بين عهدين
أو دخول الأمم إلى ملكوت النعمة
(3: 11- 12)
جدير بنا, وقد قطعنا مرحلةً كهذه في ميدان هذه الرسالة, أن نستوقف أنفسنا قليلاً لنُلقي نظرةً عاجلةً على ما مرَّ بنا, لنتبين الخيط المنطقي الدقيق الذي يربط ما مضى منها بما يأتي.
في منتصف الأصحاح الأول, رأينا بولس الرسول ساجداً مصلياً لأجل المكتوب إليهم, كي يعطيهم الله "روح الحكمة والإعلان في معرفته. ليعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين. وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين" –تلك القدرة التي تجلت في إقامة المسيح من الأموات وفي إقامة المؤمنين معه, ورفعهم, وإجلاسهم معه في السماويات. لأن قيامة الرأس عربون وضمان, وحجة لقيامة الجسد, إذ لا يمكن فصل الجسد عن رأسه الحيّ.
وكان من نتائج هذه الرفعة وهذا السمو, أن الرسول أماط اللثام عن أمجاد المؤمنين,فأرانا إياهم في غرة الأصحاح الثاني مرتفعين فوق " دهر هذا العالم", متحرّرين من سلطة "رئيس سلطان الهواء", متسلطين على "مشيئات الجسد والأفكار". لأنهم "في السماويات" مقيمون. ولو أن أجسادهم تتمشى على هذه الأرض الدنيا. وفوق ذلك, فقد أصبحوا جميعاً متمتعين بوحدانية مقدسة أزالت ما بينهم من فوارق.
غير أن الرسول أراد أن يذكر المكتوب إليهم بحالهم الأولى الوضيعة, كي يجعل نصب أعينهم مجد الله الذي تجلى في نعمته المجانية التي أغدقها بكل حكمة وفطنة على اليهود والأمم على السواء.
ومع أن المفاضلة غير جائزة في باب النعمة, لأن النعمة شملت اليهوديّ والأمميّ, وكلاهما ميت بالذنوب والخطايا –ولا مفاضلة بين درجات الموت- إلا أن اليهوديّ قد خص بمزايا اجتماعية ودينية كان الأمميّ محروماً منها. فمن هذه الوجهة يعتبر دين النعمة على الأمميّ أثقل منه على اليهودي. لذلك قصد الرسول: أولاً –أن يذكر الأمميين بمعدنهم الأصلي الذي أخذوا منه, وبالصخرة الأولى التي منها نقروا- في ماضيهم (2: 11و 12). ثانياً –أن يحيطهم علماً بالسلام الذي هم فيه مقيمون- في حاضرهم (2: 13- 18). ثالثاً –أن يجعل نصب أعينهم الغاية المجيدة التي أعدهم الله لها- في مستقبلهم (2: 19- 22). فماضيهم, ظاهر في قوله: "قبلاً". وحاضرهم, بيّن في كلمة. "الآن". ومستقبلهم, واضح في كلمة. "ينمو".
عدد 11و 12 :
11لِذَلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ، 12أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ.
أولاً: الرسول يذكر الأمم بمعدنهم الأصلي الذي منه جُبلوا –في الماضي (2: 11و 12)
"لذلك اذكروا أنكم أنتم الأمم قبلاً... والآن"!! من ذكر ماضيه المظلم, شكر الله على حاضره النيّر. هذا هو الدرس الذي أراد الرسول أن يطبعه على قلوب قارئيه من الأمم. فمن المحقق أن ضياء صفحة النعمة اللامع, يزداد تألقاً ولمعاناً إذا ما انعكس على سواد صفحة الذنوب والمعاصي. وبضدها تتبيّن الأشياء.
ومن المسلّم به, أننا نحن الأمميين العائشين في القرن العشرين, لا نستطيع أن نقدّر الحرمان العظيم الذي كان واقعاً على الأمم قديماً, فقد كانوا في نظر اليهود من سقط المتاع, المزدري والغير الموجود. فما كان اليهوديّ ليأكل طعامه إذا وقع عليه ظل إنسان أممي. وقد ذكر بولس نفسه –وهو رسول الأمم- أن اليهود كانوا متمتعين بمزايا جمة لا يستهان بها:
"... لهم التبني, والمجد, والعهود, والاشتراع, والعبادة, والمواعيد. ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين". لكن هذه المعركة الحامية التي ظلت نيرانها مستعرة بين اليهود والأمم بسبب الامتيازات المتمتع بها الأولون والمحروم منها الآخرون, قد خمدت نيرانها. لأن كل هذه القرون المتعاقبة قد كسرت حدة الخلافات الكثيرة التي كانت قائمة بين اليهود والأمم.ولقد كانت حرب المفاضلة بين اليهود والأمم على أشدها في منتصف القرن الأول للميلاد, فيها كانت كفة اليهود راجحة لدرجة جُبن أمامها بطرس الرسول, الذي كان متصفاً بالشجاعة والإقدام, فاضطر بولس الرسول "أن يقاومه مواجهة لأنه كان ملوماً. لأنه قبلما أتى قوم من عند يعقوب كان بطرس يأكل مع الأمم. ولكن لما أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه خائفاً من الذين هم من الختان. وراءى معه باقي اليهود أيضاً حتى أن برنابا أيضاً انقاد إلى ريائهم" (غلاطية 1: 10- 13). فلا غرابة إذا كان الأمميون يحسبون مساواتهم باليهود نعمة ممتازة, يذكرونها فيشكرون الله عليها. وكان بولس الرسول يعلم ذلك حق العلم سيما وأن الأمم كانوا قد ظفروا بهذه المزايا حديثاً, لذلك أراد أن يذكرهم بماضيهم القريب, فقال لهم: "اذكروا... ". وقد ذكر الرسول في هذين العددين (11و 12) بضع مزايا كان الأمميون محرومين منها –واحدة جسدية- ميزة الختان (عدد 11). وواحدة اجتماعية ظاهرة, في قوله "بدون مسيح". "أجنبيين عن رعوية إسرائيل" وأربعاً روحية ظاهرة, في قوله: "غرباء عن عهود الموعد". "لا رجاء لهم". "وبلا إله. في العالم".
إن ذكر الماضي الوضيع, يرفع الإنسان إلى حصن الشكر المنيع. حسناً قال إرميا قديماً: "أردّد هذا في قلبي. من أجل ذلك أرجو. أنه من إحسانات الرب أننا لم نفن لأن مراحمه لا تزول. هي جديدة في كل صباح. كثيرة أمانتك. نصيبي هو الرب قالت نفسي. من أجل ذلك أرجو" حسناً قيل عن أحد كبار أهل الغرب العصاميين أنه بعد أن رفعه مليكه إلى مرتبة الأشراف, كان يحتفظ في غرفة استقباله, أيام عزه وغناه. بتلك المنطقة التي كان يتمنطق بها في أيام بؤسه وبلواه.
فالذكرى تنفع من يريد أن ينتفع, وهي أيضاً ترفع من يبغي أن يسمو بها ويرتفع.
عدد 11 :
11لِذَلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ،
-أ-الميزة الأولى- الميزة الجسدية- التي كان الأمميون محرومين منها, وكان اليهود يفتخرون بها عليهم-الختان.يلوح لنا أن الرسول –وقد أضحى الآن رسول الأمم- لا يعتقد أن في هذه العلامة الجسدية ما يميز جماعة عن جماعة أخرى في ملكوت النعمة. لذلك استعمل لهجة تهكمية لاذعة إذ قال: "المدعوين غرلة من المدعو ختاناً, مصنوعاً باليد في الجسد" –فهي إذاً ميزة عرضية, جسدية, اسمية, لا هي جوهرية, ولا روحية, ولا حقيقية بدليل تكرار كلمة "في الجسد" مرتين في هذا العدد. هذا مؤيد لكلام الرسول في رومية 2: 28و 29 "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً ولا الختان الذي هو في اللحم ختاناً. بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي, وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه" –وفي الأصل "يهوديته"- "ليس من الناس بل من الله". فالميزة الحقيقية هي الميلاد الثاني الذي تبدعه يد الله في القلب, بخلاف الختان الذي تجريه يد إنسان في الجسد. فالختان إذاً ليس سوى ميزة في عُرف اليهودي لا في عُرف الحقيقة والواقع: "المدعوين غرلة من المدعو ختاناً" –يؤيد هذا قول التلمود. إن الفريسيين كانوا يلقبون أنفسهم "بالختان" والأمميين ب"الغرلة".
عدد 12:
12أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ.
خلاصة المزايا الحقيقية التي نالها الأمميون. "إنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح" بعد أن فرغ الرسول من الكلام عن الختان الذي كان يحسبه اليهود ميزة عظمى يتفاخرون بها على الأمم –ولم يكن الرسول نفسه يشاطرهم هذا الرأي اعتقاداً منه أن الختان علامة جسدية ليست ذات بال ولا خطر في ملكوت الله الروحي- انتقل إلى الكلام عن المزايا الحقيقية التي كان الأمميون محرومين منها قبل إتيانهم إلى المسيح. وقد أجمل هذه المزايا في كلمتين: "بدون مسيح". فأجاد الرسول كل الإجادة إذ جمع كل المزايا الاجتماعية والروحية التي كان الأمميون محرومين منها, في هذه العبارة الموجزة, الجامعة, المانعة: "بدون مسيح". هذا بحر خضم من المزايا مركزة في قطرة. بل قصيدة خالدة مجملة في شطرة.
"بدون مسيح" – وماذا يتبقى بعد هذا؟! قد يعيش إنسان بغير عينين,وقد يسلك الأعمى بغير عكاز, وقد يحيا الجسد بغير قلب- أما أن يكون إنسان "بدون مسيح", فهذا جحيم مقيم! قد تعيش أمة بغير حكام, وقد يحكم حكام بغير برلمان, وقد ينعقد برلمان بغير دستور –أما أن تكون أمة "بدون مسيح", فهذا فناء وإعدام! قد يسافر مسافر في قلب الصحراء بغير جرة, وقد يحمل جرة على ظهره بغير ماء, أما أن يكون الإنسان مسافراً في برية هذا الوجود "بدون مسيح" فهذا انتحار محقق! قد يستغني سكان الغبراء عن نور الشمس في النهار. وقد لا يحتاجون إلى ضوء القمر في الليل, وقد يعيشون طوال أعوامهم من غير أن يروا ربيعاً في الحياة فيجمدوا في الشتاء, ويذوبوا في الصيف, ويفنوا في الخريف, لكن أن يكون الإنسان "بدون مسيح" فهذا هو الموت الزؤام!
"بدون مسيح" –هذه خلاصة المزايا الحقيقية التي كان الأمميون محرومين منها- ومنها تتفرع سائر المزايا- اجتماعية كانت أم روحية: فالمسيح هو منبع كل المزايا الاجتماعية, ومصدر كل البركات الروحية.
(ب)المزية الاجتماعية: "أجنبيين عن رعوية إسرائيل" –الكلمة المترجمة "أجنبيين" يجوز أن تترجم حرفياً إلى "مُبعَدين", وهي ذات الكلمة المترجمة "متجنبون" في 4: 18. إن قوله: "عن رعوية إسرائيل" يرسم أمامنا صورة جماعة منتظمة تحت لواء ملك عظيم قد منحهم حقوقاً اجتماعية ومزايا مدنية باعتبار كونهم رعاياه. كذلك كانت الأمة الإسرائيلية قديماً حين كان الرب إلهاً لها وملكاً ومشيراً وحامياً. ولعل الرسول نظر إلى الأمة الإسرائيلية باعتبار كونها رعية "لمسيّا", بدليل قوله: "أجنبيين عن رعوية إسرائيل", كتعقيب, وشرح, ونتيجة لقوله: "بدون مسيح".
إننا مدينون للوقا الطبيب كاتب سفر الأعمال بحوار دار بين بولس وأمير, يلقي ضوءاً على كلمة: "رعوية" –فجاء الأمير وقال له قل لي. أنت روماني. فقال : نعم. فأجاب الأمير: أما أنا فبمبلغ كبير اقتنيت هذه الرعوية. فقال بولس:أما أنا فقد وُلِدت فيها" (أعمال 22: 27و 28). فالأمميون كانوا أجنبيين عن رعوية إسرائيل لأنهم لم يولدوا فيها ولم يكن لهم سبيل إلى اقتنائها وهم أمميون. ولعل أقرب كلمة إليها في عصرنا الحاضر, هي: "حرية المدينة" أو "تقدير الوطن".
(ج)أولى المزايا الروحية: "وغرباء في عهود الموعد". الموعد واحد لكن عهوده كثيرة. هو وعد الله لإبراهيم: "تتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تكوين 12: 3, 22: 18). لكن العهود التي قطعها الله مع شعبه بمناسبة هذا الموعد, كثيرة العدد. فمنها: عهده مع إبراهيم, وموسى, ولاوي, وداود, ويشوع. وجدير بالملاحظة, أن "الموعد" لم يكن مقصوراً على الأمة الإسرائيلية, لكنه تناول "جميع قبائل الأرض". وما كان بنوا إسرائيل سوى أداة إيصال بركة الله إلى "جميع قبائل الأرض". لذلك حُسب الأمم في نظر الرسول "مبعَدين عن رعوية إسرائيل", "وغرباء عن عهود الموعد" على اعتبار أنهم كانوا أصحاب حق طبيعي فيه –حسب الموعد. لكنهم أُبعدوا عنه لكونهم "بدون مسيح". وفي هذا يقول الرسول: "فإن كنتم للمسيح, فأنتم إذاً نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة" (غلاطية 3: 29). فهو موعد الخلاص, والتبرير, والتبني, بالإيمان بالمسيح يسوع –هذه أولى المزايا الروحية التي كان الأمميون محرومين منها, بسبب بعدهم عن المسيح.
(د)المزية الروحية الثانية: "لا رجاء لكم" –إن خير مفسر لهذه العبارة هو ما قاله الرسول نفسه في 1تس 4: 13 "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الأخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم". فالرجاء المقصود هنا, هو رجاء الخلود. نعم عند الأمم تصورات وانتظارات في الخلود, قد تكون أوهاماً وقد تكون آمالاً لأنها ليست مبنية على أساس يقيني ثابت, بخلاف الرجاء الوطيد الذي أبدعته حياة المسيح, وموته, وقيامته, في قلوب المؤمنين به. وأن من تتاح له فرصة الإطلاع على مؤلفات الرومان واليونان, في العصور الأولى, يتحقق جلياً مقدار الغموض والإبهام اللذين كانا مستوليين على عقولهم من جهة حقيقة الخلود. ويقول المؤرخون أنه في أبَّان حكم إسكندر الأكبر, كان هذا القول مأثوراً ومتداولاً على ألسنة حكماء اليونان, والسواد الأعظم فيهم: "الخير الأعظم: أن لا يولد الإنسان قط, والخير الذي يليه: أن يموت حالاً".
قد تكون كلمة: "لا رجاء لهم" غير مقصورة على رجاء الخلود, بل تتناول الحياة كلها وتصف نظرة الإنسان إلى الحياة بأسرها. لأن انعدام الرجاء في ما بعد الموت, ينعدم معه كل رجاء في الحياة. يتبين لنا ذلك, متى ذكرنا أن أقوال شعراء الرومان واليونان, وفلاسفتهم, في أيام بولس الرسول, كانت منصبة على أمجاد الماضي ومنسحبة على عظمة القرون السالفة. فكانوا يحسبون أن عصرهم الذهبي قد مضى وانقضى. لذلك ملوا الحاضر وأصبحوا بغير رجاء من جهة المستقبل. لأنه كان مظلماً أمام عقولهم المظلمة. بخلاف كتابات شعراء اليهود وأنبيائهم فإنها كانت منصرفة كلها إلى التغني بالأمجاد العتيدة, وتوقع استعلان أبناء الله, وانتظار المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله, والاشتياق إلى مجيء "مسيّا" بمجده ظافراً منصوراً.
(ه)المزية الروحية الثالثة: "بلا إله". لقد عبد الوثنيون آلهة كثيرة وخضعوا لأرباب عديدين, لكنهم كانوا يجهلون الإله الواحد الحي الحقيقي الذي يطلب تخصيص القلب كله له. وإلا فهو بعيد عن القلب كلية. إن إله اليهود هو إله الأمم (رومية 3: 29). لكن هذه الحقيقة لم تكن قد أعلنت للأمم بعد: لأنهم كانوا بغير مسيح. فكانوا بغير إنجيل. فمع أن "معرفة الله كانت ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم" (رومية 1: 19), إلا أنهم "لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم" (رومية 1: 28). ولعل العلة الرئيسية في كونهم "بلا إله", هي أنهم لم يكونوا قد عرفوا بعد –من الإنجيل-أن إله اليهود هو هو إله الأمم.
ولكونهم "بلا إله" يسيطر على عقولهم, ويتسلط على قلوبهم, صارت مرتعاً للأفكار الدنسة, وأمست قلوبهم بؤرة لكل شر وفساد. "ففعلوا ما لا يليق مملوئين من كل إثم وزنا وشر وطمع وخبث, مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً. نمامين مفترين, مبغضين لله, ثالبين متعظمين مدعين مبتدعين شروراً غير طائعين للوالدين. بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة".
الكلمة الأصلية المترجمة "إله" وردت هنا نكرة, وهي المرة الوحيدة التي وردت فيها بهذه الصيغة في العهد الجديد, ومنها اشتقت الكلمة الشائعة التي تعني "ملحد" أو "كافر". ومن الغريب أن المسيحيين الأولين كانوا يضطهدون من الوثنيين بحجة كونهم ملحدين وكفرة. مع أنهم هم الكفرة. فكأنما الإنسان يتبرع لغيره بالتهمة اللاصقة به هو دون سواه!!
كان الأمميون محرومين من كل هذه المزايا لأنهم كانوا "بدون مسيح" فحرمانهم من المسيح يترتب عليه حرمانهم من كل ميزة, وصلاح, ونعمة.
لأنهم "بدون مسيح", أصبحوا "أجنبيين عن الرعوية الملكية"
ولأنهم "بدون مسيح", أضحوا "غرباء عن عهود الموعد"
ولأنهم "بدون مسيح", أمسوا "بلا رجاء"
ولأنهم كانوا "بدون مسيح", باتوا "بلا إله" ([1])
ولأنهم كانوا "بدون مسيح", تركوا "في العالم"
فالمسيح هو مصدر الحياة الوطنية الصحيحة, وهو مصدر الحياة الروحية الراقية, وهو منبع الرجاء الوطيد, وهو معلن لنا حقيقة الله, لأنه هو "الطريق والحق والحياة. فما من أحد يأتي إلى الآب إلا به".
ختام المأساة: "في العالم". إن هذه العبارة, وإن كانت غير قائمة بذاتها بل مرتبطة بسابقاتها, إلا أنها تعبير إيجابي مركز اختتمت به كل العبارات السلبية السابقة. فإذا كانت كلمة: "بدون مسيح" أساساً لكل الحرمان الذي أصاب الأمم, فإن كلمة "في العالم" قياس لكل نواحي حياتهم. فرعويتهم... في العالم... ورجاؤهم... في العالم, وإلههم... في العالم. ومعبودهم... في العالم. وهل تعلو المياه عن المستوى الذي منه تنحدر؟ هم من العالم –وفي العالم- فإلى العالم!!
"في العالم" –على عكس قوله: "في المسيح". من الطبيعي إن من كان بدون مسيح, يصبح مطروداً من العالم و"بلا إله". لأن هذا "العالم" قد وُضع في الشرير, وكل ما فيه مضاد للمسيح, لأن إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين بحجاب المادة الكثيف.
عدد 13 :
13وَلَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ.
ثانياً: الرسول ينبه الأمم إلى السلام الذي هم فيه مقيمون في حاضرهم (2: 13- 18).
جميل بالمرء أن يذكر ماضيه فلا تبرح عن باله الصخرة التي منها قطع: لكن انصراف الفكر إلى الماضي وحده, يجعل المرء منقطعاً عن مستقبله وحاضره, متحسراً على ما فات إن كان جميلاً مقبولاً, فزعاً منه إن كان قبيحاً مرذولاً, فليس من الحكمة أن يقضي الإنسان أعزَّ أوقات حاضره ليذرف الدموع السخية على الماء المهراق بالأمس. لأن ما مضى قد انقضى وفات. وأمام الإنسان حاضره, وما هو آتٍ آت. لذلك بعد أن فرغ الرسول من تذكير الأمم بماضيهم التعس, وجَّه أبصارهم وبصائرهم إلى حاضرهم المقدس فقال: ". ولكن الآن". وكما أن شقاوتهم الغابرة حلت بهم لكونهم "بدون مسيح", كذلك سعادتهم الحاضرة أحاطت بهم لكونهم "في المسيح" فالبون العظيم الكائن بين الهاوية والسماء يعيّنه موقف الإنسان من المسيح –أهو "بدون مسيح" أم "في المسيح". "لذلك اذكروا أنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح أجنبيين .. في العالم ... لكن الآن في المسيح ... صرتم قريبين".
يعتبر هذا العدد خير مفسر لما جاء في إشعياء 57: 19 "...سلام سلام للبعيد (الأممي), وللقريب (اليهودي) قال الرب وسأشفيه". وفيه أجمل الرسول حقيقة السلام الذي صنعه المسيح بين الأممي واليهودي, ثمّ بينهما معاً وبين الله تعالى. وفي الأعداد التالية (2: 14- 18) فصّل الرسول ما أجمله في هذا العدد. فكأن هذا العدد هو المحور الذي عليه يدور هذا الفصل, وهو بمثابة مقدمة له. وفيه أبان الرسول ثلاثة أمور.
-أ-الامتياز الحالي الذي يتمتع به الأمم: "ولكن الآن... صرتم قريبين"- هذا هو السلام الذي تم بينهم وبين اليهود, ثم بينهم واليهود معاً وبين الله كان الأمميون بعيدين عن المزايا اليهودية حساً ومعنى –تفصلهم عن بعضهم البعض فوارق وفواصل عدة, بعضها: جغرافي –لأن اليهود كانوا يركّزون كل شيء في اليهودية, ويركزون كل اليهودية في أورشليم وكان الأمميون –إلى عصر الرسول- بعيدين جغرافياً عن أورشليم. وبعض تلك الفواصل معنوي, روحي. فالأمميون كانوا يختلفون عن اليهود في تفكيرهم, وفي طقوس عبادتهم, وفي نظرتهم إلى الحياة بوجه عام سواء أكان في جانبها الشخصي أم الاجتماعي أم الديني وفوق ذلك, كان الأمميون أجنبيين عن الله في حقيقة حالهم, وفي خطاياهم التي أقاموها فاصلاً بينهم وبين إلههم وفي أفكارهم الحمقاء وقلوبهم الغبية (رومية 1: 21), فحقّ إذاً لبولس أن يقول لهم: "ولكن الآن أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين". لأنهم كانوا بعيدين عن اليهود, بعيدين عن أنفسهم الحقيقية الشريفة (لوقا 15: 17), بعيدين عن الله.
-ب-مقامهم الحالي: "الآن في المسيح يسوع". أما مقامهم السابق فقد بيّنه الرسول في عبارتين سالفتين تبعد كلتاهما عن هذه بُعد الهاوية عن السماء. وقد وردت إحداهما في غرة العدد السابق: "بدون مسيح" وثانيهما في خاتمته: "في العالم". فالعامل الأساسي في هذا المقام الممتاز هو المسيح نفسه الذي أجرى سلاماً بين اليهود والأمم, ثم بينهما كليهما وبين الله. هذا مقام حي, بل صلة حيوية, كتلك التي بين الشجرة وأغصانها, وهي صلة نامية. لأن كل حي نام, فهي بالتالي صلة باقية. هذه صلتهم الجديدة بعد أن كانوا زيتونة برية, فطعموا في الكرمة الحقيقية, فصاروا رعية تحمل لواء "مسيّا" الملك الحقيقي.
-ج-أساس مقامهم الحالي: "بدم المسيح". إذا كان المسيح هو العامل الأساسي في توحيد الأمم واليهود معاً, وفي مصالحتهما كليهما مع الله, فإن الدم هو الوسيلة التي بها أجرى المسيح هذه المصالحة بجانبيها. ويقول بعض العارفين بدخائل اللغة الأصلية: إن كلمة "بدم المسيح" يجوز أن تترجم إلى "في دم المسيح". في دم المسيح تمحى الفوارق التي تفصل بين الناس وبين بعضهم البعض. وفي دم المسيح تغسل الخطايا التي تقف حائلاً بين الله والناس.
منذ العصور الأولى التي نشأت فيها البشرية على الأرض, كانت معاهدات الصلح تعقد وتختم بالدم. فالدم كان ختماً لكل محالفة تتم بين إنسان وإنسان, وأساساً لكل مصالحة تجرى بين الله والناس "هذا هو دم العهد الذي أوصاكم الله به.. والمسكن أيضاً وجميع آنية الخدمة رشها كذلك بالدم وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم, وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة". فهذه المصالحة بين الله والناس هو عهد دم. وعهد التحالف بين فرد وفرد أو بين أمة وأمة هو عهد دم. قديماً كان هذا دم حملان وكباش, ولكن في ملء الزمان, جاء المسيح وقدم نفسه ذبيحة عنا نحن الخطاة, فأدخلنا بدمه إلى عهد جديد. من ثم قال لتلاميذه وقت العشاء الأخير: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي". ومع أن موته كان يُحسب في حينه علامة ضعف من جانب المسيح المصلوب, إلا أن قيامته قد بددّت كل شيء في نصرته, فأراقت نوراً خالداً على صليبه, وجعلت من صليبه أرفع أريكة لأرفع مليك, فصار دمُ الصليب دم المصالحة. فكأن المسيح إذ مد ذراعيه على الصليب, صالح أقاصي الأرض بأقاصيها, وضم سكان الأرض إلى قلب رب الأرض والسماء. فكأن جسد المسيح المصلوب صار تلك "السلم" التي ربطت الأرض بالسماء.
هذا هو العهد الجديد الذي لم ينسخ العهد القديم بل أيده ووسع أفقه وجعله يضم القريبين والبعيدين معاً, بهذا اكتسب اليهود كثيراً من غير أن يخسروا شيئاً, إذ اكتسبوا أخوة آخرين وضموا إلى حظيرتهم رعية أخرى لم تكن أصلاً في حظيرتهم, وفي المسيح صارت لهم الأمم ميراثاً وأقاصي الأرض ملكاً. بهذا أيضاً اكتسب الأمم الشيء الكثير من غير أن يخسروا شيئاً إذ أصبحوا ضمن العائلة الواحدة المقدسة, وأضحوا في عداد بني الله وباتوا أحجاراً في الهيكل الإلهي الواحد, وأمسوا مطعمين في الكرمة الحقيقية بعد أن كانوا زيتونة برية, وصار لهم حق الدخول إلى الأقداس المجيدة ليتمتعوا بالشركة القدسية مع الله.
[1] يقول يوستنيان "الشهيد" إن المسيحيين الأولين كانوا يضطهدون بحجة كونهم كافرين بالآلهة المتعددة فكان هو يذكر المضطهدين بأن سقراط أعدم بحجة كونه كافراً بالله الحي . وفي مناسبة تاريخية مشهورة, ارتدت سهام هذه التهمة إلى صدور الذين تبرعوا بها لسواهم, ذلك أنه لما حانت ساعة إعدام الشهيد وليكاربوس ناشده الحاكم بهذه الكلمات المأثورة: "أقسم بعظمة الإمبراطور وتب. وقل: مالي والملحدين (يعني المسيحيين) فليسقطوا!!" أما بوليكاربوس فقد أجابه إلى ما طلب بمعنى غير الذي قصد. لأنه التفت إلى جماعة الوثنيين –لا المسيحيين- ثم رفع يديه نحوهم وهتف بلهجة قاطعة: "مالي والملحدين (يعني الوثنيين) فليسقطوا"!! ولقد أصاب بوليكاربوس كبد الحقيقة لأن الملحدين حقاً هم الوثنيين الذين بلا إله".
- عدد الزيارات: 3533