Skip to main content

الفصلُ الأوَّل "نظرَة خاطِفة على رسالةِ بُولُس إلى أهلِ رُومية"

دِراسَةٌ مُوجَزة لرِسالَةِ بُولُس إلى أهلِ رُومية

كتبَ بُولُس الرسُول ثلاثَةَ عشرَ سِفراً من أسفارِ العهدِ الجَديد السبعة والعِشرين. أوَّلُ هذه الأسفار هي رسالةُ بُولُس إلى أهل رومية. لم يكتُبْ بُولُس رسائِلَهُ بالترتيب الذي نجِدُها فيهِ في العهدِ الجديد. يعتَقِدُ المُفسِّرُون أنَّ هذه الرِّسالة كُتِبَت في مرحَلَةٍ مُتَأخِّرة من خدمَةِ بُولُس، في وقتٍ نضجَ فيهِ بُولُس، وطوَّرَ فيهِ بِشكلٍ كامِل لاهُوتَ الإنجيل الذي كرزَ بهِ في العالَمِ أجمَع، وشاركَهُ معنا في هذه الرسالة العميقة.

ولكن نضعَ في أيدي مُستَمِعينا مُلاحظاتٍ حولَ البرامج الإذاعِيَّة الثلاثَة والسبعين التي علَّمتُها عن رِسالَةِ رُومية، عدداً بعدَ الآخر، كتبتُ عنها أربَعةَ كُتَيِّبات. ولكن في هذا التفسيرِ المُقتَضَب لرسالةِ رُومية، أُقدِّمُ بعضَ المُلاحظات لأُولئكَ الذين إستَمَعوا إلى دراستِنا المُوجَزة لِرسالة بُولُس المُوحاة هذه. إنَّ هذا الكُتَيِّب هو لمحَةٌ مُوجَزة لما يُعلِّمُهُ بُولُس في هذا التفسير المُتَكامِل للإنجيل الذي كرزَ بهِ.

تُعتَبَرُ رسالةُ رومية تُحْفَةُ بُولُس اللاهوتية. ومحتوى هذه الرسالة لا يَتعلَّقُ بِشكلٍ خَاصّ بالكنيسةِ في روما. يعتقدُ المُفسِّرُون أنَّ بولس وَجَّهَ هذا التفسير العَميق للإنجيل إلى المُؤمنين في رومية، لأنَّ روما كانتْ عاصمةَ العالم عندما كتبَ بُولُس هذه الرِّسالَة.

إنَّ هذه الرِّسالة هي بالحقيقة تفسيرٌ مُتكامِل للعِبارَة الكِتابِيَّة "مُبَرَّر." في مَثَلِ الفريسي والعشار، أَخبرَنا يسوع بالأخبارِ السارَّة أنَّ أيَّ رجُلٍ أو إمرأة يُصلِّي صلاة الخُطاة – صلاةَ التوبَةِ والإيمان بالقُوَّةِ المُخَلِّصة التي نجدُها في موتِ، دفنِ وقِيامَةِ يسُوع المسيح عن خطايانا – بإمكانِهِ أن يرجِعَ إلى بيتِهِ "مُبَرَّراً." (لُوقا 18: 14) هذهِ هي المرَّةُ الأُولى التي نلتَقي فيها بهذه الكلمة الجميلة في العهدِ الجديد. في هذه الرِّسالة إلى أهلِ رُومية، يُفسِّرُ بُولُس كيفَ يعمَلُ اللهُ مُعجِزَةَ التبرير الرائعة في حياةِ ذلكَ الرجُل أو تلكَ المرأة المُبَرَّرة. إنَّ هذه الرسالة هي التصريحُ الأكثر تكامُلاً عن التبرير في الكتابِ المقدَّس.

أن تكونَ مُبَرَّراً يعني أكثَر من أن يُغفَرَ لكَ؛ هذا يعني أنَّ اللهَ أعلَنَ لي أنَّني بارٌّ وكأنَّني لم أُخطِء أبداً في حياتِي من قَبل، ولهذا أعلَنَ اللهُ أنَّني بارٌّ. يتكلَّمُ بُولُس نبَويَّاً عن المفهوم في مزمُورِهِ العميق عن الإعتِراف والتوبَةِ، عندما يطلُب من الله قائِلاً، "أمحُ معاصِيَّ." (مزمُور 51: 1)

إقرَأْ رسالةَ رُومية في جَلسَةٍ واحدَة مُحاوِلاً أن تُحدِّدَ حُجَّةَ الوحِي المنطِقيَّة في هذا السفر. أَطلُبُ منكَ أن تقُومَ بهذا، لأنَّ هذه الرِّسالة لديها حُجَّةٌ مُتناسِقَة من بدايتها إلى نِهايتِها. أُطلُبْ مُساعَدَةَ الرُّوحِ القُدُس، ومعَ الكثير من التركيز وبدُونِ أيَّةِ مقاطعة، حاوِلْ أنْ تُحَدِّدَ حُجَّةَ هذا التصريحِ المُوحَى في إنجيلِ يسوع المسيح الذي إئتمنَهُ لتلاميذِهِ ليكرِزُوا بهِ للخليقَةِ كُلِّها، وفي كُلِّ أُمَّةٍ من أُمَمِ الأرض (مرقُس 16: 15).

إنَّ الإصحاحات الأربَعة الأُولى من هذه الرِّسالة تُظهِرُ كيفَ يتحقَّقُ التبريرُ للخاطِئ. فنحنُ لن نُظهِرَ إهتِماماً بأن نُعلَنَ أبراراً إلى أن نقتَنِعَ أنَّنا خُطاةٌ غيرُ أبرار. لهذا يُقدِّمُ بُولُس حُجَّةً دامِغَة أنَّنا جميعاً خُطاة. وبعدَ أن يُقنِعَنا بهذه الأخبار السيِّئة بأنَّنا جميعاً خُطاة، يُعلِنُ بُولُس الأخبار السارَّة أنَّ اللهَ لديهِ خُطَّة يجعَلُنا بها مُبَرَّرين.


خُطَّة الله للتبرير

بالنِّسبَةِ لبُولُس، النِّعمة هي منبَعُ تبريرِنا (3: 24). إنَّ صَليب يسُوع المسيح هُوَ القاعِدة لتبريرِنا، وقِيامَةُ يسُوع هي ضمانُ كونِنا مُبَرَّرِين (3: 25؛ 4: 24، 25). يختُمُ بُولُس هذا الجزء من حُجَّتِهِ بالكلماتِ التالِيَة: "فإذْ قد تَبَرَّرنا بالإيمان، لنا سلامٌ معَ الله بِرَبِّنا يسُوع المسيح." (5: 1) فإذاً، الإيمانُ هُوَ المبدَأُ الذي بهِ نُطَبِّقُ هذه المُعجِزة شخصياً على خطيَّتِنا، ونُعلَنُ مُبَرَّرِينَ من الله. ثُمَّ يُخبِرُنا بُولُس لاحِقاً أنَّ اللهَ هُوَ الذي يُبَرِّر (8: 33).

تَجدُرُ المُلاحَظَةُ أنَّ هُناكَ مجمُوعة مُؤلَّفة من بضعِ كَلِماتٍ نجدُها مائة وخمسينَ مرَّةً في الكتابِ المقدَّس، عندما يُعلَّمُ مفهُومُ التبرير. إنَّ  هذه الكلمات هي "في عينيهِ." هُناكَ بُعدٌ عامُودي وبُعدٌ أُفُقِيّ مُرتَبِطانِ بالتبرير. فإذا إرتكبنا جريمة، بإمكانِنا أن نُعلَنَ مُبَرَّرين في عينَي الله بالإيمان، بالإعتِراف، وبالتوبة، ولكنَّنا لن ننجُوَ من السجن، لأنَّنا لم نُبَرَّرَ في عيني المُجتَمَع، أو في البُعدِ الأُفُقِيّ أمامَ الإنسان.

عندما تحدُثُ مُحاكَمَةٌ أمامَ قاضٍ وبِدُونِ لجنَةِ تحكيم، أُولئكَ الذينَ يحضُرونَ هذه المُحاكَمة قد يظُنُّونَ أنَّ المُتَّهَمَ هُوَ شخصٌ رائِع، ولكن إذا ظَنَّ القاضي أنَّ هذا الشخصَ مُذنِبٌ، فإنَّ هذا الشخص سوفَ يُزَجُّ في السجن، أو يُواجِهُ عُقُوبَةَ الإعدام. وقد يَظُنُّ الحُضُورُ أنَّ المُتَّهَمَ هُوَ شخصٌ رَديء، ولكن إذا إعتَقَدَ القاضي أنَّ المُتَّهَمَ بَريءٌ، فسيتِمُّ إطلاقُ سراحه. بنفسِ الطريقة، يوماً ما سوفَ نُدرِكُ أنَّ ما يهُمُّ فِعلاً هُوَ ما يراهُ دَيَّانُ كُلِّ الأرض حولَ الذنبِ أوِ البَراءَة. لِهذا من الرائِع أن نعلَمَ أنَّنا نتبرَّرُ وكأنَّنا لم نُخطِئ أصلاً.

الإصحاحاتُ الأربعة التالية تَتحدثُ عَنِ التبريرِ بالعلاقةِ مع الشخصِ الذي ناَلَ التبرير بالإيمان. فاللهُ يتوقَّعُ منَّا أن نتبنَّى الصلاح، أن نُصبِحَ صالِحين وأن نعملَ الصلاح عندما يُعلِنُ لنا أنَّنا أصبحنا أبراراً (1يُوحنَّا 3: 7). في الإصحاحات الأربَعة التالية من هذه الرِّسالة (5- 8)، يُعالِجُ بُولُس الصِّراعات التي يجتازُها الشخص الذي يُعلَنُ بارَّاً، إذ يجِدُ القُوَّةَ في الرُّوحِ القدُس ليَعيشَ حياةَ البِرّ.

في الإصحاحات الثلاثة التالِيَة (9- 11)، يُظهِرُ بُولُس علاقَة التبرير بالعالَمِ أجمَع وخاصَّةً بشعبِ اللهِ القديم. هذه ثلاثَةٌ من أهمِّ إصحاحاتِ الكتابِ المقدَّس حولَ موضُوع النُّبُوَّة الكِتابِيَّة. ففي هذه الإصحاحات الثلاثة، يتنبَّأُ بُولُس أنَّ شَعب الله القديم إسرائيل سيتورَّطُ بما يحدُثُ في العالم.

فبالنسبَةِ لبُولُس، إنَّ شعبَ إسرائيل كانُوا شعبَ الله المُختار. وهُم أعظَمُ إيضاحٍ كِتابِي عن عقيدَةِ الإختِيار – أي التعليم أنَّ اللهَ يختارُ شعباً للخلاص. ولكن، في هذه الإصحاحاتِ الثلاث، يكتُبُ بُولُس قائِلاً أنَّ اليَهُودَ هُم أعظَمُ إيضاحٍ في الكتابِ المقدَّس عن حقيقَةِ أنَّ اللهَ خَلَقَ الإنسان ليكُونَ خَليقَةً تتخِذُ خيارات. يُشدِّدُ بُولُس على هذه النُّقطة عندما يُخبِرُنا أنَّ اليهُودَ إختارُوا أن لا يعُودوا شعبَ الله المُختار، وذلكَ برفضِهم يسُوع المسيح وخلاصَهُ.

وهكذا يُخبِرنا بولس أنه من أجل معاقبة اليهود بسبب رفضهم المَسِيَّا، توجَّهَ اللهُ إلى غير اليهود، إلى الأمم الأخرى، وصارَ يُخَلِّصُ الشعوب غير اليَهُودِيَّة، منذُ أن رفضَ اليهُودُ يسُوعَ المسيح. وعندما يُخَلِّصُ الربُّ الأممَ بما يكفي لتأديب اليهود بسبب رفضهم، سيعود الله ثانية إلى اليهود و"سيخلص جميع إسرائيل" (رُومية 11: 26).

لقد شَهِدنا تحقُّقَ نُبُوَّة العهدِ القَديم عن عودة اليهود الجُغرافِيَّة من شُتاتِ الأرض ليكُونُوا أُمَّةً. هُنا يَضُمُّ بُولُس صَوتَهُ إلى أنبِياءِ العهدِ القديم، إذ يتنبَّأُ عن عودَةِ اليهود الرُّوحِيَّة إلى الله. هذه العَودة الرُّوحِيَّة التي هي الأكثرُ أهمِّيَّةً بِنَظَرِ الله، لم تحدُثْ بعد. في هذه الإصحاحات الثلاثة، يُرينا بُولُس أنَّهُم عندما سيختَبِرونَ هذه العَودَة الرُّوحِيَّة إلى الله، سوفَ يُحَقِّقُ اللهُ خُطَّةَ التبرير من خِلالِهم إلى العالَم أجمَع.

الإصحاحاتُ الأربعة الأخيرة (12- 16) هي القسمُ التطبيقيُّ العملِيّ من هذه الرِّسالة الرائعة. إنَّ كُلَّ رسالَةٍ من رسائِلِ بُولُس الرسُول تنقَسِمُ إلى قِسمَين. أوَّلاً، لدَيكُم الجزء التعليمي من الرِّسالة، وفيما بعد يأتي الجزءُ التطبيقيّ من الرسالة. دائماً فتِّشُوا عن هذين القِسمَين التعليمي والتطبيقي في رسائِلِ بُولُس.

رُغمَ أنَّ الإصحاحات الأحد عشر الأُولى من هذه الرِّسالة هي أعظَم تصريح عن الإنجيل الذي إستَودَعَهُ بُولُس في يدي الكنيسة، وأنَّ الإصحاحات الثلاثة التالِيَة هي أصعَبُ التصريحات اللاهُوتِيَّة والنَّبَويَّة عن فهمِ الإنسان، إلا أنَّ الإصحاحات الأربَعة الأخيرة هي أكثَرُ تطبيقاتِ بُولُس عملانِيَّةً وبَسَاطَةً عن حقيقةِ الإنجيل التي نكتَشِفُها في رسائِلهِ المُوحاة.

  • عدد الزيارات: 7786