Skip to main content

عودة الرسول إلى الكتابة محذراً أهل فيلبي من خطأين متضادين

2:3-14

وهاك نص التحذير "راقبوا الكلاب. راقبوا عمل السوء. راقبوا أهل التقطيع" وقوله ((أهل التقطيع)) يوضح سبب التحذير فإن الرسول كان يشير إلى نفس القوم الذين كتب ضدهم رسالته إلى أهل غلاطية قبل ذلك بعشر سنوات وهم اليهود المتنصرون الذين كانوا يهتمون بجعل المهتدين من الأمم يهوداً قبل أن يجعلوهم مسيحيين أي أنهم كانوا يلزمونهم بالأختتان. وقد سمي الرسول إساءة استعمال الختان ((قطعاً)) (انظر غلاطية 12:5) وفي الواقع أن ((أهل التقطيع)) كانوا يعملون منذ عشر سنوات على إفساد عمل بولس وقد كادوا يفلحون في غلاطية وكورنثوس فهل يلام الرسول إذا سماهم عمال سوء وكلاباً وهم الذين كانوا يسعون لتقويض أركان العمل الذي كان يقوم به؟ فهم كانوا عمال سوء. والختان الذي كانوا يفرضونه على الأمم المهتدين لم يكن سوى ((قطع)) أو تعذيب

"فأننا نحن أهل الختان" الحقيقيون "العابدون اللَّه بالروح" وهذا سبب كوننا أهل الختان أنظر رومية 29:2 وهو قوله: ((بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي. وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان. الذي مدحه ليس من الناس بل من اللَّه)) فالختان الأصلي لم يكن مجرد طقس رسمي بل كان رمزاً إلى الطاعة والطهارة الأدبية وتكريس النفس. ولهذا أمر موسى بني إسرائيل أن يختتنوا بقلوبهم لا بأجسادهم فقط (تثنية 16:10و6:30) وصرح أرميا بعدم فائدة الختان الجسدي إذا لم يكن مصحوباً بختان القلب (ارميا 4:4و26:9) وبما أن الإيمان الحقيقي بالمسيح يقتضي ختان القلب والطاعة وتكريس النفس والطهارة فقد كان الرسول مصيباً بقوله ((نحن أهل الختان العابدون بالروح)) "المفتخرون بيسوع المسيح" الذي عيَّنه اللَّه ليكون مخلصاً للعالم فنحن المفتخرون به "غير المتكلين على الجسد" فاليهودي يتكل على كونه مولوداً يهودياً مختتناً حسب الناموس ويعتقد أن مجرد هذه الأمور تخلصه وبعبارة أخرى أنه يتكل على أمور مادية فانية. وان كل مباهاة بالامتيازات الجسدية هي مناقضة لروح الإيمان بالمخلص الذي قد عينه اللَّه لخلاصنا.

وقد إشتهد الرسول بنفسه فأشار إلى الإمتيازات العظيمة التي كان يتمتع بها سابقاً والتي نبذها حباً بالمسيح.

الخطأ الأول:


وجوب إخضاع المسيحيين للشريعة اليهودية ص 4:3-14 يقابل الرسول بين تعليم البر بالأعمال وتعليم البر بالنعمة. بين حياته الماضية وحياته الحاضرة. تعليم البر بالنعمة يؤدي إلى النمو بالكمال وهذا ما حداه على الكلام عن الموضوع الثاني.

ص 3: 4- 14

يقابل الرسول بين تعليم البر بالأعمال وتعليم البر بالنعمة، بين حياته الماضية وحياته الحاضرة، وأن تعليم البر بالنعمة يؤدي إلى النمو في الكمال 4:2-14

"مع أن لي أن أتكل على الجسد أيضاً" لو أردت "أن ظن احد أن له أن يتكل على الجسد" أي على الامتيازات والاستحقاقات الشخصية "فأنا أجدر بذلك" للأسباب الآتية.

وهي أنني "فمن جهة الختان مختون في اليوم الثامن" حسب الناموس "من آل إسرائيل" الشعب المصطفى "من عشيرة بنيامين" أي من نسب معروف "عبراني من العبرانيين" أي يهودي الآباء والأجداد "باعتبار الشريعة فريسي" أي من أشد شيع اليهود تعصباً وطنياً "باعتبار البر الذي حسب الناموس أصبحت بلا لوم" لأن الفريسيين كانوا يباهون بمحافظتهم على حرف الناموس في الأمور التافهة "على أن الأشياء" مثل هذه "التي كانت ربحاً لي" والتي كانت رأس مال لي سواء كان باعتبار الروحيات أو الأدبيات أو الماديات إذ كنت أزعم أنها تستطيع أن تخلصني وتكسبني احترام العالم فضلاً عن أن مستقبلي كان متوقفاً عليها. ومع ذلك فان جميع تلك الأمور "قد حسبتها من أجل المسيح خسارة" لأني حالما آمنت به لم يعد لتلك الأمور قيمة على الإطلاق فكأنني أضعتها وأضعت حياتي معها.

وقد قال المسيح له المجد أن من خسر حياته من أجله يكسبها فكلام بولس إذاً تأييد له.

قال: "بل أنا احسب كل شيء خسارة" أي ليس الأشياء المشار إليها فقط. وحسبانها خسارة هو إذا كان الإنسان يباهي بها. ذلك "بسبب أفضلية معرفة ربي يسوع المسيح" لان المسيح وحده هو الذي يخلص فبمعرفته تغني عن كل شيء ولأن جميع أفراح العالم هي كلا شي بإزاء الفرح الناتج عن معرفة المسيح.

"الذي من أجله حرمت كل الأشياء" لأن اليهود تنكروا مني عند ما نبذت الامتيازات اليهودية. "وأنا أحسبها نفاية" بلا قيمة على الإطلاق "لكي أربح المسيح" الذي هو وحده ذو قيمة حقيقية "وأكون فيه"- وهنا يتكلم بولس كمسيحي متصوف معبراً عن رغبته في الاندماج بالمسيح اندماجاً روحياً عالماً إن ذلك يكسبه براً أسمى وأتم من البر الذي يكسبه إياه التدقيق في حفظ شريعة موسى. لذلك قال "ليس لي البر الذي حسب الشريعة" أي الذي ينظر فيه المرء إلى اجتهاده ويرتاح إلى نتيجة ذلك الاجتهاد "بل الذي بالإيمان بالمسيح" لأن الأيمان الحي فيه يفضي إلى الاتحاد الحي معه ويؤدي إلى غفران الخطايا من أجل الموت الذي ماته المسيح. بل إن الإيمان الحي يجعل المرء يعيش عيشة القداسة التي عاشها المسيح فهذا البر الجديد الذي يتناول البر القديم ويمتد إلى أبعد من مداه هو "البر الذي من اللَّه" لأنه متعلق على اللَّه الذي أعلن نفسه بالجسد أو على كلمة اللَّه الأزلية التي أرسلت لإنقاذ البشر "بالإيمان" لأن المطلوب من الإنسان هو القبول والتسليم وكلاهما في استطاعة كل امرئ وليس للامتيازات الجنسية هنا تأثير. فالمسيحي بهذا الاعتبار- أي باعتبار التسليم- هو ((المسلم)) الحقيقي.

وقد ذكر بولس ما يكسبه المؤمن من ((تسليمه)) بعد خسارته لجميع الأشياء وما تتضمنه كلمة الخلاص فقال

"لأعرفه" أي لأعرف المسيح شخصياً وأذوقه وأختبره وأتمتع بصحبته وهي أمور تفوق كل ما في العالم "وقوة قيامته" معطوف على الضمير في أعرفه. وقيامة المسيح شرط واجب من شروط تلك المعرفة إذ لا يستطيع أحد أن ((يعرف ميتاً)) بهذا المعنى. فنحن نستطيع أن نعرف المسيح لكونه غلب الموت وقام من القبر وهو يحيا إلى الأبد حياة مجيدة فمعرفة قوة قيامته (أفسس 18:1-20) تعني خبر حياته في النفس وغلبته على الخطية والتجربة والمصائب. وهو يمنحنا قوة للصلاة والشهادة ونشر الإنجيل بين الناس. وقد أدرك بولس هذه القوة وحسب خسارة كل شيء بإزائها كلا شيء.

إلا أن هنالك أمراً آخر وهو أن إدراك تلك القوة لا يتم إلا مع "شركة آلامه" لأن المسيح إنما سار نحو قيامته في طريق الآلام وكان في جميع أيامه على الأرض رجل أحزان. وبناء عليه فمن كان المسيح قد تملكه وجب عليه أن يتوقع الآلام التي عاناها المسيح فيتحمل أحزان هذا العالم والأحزان الناشئة عن الإضطهادات (كما اضطهد العالم المسيح وقاومه) والأحزان التي تصيب أولئك الذين يسعون لخلاص الأنفس ويتوجعون لكل فشل يحل بمساعيهم.

هذه هي الأمور التي أراد بولس أن يعرفها ويشترك فيها كما يريد أن يعرف قوة قيامة المسيح. وقد قال لأهل كورنثوس مرة:- ((فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل. فبكل سرور افتخروا بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليَّ قوة المسيح. لذلك اسر بالضعفات والشتائم والضرورات والإضطهادات والضيقات لإجل المسيح لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي)) (2كورنثوس9:12و10))

ترى كيف نستطيع تفسير هذا الأمر الغريب أي الرغبة في مشاطرة آلام الآخرين؟ نفسرها بطريقتين:

  • أن هذه المشاطرة تقوي ربط المحبة وتمكنها بأسلوب خاص. فبولس الرسول كان

يشعر بوثوق ربط المحبة التي بينه وبين المسيح بسبب آلامه ولذلك كان يرحب بتلك الآلام (2) أن النجاح في سبيل الإنجيل لا يتأتى إلا عن طريق معاناة الآلام (2كو9:12) وكذلك المجد فأنه لا ينال إلا بهذه الطريقة. ولا بد دون الشهد من إبر النحل. وقد قال في موضع آخر: ((لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته)) (رومية5:6) وفي هذه العبارة مفتاح للآية التالية من الرسالة التي نحن بصددها وهي قوله "متشبهاً به في موته" فان كل من نظر إلى سيرة بولس تذكر بسببها موت المسيح. وأحسن تفسير لهذه الآية هو قول الرسول نفسه في2 كورنثوس:- ((مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين. مضطهدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين. حاملين في الجسد كل حين أمانة الرب يسوع لكي تظهر حيوة يسوع أيضاً في جسدنا. لأننا نحن الأحياء نسلم دائماً للموت من أجل يسوع لكي تظهر حيوة يسوع أيضاً في جسدنا المائت)) (2كورنثوس8:4 -11)

وقد قال الرسول بهذا المعنى أيضاً في موضع آخر انه يموت يومياً (1كورنثوس31:15)

وقد تم تشبه بولس بسيده في موته فانه استشهد في رومية بعد ذلك بأربع سنين فتمت له بذلك رغبته في أن يعرف شركة الأم سيدة متشبهاً به في موته وسعيه ليعرف قوة قيامته بل ليعرفه ذاته معرفة فائقة الوصف في العالم العاوي

على أن ساعته لم تكن قد جاءت بعد فكان لا بد له من مواظبة السير بدون تذبذب تحقيقاً للأمنية التي أعرب عنها بقوله "لعلي أبلغ القيامة من بين الأموات" أي قيامة الأخيار. وأحسن تفسير لهذا هو قوله في2كورنثوس: - ((لأننا نعلم أنه قد نقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من اللَّه بيت غير مصنوع بيد ابدي.فإننا في هذه أيضاً نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء. فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها لكي يبتلع المائت من الحيوة)) (2كورنثوس 1:5و2و4)

قابل بهذا ما جاء في1يوحنا وهو قوله:- ((أيها الأحباء الآن نحن أولاد اللَّه ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا اظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو)) (1يوحنا2:3)

فترى أن أولئك القديسين أنفسهم اعتبروا أن أفضل الأشياء لا يزال أمامهم ولذلك يقول الرسول "ليس إني الآن قد نلت أو الآن بلغت" كما أخطأ هيمينايس وفيليتس (2تيموثاوس 16:8-18) اللذان ادعيا أن القيامة المجيدة تتم حالما تتجدد النفس. ولو كان الأمر كذلك ما كان ثمت لزوم للسعي "وإنما أنا ساع إلى الأمام" عالماً شيئاً أفضل ينتظرني. وقد جاء في الرسالة أهل رومية قوله:- ((فأني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيدان يستعلن فينا. لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء اللًّه. وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن من أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا. لأننا بالرجاء خلصنا. ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء. لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً. ولكن أن كنا نرجو ما لسنا ننظره فأننا نتوقعه بالبصر)) (رومية 18:8و19و23و24و25)

هذا هو الرجاء الذي حمل بولس على السعي فقال "لعلي أدرك ما لأجله أدركني يسوع المسيح" أي المجد والخلاص فيه. لاحظ أنه يقول أولاً أن المسيح طلبه وأدركه وعلى النفس أن تقابل ذلك بمثله فتدرك ما أدركت هي من أجله.وفي هذا الأمر فكران. أولهما يفضي إلى الثقة وثانيهما إلى السعي والنشاط. وكلاهما يظهر على أجلاه في الآية التالية وهي "أيها الأخوة لا أدعي أني أدركت" هذا الكمال النهائي.

"وإنما أفعل أمراً واحدا وهو أني وأنا متناس ما هو وراء" صارفاً نظري وفكري عنه- عن ظفري وعن فشلي- والأول من فضل المسيح والثاني يكفِّر المسيح عنه- "وجاد إلى الأمام" بعينين شاخصتين إلى ما هو قدام كما يفعل الراكض في السباق "أواصل السير نحو الهدف" حيث ينتهي السباق وهو الموضع الذي يشخص إليه المسابق ويوجه إليه كل قوته "لنيل جزاء دعوة اللَّه العليا في يسوع المسيح" أي دعوة اللَّه إياه ليكون مبشراً ورسولاً. هذا كان السباق الذي عين له اللَّه مكافأة لمن يسبق ولا يحجم. وقد كتب بولس الرسول بعد ذلك بأربع سنوات فقال:- ((قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان. وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً)) (1تيموثاوس 7:4و8)

والعبارة الأخيرة من هذه الآية مفتاح للآية الآتي شرحها فقد أوضح الرسول للفيلبيين أن عليهم هم أيضاً أن يجروا شوطهم في هذا السباق وينالوا الإكليل المعد لهم فلا يجدر بهم أن يحجموا.

 الخطأ الثاني:


1:4 إعتبار المسيحيين معفون من الشرائع الأدبية ص 15:3_ ص

دعوتهم إلى التمثل به. وتحذيرهم من الحياد عن الطريق المستقيم مطالباً إياهم بذلك بصفة كونهم من رعايا السماء

ص15:3-1:4

ولذلك خاطبهم الرسول قائلاً "فليفكر جميع البالغين بيننا" أي البالغين في الحياة المسيحية لا الأحداث القصر الذين هم عرضة للإنقلاب (أفسس 13:4) وكلمة ((بالغين)) في الأصل اليوناني لا تدل على البلوغ فقط بل على الدخول في رتبة من الرتب السرية كالماسونية مثلاً. ومقصد الرسول هو أنه يجدر بجميع الداخلين في سر الديانة الأخيرة القويمة أن يظهروا ذلك ليس بافتخارهم وخمولهم بل بسعيهم لنيل ذلك المجد الذي لا ينال إلا بالسعي

"وإن فكرتم في شيء خلافه" أي إذا لم تستطيعوا أن توجهوا أفكاركم إلى هذا الأمر "فسيعلن لكم اللَّه هذا أيضاً" ويوضح لكم أن ذلك المستقبل المجيد لا يمكن نيله إلا بالسعي "بيد أن ما وصلنا إليه فلنسلك ذلك السبيل بعينه" لأنه إذا لازم الجميع بأمانة الطريق الذي أوصلهم إلى ذلك الحد فلا بد أن يفضي بهم إلى النهاية التي كان بولس يراها جلياً أمامه وإن كانت تخفى على الذين هم أقل بصراً منه.

"كونوا جميعاً متمثلين بي" في تفضيل معرفة المسيح على كل شيء آخر في هذا العالم- لا تقليداً أعمى كما يفعل الذين يعيشون في ديانة أبائهم بلا فكر بل تقليداً مبنياً على الخبرة والعقل كما يفعل الذين يقتفون أثر من يسير في هذا العالم على مبدأ قويم وكما يقتدي الأخ الصغير غير المحنك. ولذلك خاطب الرسول القوم بقوله لهم "أيها الأخوة" وأشار عليهم أن يتوقعوا نفس تلك القدوة من رؤسائهم قائلاً "راقبوا الذين يسيرون حسب المثال الذي لكم فينا"

وقد كان مبدأ القديس في ذلك الزمن بمنزلة محك للديانة المسيحية الذي بواسطته أمكن تمييز الكذبة من الصادقين. لذلك كتب يقول "لأن كثيرين ممن كنت أذكرهم مراراً" عند ما كنت معكم "والآن أذكرهم باكياً" في هذه الرسالة "يسيرون معادين لصليب المسيح" كالذين أشير إليهم في الإصحاحين الأول والثالث وهم اليهود المتنصرين الذين استأجرهم المتعصبون المتطرفون من حزبهم لاقتفاء خطوات القديس بولس وإفساد عمله (أنظر الرسالة إلى أهل غلاطية) أولئك الرجال "الذين آخرتهم الهلاك" لأن غلطهم لم يكن عن حسن نية بل عن تعمد "الذين إلههم بطنهم" وهم خونة مأجورون "وفخرهم في عارهم" فلا يخجلون. أولئك "الذين يفكرون في الأرضيات" وما أكثرهم في كل مكان وزمان ونعرفهم بينا فأنهم يتصدون للدفاع عن الدين ومع ذلك نشعر أنه ليس فيهم روح الدين بل هم يتاجرون به لجر مغنم وهم بعيدون عن التفكير في الروحيات.

أما الأتقياء الحقيقيون فقال عنهم الرسول "فأن وطننا نحن" أي الوطن الذي نحن أبناؤه "فهو في السموات" حيث ملكوت اللَّه. ولا يخفى أنه حيثما تكون كنوز المرء فهناك يكون قلبه أيضاً لأن في ذلك الوطن غير المنظور يقيم ملك الأرض والسموات- تلك السموات "التي منها نتوقع منقذاً" لأن رعية ذلك الملك واقعون هنا تحت الاضطهاد وهم في حاجة إلى منقذ يخلصهم من ظلم العالم ومن قيود الماديات الثقيلة. نعم لابد أن ينقذهم منها منقذ "هو الرب يسوع المسيح" عند مجيئه الثاني في مجده "الذي سيحول شكل جسد ذلنا" أي الجسد الذي هو بحالته الحاضرة مقيد بقيود الذل والامتهان ومعرض للتجارب والأحزان. فلابد من تغيير شكله "ليكون على صورة جسد مجده" ذلك الجسد الذي كان له عند القيامة وقد صعد به إلى السموات وهو يقيم به في عالم الغيب وليس ذلك الجسد قابلاً لمظاهر الذل المذكورة. هذا هو التغيير الذي لابد من حصوله للذين يجتهدون أن يقلدوه في هذه الحياة. الذين يوجهون أفكارهم إليه لا إلى الأرضيات. وهو يريد أن يحيوا معه إلى الأبد فلابد إذاً من أن يغير أجسادهم لتكون ملائمة لتلك البيئة "حسب عمل قدرته على إخضاع جميع الأشياء" سواء كانت روحية أو مادية كالروح والجسد والموت فأن له على جميعها سلطة تامة لا تظهر في الماديات إلا عند مجيئه وهو يؤجل إظهارها في الماديات امتحاناً لقديسيه في حالة ((جسدهم)) أو ((ذلهم)) الحاضر. وهذا التعليم العجيب يوافق ما جاء في1يوحنا 1:3 و2 ((أنظروا آية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد اللَّه. أيها الأحباء. الآن نحن أولاد اللَّه ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا اظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو)).

"إذاً" أي بما أن المسيح آت بالمجد ليمجد الذين هم خاصته كما قال آنفاً "يا أخوتي الأحباء يا سروري وإكليلي" أي أكليل أتعابي- لاحظ كيف يستعمل الرسول هذه العبارات الكثيرة الدالة على العطف والحنان قبلما يطلب منهم شيئاً هو خلاصة كل شيء "أثبتوا في الرب" لأنه آت بالمجد ولا تفشلوا مادام رجاؤنا وطيداً ومضموناً "أيها الأحباء" (وهذا الكلام متعلق بما قبله).

نهاية انتقال الرسول عن الموضوع.عوده إلى متابعة كلام الذي انقطع عنه في ص1:3 عظاته الأخيرة عن الإتحاد وحثه على إزالة الانقسام وقد وجه طلبه إلى أشخاص ذكر أسماءهم

"اطلب إلى أفودية وسنتيخي" وهما امرأتان مؤمنتان والظاهر أنهما كانتا من المتقدمات في كنيسة فيلبي.

"أن تجمعا في الرب على رأي واحد" أي أن تتفقا بقلب واحد ويد واحدة على العمل في سبيل اللَّه. وقد رأينا من أشارات سابقة متعددة أن كنيسة فيلبي كان فيها بعض الميل إلى التحزب وهو نقطة ضعفها الوحيد. والظاهران أن المرأتين المشار إليهما كانتا في خطر من هذه الجهة.

"أجل وأسألك أنت أيضاً يا رفيقي المخلص" الخطاب إلى زعيم آخر لم يذكر الكتاب أسمه وربما هو راعي كنيسة فيلبي "أن تعضدهما" لتتبعا مشورتي ونصحي لهما بالإتحاد وذلك بأن تنصح لهما أنت أيضاً وتكون جامعاً بينهما لا مفرقاً لأنهما أهل لمساعدتك.

"فأنهما جاهدتا معي في الإنجيل" كبرسكيلا الأفسسية و فيلبي الكورنثية وهما مثل على تأثير الإنجيل في إظهار فضيلة المرأة وتقوية حريتها "مع أكليمندس" المجاهد معي- وقد زعم البعض أن هذا الشخص أصبح فيما بعد زعيماً لكنيسة رومية وكتب رسالته المشهورة إلى كنيسة كورنثوس عند نهاية القرن الأول واللَّه أعلم " وسائر العالمين معي الذين أسماؤهم في سفر الحياة" فلماذا لا يتفق الجميع معاً في هذه الحياة.

  • عدد الزيارات: 4733