Skip to main content

الله

الله إله واحد أوحد حي وحقيقي. هو كائن روحي مدرك وله ذات. هو الخالق والفادي والحافظ وسيد الكون. والله كائن غير محدود في الفكر وفي القداسة وسائر الكمالات. وعلينا تُجاهه واجب المحبة والمهابة والطاعة بأسمى صُوَرهنّ. والله الأزلي يُعلم ذاته لنا كونه الآب والابن والروح القدس، في شخصية مميزة، لكنْ دونما انقسام في الطبيعة أو الجوهر أو الكينونة.

أ- الله الآب

إن الله، من حيث هو الآب، يملك بعنايته الإلهية على الكون الذي خلقه، وعلى خلائقه، ويهيمن على مجرى التاريخ البشري، وفقاً لمقاصد نعمته. وهو كلّي القدرة وكلّي المحبة وكلّي الحكمة. إنا الله أب بالحق للذين يصيرون أولاد الله بالإيمان بالرب يسوع المسيح. وهو يعامل البشر جميعاً معاملة أبوية.

تكوين 1: 1؛ 2: 7؛ خروج 3: 14؛ 6: 2 و3؛ 15: 11وما بعده؛ 20: 1 وما بعده؛ لاويين 22: 2؛ تثنية 6: 4؛ 32: 6؛ 1 أخبار الأيام 29: 10؛ مزمور 19: 1- 3؛ أشعياء 43: 3، 15؛ 64: 8؛ إرميا 10: 10؛ 17: 13؛ متى 6: 9؛ وما بعده؛ 7: 11؛ 23: 9؛ 28: 19؛ مرقس 1: 9- 11؛ يوحنا 4: 24؛ 5: 26؛ 14: 6- 13؛ 17: 1- 8؛ أعمال 1: 7؛ رومية 8: 14 و15؛ 1 كورنثوس 8: 6؛ غلاطية 4: 6؛ أفسس 4: 6؛ كولوسي 1: 15؛ 1 تيموثاوس 1: 17؛ عبرانيين 11: 6؛ 12: 9، 1 بطرس 1: 17؛ 1 يوحنا 5: 7).

ب- الله الابن

يسوع المسيح هو ابن الله الأزلي، والخالق الذي به كان كل شيء، والكل به وله قد خُلق. وفي تجسُّده حُبل به من الروح القدس ووُلد من مريم العذراء. وقد أعلن يسوع مشيئة الله، وعمل بها، على نحو كامل، آخذاً على عاتقه مطالب الطبيعة البشرية وضروراتها، موحِّداً ذاته كلياً مع الجنس البشري وكن من دون خطيئة البتة. وقد أكرم الشريعة الإلهية بطاعته الشخصية، وبموته على الصليب أتمّ عمل الفداء لتخليص الناس من الخطية. وقد أُقيم من بين الأموات بجسدٍ ممجّد وظهر لتلاميذه وهو الشخص عينه الذي كان معهم قبل صلبه. ثم صعد إلى السماء وهو الآن ممجد عن يمين الله، حيث هو الوسيط الوحيد لكونه جامعاً في ذاته طبيعة الله وطبيعة الإنسان، وفي شخصه تُصبح المصالحة بين الله والإنسان نافذة المفعول. ولسوف يعود في قوة ومجد ليدين العالم. وهو الآن يسكن بالروح القدس في جميع المؤمنين به، كونه الرب الحي الحاضر في كل مكان.

تكوين 18: 1 وما بعده، مزمور 2: 7 وما بعده؛ 110: 1 وما بعده، أشعياء 7: 14؛ متى 1: 18- 23؛ 3: 17؛ 8: 29؛ 11: 27؛ 14: 33؛ 16: 16، 27؛ 17: 5؛ 27؛ 28: 1- 6؛ 19؛ مرقس 1: 1؛ 3: 11؛ لوقا 1: 35؛ 4: 41؛ 22: 70؛ 24: 46؛ يوحنا 1: 1- 8، 29؛ 10: 30، 38؛ 11: 25- 27؛ 12: 44- 50؛ 14: 7- 11؛ 16: 15 و16؛ 28؛ 17: 1- 5، 21 و22؛ 20: 1- 20، 28؛ أعمال 1: 9؛ 2: 22- 24؛ 7: 55 و56؛ 9: 4 و5، 20؛ رومية 1: 3 و4؛ 3: 23- 26؛ 5: 6- 21؛ 8: 1- 3، 34؛ 10: 4؛ 1 كورنثوس 1: 30؛ 2: 2؛ 8: 6؛ 15: 1- 8، 24- 28؛ 2 كورنثوس 5: 19- 21؛ غلاطية 4: 4 و5، أفسس 1: 20؛ 3: 11؛ 4: 7- 10، فيلبي 2: 5- 11؛ كولوسي 1: 13- 22؛ 2: 9؛ 1 تسالونيكي 4: 14- 18، 1 تيموثاوس 2: 5 و6؛ 3: 16؛ تيطس 2: 13 و14؛ عبرانيين 1: 1- 3؛ 4: 14 و15؛ 7: 14- 28؛ 9: 12- 15؛ 24- 28؛ 12: 2؛ 13: 8؛ 1 بطرس 2: 21- 25؛ 3: 22؛ 1 يوحنا 1: 7- 9؛ 3: 2؛ 4: 14 و 15؛ 5: 9؛ 2 يوحنا 7- 9؛ رؤيا 1: 13- 16؛ 5: 9- 14؛ 12: 10 و11؛ 13: 8؛ 19: 16.

ج- الله الروح القدس:

الروح القدس هو روح الله. وقد أوحى قديما ً إلى رجال قديسين أن يكتبوا الأسفار المقدسة وهو يمكن الناس، بواسطة تنوير ذهنهم، لفهم الحق. إنه يمجد المسيح. وهو يُبكت الناس على الخطية ويقنعهم بالبر ويُنبّههم إلى الدينونة. إنه يدعو الناس إلى المخلّص ويُجري فيهم الولادة الجديدة. يُنمي الخُلق المسيحي، ويعزّي المؤمنين، ويمنح المواهب الروحية التي بها يخدمون الله من خلال كنيسته. وهو يختم المؤمن إلى يوم الفداء النهائي. وحضوره في المسيحي المؤمن يؤكّد أن الله يريد للمؤمن أن ينمو إلى شَبَهِ المسيح. وهو ينير ذهن المؤمن ويقوِّيه وكذلك الكنيسة في العبادة والتبشير والخدمة.

تكوين 1: 2؛ قضاة 14: 6؛ أيوب 26: 13؛ مزمور 51: 11؛ 139: 7 وما بعده؛ أشعياء 61: 1- 3؛ يوئيل 2: 28- 32؛ متى 1: 18؛ 3: 16؛ 4: 1؛ 12: 28- 32، 28: 19؛ مرقس 1: 10، 12؛ لوقا 1: 35؛ 4: 1، 18 و19؛ 11: 13؛ 12: 12؛ 24: 49؛ يوحنا 4: 24؛ 14: 16 و17، 26؛ 15: 26؛ 16: 7- 14؛ أعمال 1: 8؛ 2: 1- 4، 38؛ 4: 31؛ 5: 3؛ 6: 3؛ 7: 55؛ 8: 17، 39؛ 10: 44؛ 13: 2؛ 15: 28؛ 16: 6؛ 19: 1- 6؛ رومية 8: 9- 11، 14- 16، 26- 27، 1 كورنثوس 2: 10- 14؛ 3: 16؛ 12: 3- 11؛ غلاطية 4: 6؛ أفسس 1: 13- 14؛ 4: 30؛ 5: 18؛ 1 تسالونيكي 5: 19؛ 1 تيموثاوس 3: 16؛ 4: 1؛ 2 تيموثاوس 1: 14؛ 3: 16؛ عبرانيين 9: 8، 14؛ 2 بطرس 1: 21؛ 1 يوحنا 4: 13؛ 5: 6 و7؛ رؤيا 1: 10، 22: 17.

يؤمن المعمدانيون بإله واحد حي وحقيقي هو الله، وبأنه روح أسمى له ذات، وهو الخالق والحافظ والفادي والحاكم للكون كله. وبما أن الله لا محدود في طبيعته، فمن المستحيل تعريفه. فالتعريف تحديد. ولكن في وسعنا أن نصف الله تعالى.

"إن الله هو الروح الأسمى وله ذات، الكامل في صفاته. إنه مصدر الكون وسنده وغايته. وهو يقود الكون بحسب قصده المُعلَن في يسوع المسيح، القصد الحكيم والعادل والمحب. وهو يحلّ، حيثما يريد، بروحه القدوس، وهدفه دائماً أبداً أن يحوّل كل شيء بحسب مشيئته ويأتي بالجميع إلى غاية ملكوته".

هذا الوصف شامل وعملي في آن. وهو أكثر من وصف فلسفي لا حسي، إذ يتّسم بالود والمحبة ويتحدث عمّا هو الله في شخصه وفي صفاته، وعن علاقته بالكون، وعن قصده الفدائي في المسيح، وعمله بواسطة الروح القدس، وطبيعة ملكوته وغايته. هذا المفهوم عن الله هو مفهوم مسيحي مميز.

أسماء الله

إيلوهيم: هو أول اسم لله يطالعنا به الكتاب المقدس (تكوين 1: 1). وقد كان هو الاسم العام للاهوت، ويُستعمل للدلالة على الإله الحقيقي وعلى الآلهة الوثنية [وهو اسم جمع تُستعمل معه الأفعال بصيغة المفرد حيث يشير إلى الله، وبصيغة الجمع حيث يشير إلى الآلهة المُزيّفة]. أما الكلمة اليونانية المستعملة في العهد الجديد والمعادِلة "لإيلوهيم" فهي "ثيوس" أي الله.

إيل: الاسم المختص لإيلوهيم، استُعمل مدموجاً بكلمات مركبة للدلالة على نواحٍ معينة من طبيعة الله.

أدوناي: ومعناه الأساسي "السيد" أو "الرب". وبينما استُعمل أحياناً بالمعنى البشري كتعبير عن الاحترام، فبالمعنى الإلهي يتضمن فكرة العلاقات الشخصية أو الإسعاف عند الحاجة. أم الكلمة اليونانية المستعملة في العهد الجديد والمعادِلة "لأدوناي" فهي "كيريوس" أي الرب.

يهوه: هو الاسم الذي غالباً ما استُعمل كدلالة على الله؛ وقد ميّز إله إسرائيل من الآلهة الزائفة. وعند العلّيقة الملتهبة أعلن الله نفسه لموسى بوصفه يهوه (خروج 3: 14): "أهيه الذي أهيه" [أي "أكون الذي أكون"؛ و"أهيه" هي صيغة المتكلم من صيغة الغائب "يهوه"، وخير ما يعبّر عن ذلك الكلمة العربية "الكائن"]. وقد كان الله آنذاك على وشك افتداء بني إسرائيل وإخراجهم من أرض مصر على يد موسى. وهكذا أعلن نفسه بصفته الكائن السرمدي الذي سيتدخل لمصلحة شعبه. فيهوه إذاً هو اسم الله المختصّ بالفداء. وجدير بنا أن نذكر أن الكلمة "يسوع" هي اسم مركب معناه "يهوه هو الخلاص".

سجايا الله

إن سجايا الله هي الصفات التي تبين طبيعته. ويسرد مولنز لائحة تضم سبع سجايا طبيعية وأربعاً أدبية (أو خُلُقية). أما السجايا الطبيعية فهي التالي:

وجوب الوجود: إن الله موجود وقائم بذاته؛ وهو أزلي أبدي في كينونته (تكوين 1: 1؛ أشعياء 57: 15).

عد التغيُّر: لا يتغير الله في شخصه ولا في طبيعته ولا قصده. وهو تعالى فعّال ومبادِر وحر الاختيار، ويختبر الفرح والحزن كليهما. وفيما قد يُغيّر طرائقه وأساليبه، فإنه لا يتغير البتّة في طبيعته أو قصده (تثنية 4: 26- 38؛ إرميا 31: 31- 34؛ متى 21: 33- 45؛ 2 بطرس 2: 4- 10).

الحضور في كل مكان وزمان: إن الله حاضر في جميع الأحيان في كل مكان وزمان من الكون الذي خلقه (مزمور 139: 7- 12). وهو لا يحدد زمان ولا مكان لكونه روحاً وذاتاً حرة.

اللا محدودية: الله أسمى من أن يحصره مكان. إنه إله الكون. وليس من مفهوم بشري يُمكن أن يحتويه (رومية 11: 33- 36).

السرمدية: ليس لله بداية ولا نهاية. ومع أن له علاقة بأحداث الزمان، فالزمان لا يحده. ذلك أن الماضي والحاضر والمستقبل هي عنده شيء واحد.

العلم بكل شيء: الله كلي العلم. إنه يعرف كل الأشياء في آن معاً. ومعرفته مباشرة لا تحتاج إلى إعمال فكر أو عقل أو استدلال. وعلمه السابق بالأحداث لا يعني بالضرورة أنه حتم حدوثها سابقاً. وهو تعالى يعلم كيف تسير نواميسه الطبيعية والمادية والأدبية والروحية التي تعمل متجهة نحو غاياتها المحددة. وفي ضوء هذه النواميس، الإنسان حر لأن يختار، لكنه مسؤول عن اختياراته. والله يعلم هذه الاختيارات مسبقاً، لكنه لا يحتمها مسبقاً.

القدرة على كل شيء: إن الله كلي القدرة. وهو يستطيع أن يفعل أي شيء وفقاً لطبيعته وقصده. وهو وحده مَن يفرض حدوداً لقدرته. وحاشا له أن يكذب أو يتصرف على نقيض نواميسه وشخصيته ومقاصده. ومثل هذه الحدود هي بيّنات على قدرة الله وليس على ضعف لديه تعالى.

أما المعجزات فهي أفعال يُجريها الله على نقيض معرفة الإنسان بالنواميس الطبيعية، لكنها ليست على نقيض معرفة الله لهذه النواميس، وهو يُجري هذه الأفعال وفقاً لمشيئة الصالحة وقصده الخيِّر. وعليه، لا تكون المعجزات ممكنة وحسب بل متوقعة أيضاً.

وأما السجايا الأدبية الأربع فهي:

القداسة: تنطوي القداسة ضمناً على تفوق الله الأسمى في الطهارة والصلاح (أشعياء 6: 3). وتفيد الكلمة معنى الانفصال والرفعة. وعندما تُستعمل بالإشارة إلى الأشخاص أو الأشياء تعني التخصيص لخدمة الله. ولأن الله قدوس، فهو يريد لشعبه أن يكونوا قديسين (لاويين 11: 44).

البر: إنه توكيد الله الذاتي لأجل الحق باعتباره نقيضاً للباطل. ولكون الله باراً، فهو لا يستطيع أن يتجاهل الشر أو يغض النظر عنه. والبر يتضمن ما هو في طبيعة الله من صلاح واستقامة وطهارة، وما يطلبه في الإنسان، وما يهبه بالنعمة من خلال المسيح لجميع الذين يؤمنون به (رومية 3: 26؛ 10: 1- 13، 2 كورنثوس 5: 19).

الحق: الله هو مصدر الحق كله وأساسه. وهو المعيار الذي به سوف يُحكم على جميع الأفكار والأفعال. والحق- سواء في العلم أو في الدين- منسجم، لأن كل حق هو من الله. وأي خطأ هو ابتعاد عن طبيعة الله (يوحنا 17: 17). وقد أجاب المسيح الإنسانَ الباحثَ دائماً عن الحق إذا قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يوحنا 14: 6).

ويسوع المسيح هو تجسيد للحق (يوحنا 1: 14، 17؛ 14: 6). وفيه مذّخر جميع كنوز الحكمة والعلم (كولوسي 2: 3).

المحبة: تتخلل سجية المحبة سائر سجايا الله كافة؛ ذلك أن "الله محبة" (1 يوحنا 4: 7- 10). وتتضمن المحبة الوفاء الكلّي تُجاه المحبوب. فالمحبة يريد الله أن يكون في شركة مع خلائقه، كما يريد لهم الخير الأسمى.

الله شخص (ذات)

يقدم الكتاب المقدس الله كونه الروح الأسمى وله ذات (يوحنا 4: 24)، وله جميع الصفات التي تُعزى إلى الشخصية.

إن الله شخص واحد؛ مكتوب: "لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ: الآبُ الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ وَنَحْنُ لَهُ" (1 كورنثوس 8: 6 راجع أيضاً تثنية 6: 4). هذه الآية تُنكر الثنائية (اعتقاد وجود مبدأ خير ومبدأ شر متساويي القدرة يتصارعان للسيطرة على الكون)، وتنكر الحلولية (اندماج الله في كل شيء)، كما تُنكر تعدد الآلهة (اعتقاد وجود عدة آلهة).

ومع أن الله شخص واحد، فهو يُعلن نفسه للإنسان من خلال ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس. إنه الله المثلث الأقانيم: ثلاثة في واحد. وفيما لا ترد الكلمة "الثالوث" في الكتاب المقدس، فقد استعملها ترتليان في القرن الثالث للتعبير عن الحق الذي يُعلّمه الكتاب المقدس: الله الآب (تكوين 1: 1؛ متى 6: 9)؛ الله الابن (تكوين 18: 1 وما بعده، الله في صورة جسمية، يوحنا 8: 36)؛ الله الروح القدس (تكوين 1: 2، يوحنا 14: 26).

هذ الحق جاء إلينا من طريق الإعلان الإلهي وليس من طريق العقل البشري. فإذ جَهِدَ الإنسان في التعبير عن وجود أكثر من عنصر في طبيعة الله، صنع له آلهة عديدين. إن الله أعلن ذاته كونه إلهاً واحداً في ثلاثة أقاليم.ويُرى الثالوث الإلهي واضحاً عند معمودية المسيح (متى 3: 13- 17). أضف إلى هذا أن الله في ذاته المثلثّة جلياً في كلا الخلق والفداء.

الله الآب

لا يُعلّم العهد القديم على نحو واضح بأبوة الله بالمفهوم المسيحي، وإن كانت هذه الفكرة متضمنة فيه. على أنه يظهر في كلا العهدين سيّداً على خليقته وخلائقه بعنايته الإلهية. وهو يوجّه مجرى التاريخ البشري وفقاً لقصده الفدائي. هذا الأمر يبيّنه اختيارهُ لإبراهيم ونسله، أي شعبه المؤمن، كما تبيّنه علاقة شعبه قديماً بالشعوب الأخرى. وهكذا يرى المرء داخل التاريخ العام التاريخ الإلهي المقدس، حيث يوجّه الله شؤون البشر والأمم نحو إتمام قصده الفدائي. وبوصف الله أباً، فهو لا محدود في المحبة والقدرة والحكمة، وهو يعتني بخليقته كلها عناية أبوية.

غير أن الإعلان الواضح عن الله كونه الآب جاء على يد المسيح. فقد دعا المسيح الله أباه، وتحدث إلى تلاميذه عن الله بوصفه أباهم. وهذا التمييز ظاهر بوضوح في يوحنا 20: 17، "أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم".

عن المسيح هو ابن الله جوهرياً وأزلياً. ولكن البشر يستطيعون أن يصيروا أبناء لله من طريق الإيمان بيسوع المسيح. فأُبوة الله الشاملة لجميع البشر فكرة مثالية جميلة، إلا أنها ليست حقيقية. ذلك أن جميع البشر هم خلائق الله، ولكنهم ليسوا بذلك أولاد الله جميعاً. صحيح أن الله يعامل البشر كلهم معاملة أبوية، وهو يريد أن يكونوا جميعاً أولاداً له، إلا أنه أب بالحق فقط للذين يصيرون أولاداً له بالإيمان بابنه.

الله الابن

المسيح هو ابن الله الأزلي. وهو المفتاح لمعرفة الإنسان بالله والتاريخ.

تتردد في العهد القديم أصداء الرجاء المسيحاني. وتسجّل الأناجيل تجسد المسيح. ويروي سفر الأعمال عمله المستمر بواسطة الروح القدس. وتفسّر الرسائل شخصه وعمله. ويُعلن سفر الرؤيا انتصاره النهائي ومجده. وإذ يقرأ المرء الكتاب المقدس، من المهم جداً أن يظلّ مائلاً في ذهنه أن المسيح مركزه ومحوره.

أسماء الله

يتضمن الكتاب المقدس لا أقل من ثمانين اسماً تُعلن شخص المسيح وطبيعته وعمله. ونشير في ما يلي إلى حفنة من هذه الأسماء.

"المسيح" هو لقبه الرسمي، ويعني "الممسوح للخلاص". ولما كان هذا اللقب يحمل مضامين سياسية وعسكرية في أذهان معاصري المسيح، فهو لم يستعمله قط للإشارة إلى ذاته، إلا في محادثة خاصة (يوحنا 4: 25 و26). وقد سمح لتلاميذه راضياً بأن يستعملوه بالإشارة إليه (متى 16: 17). إلا أنه منعهم أن يعلنوه بهذه الصفة قبل الصعود (الآية 20). فعندئذ فقط كان من شأنهم أن يفهموا الطبيعة الروحية لهذه اللفظة. لكن عندما استحلفه رئيس الكهنة، اعترف بأنه المسيح (متى 26: 63 و64). وفي ما بعد صار هذا اللقب الرسمي يُستعمل كاسم علم.

"يسوع" هو اسم الابن الشخصي البشري الخلاصي. ومعنى الاسم في الأصل "يهوه هو الخالص" (متى 1: 21؛ أعمال 4: 12).

"الرب" هو اسم آخر من أسماء الابن. وحيث يُستعمل هذا الاسم في العهد الجديد بالإشارة إلى المسيح وبالمعنى المسيحي الصرف، فهو يعني يهوه في الجسد (1 بطرس 3: 15). وقد اعترف توما يوماً بأن المسيح هو ربه وإلهه (يوحنا 20: 28).

"الكلمة"، حيث تعني المسيح، لا توجد إلا في كتابات يوحنا. ومعناها إعلان منطوق به وصريح. وقد استخدم الفلاسفة اليونانية الكلمة "لوغوس" للدلالة على المبدأ الذي يسيطر على الكون أو نفس العالم. ولكن يبدو أن استعمال يوحنا للكلمة عبريٌّ في طبيعته، وإن كان ممكناً أيضاً أنه اصطبغ باللون الفلسفي.

لقد صدَّر يوحنا إنجيله بالعبارة: "في البدء كان الكلمة" (يوحنا 1: 1). وهذا يذكّرنا بفاتحة سفر التكوين (1: 1). فكل مرحلة من مراحل عمل الخلق الإلهي تُستهل بالعبارة "وقال الله". فهنا إذاً "لوغوس"- إعلان صريح ومنطوق به لله في عمله الخلّاق. وقد استعمل يوحنا "الكلمة" للدلالة على أن المسيح هو أيضاً إعلان الله الصريح والمنطوق به في عمل الفداء.

"ابن الإنسان" هي أحب تسمية أطلقها المسيح على ذاته، والتشديد فيها هو على ناسوته. ومع أن هذه التسمية مسيحانية بطبيعتها، فلا أثر فيها للمعنى السياسي أو العسكري. إنها تعبير عن مشابهة المسيح للإنسان لأجل فدائه. وقد استُعمل هذا اللقب في الأناجيل من قِبل المسيح فقط، إلا حينما تم اقتباسه من قِبل مُستَجوِبيه. وبعد أعمال 7: 56 لا يظهر هذا اللقب ثانية إلا عند الوصول إلى رؤيا 1: 13، حيث يُرى المسيح مقيماً في وسط كنائسه.

"ابن الله" استعمله المسيح والآخرون للتشديد على لاهوته. والمسيح اعترف، عندما استُحلف، بأنه ابن الله (متى 26: 63 و64).

وينكر بعض النقّاد أن المسيح نسب إلى نفسه الألوهة. غير أن استعماله للكلمة "ابن" بوفرة نسبةً إلى الله باعتباره الآب، يدحض مثل هذا الإنكار. فلنلاحظ قوله في يوحنا 10: 30، "أنا والآب واحد". وقد فهم رؤساء اليهود ذلك كإشارة مباشرة إلى لاهوته. ولذا نوَوا أن يرجموه بتهمة التجديف: "فإنك وأنت إنسان، تجعل نفسك إلهاً" (يوحنا 10: 33).

لاهوت المسيح وناسوته

"فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ [وجهاً لوجه لديه أو معادلاً له]، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ" (يوحنا 1: 1). بهذا أعلن يوحنا أن المسيح كان مواكباً لله في الأزلية والوجود والمساواة. والاستعمالات الأربعة للكمة "كان" في الآيتين 1 و2 تعني في الأصل استمراراً في الكينونة. فلم يكن ثمة زمن كان هذا فيه غير صحيح.

كان المسيح في لاهوته فاعلاً في خلق الكون (يوحنا 1: 3). والمعنى الحرفي لهذه الآية: "كل جزء من الكون بمفرده برز إلى الوجود بواسطته، وبمعزل عنه لم يبرز إلى الوجود أي شيء مما قد صار له وجود". وقد عبّر بولس عن الفكرة نفسها، إلا أنه نظر إلى الكون بمجمله (كولوسي 1: 16 و17). ومعنى ذلك حرفياً: "ضمن دائرته تمّ خلق الكون كله.... والكون كله بواسطته ولأجله يقوم مخلوقاً. وهو وحده فقط كائن قبل أي جزء فرد من الكون. والكون كله يتماسك معا فيه هو". إنه هو مَن خلق الكون. وكلما زاد الإنسان علماً عن الكون، عظُم مفهومه للمسيح.

ولعل أعظم آية عن لاهوت المسيح هي كولوسي 2: 9. وهاكها حرفياً: "لأن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً". وهذا يعني أن جوهر اللاهوت بكامله يقيم في المسيح كإنسان. هو نبع الحياة، سواء في ذلك مبدأ الحياة الدنيوية أو الحياة الروحية.

ومع ذلك، فإن مَن كان مساوياً لله في الأزلية والمقام والكينونة "صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا... مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً" (يوحنا 1: 14). فالذي كان هو الله نفسه دائماً صار إنساناً ذا لحم ودم لكي يفتدي الناس من أسر الخطية.

إنه لصحيح أن يسوع المسيح كان هو الله. ولكن الأعجب جداً هو أن الله صار يسوع الناصري! إنه جوهر النعمة والحق بالذات. فلما شاء الله أن يُعلن ناموسه، فعل ذلك بواسطة إنسان هو موسى. ولكنه لما أعلن نعمته، صار إنساناً هو يسوع المسيح. وقد فعل ذلك بواسطة ولادة فريدة في التاريخ.

ولادة المسيح من عذراء

يفيد الكتاب المقدس بوضوح أن يسوع المسيح قد وُلد من عذراء. ويشكّك بعضهم في هذه الحقيقة متذرّعين بذريعتين: أن الولادة العذراوية لا تّكر إلا في إنجيلي متى ولوقا، وأنها مخالفة لنواميس علم الوراثة الطبيعية.

أما على الذريعة الأولى، فكم مرة يجب أن تُذكر الحادثة في الكتاب المقدس حتى تُعد صحيحة؟ فإن إنجيل مرقس يبدأ بخدمة المسيح الجهارية، ولذا فمن الطبيعي أن يتجاوز التوقف عند ولادته وحداثته. وكذلك لا يذكر يوحنا الولادة العذراوية ما دامت قد ذُكرت في إنجيلين سابقَين. غير أنه يلمّح إليها في 1: 14. فبأية طريقة غير هذه يُعقل أن يصير الله إنساناً ذا لحمٍ ودم؟ كذلك يشير بولس ضمناً إلى الولادة العذراوية في غلاطية 4: 4 يقيناً، مع أن ذلك ليس بيد القصيد من الكلام في هذا الموضع. ولم يثر على مر التاريخ المسيحي أي شك في الولادة العذراوية، إلا على أيدي أعداء المسيح (يوحنا 18: 41)، حتى كان القرن الثامن عشر أو التاسع عشر. ولو كان هذا الأمر موضع شك حقيقي لما كُتبت الأناجيل، لكان مثيرون من الأحياء آنذاك كذّبوا الخبر، وربما كانت بينهم مريم نفسها.

إن الولادة العذراوية مدوّن خبرها بالتفصيل في اثنين من الأناجيل. ويوردها متى عندما يقول إن يسوع قد حُبل به من الروح القدس، كما يُعنى متى بالإشارة إلى أن يوسف لم يكن هو والد المسيح (1: 18- 20).

أما لوقا فقد كان طبيباً تصنّفه لغته الطبّية في مستوى جالينوس وأبقراط. وبصفته عالماً، فقد كان يعرف كيف يستكشف الحقائق ويستنبط البراهين. بل يُحتمل أيضاً أنه ربما تحدث مع مريم بالذات، وكان من شأنها ألا تتحرج من إطلاع طبيب على الوقائع الدقيقة المختصة بولادة المسيح. ولو كان في الأمر أدنى شك، لكان لوقا سارع قبل غيره إلى إلقاء الشك على الولادة العذراوية، بالنظر إلى مهنته وممارسته. غير أن البراهين كانت حاسمة على نحو مكّنه من تدوين الخبر الأوفى عن ولادة المسيح (1: 26- 38؛ 2: 1- 19). ورغم التحقيق النقدي الدقيق، لم يثبت على لوقا ارتكاب أي خطأ تاريخي ممكن إثباته. فالإخلاص في البحث الخالي من الانحياز يحمل المرء على قبول رواية لوقا بمعناها الظاهر.

ولكن ماذا تفيدنا قوانين علم الوراثة؟ يجدر بنا أن نذكر أن مريم نفسها طرحت أول سؤال بخصوص الولادة العذراوية (لوقا 1: 34). ولنلاحظ جواب الملاك لها: "لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله" (الآية 37). وما يقُلْه الله يقدرْ أن يفعله.

هل الولادة العذراوية أمر مستحيل؟ حتى الإنسان يستطيع أن يسبّب ولادة بالتلقيح الاصطناعي. إنما لا ينبغي الخلط بين العملية وولادة المسيح. ولكن إذا كان الإنسان يستطيع القيام بذلك، فمن ذا يقول ما يقدر الله أن يفعل أو ما لا يقدر؟ من الواجب ألا نحدّ قدرة الله بقدرة الإنسان. فإن قوانين وراثية لا يعرفها الإنسان هي معروفة لدى الله. ولا يُمكن أن يكون ابن اله مولوداً بأية طريقة أخرى غير تلك التي يذكرها الإنجيل. وليس بأهل الإيمان حاجة إلى أكثر مما ورد في لوقا 1: 35: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ".

حياة المسيح الخالية من أي أثر للخطية

قد يشكّك الساخرون بكيفية ولادة المسيح، لكن خُلقه يُفحم كل تساؤل. فهو قد أعلن الله على نحو كامل من حيث هو القداسة والبر والحق والمحبة. وقد عمل بمشيئة الآب كل حين. "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا" (2 كورنثوس 5: 21).

عاش المسيح بجسد من لحم ودم في عالم فاسد. وقد وحّد نفسه بالإنسان كلّياً، ما عدا الخطية. وهو قد جُرّب في كل شيء كالبشر، إلا أنه بلا خطية. ومن المُحال أن نجد له في حوزة الشيطان ولو خطية واحدة أو خطأً واحداً. حتى أعداؤه لم يستطيعوا أن يجدوا فيه غلطة واحدة.

وقد أشار أحدهم إلى أن حياة المسيح الكاملة في عالم فاسد كانت معجزة عظيمة في المجال الخُلقي شأنها شأن ولادته العذراوية في المجال الطبيعي. وبفضل حياته الكاملة هو مؤهّل لتخليص الناس من خطاياهم (عبرانيين 5: 8 و9).

موت المسيح الكفّاري

وصف بولس المسيح باعتباره "الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً [أي أساساً للغفران] بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ بِرِّهِ مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ: لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ" (رومية 3: 25 و26).

لنتوقف عند الكلمتين: "باراً ويبرّر". إن المسيح، في حياته الكاملة، برر الله في طلبه البر من الإنسان، إذ أثبت المسيح أن الإنسان يستطيع أن يعيش بجسد من لحم ودم في عالم فاسد، وأن يُجرب في كل شيء، ومع ذلك لا يُخطئ. وإذ برهن أن الله بارٌّ، فبموته على الصليب دفع الثمن الذي استوجبته الخطية، وبذلك أصبح المبرِّر أمام الله لكل الذين يؤمنون به مخلّصاً لهم.

وقد كان موت المسيح نيابياً في طبيعته، إذ مات عن خطايا البشر، وهو القائل: "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ" (يوحنا 10: 11). فههُنا صورة لشخص ينطرح على شخص آخر ليحمل عنه العقاب الواجب عليه. وهذا فعله المسيح لأجل الخطاة الضالين. فعلى الصليب احتمل بنفسه كامل غضب الله على الخطية. وقد كان موته طوعياً، إذ لا أحد أخذ منه حياته، بل هو بذلها مختاراً. ود كان هذا الموت موتاً واحداً أنهى المشكلة إلى الأبد. فلن يكون مخلّص آخر، ولا لزوم لواحد آخر البتة: "لَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً [مرة واحدة وإلى الأبد] عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ... هَكَذَا الْمَسِيحُ أَيْضاً، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً [مرة واحدة وإلى الأبد] لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ" (عبرانيين 9: 26- 28).

قيامة المسيح الظافرة

لو مات المسيح وحسْب دون أن يقوم بأي عمل بعد ذلك لكان شهيداً، وليس مخلّصاً. فإنها لحقيقة مجيدة أن "الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ... وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ" (1 كورنثوس 15: 3و 4). وعليه، فهو ابن الله القادر على التخليص بقيامته من بين الأموات. إنه المخلّص المصلوب، لكنه أيضاً الرب الحيّ.

وقيامة المسيح بالجسد من بين الأموات هي أثبت وأوضح حقيقة عبر التاريخ البشري كله. فالأناجيل الأربعة تروي خبرها، وسائر العهد الجديد يُعلن حقيقتها. ومثلما فعل لوقا بالنسبة إلى ولادة يسوع، فإنه- وهو الطبيب والعالم والمؤرخ- يورد أكمل خبر عن القيامة. ولقد باءت بالفشل جميع المحاولات التي استهدفت إنكار القبر الفارغ أو تعليله بما ينفي القيامة.

وإن في القيامة لبرهاناً على لاهوت المسيح، ودليلاً على موته، وتأكيداً للمؤمنين أنه بمعيّتهم كل يوم. كما أن القيامة ضمانة لقيامة جسد المسيحي المؤمن من بين الأموات.

سيادة المسيح ووساطته

بعد أربعين يوماً من قيامة المسيح، ارتفع إلى يمين الآب (أعمال 1: 9)، حيث يملك ويقوم بدور الوساطة والشفاعة (1 كورنثوس 15: 25)، منتظراً ذلك الوقت الذي فيه يُقدّم للآب كوناً مفدياً، طبيعياً وروحياً، بحيث يصير الله (الآب والابن والروح القدس) هو الكل في الكل (1 كورنثوس 15: 2- 28). وعند انقضاء الدهر سيعود المسيح في مجد عظيم وقوة فائقة.

وفي هذه الأثناء هو الوسيط الوحيد الذي على يده يستطيع الخطاة الضالّون أن يتصالحوا مع الله (2 كورنثوس 5: 19- 21). ومعلوم أن الوسيط هو الشخص المعين لمصالحة فريقين متخاصمين. ومن الواجب أن يمثّل الوسيط كِلا الفريقين تماماً وأن يقوم بكل ما هو ضروري للتوفيق بينهما. فالمسيح ببوصفه الله- الإنسان يستطيع أن يقوم بهذا. فإنه يشارك في طبيعة كل من الله والإنسان، وهما يتلاقيان فيه للمصالحة. والمسيح ما زال الآن الله والإنسان. وهو يسكن بالروح القدس في جميع المؤمنين به بوصفه الرب الحي الدائم الحضور.

* الله الروح القدس:

إن الروح القدس هو "روح الله" و"روح المسيح". إذاً هو الله في تعيّن روحي. وكما أن الله هو شخص، فالروح القدس هو شخص. فله جميع سجايا الله وجميع عناصر الشخصية.

معنى الاسم

كانت الكلمة العبرية "رُوح" تعني أصلاً "نسمة"، ثم "ريحاً" وأخيراً "روحاً". ونظيرتها اليونانية تتضمن معنى الجوهر غير المحسوس الذي يملك قوة عظيمة للبناء أو للهدم تبعاً لعلاقة المرء به. ويقترن "الروح" في الكتاب المقدس بالقوة والحكمة والحياة والحق والوداعة والنعمة. ولما باتت الكلمة "الروح" تُطلق على الله، فقد اكتسبت صفة القداسة. ومن هنا يُقال "الروح القدس".

الروح القدس في الكتاب المقدس

يظهر الروح القدس في كلا العهدين، القديم والجديد. ولكنه، شأنه شأن إعلانات إلهية أخرى، يظهر في العهد الجديد أوضح مما في القديم.

يظهر الروح القدس في العهد القديم فاعلاً في الخَلْق. وكان يحل على أناس كي يمكّنهم من القيام بأعمال عظيمة في سبيل الله. والروح القدس هو مصدر الحكمة والبراعة، إذ إنه هو مَن وهب الأنبياء القوة وأعلن لهم حق الله. وقد كان الروح حاضراً في الناس بسلطانه الأدبي (الخُلقي)، كما أنه قد مسح يسوع الإنسان بالقوة.

وفي العهد الجديد كان الروح القدس وهو العامل في الحبل بيسوع (متى 1: 18). وكان حاضراً عند معموديته وتجاره، ويسوع عمل بقوة الروح القدس. فمن المُلاحظ أن يسوع لم يُجرِ أية عجائب إلا بعد مسح الروح القدس له عند معموديته.

وقد أرسل يسوع تلاميذه بقوة الروح القدس (متى 10: 16- 20)؛ ومضى إلى الصليب "بالروح الأزلي" (عبرانيين 9: 14). وقد أُقيم من بين الأموات وفقاً لروح القداسة (رومية 1: 4). وقبل موته، وعد بمجيء الروح القدس في قوة (لوقا 24: 49؛ يوحنا 14: 16- 18؛ أعمال 1: 8). الوعد الذي تم في يوم الخمسين (أعمال 2). ويسجّل سفر الأعمال عمل الروح القدس من خلال المؤمنين لإكمال العمل الذي بدأه يسوع. وباقي العهد الجديد يؤدي مهمة مماثلة، إذ فسّر كاتبوه معنى شخص المسيح وعمله.

عمل الروح القدس

الروح القدس هو روح الله المرسل للقيام بعمله. وبعدما أشرنا إلى هذا عموماً في ما تقدم، نتوقف في ما يلي عند أربعة من أعمال الروح جدير بنا أن نتحدث عنها بشيء من التفضيل.

العمل الأول يتعلق بالكلمة المقدسة نفسها، وهو عمل له علاقة بالإعلان والوحي والإنارة (راجع الفصل الثاني). فقد أعلن الروح القدس مشيئة الله للبشر فأوحى إلى أناس مختارين أن يدوّنوها. وهو الذي ينوّر أذهان الناس كي يفهموا كلمة الله.

والعمل الثاني من أعمال الروح القدس يتعلق بالخدمة. ففي هذا المجال عمل الروح بواسطة الناس، بل بواسطة يسوع أيضاً. ويُرى هذا على أوضح ما يكون في سفر الأعمال. ففي يوم الخمسين حوّل الروح التلاميذ من الانهزام إلى الإقدام مؤتياً إياهم فهماً كاملاً لعمل المسيح الفدائي. وقد مكّنهم الروح أن يتكلموا. بلغات أخرى غير لغاتهم الأم، ممكّناً إياهم بذلك من الكرازة للناس المحتشدين في أورشليم. ووقف الروح مع التلاميذ في وجه خصومهم، وأرشد المسيحيين الأولين في قراراتهم. حتى إن كل تقدم جديد في الكرازة بالإنجيل تم بأمر واضح من الروح القدس أو بموافقته.

أما الثالث من أعمال الروح فهو مع الخطاة الضالين. وقد قال المسيح إن الروح القدس: "يبكّت العالم على خطية وعلى بر، وعلى دينونة" (يوحنا 16: 8- 11). إنه يُقنع الناس، إذ يبكّتهم على خطيّتهم، بأن الخطية العظمى هي عدم الإيمان بيسوع المسيح، ويبيّن لهم البر الذي يطلبه الله والذي يفتقرون إليه ولا يمكن أن يتوفر لهم إلا في المسيح؛ وينبّههم إلى الدينونة التي تستقر عليهم بوصفهم أولاداً لإبليس. وهكذا يتبين للمرء أن دينونة الله عادلة، فإما أن يقبل المرء المسيح للخلاص وإما أن يرفضه للهلاك.

فالروح القدس يُمكّن الخاطي الهالك من الرجوع إلى المسيح بإيمان. وبقوة الروح يُولَد الخاطي من الروح القدس فيصير واحداً من أولاد الله. عندئذ يختم الروح هذا الإنسان ويقدّسه باعتباره مِلكاً لله.

وأما العمل الرابع للروح القدس فهو في المسيحيين المؤمنين. فعندما يصير المرء مسيحياً حقيقياً، يسكن الروح القدس في داخله. ولذا يتحدث بولس عن المسيحي باعتباره هيكلاً للروح القدس. وبفضل سُكناه في المؤمنين، فهو يسكن أيضاً في الكنائس.

قبل أن يعود الرب يسوع إلى الآب، وعد بأن الروح القدس سيأتي ليمكث مع أتباعه: "وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ" (يوحنا 14: 16). وقوله "آخر" يعني من النوع نفسه، أي مثل المسيح. فالروح القدس يعزّي في الحزن، ويشجّع في الاكتئاب، ويحث على الرفعة وعلى الحياة المقدسة تمجيداً للمسيح. وهو يعلّم ويُرشد ويُعين على معرفة كلمة الله الظاهر في الجسد (أي المسيح) وعلى فهم كلمة الله المكتوبة. ويتكلم الروح في ما يسمعه من الآب. وهو يهب المؤمنين مواهب روحية بها يخدمون الله.

ولا يُعلن الروح القدس ذاته، بل يُعلن الله في المسيح، فالأمر الذي يُلقي ضوءاً على أحد الأسباب في فهم الإنسان ليسوع أفضل من فهمه للروح القدس. وقد قال يسوع: "ذَاكَ يُمَجِّدُنِي لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ" (يوحنا 16: 14). أجل يُمجّدني، وليس يمجّد نفسه! وفي هذا ما يوحي أن أي نظام ديني، أو فكر لاهوتي يُعظّم الروح القدس أكثر من تعظيم المسيح، لا يكون من الروح القدس.

فكرة واحدة أخيرة تستدعي الاعتبار، وهي الامتلاء بالروح القدس فقد قال بولس: "ولا تسكروا بالخمر... بل امتلئوا بالروح" (أفسس 5: 18). والمعنى في هذا السياق، كما يبدو، أنه ينبغي للمرء أن يحوز الفرح والابتهاج لا لوقت محدود من طريق تناول الخمر، بل بالخضوع للروح القدس في حياته يتأنى له دائماً أن يتمتع بالرفعة والبهجة.

وقد علّم المسيح بأن الروح القدس يسكن داخل كل مسيحي مؤمن (يوحنا 14: 16 و17). فربما امتلأ المرء بالروح القدس دون أن يمتلئ بالقوة. وكي يصح الأمران، يجب أن يخضع المرء للروح الساكن فيه ويضع نفسه في متناوله. فالأمر لا يتعلق بكم يمتلك المسيحي من الروح القدس بل بكم يمتلك الروح القدس من المسيحي.

لا يعلّم الكتاب المقدس ببركة ثانية أو بمعمودية ثانية للروح القدس. ففي سفر الأعمال لا يأتي الروح القدس إلى الأفراد إلا على أساس اختبارهم الولادة الثانية، خلافاً لحلوله على الكنيسة المجتمعة. وفي مدينة أفسس سأل بولس بعض تلاميذ يوحنا المعمدان: "هل قبلتم الروح القدس لمّا آمنتم؟" (أعمال 19ك 2). فهذا يبدو أشبه "بالبركة الثانية" التي عنها يتحدثون. ولكن هذه الآية تفيد أن قبول الروح القدس مرتبط بالإيمان. فالروح يدخل الإنسان عند إيمانه بالمسيح. وعليه، يكون حضور الروح القدس في حياة المرء دليلاً على حصوله على الولادة الثانية، لا على "بركة ثانية" ولا على تقديسٍ، كما يذهب بعضهم (راجع الفصل الخامس).

ومما يسترعي الانتباه أن "ثمر الروح" ليس فيضاً من البهجة، بل هو "محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف" (غلاطية 5: 22و 23).

فإن كان أحد يعيش في الروح، فعليه أن يسلك في الروح. وبذا يمجّد الله- الآب والابن والروح القدس: "لأن ثمر الروح هو في كل صلاح وبر وحق" (أفسس 5: 9).

للمراجعة والبحث

1- كيف يمكن أن يكون الله ثلاثة في واحد؟ هل تستطيع التفكير في طرائق تكون فيها شخصاً واحداً ومع ذلك تكون لك ثلاث علاقات بالنسبة إلى الآخرين؟

2- ما الفرق بين المسيح بوصفه ابن الله والمسيحيين المؤمنين باعتبارهم أبناء الله؟ كيف يمكن أن يكون المسيح هو الله وإنساناً في آن معاً؟ هل الإيمان بولادة المسيح العذراوية وقيامته أمرٌ جوهري في العقيدة المسيحية؟ أيعني عجزنا عن تفسيرهما، بالنواميس الطبيعية كما نفهمها، أنهما ليستا حقيقيتين؟

  • عدد الزيارات: 4391