الفَصلُ الثامِن "نماذِج بُولُس"
في الإصحاح الحادِي والعشرين، نقرَأُ أنَّ بُولُس وصَلَ إلى أُورشليم وبدَأَ بالوعظ. ونتيجَةً لوعظِهِ، تعرَّضَ لِهُجُومٍ من قِبَلِ الجُموع الصاخِبَة (27). لقد ضربَ الجمعُ بُولُسَ حتَّى قارَبَ الموت، وعندها أتى ضابِطٌ رُومانِيٌّ معَ جُنودِهِ، وأنقُذُوا بُولُس من أيديهم. بينما كانَ الجُنُودُ يحمِلُونَ بُولُس فوقَ رُؤُوسِهم إلى داخِلِ القلعة، حيثُ سيكونُ سجينَ رُوما، إلتَمسَ بُولُس من القائد العسكَري أن يُنزِلُوهُ عنِ الأكُفّ وأن يدعُوهُ يعِظ، لأنَّهُ رأى فُرصَةً رائعةً للوعظِ بالإنجيل. وهكذا ألقَى عظةً رائعة، نراها مُسَجَّلَةً في الإصحاحِ التالي.
لم تكُن هذه العظة كالعظة التي ألقاها بُولُس على تلَّةِ مارس في آريوس باغُوس. هُنا لم يقتَبِس بُولُس من الشُّعراء والفلاسفة، ولم يستَخدِم كلامَ الحكمةِ الإنسانيَّةِ المُقنِع. بل أعطى شهادةَ إختِبارِهِ الشخصي للمسيح. وأخبَرَ عن قصَّتِهِ أو إختِبارِهِ معَ الله ومعَ يسوع المسيح. ولم تكُن ردَّةُ الفعلِ مُتنوِّعة. نقرأ: "فسَمِعوا لهُ حتَّىهذه الكَلمة ثُمَّ رفعوا أصواتَهُم قائِلين خُذْ مثلَ هذا منَ الأرض لأنَّهُ كانَ لا يجوزُ لهُ أن يعيش." (22: 22) فعندما ثارَ الجمعُ مُجَدَّداً، عادُ الجُنودُ وأخذُوا بُولُس إلى القَلعَة.
عندما كانَ الرومانُ يُوقِفونَ أحداً، كانُوا يقومونَ بِتقييدِهِ إلى عامُودٍ وسطَ الساحة وبجلدِهِ، وكانُوا يفعلونَ هذا إلفاتاً للإنتِباه. وكانُوا يُسمُّونَ هذا "الفحص بالضرب." وبينما كانوا على وشكِ تقييدِ بُولُس إلى عامُودٍ لضربِهِ، قالَ بُولُس للجُنود الذينَ كانُوا يُقيِّدُونَهُ أنَّهُ مُواطِنٌ رُومانِيّ. فذهبَ الجُنودُ إلى الأمير وأخبَروهُ أن لا يجلُدَ بُولُس (29). لا يسعُني إلا أن أتساءَلَ لماذا لم يُعلِن بُولُس حقُوقَهُ كحامِلٍ للجِنسيَّةِ الرُّومانيَّة عندما أُوقِفَ هُوَ وسيلا وضُرِبُوا في فِيلبِّي. لرُبَّما سمحَ لنفسِهِ أن يُضرَبَ هُناكَ، لأنَّهُ أرادَ أن يستَخدِمَ هذا كَوَرَقَة ضغط على حُكَّامِ تِلكَ المدينة فيما بعد.
بعدَ أن قرَّرَ الرُّومانُ أنَّهُ لم يعُد بوُسعِهم أن يضرِبُوه، وضعُوهُ في السجن. وفي اليومِ التالي، قرَّرُوا أن يبدَأوا المُحاكَمة أمامَ رئيسِ الكهنة والسنهَدريم. ودُعِيَ اليهودُ المُتَديِّنون الذين كانوا يُحاجِجونَ بُولُس، لِكي يُوجِّهوا لهُ التهمَ في المُحاكَمة.
يبدأُ سجلُّ المُحاكَمة في أعمال 23. كانَت هذه أوَّلُ مُحاكمَةٍ من سلسلةٍ طويلةٍ من المُحاكمات التي سيخضَعُ لها بُولُس. نرى إنسانِيَّة بُولُس عندما تبدَأُ هذه المُحاكَمة. فلقد جالَ بنظَرِهِ في قاعةِ المحكمة بمقدارِ ما ساعدَهُ نظرُهُ على تمييزِ الحاضِرين، ولاحظَ أنَّ نصفَ الحُضور هُم من الفرِّيسيِّين، أي من اليهود المُحافِظين. لقد كانُوا جماعَةً مُنظَّمة مُهِمَّتُها الدفاعُ عن إستقامَة الإيمان اليهوديّ. وكانَ النصفُ الآخرُ من الحُضورِ من الصدُّوقِيِّين. وكانَ هؤلاء من المُتحرِّرين. فلم يكنِ الصدُّوقِيُّونَ يُؤمِنونَ لا بالقِيامَة، ولا بالأُمور الخارِقة للطبيعة. وهكذا نظرَ بُولُس حولَهُ في قاعَةِ المحكمة، فرأى أنَّها مقسومَةٌ مُناصفةً بينَ الصدُّوقِيِّينَ المُتَحرِّرين، والفريسيِّينَ المُحافِظين. فوقفَ بُولُس وقدَّمَ تصريحاً حَذِقاً قائلاً، "ايُّها الرجالُ الإخوة أنا فرّيسيٌّ إبنُ فرِّيسيّ. على رجاءِ قِيامَةِ الأمواتِ أن أُحاكَم." (أعمال 23: 6)
عندما صَرَّحَ بُولُس بفِطنةٍ بإيمانِهِ بِقيامَةِ الأموات، حدثَت مُنازَعَةٌ بينَ الفَرِّيسيِّينَ والصدُّوقِيِّين، فإنحازَ الفرِّيسيُّونَ إلى بُولُس. لقد عرفَ بُولُس أنَّهُ لن ينالَ مُحاكَمةً عادِلة في هذه المحكَمة، بسبب مُحاولةِ اليهود السُّخرية منهُ. فقرَّرَ أن يقلِبَ المحكمةَ رأساً على عقِب، كما فعلَ في مَدينَةِ فيلبِّي. فكانَ على الجُنودِ أن يُنقِذوهُ ثانِيَةً ويأخذُوهُ إلى القَلعة ليضعُوهُ في السجن، من أجلِ حِمايَتِه.
فقامَ أربعونَ من هؤلاء اليهود بأخذِ عهدٍ على أنفُسِهم بأن لا يأكُلوا ولا يشرَبوا إلى أن يقتُلوا بُولُس. كانت خطَّتُهم أن يكمُنوا لهُ على الطريق، ويقتُلوهُ بينما يُحضَرُ للإستجواب (12). وسمِعَ إبن أُخت بُولُس هؤلاء اليهود الصائمين يتآمَرونَ لقَتلِ بُولُس، فجاءَ إلى السجن وزارَ بُولُس وأخبَرهُ عن هذه المُؤامَرة. ثُمَّ ذهبَ الشابُّ إلى الأمير وأخبَرهُ ما كانَ يُخطِّطُ لهُ هؤلاء الأربعون يهوديَّاً.
فإتَّخذَ هذا الأميرُ قراراً بأن يُرسِلَ بُولُس إلى مكانٍ آخر ويُخرِجَهُ من تحتِ مسؤوليَّتِه. وهو لم يكُن يعرِف ماذا فعلَ بُولُس أو ما الذي كانَ يحدُث، ولكنَّهُ عرفَ أنَّ هذا الرجُل كانَ مصدَرَ المشاكِل. وهكذا نقرأُ أنَّهُ "دعا إثنين من قُوَّادِ المِئات وقالَ أعِدَّا مِئتَي عسكَري ليذهَبوا إلى قيصَريَّة وسبعينَ فارِساً ومئتي رامِحٍ من الساعَةِ الثالِثة من الليل. وأن يُقدِّما دوابَّ ليُركِبا بُولُس ويُوصِلاهُ سالِماً إلى فيلكس الوالي." (23، 24)
أليسَ هذا مُثيراً للإهتِمام؟ فتحتَ جناحِ الظَّلام، إذا بِهذا اليهوديُّ الصغيرُ القامة الضعيفُ النظَر، والذي كانَ مُجرَّحاً من كثرةِ ضربِ اليهود المُتعصِّبينَ الهائجينَ لهُ، إذا بهِ يُحاطُ بحمايَةِ أربعمائة وسبعين جُندِياً رومانيَّاً لحمايتِهِ، ثُمَّ تسلَّلَ هؤلاء بهِ من البابِ الخلفي للقلعة، وأخذوهُ على شاطِيءِ البحرِ المُتوسِّط، ذاهِبينَ من أورشليم إلى قيصريَّة في فلسطين.
- عدد الزيارات: 10176