حث على إظهار هذه الأثمار في أعمال المحبة (6: 1- 10)
استمر بولس في وصف كيفية السير بحسب الروح ثم جعل ذلك الوصف ضمن ابتهالات مختلفة فتناول أولاً كيفية معاملة المؤمن الذي يؤخذ في هفوة كما كان يؤخذ معظم الغلاطيين فقال مخاطباً الأقلية البارة:-
"أيها الإخوة لئن بوغت إنسان في زلة ما" أي من يخطئ بوجه لا يقبل الشك ولم يكن له عذر في خطأه "فاصلحوا" ولفظة "اصلحوا" في الأصل اليوناني مأخوذة من كلمة معناها حبر العظيم المنخلع ومثل ذلك الجبر يقتضي قوة وذكاء "أنتم الروحيين" أي الذين "تسلكون بحسب الروح" ولم تزيغوا عن خطة النعمة "مثل هذا بروح الوداعة" لأن الوداعة كما قلنا سابقاً من ثمار الروح. وبغير الوداعة لا يفيد التوبيخ شيئاً "ناظراً إلى نفسك" يتحول الخطاب هنا إلى صيغة المفرد ليكون أشد تأثيراً في نفس المخاطب "لئلا تجرّب أنت أيضاً" فتسقط في خطأ ما أو في الخطأ عينه. ولا يخفى أن مثل هذه المعاملة تقتضي ألا يفرح الموبخ بتوبيخ الشخص الملوم بل بالعكس أن يشعر بالألم الناتج عن ذلك. وبناء عليه يقول الرسول "احملوا بعضكم أثقال بعض" بمؤاساتكم الآخرين في أحزانهم وشعوركم معهم بالحزن من جراء سقوطهم في الخطية "فتتموا بذلك شريعة المسيح" الذي وقف عند المعمودية موقف الخاطئ وتحمل على الصليب الحكم الذي يتحمله الخطاة مع أنه لم يكن خاطئاً بل رضي بحمل خطايا ابشر في جسده على الصليب. وكل سلوك مغاير لهذا لا يعد فقط غير لائق بل شاذاً جداً لأنه يكون إذ ذاك صادراً عن التكبر الذي هو غرور في النفس "فإنه إن ظن أحد أنه شيء" عند توبيخه أخاه "وهو ليس بشيء" في حقيقة أمره "فهو ينخدع بوهمه" ويعرض نفسه لخطر السقوط بسرعة فموقف المنتقد والموبخ من أحرج المواقف. "ولكن" بالأحرى "ليمتحن كل واحد عمل نفسه" أي لينتقد كل رجل نفسه وعمله لأننا على هذا المبدأ سندان جميعاً في اليوم الأخير. متى 7: 1- 5 و1 كور 4: 1- 5 "وحينئذ يجد شيئاً يفتخر به" حقاً إنه بعد تمحيص النفس لا يبقى في الإنسان إلا كل ما هو حسن يستحق المدح. وهذا ليس لأفضلية عمله على غيره بل لجودة العمل في حد ذاته (يو 3: 21). لذلك أضاف الرسول قوله "من جهة نفسه فقط لأن كل واحد سيحمل حمل نفسه" في ذلك اليوم الرهيب عندما يقف كل إنسان بمفرده أمام كرسي الدينونة حيث "لا تزِرِ الوزارة وزرَة أخرى". فهذا القول تتميم لقوله "احملوا بعضكم أثقال بعض" وإن يكن في الظاهر عكسه. هما حقيقتان متكاملتان.
"أما الذي يتعلم الكلمة فليشارك المعلّم" والعبارة الأصلية تشير إلى التعليم الديني الذي كان "الموعوظون" يتلقونه في الاجتماعات الدينية على يد "المعلمين". أما المشاركة المطلوبة فهي "في جميع الطيبات" أي خيرات الحياة المادية الضرورية. والمشاركة المشار إليها هي جزء من السلوك بحسب الروح الذي سبق الكلام عنه. والغرض منها تعضيد رعاة الكنيسة. "لا تضلوا" بقولكم "إننا نستطيع أن نكون روحيين وإن لم نعطِ عطايا مادية" "فإن الله لا يزرى به" وكلمة يُزرى في اليوناني تقابل معنى "الضحك على الذقن" في التعبير العامي وغرض بولس الرسول هو أن يقول لكم لا تستطيعون أن تهزأوا بالله بتظاهركم بأنكم روحيون حالة كون أعمالكم تكذب على ذلك "لأن ما يزرعه الإنسان" من كرم أوشح "إياه يحصد" كما حصدت الأرملة التي أعطت الفلسين وكما حصد الغني البخيل في لوقا 16 منفقاً ماله في سبيل سعادته "فمن الجسد يحصد فساداً" لأن إنفاق المال في مثل ذلك لا يعود عليه بنفع أبدي" ومن يزرع الروح "أي ينفق في سبيل الذي تلهمه إليه محبة الله والإنسان" "فمن الروح يحصد حياة أبدية" لأن هباته في ذلك السبيل لابد أن تكافئه مكافئة أبدية. "فلا نخر" أي لا تثبط عزائمنا كما قد تخور عزيمة الجندي في ساحة القتال "من عمل الخير" أي الإحسان إلى الجميع "فإننا سنحصد في الأوان إن كنا لا نكلّ" ولفظة "نكلّ" في الأصل اليوناني مأخوذة من كلل العامل بإجهاده نفسه "إذن" أي بناء على ما تقدم "لنصنع الخير للجميع" ليس فقط بمساعدتنا الرعاة لأن ذلك مناف للإحسان العام الذي قرره المسيح مثل السامري الصالح "حسبما تسنح لنا الفرصة" ربما كان المعنى أتم لو استعملنا لفظة "الفرصة" هنا بصيغة الجمع لأن غرض الرسول هو أن لكل فرصة من الفرص عملاً إذا تم في وقته كان خيراً. فحبذا لو نغتنم الفرص جميعها ونصنع الخير للجميع بغض النظر عن جنسهم أو حكومتهم أو دينهم أو طائفتهم "ولا سيما لأهل الإيمان" لأن الإحسان العام إلى الجميع لا يمنع إيفاء بعض الواجبات الخاصة من نحو الأقربين. فليس في الناس من يجيع طفله ليشبع طفل غيره فكلا العملين مهمان ولكن "الأهم فالمهم"[1].
[1]- يتضح من هذا أن الغلاطيين كان يعوزهم التشجيع والحث على الإعطاء وهو الموضوع الذي كان شاغلاً يومئذ أفكار بولس لأنه كان عازماً على القيام بسياحة يجمع فيها أموالاً من الكنائس الغربية لمساعدة القديسين الفقراء في أورشليم (1 كورنثوس 16: 1) وقد ورد هناك صريحاً أن بولس جمع تبرعات من كنائس غلاطية فعلاً.
- عدد الزيارات: 1921