الحرية الدينية
الله وحده هو سيد الضمير، وهو تعالى قد تركه حراً من تعاليم البشر ووصاياهم المناقضة لكلمته أو غير الواردة فيها. لذا ينبغي الفصل بين الكنيسة والدولة. ولكل كنيسة على الدولة حق الحماية والتمتع بكامل الحرية في السعي لتحقيق غاياتها الروحية. وفي مجال العمل على توفير حرية كهذه، لا يجوز أن تحظى أية جماعة كنسية أو أية طائفة بمعاملة مميزة من قِبل الدولة. وبما أن الحكومة الدينية مرتبة من الله، فمن واجب المسيحيين المؤمنين أن يقدّموا لها الطاعة والولاء في كل ما لا يُناقض مشيئة الله المعلنة.
وعلى الكنيسة ألا تركن إلى السلطة المدنية لتأدية عملها. فإن إنجيل المسيح يقتضي استعمال الوسائل الروحية فقط في سبيل بلوغ غاياته. وليس للدولة أي حق في فرض عقوبات على الآراء الدينية من أي نوع، كما لا يحق للدولة أن تفرض أية ضرائب لدعم أي شكل من أشكال الدين. فالصورة المسيحية المثالية هي وجود كنيسة حرة في دولة حرة، الأمر الذي يتضمن حق كل إنسان في التقدم الحر إلى الله دون عائق، كما يتضمن حق تبني أية آراء دون تدخل من قبل السلطة المدنية.
تكوين 1: 27؛ 2: 7؛ متى 6: 6 و7، 24؛ 16: 26؛ 22: 21؛ يوحنا 8: 36؛ أعمال 4: 19 و20؛ رومية 6: 1 و2؛ 13: 1- 7؛ غلاطية 5: 1؛ فيلمون 3: 20؛ 1 تيموثاوس 2: 1 و2؛ يعقوب 4: 12؛ 1 بطرس 2: 12- 17؛ 3: 11- 17؛ 4: 12- 19.
الحرية الدينية هي أُمُّ كل حرية حقيقية. وهي أصيلة في طبيعة الله كما في طبيعة الإنسان المخلوق على صورة الله (تكوين 1: 27). هذه الحرية تتضمن كفاءة النفس في موضوع الدين وتُنكر على أي شخص، أو حكومة مدنية، أو نظام ديني، حق التدخل بين الله والإنسان (1 تيموثاوس 2: 1- 6).
تعريف الحرية الدينية
الحرية الدينية تعبير يُراد به "حق كل إنسان في عبادة الله كما يملي عليه ضميره. وتعني هذه الحرية مساواة بين جميع الأديان، وليس فقط جميع المذاهب المسيحية، أمام القانون". ولنا أن نضيف أيضاً أن هذه الحرية ينبغي أن تشمل الفلسفات اللا دينية. فالإنسان حر في ألا يعبد الله إذا هو اختار ذلك.
ثم إن الحرية الدينية ليست هي التسامح الديني. ذلك أن التسامح الديني هو امتياز يمنحه الإنسان. أما الحرية الدينية فهي حق منحه الله لكل إنسان. فالحرية تنطوي على مسؤولية وتستلزم ضوابط داخلية وذاتية (رومية 6: 6- 18؛ غلاطية 5: 13- 16).
أساس الحرية الدينية في الكتاب المقدس
ليس أساس الحرية الدينية وثيقة قانونية صادرة عن دولة من الدول، بل هو متأصل في الكتاب المقدس. فالحرية هي من الصفات الملازمة لكيان الإنسان كما خلقه الله (تكوين 1: 27). حتى إن الله لا يُجبر الإنسان رغم إرادته. فالإنسان حر في ما يختار، لكنه مسؤول عما يختار (تكوين 3). هذه الحرية المقترنة بالمسؤولية تعني أن الله وحده هو سيد ضمير الإنسان. وهو تعالى قد حتم أن يكون ضمير الإنسان "حراً من تعاليم البشر ووصاياهم المناقضة لكلمته أو غير الواردة فيها".
وهكذا تكون الحرية الدينية ذات جذور في ربوبية المسيح. وعليه، فعندما تتعارض وصايا الناس مع إرادة الله، ينبغي للمسيحي أن يطيع الله أكثر من الناس (أعمال 4: 18- 20). فإذا ما واجه المؤمن الاختيار بين القولين "يسوع رب" و"قيصر رب"، فعليه أن يقول الأول (رومية 10: 9). والحرية الحقيقية لا توجد إلا في المسيح فقط (يوحنا 8: 36؛ رومية 8: 1 و2). وينبغي أن تمارس بقوة الروح القدس وإرشاده (رومية 8: 5- 9؛ 2 كورنثوس 3: 17). وبينما يجب أن يكون المسيحيون المؤمنون مواطنين صالحين في الدولة، فعندما تتعارض قوانين الدولة ووصايا الله، عليهم أن يقولوا: "ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس" (أعمال 5: 29).
الفصل بين الكنيسة والدولة
يرى مولنز أن وجود كنيسة حرة في دولة حرة هو من البديهيات الدينية. وقد عبر المسيح عن هذه البديهية بأوضح صورة إذ قال: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله، لله" (متى 22: 21). وواضح أن الدولة الحرة لا تخلق الحرية الدينية خلقاً، بل تعترف بها وتحترمها. على أن الحرية الدينية عنصر جوهري في جعل الدولة حرة حقاً.
ولكن الفصل بين الكنيسة والدولة لا يعني انعدام العلاقات بينهما على الإطلاق. فقد اعترف المسيح بحقوق الدولة ودورها (متى 22: 15- 21) واستخدم طلائع المرسلين المسيحيين الطرق والخطوط البحرية التي وفرتها الدولة، كما طالبوا أحياناً بحماية الدولة لهم (أعمال 18: 12- 17؛ 21: 27- 39؛ 22: 25- 30؛ 25: 10- 12). ومطلوب من المسيحيين، بوصفهم مواطنين، أن يخضعوا لسلطة الدولة (رومية 13: 1- 8؛ 1 بطرس 2: 12- 17).
إن الكنيسة والدولة مترابطتان في شؤون الحياة العادية. فالكنيسة تستطيع أن تقوم بعملها إذ إن الدولة توفّر جواً مؤاتياً من خلال خدماتها (كالإطفاء، والأمن القومي، وحماية الشرطة للمواطنين، والخدمات البريدية، والمواصلات، والطرقات، والاستقرار الاجتماعي العام، الخ..). والكنيسة بدورها ينبغي أن تُنشئ- بواسطة الإنجيل- نوعاً من المواطنين المسيحيين يُسهم في توطيد نظام اجتماعي ثابت.
غير أن كلتا الكنيسة والدولة، ف الوقت نفسه، مستقلة إحداهما عن الأخرى. فلا يجوز لأية واحدة منهما أن تسعى للسيطرة على الأخرى ولا لاستخدامها في إتمام دورها الخاص بها. كما لا يجوز أن تُملي إحداهما على الأخرى كيف تقوم بمسؤوليتها. ينبغي للكنيسة ألا تسعى إلى استخدام الدولة لتحقيق غاياتها، كما ينبغي للدولة ألا تتسلط على الكنيسة لأغراض سياسية، ولا يحق للدولة أن تعتبر ديانة ما في منزلة أسمى من سواها. ومن رأي الكاتب الحالي أن الدولة يجب ألا تفرض ضرائب على الممتلكات المستخدمة حصراً لأغراض دينية. كما أنه يُستحسن ألا تتلقى الكنيسة أموالاً مجبية من طريق الضرائب، لإنفاقها على ما تتولى مسؤوليته من شؤون ثقافية أو طبية أو روحية. وينبغي أن تكون الكنيسة حرة في تحديد برامجها المختصة بالعبادة والتبشير والعمل الرسولي. إنما يجب أن يُنجَز ذلك كله ضمن إطار البنية القانونية في النظام الاجتماعي، كي يؤول ذلك إلى خير جميع المواطنين.
ولا جدال في أن بين الكنيسة والدولة مساحات "رمادية" في العلاقة، حيث تبرز الحاجة إلى التأويل. ولكن أمراً واحداً يبقى واضحاً للغاية، وهو أن الكنيسة والدولة يجب ألا تمارس إحداهما السلطة على الأخرى. وهوذا التاريخ يشهد أن الكنيسة الحرة في الدولة الحرة هي بركة للاثنين معاً.
المعمدانيون و الحرية الدينية
طالما كان المعمدانيون مناصرين للحرية الدينية، لا لأنفسهم فقط، بل لجميع الناس أيضاً، وتوجد جذور المعمدانيين المعاصرين في الحركة الانفصالية التي شهدتها انكلترا وهولندا. فقد جاء في أحد المراجع الثقة أنه "بين المعمدانيين الأولين في انكلترا، ناصر ثوماس هيلايز وجان مارتون (Thomas Helways& John Murton) الحرية الدينية الكاملة، ودفعا ثمن موقفهما بأن تعرضا للسجن، وللموت على الأرجح، ففي 1912 نشر هيلايز نبذة عنوانها (إعلان موجز لسر الإثم) [موجهة إلى الملك]، وفيها أعلى شأن الحرية الدينية، وحرية الضمير للجميع، وصرّح بأن السلطة الأرضية ليس لها سلطان معاقبة الناس على آرائهم، وليس لها حق بعدم التسامح معهم، سواء كانوا هراطقة أو أتراكاً أو يهوداً أو أي شيء آخر".
وفي أمريكا أسس روجر وليمز (Roger Williams) مستعمرة رود آيلند (Rhod Islnd) التي تميزت بالدعوة إلى الحرية الدينية المطلقة. وقد أشار أحدهم إلى أنها كانت المرة الأولى، منذ أيام قسطنطين، لقيام دولة توفّر لمواطنيها الحرية الدينية بكل صراحة ووضوح. ويُذكر أن أول تعديل لدستور الولايات المتحدة قد تم إلى حد بعيد من جراء إصرار معمدانيِّي فرجينيا.
وفي أول مؤتمر معمداني دولي عُقد في لندن عام 1905، أعلن فريمان (J.D. Freeman) الموقف التالي العزيز على قلب كل معمداني:
"لم يكن مطلبنا الأول مجرد التسامح الديني، بل الحرية الدينية، لا رحابة الصدر وحسب، بل الحرية بالحق، وذلك ليس لأنفسنا فقط، بل لجميع البشر. ونحن لم نعثر على هذا المعتقد الديني صدفة، بل هو قائم في صلب عقيدتنا. إن المسيح هو رب الكل... الضمير هو عبد لله فقط، وليس خاضعاً لمشيئة بشر. هذا الحق حيٌّ حياةً لا يُمكن دفنها. فإن هو صُلِبَ، قام في اليوم الثالث. وإن هو دُفن في القبر، دُحرج عنه الحجر فيما حُراسه يصيرون كأموات... رفضنا كل حين أن نحني رقابنا تحت نير العبودية، وكذلك حرصنا كل الحرص على سحب أيدينا من فرض هذا النير على الآخرين... إن أيدينا براءٌ من دم الشهداء. فنحن لم نستل يوماً سيف السلطة الزمنية لمناصرة سيف الروح. ونحن لم نُجِز قط مرسوماً يقضي بحجب الأهلية المدنية عن أي إنسان بسبب آرائه الدينية، سواء كان بروتستانتياً، أو معمدانياً، أو يهودياً، أو تركياً، أو مُلحداً. ففي هذا الميدان تجد سجلنا خالياً من أية وصمة".
فإذا صح القول إن ثمن الحرية هو السهر الدائم عليها، فالأصح أن ينطبق هذا القول بالأحرى على الحرية الدينية.
للمراجعة والبحث
1- ما هو أساس الحرية الدينية في الكتاب المقدس؟ وما علاقة كفاءة النفس في مسألة الدين بهذه الحرية؟
2- أية قضايا تتضمنها البديهية الدينية المدنية التي حددها مولنز؟ ما هي المسؤوليات المتبادلة لكل من الكنيسة والدولة في ما يخص العلاقة بينهما؟ أية أمور هي محظورة في هذه العلاقة؟
3- أيجوز لكنيسة ما، أو لأية هيئة دينية أخرى، أن تُملي على الدولة كيفية تولي شؤونها؟ كيف يمكن للمسيحيين الأفراد أن يؤثّروا في حياة البلد السياسية على مختلف المستويات الحكومية؟
4- أي دور ينبغي أن يؤديه المعمدانيون في الحفاظ على الحرية الدينية؟
- عدد الزيارات: 5503