سِفرُ التَّثنِيَة الفَصلُ السَّادِسُ أولادٌ يَكبُرُون
تعني كلمة "تثنية": "إعادة أو تكرار الناموس." ولكنَّنا سوفَ نجدُ في هذا السفر أكثر من مُجرَّد إعادة للناموس. فهذا السِّفرُ المُوحَى بهِ هُوَ أيضاً تطبيقٌ لِنامُوسِ اللهِ على الجيلِ الثَّانِي من شَعبِ اللهِ المُختار.
إنَّ سفرَ التثنية هو أيضاً بمثابةِ سجلٍّ لعظاتِ موسى العظيمة للشعب قبلَ أن يعبُروا نهرَ الأُردنَّ ويدخُلوا كنعان. فالجملةُ الإفتتاحيَّة لسفرِ التَّثنية تُساعِدُنا على فهمِ فحوى هذا السِّفر. تقولُ هذِه العِبارَة، "إنَّ هذا السفر يُسجِّلُ خِطابَ موسى لشعبِ إسرائيل، عندما كانوا مُخيِّمِين في وادي العَرَبَة، في برِّيَّةِ موآب، شرقي نهرِ الأُردن. أُلقِيَ هذا الخِطاب بعدَ أن تركَ الشعبُ جَبلَ حُوريب بأربعين سنةً." (تَثنِيَة 1: 1، 3)
رأينا في سفرِ العدد أنَّ بني إسرائيلَ سارُوا في البَرِّيَّةِ لِمُدَّةِ أربَعينَ سنَةً. فلقد خرجوا من جاسان في مصر، ونزلوا إلى جبلِ سيناء، ثُمَّ إلى قادَش برنيع. وبما أنَّهُم لم يتحلُّوا بالإيمانِ الكافي لدخُولِ أرضِ كنعان، تاهوا في حلقاتٍ مُفرَغَة لمدَّةِ ثمانٍ وثلاثين سنةً. فماتَ جيلٌ كامِلٌ منهُم في تِلكَ البَرِّيَّة.
وفي النهاية، أبناءُ الجِيلِ الذي ماتَ في البَرِّيَّة كانَ لديهِم الإيمانُ لدخُولِ أرضِ كنعان. وكانُوا قد حَطُّوا الرِّحالَ على شرقِ نهرِ الأُردنّ، قبلَ أن يعبُروا نهرَ الأُردنّ ويدخُلوا أرضَ كنعان. وبإستِثناءِ كالِب ويَشُوع، ماتَ الجِيلُ بكامِلهِ الذي كانَ يعيشُ عندما أُعطِيَ النَّامُوسُ في المَرَّةِ الأُولى. فقبلَ أن يحتلُّوا كنعان، أرادَ موسى التأكُّد قبلَ موتِه، من أنَّ هذا الجيل الثاني قد سمِعَ كلمةَ الله التي أعطاها اللهُ لهم وللجِيلِ الذي سَبَقَهُم من خِلالِه على جبلِ سيناء. ولقد أرادَ أيضاً أن يضعَ أمامَهُم التَّحَدِّي بأن يتعهَّدُوا بتعليمِ أولادِهم نامُوسَ الله.
أحياناً يدُورُ المُؤمنُونَ في حَلَقاتٍ مُفرَغَة لسنواتٍ عديدة. فَعِندَما يُقَرِّرُونَ أن يغلِبُوا كنعانَهُم الرُّوحِيَّة، فيَختَبِرُوا الحياةَ في المسيح، تلكَ الحياة التي من أجلِها خلَّصَهُم المسيحُ، وعندما يُقَرِّرُونَ أن يأخُذُوا منَ اللهِ كُلَّ ما أعدَّهُ لهُم، عندها يُصبِحُونَ حاضِرينَ ومُستَعدِّينَ لِقراءَةِ سفرِ التَّثنِيَة. فهذا السِّفرُ مَليءٌ بالدُّرُوسِ للذي قَرَّرَ أن يُلقِيَ نظرَةً جدِّيَّةً على الحياةِ الجديدَةِ في المسيح، وأن يستسلِمَ كُلِّيَّاً لهُ. إن كانت هذه هي حالُكَ، فسفرُ التَّثنِيَةً هُوَ لكَ.
موضوعٌ هامٌّ آخر في سفرِ التثنية يتعلَّقُ بتحوُّلِ كلمةِ الله إلى حقيقةٍ في حياةِ شعبِ الله. في واحِدَةٍ من أعظَمِ عظاتِهِ، تحدَّى مُوسى أبناءَ الجيلِ الذي ماتَ في البَرِّيَّة، فحثَّهُم على التأكُّدِ من كونِهم قد أوصَلوا كلمةَ اللهِ هذه لأولادِهِم.
أعظَمُ عظاتِ مُوسى
يعتَقِدُ البَعضُ أنَّ تَثنِيَة 6: 4- 9 هُوَ أعظَمُ عظَةٍ ألقاها مُوسى على الإطلاق. فهذا المقطع من كلمةِ اللهِ كانَ يُعتَبَرُ قانُونَ الإيمانِ اليهوديّ الأساسيّ. وهذا هُوَ جَوهَرُ العِظَة:
"إسمَعْ يا إسرائيل، الربُّ إلهُنا ربٌّ واحِد. فتُحبُّ الربَّ إلهكَ من كلِّ قلبِكَ ومن كُلِّ نفسِك ومن كُلِّ قُوَّتِك. ولتكُنْ هذه الكلماتُ التي أنا أُوصيكَ بها اليوم على قلبِك. وقُصَّها على أولادِك وتكلَّم بها حينَ تجلسُ في بيتِك وحين تمشي في الطريق وحين تنامُ وحينَ تقومُ. واربُطها علامةً على يدِك ولتكُنْ عصائبَ بينَ عينيك. واكتُبها على قوائمِ أبوابِ بيتِك وعلى أبوابِك."
يُوجَدُ المَزيدُ من هذهِ العِظَة، ولكن هذا هُوَ جَوهَرُها وجوهَرُ سفرِ التَّثنِيَة. فالذي كان موسى يقولُهُ لهذا الشعب مُباشرةً قبلَ عُبورِهم نهرَ الأُردن ودخولِهم أرضَ كنعان هو أنَّ اللهَ دعاهُم ليَكُونُوا شَعباً يُحِبُّ الرَّبَّ من كُلِّ كيانِهِم. ولِكَي يُظهِرُوا لهُ محبَّتَهُم، كانَ عليهِم أن يُطِيعُوا كَلِمَتَهُ. ولِكَي يُطِيعُوا كَلِمَتَهُ، كانَ عليهِم أن يعرِفُوها. لقد أرادَ اللهُ من بَني إسرائيلَ أن يَكُونُوا شَعباً يُطِيعُونَهُ من كُلِّ كَيانهم. لهذا كَلَّفَهُم مُوسى بأن يُحِبُّوا اللهَ من كُلِّ كَيانِهم، وأن يعرِفُوا ويُطِيعُوا كَلِمَتَهُ وأن يُوصِلُوا هذه القِيَم إلى أولادِهِم.
الأُسُس الأربَعة لتَربِيَةِ الأولاد
إن ما كان موسى يقولُه لهم هو كيفَ يُعلِّمون أولادَهم ليكونوا شعباً يُحِبُّون الله ويُطيعونَه. إن هذه العمليَّة التربويَّة التي يصفُها موسى، تجدُها ترتكزُ على أربعةِ أُسُس. الأساسُ الأولُ هو أساسُ كَلِمَةِ اللهِ. فإن كانَ الأولادُ سيُحِبُّونَ الله، فأساسُ تعلُّمِهم ينبَغي أن يَكُونَ كلمة الله. يَقولُ الكتابُ المُقدَّسُ لاحِقاً في مكانٍ آخر: "رَبِّ الوَلَد في طَريقِهِ، فمتى شاخَ أيضاً لا يَحيدُ عنهُ." (أمثال 22: 6).
أساسٌ ثانٍ بُنيت عليهِ هذه العملية التربويّة هو المسؤوليَّة. فمن هو صاحبُ المسؤوليَّة في تربيةِ الأولاد؟ يظنُّ البعضُ أن مسؤولية التربية تقعُ على عاتِقِ الدولة. ينظُرُ النَّاسُ إلى المدارِسِ الرَّسمِيَّة، ويَظُنُّونَ أنَّ مسؤوليَّة تعليم الأولاد ما يحتاجُونَ معرفَتَهُ، تقعُ على عاتِق الدولَة. آخرون يقولون إنها مسؤوليَّة الكنيسة. فيأخُذُونَ أولادَهُم إلى مدرسةِ الأحد صباح كل يوم أحد، ظانِّينَ أنَّ الكنيسةَ ستُعَلِّمُ الأولادَ أن يُحبُّوا الله وكلمتَه.
يضعُ موسى مسؤوليَّة تربية الأولاد وتعليمهم على كاهِلِ الأهل. يَحُضُّ مُوسى الآباءَ أن يدعُوا كلمَةَ اللهِ تَسكُنُ في قُلُوبِهم، ومن ثَمَّ أن يُعَلِّمُوها لأولادِهم. لقد كانَ مُوسى يتكلَّمُ بِوَعيٍ، وبوحيِ اللهِ عندما عَلَّمَ أنَّ الأبَ ينبَغي أن يَقومَ بمسؤوليَّةِ تعليمِ كلمةِ اللهِ لأولادِه. فكَلِمَةُ اللهِ تُعَلِّمُ دائماً بهذا المبدأ.
الأساسُ الثالثُ التي بُنيت عليهِ هذه العمليَّةُ التربويَّة التعليميَّة هو العلاقات. لقد وعظَ موسى، "عندما تقومُ في الصباح مع أولادِك، عندما تجلسُ معهُم في البيت، عندما تخرجُ معهم على الطريق، وعندما تنامُ ليلاً معهُم، علِّمهُم كَلِمَةَ الله." يعتَقِدُ الكَثيرُ منَ الآباءِ أنَّ هذا ليسَ واقِعيَّاً، لأنَّهُم يكُونُونَ خارِجَ المنزِل عندما يستَيقظُ أولادُهم، أو عندما يأوُونَ للفِراش.
منَ المُهِمِّ أن تقومَ بِتَفسيرِ حضارَتِكَ على ضَوءِ كلمةِ اللهِ، بدلَ تفسيرِ كلمةِ اللهِ على ضَوءِ حضارَتِكَ الخاصَّة. في هذه الحال، لا ينبَغي أن يَتِمَّ تفسيرُ الكتابِ المُقدَّس على أساسِ بَرنامَجِ عملِكَ. بل ينبَغي أن يَتِمَّ تفسيرُ برنامَجِ عملِكَ على ضَوءِ تعاليمِ كلمةِ الله. إنَّ هذه العظة العظيمة التي ألقَاها مُوسى تُعَلِّمُكَ بِضَرورَةِ إقامَةِ علاقَةٍ معَ أولادِكَ، لأنَّ هذه العلاقة سوفَ تُشَكِّلُ ديناميكيَّة حَضَارَة عائِلَتِكَ. لا تُوجَدُ طريقَةٌ يُمكِنُ من خلالِها أن تتبَعَ تعليماتِ مُوسى، بِدُونِ أن تَكُونَ لكَ علاقةٌ معَ أولادِكَ. فهذه العلاقَةُ هي جزءٌ هامٌّ وحَيويٌّ من هذه العمليَّة التربَويَّة.
الأَسَاسُ الرابع الذي ترتكزُ عليهِ عمليَّةُ موسى لتعليم الأولاد، هو ما أُسمِّيهِ الواقِع. لاحظ أن موسى قال، "لتكُن هذه الكلمات التي أنا أُوصيكَ بها اليوم على قلبِك. تُحبُّ الربَّ إلهكَ من كلِّ قلبِك، ومن ثمَّ علِّمْ هذه الكلمات بعنايةٍ لأولادك." لا تُهمِلْ هذا الواقِع. فأولادُنا يتعلَّمُونَ ممَّن نَكُونُهُ ونعمَلُهُ معَهُم، أكثر ممَّا يتعلَّمُونَهُ ممَّا نَقُولُهُ لهُم.
قالَ يسوع ما معناهُ، "أرِني كنزَك، وهكذا تُريني قِيَمَك. أرِني قِيَمَك، وهكذا تُريني قلبَك." (متَّى 6: 20- 22) بالعربي الفَصيح، إن ما يعنيهِ هذا هو: أرِني كيفَ استخدَمتَ مالكَ في الخمس سنوات الأخيرة. أرني كيفَ صرفتَ وقتكَ ومالكَ وجُهدَك. فبهذا سوفَ تُريني قِيَمَك، وسوفَ تُريني أينَ هُو قلبُكَ. فأولادُنا يتعلَّمُونَ من مُراقَبَتِهم لطريقَةِ حياتِنا أكثَر ممَّا يتعلَّمُونَ من إستِماعهم لما نُعَلِّمُهُم بهِ عن قِيَمِنا العائِليَّة. فما نُعَلِّمُهُ لأولادِنا ليسَ محاضراتُنا عن القِيَم، بل بما هي قِيمُنا في واقِعها الحقيقيّ.
إنَّ الأُسُسَ الأربَعة التي ترتَكِزُ عليها خِطَّةُ تَربِيَةِ الأولاد كما يُقدِّمُها لنا مُوسى، هذه الأُسُس الأربَعة هي: كلمةُ الله، المسؤوليَّة، العلاقة، والواقِع.
- عدد الزيارات: 4067