Skip to main content

سِفرُ العَدَد الفَصلُ الثَّالِث مُستَوى القَرار

يُتابِعُ سِفرُ العَدَد التسلسُلَ القصَصِيّ الذي بَدَأ في سفر التَّكوين، وتابَعَ طَريقَهُ عبرَ سفرِ الخُرُوج، وتمَّت مُقاطَعَتُهُ لِوقتٍ قَصيرٍ عندما أعطَى اللهُ لِمُوسى سفرَ اللاوِيِّين، الذي يحتَوي خُطَطاً وتفاصِيل لبناءِ خيمَةِ الإجتِماعِ في البَرِّيَّة.

عندما تحرَّرَ شعبُ اللهِ عجائِبيَّاً من العبوديَّة التي قاسوا منها في مصر، كان عليهم أن يجتازُوا البَرِّيَّة وأن يدخُلوا إلى أرضِ المَوعِدِ أي كنعان. ولكنَّ سفرَ العدد يُخبِرُنا أنَّهُم لم يذهبوا مُباشَرةً من مصر إلى كنعان. بل داروا في حلقاتٍ في البريَّة لمدةِ أربعينَ سنةً!

مجازِيَّاً، هذه الظاهِرَةُ هي حقيقةٌ في حياةِ الكثير من المُؤمنين اليوم. فلقد تحرَّروا من قصاص ومن سُلطة الخطية بِدَمِ المسيح، ولكنَّهُم لا يَعيشُونَ بالطريقَةِ التي خلقَهُم اللهُ وأعادَ خلقَهُم ثانِيَةً ليَعيشُوا بها. بل هم مُحبَطُون مُكتَئِبون يائسون غيرُ مُكتفين. لم يدخُلوا أرضَ الموعد، أي مجازياً ذلكَ النَّوع منَ الحياة التي يدعُوها العهدُ الجَديد بالحياة الأبديَّة. (يُوحَنَّا 3: 15). قالَ يسُوع، "جِئتُ لتَكُونَ لهُم حَياةٌ، ولِيَكُونَ لهُم أفضَل." (يُوحَنَّا 10: 10) يُسمِّي العهدُ الجَديدُ هذا النَّوع منَ الحياة "الحياة الأبديَّة."

إنَّ أرضَ المَوعد في كَنعان هي صُورَةٌ مجازِيَّةٌ عن نوعيَّةِ الحياة التي نراها في العهدِ الجديد، والتي يَخلُصُ المُؤمِنُ ليختَبِرَها. فبدلَ أن يختَبِرَ المُؤمنُونَ هذا النَّوع منَ الحياةِ، يَدُورُون في حَلَقَاتٍ مُفرَغَة من عدم الإيمان وخيبةِ الأمل والتشويش. يُعَلِّمُنا سفرُ العدد هذا الدَّرسَ مجازيَّاً، بينما يَتكلَّمُ عن هذه الحقبة من تاريخِ الشَّعبِ العبريّ.


مَوتُ جِيلٍ كامِل

يأخذُ سفرُ العدد إسمَهُ من كون الشعب العِبريّ قد أُحصِيَ أو ذُكِرَ عدَدُهُ مرَّتين فيه. فلقد أُخِذَ تَعدَادُ الشعبِ في الإصحاحات الثلاثة الأولى من سفر العدَد، وتعدادٌ آخر في الإصحاح 26. وبين التعداد الأوَّل والثاني نجدُ موتَ جيلٍ بكامِلِه.

"بسبب عدم إيمان شَعب إسرائيل القَديم وإفتقارهم للثقة بأنَّ الله سوف يتمِّمُ مواعيدَه، قال لهم اللهُ ما معناهُ: "ستموتونَ في البريَّة. أنتُم الذين يفوقُ عُمرَكُم العشرين سنةً، الذين تذمَّرتُم عليَّ، لن يدخُلَ واحدٌ منكُم أرضَ الموعِد. فقط كالب ويشوع سوفَ يُسمَح لهُما بدخولِها. لقد قُلتُم أن أولادَكُم سوفَ يُصبِحون عبيداً لشعبِ الأرض. فبدل ذلك، سوفَ أُدخِلُهُم بأمانٍ إلى هذه الأرض وسوفَ يرِثون ما إحتقرتموهُ أنتُم. أما بالنسبةِ لكم، فإن جُثَثَكُم سوفَ تسقُطُ في البريَّة، وسوفَ تتيهون في هذه البريَّة لمدَّةِ أربعينَ سنةً. بهذه الطريقة سوفَ تدفعونَ ثمنَ عدم إيمانِكُم حتى يرقُدَ آخرُ واحدٍ منكُم في البرِّيَّة. سوفَ أُعلَّمُكُم ماذا يعني رفضُكُم لي. كلُّكُم ستموتون في البريَّة." (عدد 14: 34- 36)

بينما كانَ الشعبُ تائِهاً في البرِّيَّة، حاولَ اللهُ مِراراً أن يُبرهِنَ لهم أنه معهم. فعمِلَ معهم المُعجِزات، وحاولَ أن يُعطِيَهُم قاعِدَةً لإيمانِهِم، ذلكَ الإيمان الذي سيسمَحُ لهُم بعبورِ نهرِ الأُردنّ ودخول أرضِ كنعان.

ولكنَّهُم بَدَلَ ذلكَ، خَرَجُوا من مِصر، وإجتازوا البحرَ الأحمر، ونزلوا إلى جبلِ سيناء، ثم إلى قادش برنيع، ثم تاهوا دوَرَاناً في البرِّيَّة لمدة أربعين سنةً. ويقولُ الإصحاحُ الأول من سفر التثنية أنَّهُم لو إنطلقوا مُباشرةً من مصر إلى كنعان، لاستغرقتهُمُ الرحلة أحدَ عشرَ يوماً فقط. (تَثنِيَة 1: 2)

وفي وسطِ البَرِّيَّة، عشرَ مرَّاتٍ قالَ اللهُ أنه صنعَ معهم المُعجِزات العظيمة، وحاولَ أن يُوفِّرَ قاعدةً لإيمانٍ يستطيعون به أن يدخلوا أرضَ كنعان، ولكنَّهُم إستمرُّوا بالدَّوران في حلقاتٍ مُفرَغة. ولقد أخطأوا بفظاعَة عدَّةَ مرَّاتٍ مما اضطرَّ موسى أن يكونَ كاهناً ونبيَّاً. فكانَ يذهبُ إلى جبلِ سيناء ككاهِنِهِم، وكان يتشفَّعُ بهِم أمامَ الله مُصلِّيَّاً، "يا الله، إغفرْ لهم، أرجوك أن تغفرَ لهم." وبما أن موسى كان شخصاً مُمَيَّزاً عندَ الله، تضرَّعَ مُوسى من أجلِهم عشرَ مرَّاتٍ، وغفرَ اللهُ للشعب عشرَ مرَّات وأكثر. (عدد 14: 22)

وَمِنْ على جبلِ سيناء، صلَّى موسى طالِباً منَ اللهِ أن يُظهِرَ طُولَ أناتِهِ بِغُفرانِ خَطايا بَني إسرائيل. ولقد غفرَ لهُم اللهُ كما طلبَ مُوسى، ولكنَّهُ قالَ، "إلى متَى أحتَمِلُ هذا الجِيل الذي يتذَمَّرُ عليَّ؟ لَقَد سَمِعتُ تَذَمُّرَ بني إسرائيل الذي يتكلَّمُونَ بهِ عليَّ. ولكني أُقسِمُ بنفسي أنهُ كما تكلَّمتُم على مَسمَعِي، هكذا أفعَلُ لكُم. سوفَ تسقُطُ جُثَثُكُم في البرِّيَّة. أنتم الذين يزيدُ عمرُكم عن العشرين، والذين تذمَّرتم عليَّ، ولا واحدٍ منكُم سيدخلُ أرضَ الموعِد." (عدد 14: 27- 29).

يا لذلكَ الحُزنُ الذي سيطَرَ على المحلَّة عندما أخبرَ موسى الشعبَ بكلماتِ الله. فبكَّروا في صبيحةِ اليوم التالي وبدأوا بالتحرُّكِ نحو أرضِ الموعد. لقد عرفوا أنَّهم أخطأوا، ولكنَّهُم صارُوا مُستعدِّينَ آنذاكَ للدخولِ إلى الأرض التي وعدَهُم بها الرَّبُّ. ولكن موسى قال لهُم أنَّهُم تأخَّرُوا وفاتَهُم القِطارُ. فلأنَّهُم تركُوا الرَّبَّ، تركَهُم الرَّبُّ أيضاً.

إن هذا المقطَع يُعلِّمُنا شيئاً عن علاقتِنا مع الله. لقد غفرَ اللهُ لِبَني إسرائيل، ولكنَّ خَطيَّتَهُم سَبَّبَت لهُ ألَماً كَبيراً. بهذه الطريقةِ نفسِها، في حياتِنا في المسيح يُوجَدُ أكثر من مُجرَّد الخلاص والغُفران. فلقد خُلِقنا وأُعيدَ خلقُنا ثانِيَةً وذلكَ من خلالِ خلاصِنا، لِكَي نُمَجِّدَ اللهَ بخدمتِنا لهُ وبدُخُولِنا إلى كُلِّ ما أعدَّهُ اللهُ لنا. يُعَلِّمنا الكتابُ المُقدَّسُ أنَّ هُناكَ قصدٌ من خلاصنا؛ فإختِبارُ أُمَّةِ إسرائيل للتَّيَهانِ في البَرِّيَّةِ وعدَمِ دُخُولِ كَنعان، يُقدِّمُ مِثالاً عن الحقيقَةِ المُرعِبَة أنَّهُ يُمكِنُ أن نُفَوِّتَ على أنفُسِنا القَصدَ من خلاصِنا في هذهِ الحَياة.


مُستَوَى القَرار

عندما يَكونُ قُبطانُ الطَّائِرَةِ بصدَدِ الهُبوط بواحِدَة من الطائرات الضخمَةِ على المدرج، مثل طائِرة الكُونكُورد أو طائِرة بُوينغ 747، يَصل إلى مرحَلَة عليهِ أن يُلزِمَ نفسَهُ بالهُبوط. وهذا ما يُسمَّى بِنُقطَةِ اللارُجُوع، أو بمستوى القَرار. اللهُ لا ينفُذُ صَبرُهُ، وهُوَ مَملُوءٌ بالنِّعمة. ولكنَّ الإصحاحَ الرَّابِع عشر من سفرِ العدد يُخبِرُنا أنَّهُ يُوجَدُ ما يُسمَّى
"بِمُستَوى القَرار" في رحلاتِ إيمانِنا. تُوجَدُ نُقطَةٌ في سَيرِنا معَ الله، حيثُ نُقرِّرُ فيها ما إذا كُنَّا سنعمَلُ أم لن نعمَلَ بإرادَةِ اللهِ لِحَياتِنا.

فرغمَ أن اللهَ سوفَ يعملُ المُستحيل ليجعلنا نرى إرادَتَهُ ونعملُ بها، ولكنَّهُ يصلُ إلى تلكَ المرحلَة حَيثُ يَجعَلُنا نعمَلُ ما نُريدُهُ، ومن ثَمَّ يَجِدُ لِنفسِهِ شخصاً آخر يعمَلُ من خلالِهِ ما كانَ سيعمَلُهُ من خلالِنا. وعندما يتحوَّلُ اللهُ عنَّا لكَونِنا رَفَضنا بِعنادٍ أن نعمَلَ مَشيئَتَهُ، نُعاني من خسائِرَ فادِحَة، لأنَّنا نُفوِّتُ عندها القَصدَ من خلاصِنا في هذه الحياة. نحنُ بِذلكَ لا نفقُدُ خلاصَنا، ولكنَّنا نخسَرُ الفُرصَةَ لنُحَقِّقَ في هذه الحياة القصدَ الذي خلَّصَنا اللهُ من أجلِهِ. (أَفَسُس 2: 8- 10)

إن الإصحاحَ الرابع عشر من سفر العدد يحتوي على أكثر المقاطِع المُحزِنَة في الكتاب المُقدَّس. يُخبِرُنا هذا الإصحاح أن الشعبَ تقلَّدَ أسلِحَتَهُ في الصباحِ التالي. وعندما قالَ الشعب، "نحنُ الآن مُستعدُّون للدخول،" سمعوا هذه الكلمات الرهيبَة من موسى، "لقد تأخَّرتُمّ! إنزعوا أسلحَتَكُم عنكُم! لقد ابتعدتُم عن الله، فابتعدَ اللهُ عنكُم."

يُوجَدُ ما يُسَمَّى إرادة الله الصالِحَة المرضيَّة والكامِلَة لِحياةِ كُلَِّ واحِدٍ منَّا (رُومية 12: 1، 2) سِفرُ العدد يتكلَّمُ عن عمَلِ إرادَةِ اللهِ هذه لحياتِنا. عندما تقرأُونَ الإصحاح الرَّابِع عشر من سفرِ العدد، تأمَّلُوا هُناكَ بمُستَوى القرار، حيثُ نُقرِّرُ جميعُنا، إمَّا بأن نعمَلَ أو بأن لا نعمَلَ بإرادَةِ اللهِ لحياتِنا. ولن يَفُوتَ الأوانُ أبداً لنُقَرِّرَ بأنَّنا لن ندُورَ في حلقاتٍ مُفرَغَةٍ بعدَ اليوم، بل سوفَ نجتاحُ وندخُلُ ونملِكُ المواعِيدَ التي إختارَها اللهُ لنا.

  • عدد الزيارات: 7894