الأصحاح الثاني - الانفصال عن الله بسبب البعد عنه
(ثانيا) الانفصال عن الله بسبب البعد عنه (ع11-22)
واضح أن موضوع هذه الأعداد يختلف عن موضوع الأعداد السابقة فانه في هذا الفصل يشير بصفة خاصة إلى ما كانت عليه حالة المؤمنين من الأمم قبل إيمانهم بالرب يسوع وما صاروا اليه بنعمة الله بعد إيمانهم به، إلا أن هذا يرسم أمامنا أيضاً حالة وحاجة جميع البشر بصفة عامة وبدون استثناء.
واضح أيضاً أن جميع البشر، بعد الطوفان، تحولوا عن عبادة الله الحى الحقيقى وعبدوا الأوثان الإلهة العديدة الكاذبة، لذا دعا الله رجلا واحدا هو ابراهيم وجعله هو ونسله من بعده مستودعا لمواعيده، وآنية الشهادة له في هذا العالم الشرير، إلا أن إسرائيل، لسبب عدم أمانته، فشل في شهادته لله، الأمر الذي يبينه بكل وضوح صليب ربنا يسوع المسيح. لقد كان البشر قبل صلب المسيح وقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السماء وقبل حضور الروح القدس إلى العالم مكونين من فريقين فقط : اليهود والامم، ولكن بعد يوم الخمسين صار العالم منقسما إلى ثلاثة أقسام : اليهود والأمم وكنيسة الله (1كو10 : 32) أما الكنيسة فإنها مكونة من اليهود والأمم الذين آمنوا بالرب يسوع المسيح.
(11) " لِذَلِكَ اذكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوخِتَاناً مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ "
يشير الروح القدس هنا إلى ما كنا عليه قبل إيماننا بالمسيح يسوع، فقد كنا قبلا من " الامم " وكنا مدعوين " غرلة " ، أما الآن فليس في المسيح يسوع " يوناني (أي أممى) ويهودى، ختان وغرلة...بل المسيح الكل وفي الكل " (كو3 : 11، غل3 : 27و28)
لقد أعطى الله عهد الختان أولاً لابراهيم (تك17 : 9-14) ثم لنسله من بعده، لذا كان اليهود يدعون " الختان " وقد نظروا إلى الأمم بعين الاحتقار داعيـن إياهـم " غرلة " أو الغلف " (انظر 1صم17 : 26و36، 2صم1 : 20) ومع ذلك فقد كان كثيرون من اليهود الذين يفتخرون بأنهم من أهل " الختان " كانوا يهودا " في الظاهر " فقط ولم يكونوا مختوني القلب (رو2 : 25-29).
(12) " أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إسرائيل، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ "
بدون مسيح هذه هي الحالة التعسة التي كنا عليها قبلا " كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ " فمع أن كل غير المخلصين من اليهود والامم على السواء – الكل بدون مسيح، إلا أن هذا كان ينطبق بصفة خاصة على الأمم، اليهود كانت لديهم الرموز والنبوات والمواعيد الخاصة بمجىء المسيا، وقد كان رجاء الإسرائيلي في العهد القديم مركزا في مجىء المسيا الذي يحقق لهم كل المواعيد الإلهية، كما أن كل ظهورات المسيح قبل التجسد كانت لليهود دون سواهم، ولم يدع المسيح مخلص العالم إلا بعد موته فوق الصليب.
ولنسله من بعده بإتمام هذه المواعيد، أما الامم فلم يكن لهم نصيب أو قرعة في هذه المواعيد، لقد كانوا غرباء عنها لذا لا نقرأ في كل العهد القديم أن الله أعطى أي وعد للامم. لقد أعطى مواعيد عن الامم ولكنه لم يعط وعدا واحدا لهم، وحتى العهد الجديد الذي نقرأ عنه في (أر31) وفي (عب8) فاننا لا نقرأ ابدا أن الله قطعه
مع الكنيسة بل بالحري لشعب الرب القديم مستقبلا، إلا أن كل المؤمنين بالمسيح من الامم كما من اليهود أيضاً صارت لهم كل بركات ومواعيد العهد الجديد الروحية من اللحظة التي فيها وضعوا ثقتهم في المسيح يسوع " لأَنْ مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ اللهِ فَهوفِيهِ النَّعَمْ وَفِيهِ الآمِينُ، لِمَجْدِ اللهِ، بِوَاسِطَتِنَا " (2كو1 : 20).
" لاَ رَجَاءَ لَكُمْ " إن من كان " بدون المسيح " هو " بلا رجاء " فكما أن الامم كانوا، قبل مجىء المسيح إلى العالم وموته فوق الصليب، بلا رجاء، كذلك كل من لا يقبل المسيح الآن مخلصاً له فانه لا رجاء له، لأن في المسيح وحده قد أعطى الله المؤمنين به " وَرَجَاءً صَالِحاً بِالنِّعْمَةِ " (2تس2 : 16). أن الرجاء المبارك هو مجىء ربنا يسوع المسيح ثانية ليأخذنا اليه لنكون معه كل حين " مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ الْمُبَارَكَ وَظُهورَ مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ " (تي2 : 13).
" وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ " فبينما كان الامم يعبدون الإلهة الكاذبة الكثيرة ويسجدون لها، فانهم كانوا في حقيقة الأمر " بِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ " لأننا " نَعْلَمُ أن لَيْسَ وَثَنٌ فِي الْعَالَمِ وَأَنْ لَيْسَ إِلَهٌ آخَرُ إِلاَّ وَاحِداً. لأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ مَا يُسَمَّى آلِهَةً سِوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ أو عَلَى الأرض كَمَا يُوجَدُ آلِهَةٌ كَثِيرُونَ وَأَرْبَاب كَثِيرُونَ. لَكِنْ لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ : الاب الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ : يَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ وَنَحْنُ بِهِ " (1كو8 : 4-6).
(13) " وَلَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ "
هنا نرى تداخل الله العجيب في أمرنا نحن الامم، ونعمته الغنية التي أدركتنا في المسيح يسوع. هنا نرى المباينة بين الماضى التعيس الذي كنا عليه والحاضر المبارك والمجيد الذي صرنا اليه بفضل عمل المسيح لأجلنا. عندما عمل الرسول بولس مقارنة بين ماضى اليهود والامم قبل إيمانهم بالمسيح وبين حاضرهم بعد إيمانهم به، أشار إلى تداخل الله برحمته الغنية ومحبته الكثيرة ونعمته الفائقة بالقول " (ولكن) الله الذي هو غنى في الرحمة " (ع4) وهوذا هنا يعمل مقارنة أو بالحري مباينة أخرى بقوله " ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلا بعيدين صرتم قريبن بدم المسيح " لقد كان لليهود شىء من القرب إلى الله على أساس العهد الذي قطعه الله معهم والذي تعهدوا بالقيام بمطاليبه بينما كان الامم " بعيدين " وغرباء عن هذا العهد، غير أن اليهود بسبب فشلهم في القيام بالتزاماتهم في ذلك العهد – عهد الأعمال، أصبحوا هم أيضاً " بعيدين " عن الله " لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ (بَيْن الْيَهودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ). إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله " (رو3) أما الخلاص فهو بالنعمة لليهودى كما للاممى على السواء فاليهودى، حتى في العهد القديم، لم يحصل على خلاص الله على أساس استحقاًقه الذاتي ولا لأنه من شعب الله القديم الذين تميزوا على سائر أمم العالم بسبب عهد الختان، ولا بسبب الذبائح التي قدموها في عهد الناموس، فالذين من بينهم قد خلصوا قد حصلوا على الخلاص بواسطة نعمة الله الغنية المؤسسة على موت الرب يسوع المسيح على صليب العار. هذه هي الذبيحة الفريدة، ذبيحة ربنا يسوع المسيح على صليب العار. هذه هي الذبيحة الفريدة، ذبيحة ربنا يسوع المسيح التي فيها كل الكفاية لخلاص كل من يضع ثقته فيها وفي كفايتها.
لقد كنا قبلا بعيدين أما الآن، نحن الذين في المسيح يسوع، صرنا قريبين بدم المسيح. لا ريب في أن أعظم جريمة أرتكبت في هذا العالم هي قتل ربنا يسوع المسيح وسفك دمه الزكى الكريم. هذه الجريمة التي اشترك في ارتكبها اليهود والأمم، لقد كان موته وسفك دمه الطاهر أعظم إعلان لأشر خطية ارتكبها الإنسان، كما كان أيضاً إعلانا لمحبة الله غير المحدودة ونعمته الفائقة الادراك، فالصليب الذي أظهر منتهي عداوة وفساد القلب البشرى أظهر أيضاً محبة الله التي لا قياس ولا حدود لها، والحربة التي طعن بها ربنا المبارك يسوع، نفذت إلى أحشائه معلنة شر القلب البشرى ولكنها خرجت من جنبه الطاهر معلنة محبة الله ونعمته الغنية – خرجت حاملة الدم المطهر والماء المحيى، يالها من نعمة غنية سمت فوق إثمنا وفجورنا حتى أننا نحن الذين كنا قبلا بعيدين – أمما تعساء ومساكين – أجنبيين وأعداء لله في الفكر في الأعمال الشريرة، صرنا الآن في استحقاًق الدم الكريم قريبين من الله – قريبين بكيفية لم يستطع الناموس أن يهبها لليهود أما اليهودى الذي يؤمن بالمسيح فانه يصل إلى نفس مكان القرب إلى الله الذي صار للمؤمن الاممى، وذلك بواسطة دم المسيح. فهو، له المجد، الله الكلمة الذي صار جسدا لذا فإن لدمه الكريم فاعلية غير محدودة وقيمة لا يدركها سوى الله، ولهذا صرنا الآن " قريبين بدم المسيح " لقد صرنا قريبين إلى الله قربا كاملا، ولا توجد أية مسافة كبيرة أو صغيرة تفصلنا عنه بحيث لا يمكن أن نكون، في أي وقت من الأوقات، أكثر قربا اليه فهل أدرك كل مؤمن حقيقى هذا الامتياز المبارك وهل هو متمتع به عمليا؟ لاشك أن مقامنا كقريبين من الله مؤسس على ذبيحة ربنا يسوع المسيح " بدم المسيح " ولكن تمتعنا به شىء آخر، فإن هذا متوقف على شركتنا معه. فهل شركتنا مع الله
الاب ومع ابنه يسوع المسيح قوية ومستمرة؟ ليتنا نسهر ونواظب علـى الصـلاة لنتمتع عمليا بحالة القرب منه، وفي هذا سلامتنا وسعادتنا " أَمَّا أَنَا فَالاِقْتِرَاب إلى اللهِ حَسَنٌ لِي " (مز73 : 28).
(14) " لأَنَّهُ هو سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حائط السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ "
المسيح يسوع ربنا نفسه هو سلامنا. ما أمجد هذا الحق الإلهي الثمين! فسلامنا ليس هو مجرد فرح في داخلنا نتمتع به الآن وقد يضعف أو يفقد غدا، بل هو المسيح نفسه. هو سلامنا الثابت والدائم والذي من امتيازنا أن يستقر ويستريح إيماننا عليه فنتمتع به عمليا كسلامنا وكموضوع فرحنا. نعم انه من امتيازنا أن نفرح في الرب كل حين وذلك بواسطة الوجود في حالة القرب منه والشركة معه – من امتيازنا أن نبتهج بفرح لا ينطق به ومجيد، ولكن الحق الاسمى هو أن ربنا يسوع المسيح نفسه هو سلامنا، فاننا لا نقرأ في كلمة الله أنه له المجد، هو فرحنا ولا أن الله هو إله الفرح بل إله السلام، لانه هو الذي عمله بواسطة بذل ابنه الحبيب فوق الصليب.
" وَنَقَضَ حائط السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ " يبدوأن الرسول هنا يشير إلى الحائط الذي يظن أنه كان مبنيا في الهيكل والذي كان يفصل بين الدار التي كانت لإسرائيل والدار التي كانت للامم الدخلاء، ويقال أنه كان منقوشا على ذلك الحائط هذه الكلمات " ليحذر الاممى من تجأوز هذا الحائط لئلا يعرض نفسه للموت " ولكن ربنا يسوع المسيح قد نقض حائط السياج المتوسط الذي كان بيننا(1).
(15) " أَيِ الْعداوةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايا فِي فرائض، لِكَيْ يَخْلُقَ الِاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إنساناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً"
جدير بالملاحظة أن المقصود هنا هو أن المسيح، له المجد، إذ بذل نفسه لأجلنا وحمل خطايانا في جسده على الخشبة ابطل العداوة(2) أي ناموس الوصايا في فرائض. أعنى أن اليهود الذين أعطاهم الله الناموس وفرائضه المتنوعة امتلأت قلوبهم بالكبرياء والبغضة والعداوة للأمم الذين لم يعط الناموس لهم.
لقد قضى باللعنة على كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به (غل3 : 10) ولكن اليهود الذين افتخروا على الامم بأنهم هم الشعب المبارك الذين أعطاهم الله الناموس بفرائضه المتنوعة لم يدركوا انهم هم أنفسهم تحت اللعنة لانهم كسروا الناموس ولم يحفظوه ولكن ربنا يسوع ابن الله إذ مات فوق خشبة الصليب صار لعنة لأجلنا " لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ : «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ " (غل3 : 13)
وبموته واحتماًله الدينونة ابطل بجسده ناموس الوصايا في فرائض، فكل الخطاة الذين قبلوا المسيح مخلصاً لهم قد اتحدوا بالمسيح – ماتوا وقاموا معه، ولاسيما اليهودى الذي كان قبل إيمانه بالمسيح تحت سيادة ولعنة الناموس، أصبح بعد إيمانه
(1) And hath broken down the middle wall of partition between us.
(2) Having abolished in his flesh the enmity, even the law of commandments contained in ordnances.
بالمسيح في حرية تامة لان المسيح افتداه من لعنة الناموس فلم يبق للناموس، أعنى ناموس الوصايا والفرائض* أية سيادة عليه.
* المقصود بناموس الوصايا في فرائض هو أن ممارسة اليهودى للفرائض كانت إقرارا منه بانه تحت ناموس الوصايا. هذا هو معنى القول " ناموس الوصايا في فرائض "
صارحها بأنه ليس لها نصيب في تلك المواعيد، فلوكانت قد خاطبته باعتباره " ابن الله " لما تأخر في إجابة ملتمسها، لانه كابن داود هو لإسرائيل وليس للأمم ولكن كم كان تصرف تلك المرأة جميلا إذ عرفت حقيقة أمرها، وأنها ليست من البنين ومع ذلك فقد قالت له " ولكن الكلاب تأكل " فاذ عرفت أنها كأممية ليس لها نصيب في تلك المواعيد، فاضت عليها البركات الإلهية بالنعمة التي في المسيح يسوع " يا امْرَأَةُ عَظِيمٌ إيمانكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ " (مت15).
إن الشخصين الذين أتيا إلى الرب وتعجب من إيمانهما كانا من الأمم – أي قائد المئة (مت8) وهذه المرأة الفينيفية (مت15).
إن هذه الرسالة ترينا أولاً أن الأمم كانوا بعيدين كل البعد عن الله وعن شعب الله، ولكنها ترينا أيضاً أن صليب المسيح قد ابطل كل هذه الفوارق، بل لقد أظهر صليب المسيح أن اليهود، بالرغم من امتيازاتهم التي كانت لهم، كانوا أكثر جرما من الأمم، لانهم رفضوا مسياهم وملكهم وصلبوه، ولاسيما رؤساء كهنتهم فانهم كانوا اكثر تعطشا إلى صلبه، وهكذا الحال دائماً، فانه لا توجد قساوة قلب نظير قساوة المتدين العالمى.
إن الحق الإلهي الواضح هو أن المسيح، له المجد، قد ابطل بجسده العداوة لكى يخلق الاثنين في نفسه إنسانا واحدا جديدا صانعا سلاما. فربنا يسوع المسيح، بموته فوق الصليب، قد صنع سلاما مزدوجا – سلاما بين الإنسان والله، وسلاما بين المؤمن اليهودى والمؤمن الأممى اللذين فصل بينهما حائط السياج المتوسط.
(16) " وَيُصَالِحَ الِاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعداوةَ بِهِ "
صليب المسيح هو العلاج الإلهي الوحيد والكامل لحالة الإنسان المسكين، فإن الخطية لم تفصل الإنسان عن الله فقط ولكنها فصلته أيضاً عن أخيه الإنسان. لقد أوجدت الإنسان في عداوة مع الله ومع أخيه الإنسان أيضاً، فإن أول خطية ارتكبها الإنسان فصلته عن الله وأوجدته في عداوة معه تعالى، كما أن ثاني خطية مذكورة في الكتاب المقدس فصلت الإنسان عن أخيه الإنسان وأوجدته في حالة البغضة والعداوة له حتى قام (قايين) على أخيه (هابيل) وقتله، لذا فقد كان الإنسان في حاجة إلى أن يتصالح أولاً مع الله وعندئذٍ يتسنى له أن يتصالح مع أخيه الإنسان، ولاشك أن ربنا يسوع المسيح هو المصالح الوحيد للإنسان مع الله وللإنسان مع أخيه الإنسان وذلك بواسطة " الصليب " لقد قتل المسيح العداوة بالصليب، أعنى بأخذه مكاننا واحتماله الدينونة نيابة عنا. لقد صالح الاثنين – أي المؤمنين به من الأمم ومن اليهود مع الله، كما أنه جعلهم جسدا واحدا. انه بالصليب قد أعلن محبة الله لنا نحن الذين كنا أعداء له " وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ أن اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ " (2كو5 : 18و19) " لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أن يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الأرض امْ مَا فِي السماوات. وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً اجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الأعمال الشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ الآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ وَلاَ شَكْوَى امَامَهُ " (كو1 : 19-22). لقد حقق المسيح ما كانت تتوق اليه نفس أيوب قديما وكأنه لم يجده " لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا! " (أي9 : 23) فالمسيح، تبارك اسمه، هو وحده الذي استطاع أن يصالح الاثنين مع الله بالصليب قاتلا العداوة به. لاسمه المعبود كل مجد واكرام.
(17) " فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ "
المسيح يسوع ربنا هو الذي جاء بنفسه إلى هذا العالم وكرز بالسلام، أما الآن فإن دائرة كرازته أو سع كثيراً مما كانت في أيام جسده، فهوله المجد يكرز ويبشر بالسلام للأمم ولليهود على السواء وذلك بواسطة الروح القدس المرسل من السماء (1بط1 : 12). فقد وعد الرب تلاميذه قبل ارتفاعه إلى السماء بأنه سيرسل اليهم الروح القدس وأمرهم بأن يذهبوا إلى العالم أجمع وأن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (مر16 : 95) فلا تكون كرازتهم قاصرة على خراف بيت إسرائيل الضالة بل ولجميع أمم العالم أيضاً " فجاء وبشركم بسلام أنتم " البعيدين " أنتم الأمم الخطاة والمساكين الذين كنتم غارقين في لجة من الجهل والظلام، وأنتم " القريبين " أنت اليهود الذين أرسلت اليكم كلمة الله، وكان عندكم نور معرفة الله – هذا النور الذي لم يعرف عنه الأمم شيئا، ولكنكم مع ذلك قد اشتركتم مع الأمم في ارتكاب أعظم جريمة حدثت تحت الشمس – جريمة صلب رب المجد، أما هو ، تبارك اسمه، فانه في غنى محبته قد " بشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين "
(18) " لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إلى الاب "
تبارك اسم ربنا يسوع المسيح، فإن كل مشورات الله من نحو شركة أولاًده تركزت في شخصه الكريم وفي عمله الذي اكمله بموته فوق الصليب، لان به أي بالمسيح وحده لنا كلينا (نحن المؤمنين باسمه من اليهود ومن الأمم) قدوما في روح واحد إلى الاب. أما في العهد الأول فلم يكن هناك قدوم أو اقتراب مباشر إلى الله، والحجاب الذي لم يكن قد شق بعد كان إعلانا إلهيا على أن طريق الأقداس لم يكن قد أظهر بعد. فقد كان الله وقتئذ " إِلَهٌ مُحْتَجِبٌ " (أش45 : 15).
لما طلب الله من موسى أن يصعد اليه هو وهرون وابناه وسبعون من شيوخ إسرائيل، أمرهم قائلا " اسْجُدُوا مِنْ بَعِيدٍ " (خر24 : 1) ذلك لانه لم يكن قد فصل بعد في أمر الخطية فصلا كاملا ونهائيا، الأمر الذي أتمه الله بواسطة موت ربنا يسوع المسيح.
إن بالمسيح يسوع ربنا لنا كلينا قدوما " في روح واحد " إلى الاب، فقد أعطى الله الروح القدس لكل المؤمنين بابنه، سواء كانوا من اليهود أو من الامم " لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أيضاً اعْتَمَدْنَا إلى جَسَدٍ وَاحِدٍ يَهوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً " (1كو12 : 13) فإن كان الناموس قديما قد أوجد فرقا بين اليهودى والأممى، ولكن المسيح قد أزال بصليبه كل الفوارق التي بينهما، والروح القدس الذي أعطى في يوم الخمسين قد جمع كل المؤمنين وجعلهم أعضاء في الجسد الواحد " لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ " (رو3 : 22).
حقاً ما اسمى امتيازات المسيحي الحقيقى! فقد صار له هذا الشرف العظيم – شرف القدوم إلى الاب بعمل وقيادة الروح القدس الساكن فيه. أن الروح القدس هو الذي أعطانا اليقين بأننا أولاًد الله الاب (رو8 : 15و16) وهوالذي يقودنا أيضاً للاقتراب والقدوم إلى الاب وذلك بفضل عمل ربنا يسوع المسيح، فانه به صار لنا حق الاقتراب إلى الاب كأولاًد أحباء. ليتنا لا نهمل التمتع بهذه البركة العظمى – بركة القدوم إلى الاب بقوة الروح القدس وفي قيمة عمل المسيح فوق الصليب.
(19) " فَلَسْتُمْ إذا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنـزلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأهل بَيْتِ اللهِ "
رأينا في تأملاتنا السابقة في هذه الرسالة، انه عندما يخاطب الرسول المؤمنين من الأمم كان يقول " أنتم " وعندما يتكلم عن اليهود يقول " نحن " لان الرسول بولس نفسه هو من المؤمنين بالمسيح من اليهود، لذا يقول " نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ " (ص1 : 12) أما للمؤمنين من الامم فيقول " أَنْتُمْ إذ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إنجيل خَلاَصِكُمُ " (ص1 : 13) وإذ يوجه كلامه الآن إلى المؤمنين من الأمم يقول " فلستم إذا " أنتم المؤمنين من الأمم غرباء ونـزلاء بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله " لقد كنا قبلا " غُرَبَاءَ عَنْ عُهودِ الْمَوْعِدِ " (ع12) – فلم نكن من شعب الله القديم بل " أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إسرائيل " ومع ذلك فإن إسرائيل فشل في مسئوليته، فصـاروا " لوعمى " أي ليسوشعبا لله (هو1 : 9، 1بط2 : 10) لذا دعا الله من بينهم بقية حسب اختيار النعمة (رو11 : 5) وهذه البقية هي جميع الذين آمنوا بالرب يسوع المسيح من اليهود وقبلوه مخلصاً وفاديا لهم فأصبحوا حجارة حية في بيت الله، وكذلك كل الذين يؤمنون بالمسيح من الأمم فانهم يدخلون بنعمة الله إلى هذا المركز عينه، لذا ليسوا فيما بعد " غرباء ونـزلاء بل رعية مع القديسين "
إن المقصود بالقديسين هنا ليس إسرائيل بحسب الجسد. كلا بل أن الإسرائيليين الذين آمنوا بالرب يسوع المسيـح هم المدعو ون هنا " قديسين " لذا عندمـا يقـول " رعية مع القديسين " فانه يقصد بذلك أن الامم الذين يؤمنون بالرب يسوع المسيح ويتحدون به بالروح القدس يصيرون رعية مع اخوتهم اليهود الذين آمنوا بالمخلص المبارك ربنا يسوع المسيح. وقد أشار الرب له المجد إلى هذه الحقيقة بقوله " وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ (حظيرة إسرائيل) يَنْبَغِي أن آتِيَ بِتِلْكَ أيضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ " (يو10 : 16).
إن كلمة " قديس " تعنى شخصا مفرزا ومخصصا لله، وليس المقصود بالقداسة هنا الناحية الاختبارية أو العملية مع ما لهذه الناحية من أهمية، فإن الكثيرين يتصورون أن القديسين هم أشخاص وصولوا إلى درجة الكمال في القداسة، وهذا لا ريب تصور خاطىء، فإن كل إنسان يضع ثقته في الرب يسوع المسيح وفي كفاية عمله فوق الصليب يصير ملكا لله وللرب يسوع المسيح ويصبح قديسا أمامه تعالى، ولكن كل قديس مدعومن الله لان يحيا حياة القداسة العملية. اننا لا نصير قديسين بسبب عيشتنا في القداسة ولكن لان الله جعلنا قديسين وبلا لوم قدامه، لذا يجب علينا أن نحيا حياة القداسة العملية.
ويجب أن لا يفوتنا أن كل امتياز يضعنا تحت الالتزام بأن نعيش كما يليق بهذا الامتياز، فإن كنا " أهل بَيْتِ اللهِ " فيجب أن لا ننسى المكتوب " بِبَيْتِكَ تَلِيقُ الْقَدَاسَةُ يا رَبُّ إلى طُولِ الأيام " (مز93 : 5) " فَاذ لَنَا هَذِهِ الْمَوَاعِيدُ أيها الأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ " (2كو7 : 1)
(20) " مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزاوية "
يرسم الروح القدس أمامنا هنا صورة اخرى للعلاقة المباركة التي بين المسيح وكنيسته، فكما رأينا في الاصحاح الأول هذه العلاقة مرسومة في صورة جسد، وان المسيح المقام والممجد هو رأس هذا الجسد وان المؤمنين الحقيقيين به هم أعضاء هذا الجسد، كذلك نرى هنا هذه العلاقة مرسومة في صورة بناء، وان المؤمنين الحقيقيين هم حجارة حية في هذا البناء، وان ربنا يسوع المسيح هو " حَجَرُ الزاوية " وان هذا البناء قد تأسس بواسطة كرازة الرسل والانبياء. وليس المقصود بقوله " مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ " انهم (أي الرسل والانبياء) هم الاساس بل أن المؤمنين بالمسيح مبنيون على الاساس الذي وضعه الرسل والانبياء، والاساس هو ، بكل يقين " ربنا يسوع المسيح " " فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أن يَضَعَ أَسَاساً آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِعَ الَّذِي هو يَسُوعُ الْمَسِيحُ " (1كو3 : 11) ربنا يسوع المسيح هو الاساس وهو أيضاً حجر الزاوية.
ثم لنلاحظ أن المقصود بالانبياء هنا ليس أنبياء العهد القديم. صحيح أن روح المسيح فيهم كرز بالمسيح وشهد له شهادات عجيبة ومباركة، فما أعجب ما كتبه أولئك الانبياء عن المسيح! تأمل مثلا في نبوات اشعياء الصريحة عن المسيح – عن ولادته من عذراء وعن حياة الاتضاع الفريدة التي عاشها في هذا العالم، بل وما أعجب ما كتبه عن آلامه وموته الكفاري! (ص53) وكذلك ما تنبأ به عنه ارميا وزكريا وميخـا وغيرهـم " بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أو مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ، إذ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا " (1بط1 : 11). نعم فإن " فإن شَهَادَةَ يَسُوعَ هِيَ رُوحُ النُّبُوَّةِ " (رؤ19 : 10)، ومع ذلك فليس المقصود هنا أنبياء العهد القديم فإن الله لم يشأ أن يبنى كنيسته على أساس قديم بل بالحري على أساس جديد ومجيد هو المسيح المقام من بين الأموات والممجد، لذا لا يقول " مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ َالأَنْبِيَاءِ والرُّسُلِ " بل يقول " مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ " ومما يؤيد هذه الحقيقة قوله عن سر المسيح " الَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائه بِالرُّوحِ " (اف3 : 5) وكذلك قوله أيضاً عن المسيح بأنه بعد صعوده إلى السماء " أَعْطَى الْبَعْضَ أن يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ " (أف4 : 11) فواضح اذن أن الانبياء هنا هم أنبياء العهد الجديد، فإن بعض كتبة أسفار العهد الجديد أمثال مرقس ولوقا وغيرهما لم يكونوا رسلا ولكنهم كانوا أنبياء – فقد أقامهم المسيح هم والرسل في البداءة لوضع الأساس أعنى الكرازة بالمسيح والمناداة بإنجيله المبارك.
" وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزاوية " هذا هو الحق الاساسى والجوهرى، فإن كان الرب، له المجد، قد أعطى البعض أن يكونوا رسلا والبعض أنبياء وقد استخدمهم في تأسيس كنيسته بواسطة الكرازة بالإنجيل، وان كان لدينا الآن كتاباتهم الموحى بها من الله والتي نشكر الله كثيراً لأجلها، إلا انهم هم شخصيا ليسوا باقين في هذا العالم، أما ربنا يسوع المسيح فهو " حَجَرُ الزاوية " الذي يلازم البناء من أو له إلى نهايته " يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد "
لقد أشار الرب إلى هذا الحق عندما سأل تلاميذه قائلا " من يقول الناس أنى أنا ابن الإنسان؟ فأجابه بطرس " أنت هو المسيح ابن الله الحى " فقـال له الرب " طُوبَى لَكَ يا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أن لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ لَكِنَّ ابي الَّذِي فِي السماوات. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أيضاً : أَنْتَ بُطْرُسُ وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ ابني كَنِيسَتِي " (مت16) ومما لا ريب فيه أن المقصود بالصخرة هو الإيمان والاعتراف بأن المسيح هو ابن الله الحى. هذا هو الحق الجوهرى والمبارك الذي تعلمه بطرس من الرب، والذي نبر عليه في رسالته الأولى (ص2) بقوله عن المسيح انه " حجر حى " (ع4) وانه " حجر زأوية مختار من الله وكريم " (ع4و6) وان هذا الحجر صار " رأس الزاوية " والرب نفسه في حديثه مع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب (مت21) قد اشار إلى هذه الحقيقة – أعنى إلى انه هو الحجر الذي وان كان البناؤون قد رفضوه ولكنه صار رأس الزاوية وقد اقتبس الرب هذه الكلمات من مز118 : 22و23 (اقرأ أيضاً ما تنبىء به عنه في اش28 : 16، زك4 : 7).
(21) " الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي الرَّبِّ "
جميل أن نرى هنا الضمان الإلهي الثابت والأكيد لسلامة هذا البناء المقدس، فكل واحد من المؤمنين هو حجر حى مركب وممكن ومثبت في مكانه في هذا البناء الإلهي، وذلك بواسطة المسيح حجر الزاوية، فهو " الذي فيه كل البناء مركبا معا " ثم أن هذا البناء ينمو هيكلا مقدسا في الرب. انها حالة نمو وليست حالة كمال، ولكن عندما يكمل هذا البناء – الهيكل المقدس في الرب كم سيكون مسكنا مجيدا لله ولربنا يسوع المسيح في كل أجيال الدهور الآتية.
عندما نتأمل في هذا الحق المبارك – أعنى صيرورتنا حجارة حية في هذا البناء الإلهي – في هذا الهيكل المقدس للرب ألا يقودنا تأملنا في ذلك إلى إدراك أهمية العيشة في القداسة وإلى الحياة النقية الطاهرة والمكرسة للمسيح؟
يشير الرسول بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس (ص3) إلى المؤمنين بأنهم هيكل الله " أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟ " وكذلك في رسالته الثانية اليهم يقول " وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأوثان؟ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ : «إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً " لذا يحرضهم الرسول قائلا " لِذَلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِساً فَأَقْبَلَكُمْ، وَأَكُونَ لَكُمْ اباً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ» يَقُولُ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَاذ لَنَا هَذِهِ الْمَوَاعِيدُ أيها الأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ " (2كو6 : 6-17). ليت إدراكنا لهذا الامتياز المجيد والمبارك يقودنا إلى حياة الانفصال القلبى والصحيح عن كل ما ليس من المسيح وليس لمجده.
(22) " الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أيضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلَّهِ فِي الرُّوحِ "
قديما كان للرب مسكن على الأرض أعنى الهيكل الذي كان مكان سكناه ولكن ليس " في الروح " بل بواسطة أشياء مادية منظورة، أما الآن – في تدبير النعمة الحاضر، فإن الله يسكن على الأرض بكيفية أجمل وأعظم بركة وذلك بواسطة الروح القدس الساكن في كل المؤمنين الحقيقيين، فإن عمل الروح القدس هو جمع أولاًد الله معا وجعلهم مسكنا لله. انه ساكن في الكنيسة جاعلا إياها هيكلا لله، وليس المقصود هنا سكناه في المؤمنين كأفراد مع أن هذا حق ثمين ومبارك، ولكن علاوة على سكناه فيهم كافراد فانه يسكن في المؤمنين كجماعة – ككنيسة المسيح جاعلا إياها " مسكنا لله " ما أثمن هذا الحق! ولكن الله ينتظر منا أن نسلك في ضيائه – أن نسلك بالقداسة التي تليق بهذا الحق.
- عدد الزيارات: 8889