Skip to main content

الصفح والغفران

الصفح والغفران

تتميز المسيحية وتمتاز عن كل الفلسفات والمعتقدات العالمية، بواحدة من اجمل الخصال واروع الشيم وابجل الفضائل، وهي المغفرة او المسامحة او الصفح او العفو....

وظهرت هذه الميزة بشكل ساطع على الصليب اذ صرخ يسوع قائلا :" يا ابت اغفر لهم، لا نهم لا يعلمون ما يفعلون".. وقد اطلق يسوع هذه العبارات للذين صلبوه وقتلوه ودقوا يديه ورجليه بالمسامير بوحشية وقساوة.. اعلن يسوع غفرانه للذي اهانه واذلّه واحتقره وبصق في وجهه وجلده وحكم عليه بالموت، واخيرا للذي صلبه وقضى عليه.. امام ظلم وظلمة البشر الحالكة، سطعت شمس الغفران والصفح والعفو من يسوع.. والغريب ان المصلوب المظلوم الذي غفر لصلبيه، لم يكن انسانا بسيطا محدودا وعاجزا، لكنه هو القدير، الذي صنع المعجزات، واثبت انه يستطيع كل شيء.. فالعفو كان عند المقدرة، ويسوع يغفر لاعدائه، بعد ان غمرهم بالاحسان والصلاح، فقد اطعم الجموع وشفى مرضاهم وفتح اعين عميانهم... لا نجد هذه المغفرة في اي كتاب آخر او فلسفة اخرى، فقد قال احدهم :"اني مستعد ان اغفر لعدوي بعد ان اشنقه!"... لكن المسيحية تبقى شامخة وسامية بتعاليمها وممارستها، فهي الوحيدة التي دعت الى الصفح والغفران.. ومَن دعا الى ذلك، فقد نسخ دعوته من الانجيل..

لكن المسيحية لم تكتفي بالتعليم السامي عن الصفح، بل ايضا اعطت المثال العملي والملموس للصفح والعفو والغفران، اولا في يسوع رئيس الايمان ومكمله الذي غفر لصالبيه وظالميه، واعطاهم العذر "اذ قال لانهم لا يعلمون ما يفعلون"... لكن الانجيل لا يعطي فقط مثالا واحدا بل الاف الامثلة من الذين سامحوا وغفروا لاعدائهم سواء في الانجيل او خارج الانجيل اي عبر التاريخ... ففي العهد القديم مثلا نجد مثالا رائعا للمغفرة في حياة داود..... كان الملك شاول يطارد داود من مكان الى اخر، محاولا قتله والتخلّص منه، مع ان داود لم يؤذِه بشيء. طارد شاول داود من دون سبب، اللهم الا الحسد والغيرة.. ويوما ما، كان الملك شاول غارقا في نوم عميق، واتى داود اليه، وكان يمكنه ان يقتله ويتخلّص منه، لكن داود مع ان الفرصة سنحت بابواب واسعة، لم يمد يده على شاول، ولم يؤذه بشيء.. لان داود كان قلبه مغمورا بالمحبة حتى لاعدائه...

وفي العهد الجديد اظهر الرسول بولس في كتاباته ومواقفه كل محبة ومغفرة، لكل الذي طاردوه وحاولوا اطلاق الشكاوي ضده، وايضا قتله.. والتاريخ يتحدث عن كثيرين غفروا وصفحوا لألدّ اعدائهم.. وهنا في البرازيل التقيت بامرأة، كانوا قد قتلوا زوجها في ريعان شبابه، اذ اطلقوا النار في جبهته، وامام عيني زوجته الفتاة الجميلة... ذهبت الزوجة الارملة التي فقدت اغلى ما عندها، وطرقت باب القاتل لزوجها، واخبرته عن موقفها منه، اذ قالت له "انت قتلت زوجي او سلبت مني اعز ما عندي، وانا اتيت لاخبرك انني غافرة لك، وانا احبك وادعو الخير لك"......

والانجيل يتحدث عن غفران الله العجيب بشكل مدهش، لا يمكن لعقل بشري ان يدركه. مثلا يقول الكتاب المقدس "كبُعد المشرق عن االمغرب، هكذا ابعدت عنا معاصينا " (مز103). ولا يقول هنا كبُعد الشمال عن الجنوب، لان المسافة بين القطب الشمالي عن القطب الجنوبي معروفة ومحدودة، مع انها ليست بقريبة.. لكن الكتاب يقول كبُعد المشرق عن المغرب، لان البُعد بين الغرب والشرق غير محدود، بسبب كروية الارض، مما يعبّر عن مدى غفران الله غير المحدود للبشر المعتدين والاعداء... ويضيف، ان الله المحب "لم يجازنا بحسب خطايانا، ولم يعاملنا حسب معاصينا" (مز103).. لان صفحه الى الغمام... وهنا نهتف "مَن هو اله مثلك"، ويتميز بانه "غافر عن الاثم وصافح عن الذنب"... ويقول في مكان اخر ان "الله طرح خطايانا في اعماق البحر". واعماق البحر لا يتصوره منطق بشر، ولا يمكن الهبوط الى اعماق المحيطات، لرؤية خطايانا بعد، لان الله قادر ان يغفر لنا، ولا يريد ان نلتقي بها مرة اخرى، بل فصلنا عنها الى ابد الابدين ، حتى انه يقول "ان الله لن يذكرها بعد"، بل ازالها من امام وجهه الى الابد...

واذا توقفنا للحظة،| وفكرنا قليلا بمعنى التعبير "انه محا خطايانا كغيم"، لان الغيمة السوداء، اذا غابت، غابت الى الابد، ولا يمكن اعادتها ابدا... دعنا نفكر بصدق بخطايانا واثامنا التي لا تحصى ولا تعد، بل هي اكثر من شعور رؤوسنا.. لو حاولنا جمع خطايا الفكر وآثام الفعل وزلات الكلام، لوجدنا كمّا هائلا من الشرور والاخطاء، التي تدعنا نصرخ امام الله، الذي عيناه اطهر من ان تنظرا الى الشر، وهو الذي يرى كل شيء وامام عينيه لا يخفى شيء،... لصرخنا نقول مع داود "يا رب اذا كنت تراقب الآثام، فمَن يقف!" (مزمور 130)....

لكن الله عادل وبار، ومع انه غافر الاثم ومحب ورحوم وعطوف وشفوق ، لكن عدله وبره وحقه لا يدعوه يصفح ويغفر للجميع كل آثامهم، من دون ان يدفع احد ثمنا. لذلك فالقاضي الرحوم لا يقدر ان يغفر لانسان يحبه، والا لأثبت عدم عدله واعوجاجه، فالعدالة الالهية تتطلب ان يدفع احد الثمن، مقابل الحصول على الغفران، فغفران الله لا يمكن ان يتناقض مع عدالته... ولا يقدر الله بسبب صفحه الكامل ، ان يضرب بعرض الحائط عدله وكماله... ويقول الكتاب المقدس ان الله عندما "رأى انه لا شفيع، وانه لا يوجد احد يقدر ان يحل االمشكلة، قرّر ان يقوم بعمل الفداء بنفسه"....اعرف قصة احد القضاة من الناصرة، الذي وجد احد اقرباءه ماثلا امامه في المحكمة، مخالفا للقانون، فوقف محتارا، ماذا يفعل، اذا غفر له لا يكون عادلا، واذا تركه، لا يكون محبا له.. فاصدر قرارا صارما وحازما ضد قريبه، ثم دخل الغرفة الاخرى، ودفع من جيبه المبلغ للغرامة.... هكذا الهنا اراد ان يغفر لنا، دون ان يمس بعدله، فأتى بشرا، مثلنا واسلم نفسه ومات لاجلنا، وهكذا يمكن للقدير ان يغفر لنا ويبقى عادلا ومحبا في الوقت نفسه.....

والان هل يقدر الله ان يغفر للجميع؟؟... يريد الله ان يغفر للجميع، لكنه لا يقدر ان يغفر الا للذين يقبلون عمله البديل عن الخاطي والكفاري للبشر... فاذا سأل القاضي الاعلى الانسان "ومَن دفع مقابل خطاياك؟". فيجيب "يسوع الكامل بذل حياته لاجلي". وعندها لا يقدر الله العادل، ان يأخذ حقّه مرتين...... فالله يغفر كل خطايانا ويبقى عادلا، لكنه يغفر فقط للذين يقبلون عمله الكفاري على الصليب .. اما الذين يعتقدون ان الاعمال الصالحة والنوايا الجيدة واتمام الواجبات الدينية من صوم وصلوات وصدقات، يمكنها ان تكفّر عن خطايا الانسان، فمن المؤكد انهم مخطئون.. لنفرض ان احدهم قتل انسانا، وهو مطلوب للعدالة، وبينما هو في طريقه الى المحكمة، انقذ غريقا... فهل تعفيه المحكمة من جريمته؟!!. ولنفرض ان القاضي ابن عمه، فهل يقدر ان يصفح عنه؟!. ولنفرض ان ماضيه جيد، فهل هذا يعفيه؟!....

واخيرا اريد ان اؤكد ان مَن تمتّع بالصفح الالهي، لا بد ان يُظهر قلبه الصافح والعافي والغافر للاخرين، وخاصة للذين يسيئون اليه ويؤذونه... ففي انجيل متى 18 ، يؤكد الانجيل ان مَن لا يقدر ان يغفر للاخرين، لا يقدر ان يأتي الى الله، طالبا الغفران، ولا يقدر ان يتمتع بالغفران الالهي.... كل الذين عرفوا واعترفوا بخطاياهم وزلاتهم وآثامهم واختبروا الغفران الالي الكامل والصفح السماوي العميق لا بد ان يغفروا ويصفحوا لالد اعدائهم ولاشر مقاوميهم...

  • عدد الزيارات: 7351