستحالة، إن كانت تحدث استحالة. ومن ثم فإن العشاء الرباني لا يكون ذبيحة كما يقال.
أما القول (إن الرسول أطلق على خبز العشاء الرباني بعد الشكر اسم الخبز باعتبار ما كان عليه من قبل. كما قال الوحي عن لعازر عندما أقامه المسيح من القبر "فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطتان"، مع أنه لم يكن وقتئذ ميتاً بل حياً)، فلا يجوز الأخذ به، لأن قول الوحي عن لعازر "فخرج الميت"، لا يمكن أن يفهم منه إنسان عاقل أنه عندما خرج لعازر من القبر كان ميتاً. ومع كل فالجوهر أفضل من العرض، وما آل إليه الشيء أحق بالذكر مما كان عليه من قبل. ومن ثم فقول الوحي عن خبز العشاء الرباني، بعد قيام المسيح بالشكر، إنه خبز فقط، دليل على أنه كان خبزاً كما كان من قبل، دون أن يطرأ عليه تغيير يصبح به شيئاً غير الخبز.
أخيراً نقول إن الرسول لم يستعمل في الآيات التي نحن بصددها، اللغة المجازية عند حديثه عن العشاء الرباني فحسب، بل وأيضاً عند حديثه عنا نحن المؤمنين. فقد قال في هذه الآيات إننا خبز واحد، جسد واحد"، مع أننا لسنا كذلك بالمعنى الحرفي. إذ كل ما في الأمر أننا نشبه الرغيف الواحد أو الجسد الواحد، من حيث وحدتنا الروحية كمؤمنين في المسيح، الأمر الذي لا يدع مجالاً للاعتراض على فهم حديث الرسول عن العشاء الرباني بالمعنى الروحي أو المجازي كما ذكرنا.
3-(قال بولس الرسول عن نفسه: "كتبت إليكم جزئياً أيها الأخوة كمذكر لكم، بسبب النعمة التي وهبت لي من الله. حتى أكون خادماً ليسوع المسيح لأجل الأمم، مباشراً لإنجيل الله ككاهن ليكون قربان الأمم مقبولاً مقدساً بالروح القدس" (رومية15: 16)- فهذه الآية تنص على وجود قربان في العهد الجديد، وهذا القربان لا يكون شيئاً سوى العشاء الرباني، ومن ثم فإنه ذبيحة تتطلب وجود كهنة بالمعنى الحرفي).
الرد: (أ) فضلاً عن أن العشاء الرباني ليس قرباناً أو ذبيحة كما ذكرنا فيما سلف، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة، نقول: إذا تأملنا الآية المعروضة أمامنا سواء في ذاتها أو مع غيرها من الآيات الواردة قبلها وبعدها، يتضح لنا أن المراد بهذا لقربان لا يمكن أن يكون شيئاً سوى الأمم أنفسهم، أو بالحري المؤمنين الحقيقيين من هذه الأمم، وذلك للسببين الآتيين:
(الأول) إن الروح القدس المذكور في هذه الآية أنه يقدس القربان، لا يحل في المادة مثل الخبز والخمر، بل يحل في المؤمنين أنفسهم، وذلك لكي يقدسهم ويطهرهم كما يتضح من (يوحنا14: 16، 1كورنثوس3: 16).
(الثاني) إن تشبيه المؤمنين بالقربان أو الذبيحة هو من التعبيرات التي كان هذا الرسول يستعملها كثيراً، فقد قال مرة من قبل للذين كتب لهم هذه الآية: "أطلب إليكم يا إخوتي برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة.." (رومية12: 1). ووجه الشبه بين المؤمنين وبين القربان (أو الذبيحة) هو أن كليهما مخصص لإكرام الله وتمجيده. وقد شهد أوغسطينوس بهذه الحقيقة فقال: "جميع القديسين هم الذبيحة العامة التي تقدم لله لواسطة المسيح رئيس الكهنة". كما قال "الذبيحة الحقيقية تقوم بأن النفس وهي مضطرمة بنار المحبة السماوية، تكرس ذاتها لله تكريساً كاملاً". (ريحانة النفوس ص 100).
(ب) فضلاً عن ذلك، فإن الترجمة الحرفية لكلمة "قربان الأمم" حسب الأصل اليوناني، هي "تقريب الأمم على الله كقربان[2]".ولذلك إذا رجعنا إلى التراجم التي يميل أصحابها إلى الترجمة المعنوية دون الحرفية، نرى أنهم ذكروا صراحة أن هذا القربان هو الأمم أنفسهم[3]. وإذا كان الأمر كذلك أدركنا أن قول الرسول "قربان الأمم" أو "ذبيحة الأمم" في هذه الآية، يشبه كل الشبه قوله "ذبيحة الإيمان" في الآية "انسكب[4]" "أيضاً على ذبيحة إيمانكم وخدمته" (فيلبي2: 17)، إذ كما أنه لا يقصد بهذه الآية، أن الإيمان يقدم ذبيحة، بل أنه هو نفسه "الذبيحة" التي كان الرسول يبذل كل ما لديه من جهد في خدمتها، كذلك لا يقصد بالآية السابقة لها أن الأمم يقدمون قرباناً أو ذبيحة، بل أنهم (أو بالحري المؤمنين الحقيقيين منهم) هم أنفسهم قربان أو ذبيحة لله، بالمعنى الروحي كما ذكرنا.
(ج)أخيراً نقول: إن المسيحيين القائلين بالكهنوت الحرفي في الوقت الحاضر، يعتقدون أن العشاء الرباني مقبول في ذاته أمام الله، حتى إذا كان الكهنة الذين يقومون به لديهم أشراراً[5]. ولذلك لا يجوز لهم أيضاً أن يتخذوا هذه الآية، دليلاً على أن القربان الوارد بها هو العشاء الرباني، وإلا فإنهم يناقضون أنفسهم بأنفسهم. لأن الرسول يؤسس قبول هذا القربان على استماتته الشخصية في خدمة القديسين[6].
4-(قال الرسول عن المسيح "وهو أعطى البعض أن يكونوا وسلاً، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض الآخر رعاة ومعلمين، لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح... كي لا نكون فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحولين بكل ريح تعليم، بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة الضلال" (أفسس4: 11- 14)- فالخدمة هنا يراد بها خدمة العشاء الرباني، أو بالحري الصلاة الخاصة به. ومن ثم يكون هذا العشاء ذبيحة تتطلب كهنة بالمعنى الحرفي).
الرد: (أ) فضلاً عن أن العشاء الرباني ليس ذبيحة كما ذكرنا فيما سلف، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الحجة، فإن المسيحيين الذين يعتقدون أنه ذبيحة، يسندون القيام به إلى الأساقفة والقسوس والشمامسة والمرتلين لديهم بينما القيام بالخدمة الواردة في الآيات التي أمامنا مسندة إلى الرسل والأنبياء والمبشرين والرعاة والمعلمين. لذلك لا يجوز لهؤلاء المسيحيين أو لغيرهم، أن يستنتجوا أن الخدمة في هذه الآيات، يراد بها الصلاة الخاصة بالعشاء الرباني.
(ب) ومما يثبت ذلك، أن الكلمة اليونانية لكلمة (الخدمة) في هذه الآيات، ليست "ليتورجيا" التي تعني "خدمة العبادة" أياً كان نوع هذه العبادة، كما هي الحال في الآية الواردة في (لوقا1: 23)، بل أن هذه الكلمة هي "دياكونيا" أي "خدمة" بالمعنى العادي المعروف لدينا، وهو القيام بمساعدة ما، لأجل فائدة الآخرين وخيرهم. وقد استعملت في الكتاب المقدس بهذا المعنى للتعبير عن "خدمة الفقراء" أو بالحري "تقديم المساعدات المادية لهم"، مثلما جاء في (أعمال6: 1، 2كورنثوس9: 1) كما استعملت للتعبير عن "خدمة إنجيل الله" أو بالحري "العمل على إذاعته بين الناس لكي يتمتعوا بفوائده"، مثلما جاء في (أعمال6: 4، 2كورنثوس4: 1). ولذلك فإن كلمة "الخدمة" الواردة في الآيات التي نحن بصددها، يراد بها المعنى الثاني. لاسيما وأنها مسندة إلى الرسل والأنبياء والمبشرين والرعاة والمعلمين، الذين ينحصر عملهم في خدمة الإنجيل (أعمال6: 2).
(ج) كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن الوحي لا يسجل لنا أن الغرض من الخدمة في هذه الآيات، هو تحويل العشاء الرباني إلى ذات جسد المسيح ودمه، كما يعتقد القائلون بالكهنوت الحرفي، أو غرضاً من الأغراض الخاصة بممارسة هذا العشاء الواردة في الكتاب المقدس[7]، بل أنه (مع الغرض من تكميل القديسين وبنيان جسد المسيح، الذي هو المؤمنون الحقيقيون (أفسس4: 12))، هو لكيلا يكون هؤلاء المؤمنون مضطربين ومحولين بكل ريح تعليم، بل ثابتين في الإيمان وراسخين فيه، اتضح لنا بدليل ليس بعده دليل، أن المراد بالخدمة المذكورة هنا، هو خدمة إنجيل الله كما ذكرنا، لأن هذا الغرض خاص بها وحدها.
5-(قال الرسول: "يسوع المسيح هو أمساً واليوم وإلى الأبد. لا تساقوا بتعاليم متنوعة وغريبة، لأنه حسن أن يثبت القلب بالنعمة، لا بأطعمة لم ينتفع بها الذين تعاطوها. لنا مذبح لا سلطان للذين يخدمون المسكن أن يأكلوا منه. فإن الحيوانات التي يدخل بدمها عن الخطية إلى الأقداس بيد رئيس الكهنة، تحرق أجسامها خارج المحلة. لذلك يسوع أيضاً لكي يقدس الشعب بدم نفسه، تألم خارج الباب" (عبرانيين13: 9- 13)- فهذه الآيات تدل على أن العهد الجديد مذبحاً. وبما أن هناك مذبحاً في هذا العهد، يجب أن تكون هناك أيضاً ذبيحة كفارية فيه. وهذه الذبيحة لا تكون شيئاً سوى العشاء الرباني، ومن ثم يجب أن يكون هناك كهنة بالمعنى الحرفي).
الرد:فضلاً عن أن العشاء الرباني طعام يؤخذ بالفم، بينما الآيات التي نحن بصددها تنص على أنه حسن للقلب أن يثبت بالنعمة لا بأطعمة (أياً كانت هذه الأطعمة)، الأمر الذي يدل على أن المراد بالأكل هنا، المعنى الروحي وبالتبعية يدل على أن العشاء الرباني لا علاقة له بالمذبح، المعلن في هذه الآيات أن لنا الحق في الأكل منه، نقول:
(أ) إن المسيح، عندما عمل العشاء الرباني، لم يشيد مذبحاً أو لبس لباساً كهنوتياً أو حمل مبخرة، أو أوقد سراجاً.. أو... أو... (كما كان متبعاً عند تقديم الذبائح الكفارية في العهد القديم)، فضلاً عن ذلك لم يقل لتلاميذه أن يصنعوا هذا العشاء لمغفرة خطاياهم (الذي هو الغرض الأساسي من هذه الذبيحة)، ولذلك لا يمكن أن يكون المراد بالمذبح هنا، مذبحاً بالمعنى الحرفي.
(ب)لكن بدراسة الآيات المذكورة مع ما قبلها وما بعدها من آيات، نرى أن المراد بهذا المذبح، هو المسيح نفسه. وقد أشير إليه بالمذبح، بعد ما أشير إليه بالذبيحة والقربان في الآيات الواردة في (عبرانيين9: 26، 10: 12)، للأسباب الآتية:
(أولاً)-إن المذبح مثال عام للمسيح، بينما الذبيحة مثال خاص له، إذا أنه (أي المذبح) يكون قائماً قبل تقديم الذبيحة، كما يظل أيضاً قائماً بعد تقديمها، معلناً دواماً عن وجودها وأهميتها.
(ثانياً)-إن المذبح يتضمن في معناه الروحي مجال تقابل الله مع الناس على أساس الفداء (ملاخي2: 12)، الأمر الذي يتفرد به المسيح دون سواه وذلك بوصفه الوسيط الوحيد بين الله والناس (1تيموثاوس2: 5).
(ثالثاً)-إن هذه الآيات تعلن أننا، نحن المسيحيين، لنا أن نأكل من هذا المذبح، والذي لنا أن نأكل منه، ليس المواد التي يصنع منها المذبح (على فرض أننا نأكل منه) بل المسيح نفسه، وذلك بطريقة روحية كما ذكرنا.
(رابعاً)-إن المذبح بصفة عامة، أعظم من الذبيحة، لأنه هو الذي يقدسها (متى23: 19). وبما أنه ليس هناك من قدس ذبيحة المسيح سواه، لأنه ليس هناك من هو أعظم منه، يمكن أن يقوم بهذه المهمة، لذلك فالمسيح كما أنه الذبيحة، هو المذبح أيضاً- ولا غرابة في ذلك، فالمسيح كان يرمز إليه بالكثير من أدوات خيمة الاجتماع وأجزائها مثل الباب (يوحنا10: 9). والخبز (يوحنا6: 35). والنور أو المنارة (يوحنا8: 12). كما أن جسده كان يرمز إليه بالحجاب (خروج26: 31، عبرانيين10: 20)، كما ذكرنا فيما سلف.
(ج)-أخيراً نقول إن الوحي يقدم لنا المسيح في هذه الآيات مرموزاً إليه بذبائح الخطية، التي كانت تحرق أجسادها بكل ما احتوت خارج المحلة، ولم يكن للكاهن الذي عملها أو الخاطئ الذي قدمها أن يأكلا شيئاً منها. ومن ثم كانت الفائدة التي تجنى منها في العهد القديم هي فائدة معنوية فحسب. وإذا كان الأمر كذلك، فلو فرضنا جدلاً أن العشاء الرباني يتحول إلى جسد المسيح ودمه، لكان ذبيحة خطية، ومن ثم كان من الواجب حرقه، أو على الأقل عدم الأكل منه. لكن المسيح لم يأمرنا بحرقه أو نهانا عن الأكل منه، بل بالعكس أوصانا بالأكل من خبزه والشرب من كأسه، لذلك لا يكون ذبيحة كفارية، بل تذكاراً لموته له المجد، كما قال بنفسه.
(د)أما عن الدعوى (بأن المسيح كان ذبيحة خطية، ومع ذلك لم يحرق مثلها. ومن ثم لا داعي لحرق العشاء الرباني)، فنقول: إن الآلام الجهنمية التي اجتاز المسيح فيها على الصليب عوضاً عنا، والمشار إلى آلامها في (مزمور22 ومزمور69 وإشعياء53) كانت أقسى من النار المادية بما لا يقاس، إذ أن هذه النار لم تكن إلا رمزاً ضئيلاً للآلام المذكورة. أما العشاء الرباني فلأنه لا يحرق ولا تقع عليه آلام ما، لذلك لا يكون ذبيحة خطية كما ذكرنا، وتبعاً لذلك لا يتطلب كهنة بالمعنى الحرفي.
43-هذا مع العلم بأن كلمة "بارك" ترد بمعنى "مدح" أو "اعتزب"، ومن ثم فإن العبارة "الكأس التي نباركها" قد تعني "الكأس التي نعتز بها" لدلالتها على فداء المسيح لنا بدمه الكريم. ولا غرابة في ذلك، فنحن نقول "بارك الشعب المشروع الفلاني" بمعنى "مدحه" "واعتز به" أو "نادى بأهميته".
44-ولذلك لم ترد التراجم الإنجليزية مثلاً The offering of the gentiles
بل: The offering up of the gentiles.
45-انظر مثلاً نسختيّ:
(أ) New World Translation of the Greek Scriptures
(ب) A Translation from the Latin Vulgate in the light of the Hebrew and Greek Originals.
46-كلمة "انسكب" لا يراد بها هنا المعنى الحرفي بل المجازي، والمعنى المجازي لها هو بذل كل ما في النفس من جهة في خدمة المؤمنين الحقيقيين.
47-بحثنا هذا الموضوع بالتفصيل في كتاب "العشاء الرباني"، فليرجع إليه القارئ إذا أراد.
48-مما تجدر الإشارة إليه أن الرسول كان يبذل كل ما في وسعه لكي يكون الأمم مقبولين لدى الله، ليس من جهة مقامهم أمامه، بل من جهة سلوكهم الشخصي في العالم. لأنهم من جهة مقامهم، هم مملوؤون (أو بالحري كاملون) أمام الله، بسبب وجودهم الروحي في المسيح (كولوسي2: 10).
49-وهذه الأغراض هي: تذكر موت المسيح والتخبير به وانتظار مجيئه (1كورنثوس11: 26) وإعلان الشركة الروحية في فوائد كفارته والاعتراف بوحدة المؤمنين في شخصه المبارك (1كورنثوس10: 17)
- عدد الزيارات: 4333