اصحاح الإيمان
(رسالة العبرانيين ص 11) يسرد الكاتب في هذا الفصل عن حياة ابطال الايمان في العهد القديم، محاولا اقناع القارئ ان التعامل مع الله هو فقط على اساس الايمان بالله والثقة بالقدير... بالاضافة الى ذلك، ينبغي ان يكون الايمان الصحيح عاملا وفعالا وحيّا ومؤثرا وواضحا لله والبشر.... وكل واحد من ابطال الايمان عمل خطوة واضحة وملموسة تبرهن وتثبت حقيقة ايمان قلبه...
وكل خطوة تختلف عن الاخرى، فابراهيم لم يتخذ نفس الخطوة التي اتخذها نوح، وموسى لم يفعل خطوة مماثلة لخطوة ابراهيم!.. فكل واحد عمل الايمان بالله في قلبه، اظهر ذلك الايمان بطريقته الخاصة وبشكل اصيل وعفوي وتلقائي، بحيث لم يترك اي مجال للشك بايمانه العميق بالخالق....
وايضا لم يكتف احد من ابطال الايمان بالكلام والوعظ والتعليم والشرح وحسن الخطابة وسلاسة التعبير، بل عندما دعاه الله الى اظهار ايمانه، لم يتردد، مع ان ايمانه كلّفه الكثير من التكلفة وتكريس الوقت والتضحية بالغالي والرخيص واحتقار الناس له وسوء فهم البشر لما فعله صاحب الايمان... وكل الخطوات التي اتخذوها كانت غريبة الاطوار، لا يمكن للمنطق البشري ان يقبلها، بل اثارت الاستغراب والاستهجان والازدراء، وسببت الانشقاق في الرأي العام بين مؤيد ومعترض، ومؤيد تحوّل فيما بعد الى معترض.. فنوح مثلا اظهر ايمانه، اذ بنى الفلك او ما يشبه سفينة ضخمة تتسع لمئات الحيوانات.. اي ان نوح عمل امرا لم يفعله احد لا قبله ولا بعده.. فالبعض يحاول تقليد الاخرين في الخدمة والايمان والوعظ، ويحاول نسخ ما فعله الاخرون.. اما نوح ففعل امرا جديدا وغريبا، امرا غير مقبول على الرأي العام والمجتمع والمنطق البشري.. والعجيب انه بقي يبني الفلك مائة عام دون ان يحدث شيئا، مما امتحن ايمان مَن حوله.. وكثيرون بسبب طول السنين من دون ان يحدث امر، تحوّلوا من مؤيدين الى معجبين الى متشككين ومن ثم الى معترضين وساخرين ومقاومين، لانه في النهاية ثمانية اشخاص فقط دخلوا الفلك ومئات من مختلف الحيوانات!.. اي انه كان اجماع مطلق على رفض ما فعله نوح.. ونوح لم يعمل اي انجاز عالمي ونجاح دنيوي، ولم يخدم الرب في وقت الفراغ، بل كرّس كل حياته وعمره ووقته وماله لاطاعة الرب وانجاز خطوة ايمان واحدة، رغم المقاومة من الجميع والاستهزاء من البعيد والقريب.....
وابراهيم مثلا اذ اطاع الرب باظهار عمق واصالة ايمانه، اذ كان مستعدا ان يقدّم اغلى ما عنده، اي ابنه الوحيد الذي احبه، اذ برهن ان القدير اولا، ومن ثم اي شيء او اي شخص في هذه الدنيا.. لا شك ان الايمان اليوم مختلف كثيرا، فهو لا يكلف دولارا، ويتلخص بكثرة الكلام والثرثرة وسرد الايات والقصص والتنافس على المعرفة وعشق المنصب واللهث وراء المنبر... وكثيرون اليوم يريدون ان يظهروا كابراهيم او موسى او بولس، دون ان يكونوا مستعدين ان يمنحوا دولارا واحدا او ان يخسروا ساعة واحدة ، بل يبحثون عما سيكسبون ان تبعوا يسوع... اما المؤمنون في العهد الجديد في الكنيسة الاولى، فقد باعوا كل ما لهم لاجل ايمانهم، وقد رفضهم المجتمع، لذلك صرح الرسول بولس اذ قال لاهل كورنثوس (الثانية ص 13) :" امتحنوا انفسكم، هل انتم في الايمان، ان لم تكونوا مرفوضين ".. وابراهيم ايضا ترك وطنه واهله واملاكه وسافر الى ارض لا يعرفها، ومن دون اي ضمان، بل اطاع الرب، وبذلك صار ابا للمؤمنين، اي مثالا عظيما للايمان... فايمان ابراهيم اظهر ان تعلّقه بالرب وبالقدير لهو اقوى من تعلّقه بابن او بأب او بعائلة او بارض او بوطن او بأملاك او بمنصب عالمي... واليوم نقف عند المنبر ونعظ بصوت جهوري عن ابراهيم ابي المؤمنين وعن عظمة ايمانه، ونحن اليوم غير مستعدين ان نشبهه بشيء!! .. نقول ان ابراهيم كان بطل ايمان لانه تنازل عن كل شيء لاجل ان يربح المسيح، كما قال بولس (فيلبي 3) "احسب الكل نفاية لاجل فضل معرفة المسيح"، ونحن الذين نعظ عن ذلك، نتمسّك بألف امر عالمي ودنيوي، ويبقى ايماننا مجرد كلمات رنانة، وعند الامتحان، نفضّل اي امر عالمي على الرب وعلى شعبه، ونكون مستعدين ان نتخاصم كلوط مع شعب الرب لاجل اكلة عدس احمر جذاب....
واصحاح الايمان يقدّم لنا لائحة عجيبة من ابطال الايمان، كل واحد منهم اظهر الايمان بجمال مختلف، لكنه اصيل، فلم يردد او يعيد طباعة ما فعله الاخرون... فالايمان يجعلنا نفهم وندرك امور الله، ليس بشكل علمي، بل بشكل اختباري.. لا يمكن ان تدرك الايمان بالشكل الصحيح، الا اتخذت خطوة ايمان مميزة، لها تكلفة وفيها تضحية، خطوة يكون فيها متكلك الله فقط... اما اذا كنت تدّعي انك مؤمن بالله وانك من ابطال الايمان، وفي نفس الوقت متكلك او معتمدك هو اموالك وثروتك واهلك وجماعتك ومنصبك واي شيء عالمي انت مختبئ بين جدرانه، اي انك تريد ان تكون بطلا عالميا وبطلا روحيا في نفس الوقت، تبحث عن منصب عالمي، وتريد التطويب من الرب!!.... تظن نفسك حاذقا، اذ تخدع نفسك ظانا انك ستربح الدنيا والابدية.... في هذه الحالة، تخسر كليهما..
وايمان هابيل جعله يقدّم ذبيحة افضل من قايين، مما اثار حقد وحسد قايين، فقام وقتله.. اي ان ايمانه جعله يفقد اغلى ما عنده، فقدَ افضل الغنم، ثم فقدَ حياته في هذا العالم، فمنحه الرب وسام بار، فصار من ابطال الايمان.. وايمان اخنوخ جعله يترك الكل، العائلة والاصحاب والاملاك، ليقضي كل وقته مع الله، مع انه لا يراه، اي انه لم يكتفِ بكثرة الكلام، بل تنازل عن كل شيء، ورأى ان السير مع الرب هو الافضل.. لا شك ان اصدقاءه واهله لم تعجبهم خطوة اخنوخ، فسجّلوه مختلا... ان الكثير من الوعاظ اليوم، للأسف، ما كانوا سيتقبلون ما فعله نوح او اخنوخ او ابراهيم او موسى او داود او الكنيسة الاولى، فيدّعون ان هذا غير ممكن اليوم، اي انهم يحاولون اخضاع كلمة الرب الى عقولهم العالمية والجسدية، لانهم يبحثون عن ذريعة تسمح لهم ان يركضوا ويجمعوا اموالا ومجدا من العالم.... ونوح عندما علِم بدعوة الرب له خاف، فبنى فلكا للخلاص. لا نسمع عن ابطال الايمان انهم ألقوا مجرد عظات وكلمات وخطابات، بل تميزوا بقلة الكلام وعظم الافعال، وافعالهم ما زالت يدوي تأثيرها في كل ارجاء المسكونة.. اما ايمان هذه الايام، فيدعو الى السخرية، اذ قد فقد قيمته، فهو عبارة عن تقليد اجوف وكلمات مبنية على الاستمالة وربح اكبر قسط من الشعبية.. وايمان ابراهيم جعله يتنازل عن كل شيء، حتى انه ترك بابل اضخم مملكة في ذلك الوقت، وبابل كانت مشهورة بالثراء والمجون وقمة العالمية والزخرفة المعمارية، تركها ابراهيم واتى الى ارض كنعان التي كانت آنذاك جرداء وناشفة وخالية من المدنية والعالمية. في منظار اهل بابل، كانت خطوة ابراهيم سخيفة وغبية وتافهه وخالية من اي تفسير او تعليل، وربما قال له بعض الفلاسفة والحكماء، "كان يمكنك ان تبقى في بابل، وفي نفس الوقت تؤمن بالله وتشهد عنه"... لكن ابراهيم ترك الكل ليجد الله واكتفى بالعليّ، لا شك ان موقفه يؤكد ان في العالمية والمدنية وفي جو بابل، لا يمكن ان تجد الله ولا يمكن ان ترضي القدير....
وموسى الذي كان في القصر، وكان سيصبح ملكا على مصر العظيمة، لكنه ترك القصر وذهب الى البرية... في منظار كثيرين اليوم، كان موسى احمقا ، "لماذا لا يبقى في القصر، فيصبح فرعونا لمصر، ومن خلال منصبه، يمجّد الله ويقود الشعوب الى معرفة الله، وماذا سيعمل لله في البرية الجرداء بعيدا عن الشعب!"... لكن حكمة العالم جهالة عند الله، وحكمة الرب تبدو جهالة عند العالم...
احبائي، لا يمكننا ان نعرّف الايمان على هوانا، وكما يحلو لنا، ولا يمكننا ان نصوغ الايمان الصحيح في قالب المدنية والعالمية، وكما يحلو للبشر البعيدين عن الرب... بل علينا ان نقبل الايمان كما يصوّره الانجيل، وليس كما يتخيّله المنطق البشري المريض وعقل الخطاة العليل.... وها نحن نرى اليوم، مستغربين، نتسائل :" لماذا ايماننا هزيل وضعيف وهش، لا يصمد امام اية تجربة".. ان صوت الله في هذه الايام هو الرجوع الى المكتوب، اي الى الايمان كما يصوّره الكتاب المقدس من دون زيادة او نقصان، ومن دون تجميل او تزيين او زخرفة، لان كلمة الله حيّة وفعّالة ولا تحتاج الى تعديل من بشر خطاة هالكين.... واحيانا نجد صعوبة بالرجوع الى المكتوب، لان التقليد متشرش ومتأصل عميقا في عقائدنا ومفاهيمنا، وكثيرا ما نتسائل، لماذا يختبر العالم المسيحي الهزيمة في كل مكان؟؟.. هل الهنا ضعيف، وهل مسيحنا عاجز، وهل انجيلنا هش؟؟!!.. لا شك ان مع الاف السنين، اصبح ايماننا المسيحي، لا يشبه ايمان الانجيل بشيء!!... ربما تغتاظ من هذا الكلام، لماذا؟؟.. السبب البسيط، هو ان الشيطان لا يريدنا ان نعرف الحق، فنتحرر، بل يحلو له ان نقبع في الجهل والبعد عن الله، وجلّ مسرته هو هلاكنا الابدي... ان الرجوع الى الله، هو ليس امر سحري ونفسي وعاطفي، بل هو الرجوع العقلي الى المكتوب ، وفحص كل عقائدنا في ضوء الكتاب المقدس، المرجع الوحيد، ورفض كل التعاليم والمفاهيم الجميلة التي ليس لها اساس في كلمة الرب، حتى ولو مارسناها آلاف السنين.. والاهم هو الاكتشاف العظيم ان الايمان هو ليس حبرعلى ورق، وليس منبر ورعد وبرق، بل ثبات وتضحية وولاء واولوية وقرار ان الله اولا والتعلّق بالرب الذي مات لاجلنا، والاستعداد للتنازل عن اي شيء او اي شخص من اجل ارضاء الرب..
- عدد الزيارات: 6456