الدرس الحادي والأربعون: الإيمان والتبرير
كنا ندرس في المدة الأخيرة خلاصة التعاليم الكتابية التي هي موضوع الإيمان الذي أوحى به الله لعبيده الأنبياء والرسل. وقد انتهينا في درسنا السابق من البحث في الحياة الأبدية السعيدة التي سينعم بها أولئك الذين آمنوا بالله وبكل ما أوحى به.
أما الآن وفي الدروس الآتية فإننا سنشرع في بحث مفصل في موضوع كيفية الاستفادة من الإيمان القويم ونتيجة ذلك في حياة الإنسان. فمن البديهي أنه لا يكفي للإنسان أن يقر بصحة هذا المعتقد أو ذاك لكي يُعد مؤمنا. فالإيمان ليس بالأمر العقلي المجرد عن الحياة. من يؤمن بالله وبما يعلمنا الله في كتابه المقدس، من يؤمن بكل ذلك يشعر أن حياته قد تغيرت بشكل كامل وجذري فالإيمان الذي يُنادي به الكتاب يصل الإنسان بجميع الأمور العظيمة المدهشة التي قام بها الله والتي تجعل حيلته حياة جديدة، حياة سائرة في دائرة المشيئة الإلهية، حياة منسجمة كل الإنسجام مع قانون الحياة والوجود.
ولا بد لنا من التشديد على أهمية الإيمان الشخصي بعد الانتهاء من الكلام عن المواضيع التي تُكَوِّن فحوى الإيمان القويم أي تلك المعتقدات الكتابية التي كنا ندرسها. تُعلِّمنا كلمة الله بشكل لا يقبل التأويل أن الإيمان هو أكثر بكثير من الإقرار العقلي بصحة تعاليم ومعتقدات. الإيمان هو ثقة قلبية أكيدة بالله وبكل ما أوحى الله والذي نجده على صفحات الكتاب.
وهكذا لا نأتي للكلام عن موضوع الإيمان الشخصي حتى نذهب للكلام عن ثمرة الإيمان. ما هي ثمرة الإيمان؟ ثمرة الإيمان القويم هي الحصول على ذلك البر الإلهي المجاني، ذلك البر الذي يجعل صاحبه عائشا في جو روحي سماوي والذي يضمن له القبول التام لدى الله والحياة الأبدية السعيدة. وبكلمة أخرى: يصلنا الإيمان الشخصي بالله وبكل ما قام به تعالى لإنتشالنا من وهدة الهالك الروحي فنختبر ضمن حياتنا عمل الله الخلاصي والفداء الجبار الذي قام به يسوع المسيح على الصليب.
وقد تكلم عن موضوعنا هذا الرسول في مقدمة رسالته إلى مؤمني رومية قائلا:
" لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن ... لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان، كما هو مكتوب: أما البار فبالإيمان يحيا" (1: 16و 17).
وكتب الرسول أيضا في هذه الرسالة عن موضوعنا قائلا:
" وأما الآن فلقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودا له من الناموس والأنبياء، بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون، لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبرِّرين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدَِّمه الله كفارة بالإيمان بدمه" (3: 21- 25).
أما في رسالته إلى مؤمني غلاطية فإن الرسول بولس كتب عن موضوعنا قائلا:
" إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس (أي الشريعة الإلهية) بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضا بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس. لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما" (2: 16).
ولئلا نظن أن الإيمان هو عمل بشري أو نتيجة جهودنا الخاصة وأننا نقدر أن نفتخر بأنفسنا وكأننا نحن سبب قبولنا لدى الله نرى أن بولس الرسول يعلمنا مجانية التبرير والخلاص في رسالته إلى أهل أفسس:
" لأنكم بالنعمة مُخَلَّصون(أي بهبة الله المجانية) بالإيمان (أي بواسطة الإيمان) وذلك ليس منكم: هو عطية الله، ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد" (2: 8و 9).
فالإيمان الشخصي ليس إلا اليد الفارغة التي تستلم من الله جميع هذه الفوائد العظيمة التي هي نتيجة عمل يسوع المسيح الخلاصي الذي تم على الصليب. والكلام عن البر والتبرير بالإيمان يبقى بدون معنى فليما إذا نسينا عمدا موضوع ذنوب ومعاصي وخطايا الإنسان. فلو لم يكن الإنسان مذنبا لما كان بحاجة إلى بر أو تبرير من خارج حياته. لو لم يسقط الإنسان في حمأة الخطية لما كانت هناك حاجة إلى خلاص وإنقاذ وتحرير. لو لم يقع الإنسان في عبودية الشيطان الرجيم لما كانت هناك حاجة إلى فداء. نرى إذا معجزة الإيمان في أن هذه اليد الفارغة تستولي على جميع حاجات الإنسان الروحية نظرا لأن الله تعالى هو الذي قام بتهييء سائر احتياجات الإنسان الروحية وهو الذي يأتي إلى كل منا قائلا بواسطة عبده الرسول بولس:
" لكن حكين ظهر لُطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال في بر عملنا هنا نحن بل بمقتضى رحمته بِغُسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا، حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية" (تيطس 3: 4- 7).
فخلاصة الموضوع هي أن الله تعالى يهبنا مجانا جميع فوائد الفداء الذي أتمه المسيح على الصليب ونحظى شخصيا على هذه الفوائد بواسطة الإيمان. يهبنا الله في خبره المفرح أي في الإنجيل غفران الخطايا والبر والقداسة، بشرط أن نأخذها نحن عن قلب صادق ومؤمن. بالإيمان نتبرر ونحيا وبدون الإيمان نبقى تحت سطوة الخطية والشر وتكون العاقبة موتا أبديا لا خلاص منه ولا نجاة.
- عدد الزيارات: 3384