Skip to main content

الفَصلُ الأوَّلُ رِسالَةُ بُولُس إلى أهلِ غلاطية - الإنجيلُ المعكُوس

الصفحة 5 من 10: الإنجيلُ المعكُوس

الإنجيلُ المعكُوس

في الإصحاحِ الأوَّل، تعلَّمنا أنَّ إنجيلَ يسُوع المَسيح هو موضُوعُ رسالَةِ بُولُس القَصيرَة إلى أهلِ غلاطِية. في الإصحاحِ الثانِي، نرى تَبيَاناً لما أُسمِّيهِ "الإنجيل المَعكُوس."

إنَّ تعليمَ بُولُس العظيم بالإنجيل يظهَرُ هُنا في إطارِ مُواجَهَةٍ حادَّة بينَهُ وبينَ بُولُس. القَضِيَّةُ هُنا لها علاقَةٌ أنَّ العديدَ من الأشخاص الذي كانُوا يهُوداً قبلَ أن يُصبِحُوا تلاميذَ لِيَسُوع، أرادُوا أن يحتَفِظُوا بيَهُودِيَّتِهِم قَدرَ المُستَطَاع بعدَ توبَتِهِم وتَجديدِهم.

لقد عُقِدَ المَجمَعُ الكَنَسِيُّ الأوَّلُ في أُورُشَليم، حيثُ تمَّ حَلُّ هذه المسأَلَة. تقرَّرَ أنَّهُ بما أنَّ هؤُلاء لم يكُونُوا يَعتَمِدُونَ على التقالِيدِ اليهُودِيَّةِ مِن أجلِ خلاصِهم، لم يكُنْ هُناكَ أيُّ خطأٍ في مُحافَظَةِ تلاميذ يسُوع اليهُود هؤُلاء على عاداتِهم اليَهُودِيَّة كتلامِيذ للمَسيَّا اليهُودِيّ خاصَّتهم. ولقد تقرَّرَ أيضاً أنَّ التلاميذ المُؤمنِين بالمسيح من أصلٍ أُمَمِيّ لم يكن مطلُوباً منهُم أن يُمارِسُوا هذه العادات اليَهُودِيَّة. ولقد أُعطِيَت التعليماتُ بِوُضُوح للمؤمنين من أصلٍ يهُودِيّ بأن لا يَضَعُوا هكذا ثِقلاً على المُؤمنينَ من أصلٍ أُمَمِيّ.

ولكن بعدَ مجمَع أُورشَليم هذا، بَقِيت القضيَّة موضِعَ جَدَل. فمثلاً، كان في كنيسةِ أنطاكيا الكثير من المُؤمنين من أصلٍ يهُودِي وأُمَميّ. ولقد عاشُوا حياةَ شركِةٍ وتناوَلُوا عدَّةَ ولائِمَ معاً. وبما أنَّ العديدَ من هذه القَضايا كانت تتعلَّقُ بالطعام، يبدُو أنَّهُ كانَ لدَيهم مائِدَتان في كُلِّ وَجبَةِ طعام. على واحِدَةٍ من هاتَين المائِدَتَين، كانُوا يُراعُونَ أنظِمَةَ الطعام اليهُودِيَّة، أمَّا على المائِدة الأُخرى فلا.

عندما زارَ الرسُول بُولُس أنطاكية، تساءَلَ الجميعُ على أيَّةِ مائِدَةٍ سوفَ يجلِسُ. فجلسَ على مائِدَةِ الأُمَم، وأكلَ من الطعام غير اليهودِيّ. ولقد أُعجِبَ بُطرُس بموقِفِ بُولُس، وجلسَ على مائِدَةِ الأُمَم. ويبدو أنَّ بُطرُس فعلَ هذا لفترَةٍ ما.

ولكن، ذاتَ يوم وصلَ من أُورشَليم بعضُ الإخوَةِ الذين كانُوا يحفَظُونَ النامُوسَ اليَهُودِيّ بتدقيق، ووقَفُوا على الباب. لرُبَّما كانَ بُولُس يُديرُ ظهرَهُ نحوَ الباب، بينما كانَ بُطرُس يجلِسُ مُواجِهاً الباب. فعندما رأى بطرُس أنَّ المؤمنين اليهود النامُوسيِّين الذين جاؤُوا من أُورشليم قد وقَفُوا على الباب، قامَ عن مائِدَةِ الأُمَم وتوجَّهَ نحوَ مائِدَِةِ اليهُود. ولرُبَّما إنساقَ برنابا، الذي كانَ يأكُلُ معَ بُولُس وبُطرُس على مائِدَةِ الأُمَم، لَرُبَّما إنساقَ إلى رِياءِ بُطرُس. في ذلكَ الوقت، إستدارَ بُولُس ورأى الذين وقفُوا على الباب.

عندها طارَ صَوابُ بُولُس. قالَ بُولُس في غلاطية 2: 11، "ولكن لمَّا أتى بُطرُس إلى أنطاكية قاومتُهُ مُواجَهَةً لأنَّهُ كانَ مَلُوماً." نفهَمُ من النصِّ اليُونانِيِّ الأصلِيّ أنَّ بُولُس وبُطرُس وقفا مُواجَهةً مُتوتِّرَينِ أمامَ بعضِهما البعض، وتكادُ ذَقنُ كُلٍّ منهُما أن تصطَدِمَ بالأُخرى. في هذا الإطار يُعطينا بُولُس ما أُسمِّيهِ "الإنجيل المَعكُوس."

ففي نِهايَةِ مُواجَهَتِهِ معَ بُطرُس، أعطانا بُولُس هذا التصريح العظيم: "معَ المسيحِ صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياهُ الآن في الجسد فإنَّما أحياهُ في الإيمان، إيمان إبنِ الله الذي أحبَّني وأسلَمَ نفسَهُ لأجلِي. لَستُ أُبطِلُ نِعمَةَ الله. لأنَّهُ إن كانَ بالنَّامُوسِ بِرٌّ، فالمسيحُ إذاً ماتَ بِلا سبب." (غلاطية 2: 20)

كانَ بُولُس يقُولُ ما معناهُ: "يقُولُ الإنجيلُ أنَّ المَسيحَ ماتَ لكي تحيا أنت. ولكن هُنا نَجِدُ الإنجيلَ معكُوساً: إذ عليكَ أنتَ أن تمُوتَ لكي يحيا المسيح." نحنُ نعلَمُ أنَّ بُولس لم يكُن يتكلَّم حرفِيَّاً عن المَوت في غلاطية 2: 20، لأنَّهُ يقُولُ ثلاثَ مرَّاتٍ في هذا العدد الواحِد، "أحيا." يتكلَّمُ بُولُس عن الحياة الحقَّة. في هذا العدد الوحيد يُعطينا بُولُس ثلاثَةَ أسبابٍ يعيشُ من أجلِها بِحَقّ.

أوَّلاً، يقُولُ بُولُس ما معناهُ، "أنا أحيا بِحَقّ لأنِّي أحيا بالإيمان." وأنا أعيشُ بفَيضٍ في هذا العالم الحاضِر، وسأعيشُ للأبد، لأنِّي أحيا بالإيمانِ بالمسيح – وليسَ بمُحاوَلةِ شَقِّ طَرِيقِي للسَّماء بحفظِ الكَثِير من النواميس.

ثانِياً، يُصَرِّحُ بُولُس قائِلاً، "أحيا لأنَّ المسيحَ يحيا فيَّ." يسألُ بُولُس تلاميذَ مُتجدِّدين مُؤمِنينَ بالمسيح، "ألا تُدرِكُونَ أنَّ المسيحَ يحيا فيكُم؟ أم لستُم تعلَمُونَ أنَّ جسدَكُم هُوَ هيكَلٌ القُدُس الذي فيكُم الذي لكُم من الله وأنَّكُم لستُم لأنفُسِكُم؟" (1كُورنثُوس 6: 19) وهذا تعليمٌ دينامِيكيٌّ: "المسيحُ فيكُم رجاءُ المجد." (كُولُوسي 1: 27)

وأخيراً، إنَّ جوهَرَ ما كانَ يقُولُهُ لبُطرُس هُوَ: "أنا أحيا لأنَّني صُلِبتُ معَ المسيح." كانَ يقُولُ لبُطرُس، ولمُؤمِني أنطاكية وغلاطية، ولي ولكَ، أنَّهُ بما أنَّ المسيحَ ماتَ لكي نحيا، الآن علينا نحنُ أن "نمُوت" لكي يحيا المسيحُ حياتَهُ فينا. إنَّ هذا شَبيهٌ بتعليمِ بُولُس في رُومية، حيثُ يقُولُ، "فأطلُبُ إليكُم أيَّها الإخوة برأفَةِ الله أن تُقدِّمُوا أجسادَكُم ذَبيحَةً حيَّة." (رومية 12: 1) فهل أنتَ فعلاً تحيا لأنَّكَ تحيا بالإيمان؟ وهل تحيا لأنَّ المسيحَ يحيا فيكَ؟ وهل تَحيا لأنَّكَ صُلِبتَ معَ المسيح؟ وهل تحيا لأنَّكَ تُؤمِنُ أنَّ المسيحَ ماتَ لكي تحيا أنت؟ وهل أنتَ تمُوتُ عن نفسِكَ لكي يحيا المسيح؟ وهل تختَبِرُ الإنجيلَ معكُوساً؟

الإنجيلُ المجازِي

في غلاطية الإصحاحين الثالِث والرابِع، يَصفُ بُولُس ما أُسمِّيهِ "الإنجيلِ المجازِيّ." في الإصحاحِ الثالِث، يسألُ ثمانِيَة أسئِلة. إن كُنتُم ستُصغُونَ إلى أسئِلة بُولُس هذه وستُجيبُونَ عليها، ستَرَونَ أنَّ بُولُس يُقدِّمُ حُجَّةً قَويَّةً جداً للتبريرِ بالإيمان وليسَ بالأعمال. يُعلِّمُ بُولُس أنَّنا لا نخلُصُ لأنَّنا نُطيعُ نامُوسَ مُوسى.

في هذا الإصحاحِ الثالِث، يُقدِّمُ بُولُس صُورَتين مجازِيَّتَين. المجازُ الأوَّلُ هُوَ عن إبراهِيم، الذي يُرينا من إختِبارِهِ أنَّ الإيمانَ ليسَ قضِيَّة ذكاء أو أعمال؛ بل هُوَ عَطيَّةٌ نأخُذُها من الله. ولقد نالَ إبراهِيمُ عطيَةَ الإيمانِ هذه. لم يكتَسِبْ إبراهيمُ الإيمان وكأنَّهُ أُجرَةٌ أدانَ لهُ اللهُ بها. لهذا إستطاعَ أن يُؤمِنَ باللهِ عندما كانَ في السابِعَةِ والسبعينَ من عمره، وأخبَرَهُ اللهُ بأنَّهُ ستكُونُ لهُ ذُرِّيَّةٌ كالرملِ الذي على شاطِئِ البَحرِ في الكثرة وكَنُجُومِ السماءِ التي لا تُعَدّ. ولأنَّ إبراهيم آمنَ بالله، حسِبَهُ اللهُ بارَّاً. في هذا المثل، يُخبِرُنا بُولُس  أنَّهُ إن كانَ لدينا إيمانٌ مُخَلِّص لأنَّنا نُؤمِنُ بإنجيلِ المسيح، فنحنُ أولادُ إبراهيم.

الإيضاحُ المجازِيُّ الثاني الذي قدَّمَهُ بُولُس يُعطينا وُجهَةَ نظَرٍ حولَ قصدِ النَّامُوس. كتبَ بُولُس يقُول، "إذاً قد كانَ النامُوسُ مُؤَدِّبَنا إلى المسيح." (غلاطية 3: 24). بكلماتٍ أُخرى، إنَّ عمَلَ النامُوس هُوَ أن يُحطِّمَكَ ويُظهِرَ لكَ أنَّكَ تحتاجُ إلى مُخَلِّص. كتبَ بُولُس يقُول: "لأنَّهُ إن كانَ بالنَّامُوسِ بِرٌّ فالمَسيحُ إذاً ماتَ بِلا سَبَب." (غلاطية 2: 21). الحقيقَةُ هي أنَّهُ لم يكُن بإمكانِكَ أن تُخلِّصَ نفسَكَ بتاتاً، لأنَّكَ لم تكُن قادِراً أبداً أن تحفظَ كُلَّ هذه النواميس. كانَ  النامُوسُ مُؤدِّباً حضَّرَكَ للخَلاصِ من خِلالِ المسيح.

يُقدِّمُ بُولُس صُورَةً مجازِيَّةً أُخرى في الإصحاحِ الرابِع. هُنا نَجِدُ مبدأً هامَّاً في التفسيرِ الكِتابِيّ. هُناكَ الكثيرُ من الحوادِث في كَلِمَةِ الله، تحتَوي على التاريخِ والمجازِ معاً. فالمجازُ هُوَ قِصَّةٌ يتَّخِذُ فيها الأشخاصُ، الأماكِنُ، والأشياءُ معنىً آخر يُعلِّمُنا دُرُوساً أخلاقِيَّةً ورُوحيَّة. فعندما أقُولُ أنَّ حدَثَاً أو شَخصاً ما في الكتابِ المقدَّس هُوَ مجازٌ، فأنا لا أقصُدُ أبداً أنَّ هذا الحدَث أو الشخص ليسَ تاريخيَّاً.

مثلاً، كتبَ بُولُس يقُول، "كانَ لإبراهِيمِ إبنان." إنَّ هذه هي حقيقَةٌ تاريخيَّة. ولكنَّ هذانِ الإبنان يُقدِّمانِ أيضاً مجازاً. الإبنُ الأوَّلُ، إسماعِيل (الذي أنجبَهُ إبراهيم من زوجتِهِ المِصريَّة الجارِية هاجَر)، كانَ رمزاً لأعمالِ الجسد، أي "الطبيعة البَشَريَّة بِدُونِ مُساعدَةِ الله." كانَ اللهُ يَقُولُ لإبراهِيم أنَّهُ سيُعطيهِ إبناً، وكانَ إبراهيمُ يُحاوِلُ المُساعَدَةَ في تحقيقِ هذه العمليَّة. وكانَ إنجابُ طفلٍ من خِلالِ جارِيتِهِ هاجَر أمراً مقبُولاً في حضارَةِ تِلكَ الأيَّام. ولكنَّ المُشكِلَة كانت أنَّ إنجابَ إسمَاعِيل إلى العالم كانَ من خُطَّةِ إبراهيم، وليسَ الله. وهكذا فإنَّ قصَّةَ هاجَر وإسماعيل هي رمزٌ للجَسد. فعندما تقُومُ بتنفيذِ مُخطَّطاتِكَ الشخصيَّة، ومن ثمَّ تطلُبُ بركَةَ اللهِ على مُخطَّطاتِكَ، يُسمِّي بُولُس ذلكَ بعمَلِ الجسد.

وعلى العَكس، فإنَّ قصَّةً إنجابِ إبراهيم لإسحَق من سارَة هي صُورَةٌ مجازِيَّةٌ عن الرُّوح، لأنَّ وحدَهُ اللهُ كانَ قادِراً على تحقيقِ ذلكَ. نقرَأُ: "وكانَ إبراهِيمُ وسارَةٌ شَيخَينِ مُتَقَدِّمَينِ في الأيَّام. وقدِ إنقَطَعَ أن يكُونَ لِسارَة عادَةٌ كالنِّساء." (تكوين 18: 11) لقد كانت وِلادَةُ إسحَق مُعجِزَةً.

كانَ بُولُس يقُولُ للغَلاطِيِّين ولي ولكَ أنَّنا لا نخلُصُ بالأعمال. فكانَ ينبَغي أن يُتمِّمَ اللهُ خلاصَنا من خِلالِ يسُوع المسيح. ولقد أعطانا الرُّوحُ القُدُسُ عَطِيَّةَ الإيمان والتوبَةِ، لكَي نقبَلَ خلاصَ الله. إنَّ هذا الخَلاص هُوَ عَطِيَّةُ الله. فنحنُ لا نخلُصُ لأنَّنا نُطيعُ نامُوسَ مُوسى. ولكنَّنا نُطيعُ نامُوسَ مُوسى لأنَّنا مُخَلَّصُون. هذا هُوَ جوهَرُ الإنجيلِ المُطلَق في رِسالَةِ بُولُس هذه إلى أهلِ غلاطية.

كُنْ صادِقاً معَ نفسِكَ. فهل سبقَ وخطرَ لكَ أنَّهُ بإمكانِكَ أن تكُونَ صالِحاً كِفايَةً، أو أنَّهُ عليكَ أن تقومَ بمجمُوعَةٍ من الأعمالِ والنواميس لِكَي تخلُصَ؟ بحَسَبِ بُولُس، يُعتَبَرُ هذا خلاصاً نابِعاً من الجسد. أمَّا الإنجيلُ المُطلَقُ الذي كرزَ بهِ بُولُس للغلاطِيِّين فهُوَ أنَّهُ علينا أن نُولَدَ عجائِبِيَّاً بالرُّوحِ من جَديد. هذا هُوَ الخلاصُ النابِعُ من الرُّوح.

الإنجيلُ مَحصُوداً
الصفحة
  • عدد الزيارات: 16891