Skip to main content

سلامنا والمسيح

(2: 14- 18)

في هذا الفصل فصّل الرسول ما أجمله في العدد السابق في ثلاث حقائق:

الحقيقة الأولى: السلام كعملية أجراها المسيح (2: 14 أ)

"لأنه هو سلامنا". النبرة في هذه العبارة واقعة على الكلمة الوسطى: "هو" ويجوز أن تترجم حرفياً إلى: "هو بنفسه" أو هو "هو لا سواه".قديماً تنبأ عنه إشعياء فلقبه ب"رئيس السلام" (إشعياء 9: 15). وفي يوم ميلاده هبطت على الأرض بشرى السلام: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة". وقبيل صلبه رأينا فيه واهب السلام ومعطيه لتلاميذه ومريديه: سلاماً أترك لكم سلامي أعطيكم". لكن بولس يحدثنا عنه في هذا العدد أنه "هو سلامنا". فشخصيته, وذاته, وطبيعته كلها سلام, وهو بنفسه رابطة السلام بين الناس والناس, وبين الله والناس, وشخصه الحي المجيد هو ضمان سلامنا, بل جوهر سلامنا, فالسلام مشتق منه ومنبعث, مثلما تنبعث أشعة الشمس من كلف الشمس انبعاثا طبيعياً. وهو أيضاً "سلامنا" لأننا لا نتمتع بالسلام, إلا إذا كنا فيه.

إن كلمة: "سلامنا" تشير على الوئام والانسجام بين العنصرين الرئيسيين اللذين تتألف منهما كنيسة المسيح: "حيث ليس يهودي ولا يوناني..." (غلاطية 3: 28, كولوسي 3: 11), ثم إلى السلام الشامل الذي تم بين رب السماء وساكني الأرض: لكن المعنى الأول هو المقصود على كلمة "الاثنين" في هذا العدد.

الحقيقة الثانية: المسيح صانع سلامنا (2: 14ب- 16)

تتألف هذه الحقيقة الثانية من عنصرين رئيسيين: العنصر الأول: ماهية السلام الذي أجراه المسيح –وهذه عبر عنها الرسول بكلمتين رئيسيتين, وبكلمة تفصيلية. أما الكلمتان الرئيسيتان فقد وردتا بصيغة الماضي: "جعل" و"نقض" –أولاهما تفيد البناء, والثانية تفيد الهدم. فكل بناء حقيقي لا يخلو من هدم, وكل هدم حقيقي هو خطوة إلى البناء. وأما الكلمة التفصيلية والعنصر الثاني: غاية السلام الذي أجراه المسيح: "لكي يخلق... صانعاً ويصالح... قاتلاً"

14لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ

العنصر الأول: ماهية السلام الذي أجراه المسيح معبّر عنها بعاملين:

(أ)عامل البناء في عملية السلام: "الذي جعل الاثنين واحداً". يراد ب"الاثنين" اليهود والأمم اللذين جعلهما المسيح "واحداً": فهو لم يجعل اليهودي أممياً ولا الأممي يهودياً, بل أنسى اليهودي يهوديته, وأنسى الأممي أمميته, وصار الاثنان يذكران أنهما مسيحيان قبل كل شيء, وفوق كل شيء, ويقول العارفون بأصول اللغة الأصلية: إن كلمتي: "الاثنين" "واحداً" وردتا بصيغة, لا مذكرة ولا مؤنثة, ويعتقد الدكتور مونود أنهما تعنيان نظامين أو هيئتين باعتبار أن المسيح جعل من هاتين الهيئتين المختلفتين –اليهود والأمم- هيئة واحدة, واتحاداً واحداً, ونظاماً واحداً وكتلة واحدة, وكلمة: "واحداً" تعني أيضاً "جوهراً واحداً" لأنها هي ذات الكلمة التي استعملها المسيح في قوله: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30).

لسنا ندري هل وجدت بين العوامل الطبيعية مادة تصهر معدنين متباينين فتصيغ منهما معدناً واحداً. لكننا نعلم علم اليقين أن المسيح قد استطاع بدمه الثمين أن يصوغ من اليهود والأمم –اللذين لا يقبلان نماذجاً بطبيعتهما- معدناً واحداً صافياً, إذ أمعنت النظر فيه ألفيته عنصراً واحداً.

(ب)عامل الهدم في عملية السلام: "ونقض حائط السياج المتوسط". لكي نفهم المراد من هذه العبارة, يجب أن نرجع بأفكارنا على الحالة التي كان عليها الهيكل وقت كتابة هذه الرسالة. فمن المسلم به, أن هيرودس الأكبر أضاف إلى الهيكل قطعة فسيحة من الأرض كانت مؤلفة من دار متداخلة في دار, حتى تصل إلى القدس, ومنه إلى قدس الأقداس. وكانت كل دار تزيد في درجة "القدسية" عن الدار الخارجة عنها, حتى تنتهي إلى قدس الأقداس –الذي لا يُسمح بدخوله إلا لرئيس الكهنة وحده, مرة واحدة في السنة. وأما القدس فكان يسمح للكاهن بدخوله يومياً ليحرق البخور على مذبح المحرقة وقت تقديم ذبيحتي الصباح والمساء. وكانت تُقدم هاتان الذبيحتان في دار الكهنة على مذبح المحرقة. وخارج هذه الدار, داران أخريان: إحداهما –وهي الملاصقة لدار الكهنة مباشرة- تسمى "دار بني إسرائيل", والثانية –وهي خارج الأولى شرقاً- تسمى "دار النساء"

كل هذه الأمكنة –قدس الأقداس, والقدس, ودار الكهنة, ودار بني إسرائيل, ودار النساء –كانت مقامة على مستوى عال حساً ومعنى- ينتهي في عدة مواضع منه إلى خمس درجات تؤدي إلى أبواب مفتوحة في جدار مرتفع, تتصل به منصة ضيقة تشرف على دار خارجية فسيحة. وهذه الدار الخارجية كانت مخصصة للأمميين الذين يريدون أن يجتلوا محاسن أمجاد هيكل اليهود,أو أن يقدموا ذبائح وتقدمات لإله إسرائيل –ولكن لم يكن مسموحاً لهم بحال, أن يتخطوا هذا الحائط الذي كان يفصل هذه الدار عن الهيكل. وكل من تحدثه نفسه باقتحام ذلك الحائط يقع تحت طائلة الإعدام. ومبالغة في التحوط, لمنع الأمم من أن يمسوا الجدار المرتفع ذات الأبواب, أقام اليهود حائط سياج منحوتاً من حجر, مطوّفاً أبنية الهيكل, يبلغ ارتفاعه نحو خمسة أقدام. هذا هو الحد الفاصل الذي كان قائماً بين الأمم واليهود, كما حدثنا عنه يوسيفوس في "سفر الآثار" هذا هو حائط السياج المتوسط الذي قصده بولس في هذا العدد. ويقول علماء الآثار إن جماعة من المستكشفين في فلسطين, رفعوا الردم أخيراً عن أحد الأعمدة, وقد كان مقاماً فوق ذلك السياج المتوسط –وهو محفوظ الآن في الأستانة- منقوشة عليه هذه الكلمات باللغة اليونانية:

"لا يجوز لإنسان ما, من أمة أجنبية, أن يتخطى هذا السياج ويجتاز منه إلى الهيكل. وكل من يجسر على اقتراف هذا الذنب, ويُقبض عليه, يكون هو الجاني على نفسه".

ويقول كاتب سفر "الأعمال" إن يهود أورشليم ثارت ثائرتهم على بولس الرسول لأنهم ظنوه أخذ تروفيموس الأفسسي وأدخله إلى الهيكل مجتازاً به حائط السياج المتوسط (أعمال 21: 28- 30).

إن "حائط السياج المتوسط" لم يكن موجوداً في الهيكل فقط, بل كان قائماً في قلوب اليهود, فمنع دخول الأمم إليها –هذا هو الحائط المعنوي الذي يفوق في سمكه ذلك الحائط الحجري. وكم من مرة يكون فيه اللحم أقسى من الحجر!!

ومع أن "حائط السياج المتوسط" هذا, كان لم يزل بعد قائماً بأعمدته المنقوشة, حتى كتابة هذه الرسالة, إلا أن المعنى الذي يرمز إليه, كان قد زال مذ أن انشق حجاب الهيكل, والمسيح معلق على الصليب. فمع أن الحجارة المادية كانت قائمة وقتئذٍ, إلا أن معناها الجوهري كان قد زال. وبعد كتابة هذه الرسالة بقليل, تهدَّم الجدار فعلاً, ولم يبقَ فيه حجر على حجر. فزال الرمز والمرموز إليه كلاهما.

أما المعنى المراد من "نقض حائط السياج المتوسط" فقد زاده بولس وضوحاً وجلاء في العدد التالي –الذي يعتبر جملة تفسيرية لهذا العدد ولسابقه.

عدد 15 :

15أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الِاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً،

جملة تفسيرية: (2: 15 أ) "أي العداوة. مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض". يحدثنا الرسول في هذه العبارة عن أمرين:

أولهما: ما أبطله المسيح: "ناموس الوصايا"

ثانيهما: أداة إبطاله: "بجسده"

-أ-ما أبطله المسيح: "ناموس الوصايا". إن المسيح, إذ نقض حائط السياج المتوسط بين الأمم واليهود, استأصل العداوة التي كانت متأصلة بينهما. ولقد أبطل المسيح هذه العداوة إذ أبطل العلة الأساسية لها, لأنه إنما يعالج الداء من أساسه, وينتزع الأشواك من جذعها. فالعلة الدفينة لهذا الداء هي: "ناموس الوصايا في فرائض". فلكي يزيل المسيح تلك العداوة المتأصلة, أبطل علتها المستعصية: "مبطلاً ناموس الوصايا في فرائض"

فما هو الناموس الذي أبطله المسيح؟ أهو الناموس الطقسي؟ أم هو الناموس الأدبي؟ أم هو كلاهما معاً؟

يلوح لي أن الناموس المقصود أكثر من سواه في هذه القرينة, هو الناموس الطقسي. لأن وصاياه مفرغة في قالب أوامر ونواهٍ مفروضة فرضاً: "لا تمس ولا تذق ولا تجس التي هي جميعها للفناء في الاستعمال" (كولوسي 2: 21و 22). هذه هي الفرائض التي أقام منها اليهود سوراً رفيعاً, كانوا يشرفون من قمته على الأمم, فينظرون إليهم نظرة كلها زراية واحتقار فاليهود كانوا يتورّعون عن أن يمسوا شيئاً في الأسواق العامة, متى علموا أن يداً أممية مسته قبلهم, لئلا يتنجسوا. وكانوا يأنفون من أن يأكلوا على مائدة واحدة مع شخص أممي, لئلا يتلوثوا. فجعلوا من هذه الفرائض الطقسية حصناً منيعاً تحصنوا وراءه ضد الأمم. وما الفواصل القائمة في عصرنا لحاضر بين البرهميين والهندوكيين سوى بعض الفواصل التي أقامها اليهود من هذه الفرائض, حائلاً بينهم وبين الأمم. ومن الغريب أن تلك الفرائض وضعت قديماً على اليهود لتقيهم شر الاختلاط بالأمم, فأقام اليهود منها تمثالاً عبدوه!

غير أن "ناموس الوصايا" قد يعني أيضاً الناموس الأدبي إذا نُظر إليه كواسطة لنوال الخلاص أو كشرط أساسي للتمتع بالسلام مع الله. هذا يؤيد قول الرسول في رسالة رومية (7: 1- 6, 8: 2- 4) "... لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت. لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد, فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح". فالمسيح أبطل الناموس الطقسي برفعه أثقاله عن الإنسان وتحريره إياه من كل مطاليبه. وقد أبطل الناموس الأدبي بتغييره موقف المؤمن بالنسبة إليه, إذ غير موقف المؤمن بالنسبة إلى الله. فبدل أن كان المؤمن مطالباً بإطاعة الناموس والخضوع له لكي يتمتع برضوان الله وغفرانه وسلامه, أضحى متمتعاً بسلام الله الذي اشتراه له المسيح بدماه, فأصبح ينظر إلى الناموس لا كأنه أداة خلاصه, بل مظهر من مظاهر إرادة الله المعلنة للبشر. قبلاً كان الإنسان مطالباً بالعمل بموجب الناموس ليتمتع بسلام الله, والآن اصبح متمتعاً بسلام الله, فهو لذلك يحترم الناموس, لأنه مجلي فكر الله الذي أحبه وافتداه. قبلاً كان يعمل بالناموس ليخلص, واليوم يعمل وفق الناموس لأنه نال الخلاص. قبلاً كان الناموس عليه سيداً جباراً عتياً. واليوم صار له خادماً وفياً. قبلاً كان يخضع لناموس الوصايا, واليوم صار يعمل بناموس المحبة.

"ما جاء المسيح لينقض بل ليكمل". لكنه إذ أكمل الناموس ألغاه. قل زوالاً إذا ما قيل تمّ.

-ب-أداة إبطاله: "بجسده". هذا تعبير آخر لقوله: "جسم بشريته" (كولوسي 1: 22) أو "شبه جسد الخطية" (رومية 8: 3) وكلها تشير إلى تجسد المسيح, وموته الذي قاساه في جسده على الصليب. فلولا تجسد المسيح لما أتيح لرب الحياة أن يموت عن البشر. فجسد المسيح هو أداة تجسده, واتضاعه, وافتقاره,وموته عنا على الصليب. فهو "جسم" الفداء الذي به صنع لنا سلاماً مع الله, هو السلم التي ربطت الأرض بالسماء, هو أداة البناء وهو أداة الهدم التي بها أبطل ناموس الوصايا في فرائض. فالمسيح بصليبه صنع سلاماً, وبصليبه ألغى أحكام الناموس, "لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد, فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد لكي يتم حكم الناموس فينا" هذا يوافق قول الرسول في كولوسي 1: 19- 22 "لأنه فيه سُرَّ أن يحل كل الملء وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته... وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت" فالمسيح بجسده أوجد أداة اتصال بين اليهود والأمم, وبدم صليبه مزجهما معاً, وصالحهما مع السماء.

العنصر الثاني: غاية السلام الذي أجره المسيح: "لكي يخلق صانعاً... ويصالح قاتلاً". عبر الرسول عن هذه الغاية بفعلين –كل منهما متبوع باسم فاعل موضح له ومفسر: فالفعل الأول "يخلق" متبوع باسم الفاعل: "صانعاً". والفعل الثاني: "يصالح" متبوع باسم الفاعل: "قاتلاً" أولهما: "يخلق" يرينا أن المسيح بموته قد اتحد في نفسه اليهود والأمم وكوّن منهما إنساناً واحداً جديداً –هذه خطوة أولية ابتدائية تمهيدية للخطوة الثانية المبينة في الفعل الثاني: "يصالح" بعد لأن خلق المسيح من اليهود والأمم إنساناً واحداً جديداً, صالح هذا الإنسان الجديد مع الله. فالخطوة الأولى هي إجراء السلام بين طرفي الأرض المتباعدين –اليهود والأمم. والخطوة الثانية هي إجراء السلام بين سكان الأرض باعتبارهم إنساناً واحداً, وبين الله. هذه هي المصالحة المزدوجة التي أجراها المسيح بدم صليبه- فهو خلق من اليهود والأمم إنساناً واحداً, قد صنع سلاماً. وإذ صالح الاثنين في جسد واحد مع الله, قد قتل العداوة بالصليب.

في مصالحة اليهود مع الأمم قد خلق المسيح "إنساناً واحداً جديداً" هذه هي الإنسانية الجديدة الموحدة المكونة من وحدات حية متحدة هي الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر و قداسة الحق, لا مجال فيها للخلاف الذي توجده الجنسية, ولا للعداء الذي يسببه اللون, ولا للمشاحنة التي يولدها المذهب, لكنها إنسانية واحدة حية جديدة –كجسد واحد كل عضو فيه للآخر نصير. لأنه يحيا ويتحرك معه بالروح الواحد.

في رسالته الثانية إلى كورنثوس. ذكر الرسول أن المؤمن الفرد هو خليقة جديدة في المسيح (1كو 5: 17). وفي هذا العدد أبان أن جماعة المؤمنين المتصالحين والمتحدين معاً في المسيح, هم أيضاً خليقة جديدة باعتبار كونهم إنساناً واحداً جديداً في المسيح.

ورد هذا التعبير "إنساناً واحداً جديداً" مرة واحدة غير هذه في هذه الرسالة (4: 24).

كما أننا بالجسد إنسان واحد عتيق في آدم, كذلك نحن بالروح إنسان واحد جديد في المسيح.

عدد 16 :

16وَيُصَالِحَ الِاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ.

الغاية الثانية: "ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به". هذه هي الغاية الثانية والقصوى في برنامج الفداء –مصالحة الأرض بالسماء. وبها تمّ استرداد هذه البقعة السوداء المسماة بالأرض التي استلبها الشيطان من التاج السماوي, فرُدت إلى مركزها في تاج السماء.

الكلمة الأصلية المترجمة: "يصالح" وردت كما هي, مرة واحدة في غير هذا الموضع: "وأن يصالح به الكل لنفسه" (كولوسي 1: 20و 21). لكن صيغة مجانسة لها وردت في عدة مواضع (رومية 5: 10, 1كو7: 11و 2كو5: 18و 19و 20). والفكرة الرئيسية المطوية عليها هذه الكلمة, هي أن شخصاً سامياً رفيعاً ضحى أكبر تضحية في سبيل رده جماعة متمردة عليه, لتكون فدية لهذه المصالحة (2كو 5: 19). والمسيح صالحنا مع الله إذ قدم ذاته فدية لهذه المصالحة, لأن لا مصالحة بغير فدية "وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة"

أنبأنا الرسول في هذا العدد عن أربعة أمور:

(1)معنى المصالحة: "ويصالح...". إن المصالحة التي أجراها المسيح بين الأرض والسماء تتضمن التفكير والتبرير. لأن عدالة السماء تطالب بمعاقبة الأرض على سيئاتها التي اقترفتها في الماضي –وهذا تمّ بالتكفير. وهي أيضاً تنتظر من الأرض أن تكون في حالة بارة تؤهلها للشركة مع السماء- وهذا تمّ بالتبرير. على أنه لا يُفهم من هذا أن الله جلَّ جلاله, كان حاقداً على البشر, معادياً لهم, متحفزاً للانتقام منهم, لكن المراد بهذا أن الله غير راضٍ عن البشر, ما داموا عائشين في خطاياهم , وأنه حاجب وجهه عنهم ما داموا راضين بآثامهم. فإن كثروا الصلاة لا يسمع, وإن عرضوا عليه طلباتهم, أعرض هو عنها وعنهم. لكن قلبه من جهتهم لم يتغير لأنه هو الذي دبر الفداء: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد".

(2)الفريقان اللذان تمت بينهما المصالحة: "ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله". فالفريق الأول بيّن في قوله: "الاثنين" أي اليهود والأمم معاً, بعد أن صارا متحدين معاً ومكوّنين إنساناً واحداً جديداً فبعد أن كان اليهود والأمم فريقين متنازعين, أصبحا واحداً في المسيح. غير أن اتحادهما هذا ليس غاية نهائية, وإنما هو وسيلة لغاية –أن يتصالح كلاهما مع الله. فبعد أن وفق المسيح بينهما أدمجهما معاً في "جسد واحد" فجعلهما شخصاً واحداً وصالحهما مع السماء إن قوله "جسد واحد" يقابل قوله "روح واحد" في عدد 18-ومعناه: "هيئة واحدة". ولعله أراد كنيسة المسيح المجيدة. ويقول بعضهم إنه أراد جسد المسيح الذي صُلب فيه.

(3)أداة المصالحة: "... بالصليب". هذه هي المرة الوحيدة التي ذكرت فيها كلمة "صليب" بحصر اللفظ في هذه الرسالة والمراد ب"الصليب" تقديم المسيح نفسه ذبيحة كفارة لإجراء المصالحة بين الأرض والسماء. إن ما قاساه المسيح على الصليب من آلام لا توصف, وتعييرات لا تنسى, وموت مهين, يدل على أن المصالحة ليست من الهنات الهيّنات, لكنها من أدق المهام وأشقها, لأنه يتحتم على المصالح أن يقوم بكل ما تتطلبه المصالحة من نفقة. وما أعظم تكاليف نفقة هذه المصالحة العظمى التي هي أعظم المصالحات! "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". فالذبائح كانت منذ القديم ثمناً للمصالحة "أجمعوا إلى أتقيائي القاطعين عهدي على ذبيحة".

قد يجد الإنسان الطبيعي صعوبة في الاعتقاد بأن الصليب أداة المصالحة فيقول مثلاً: وما الداعي لكل هذه التضحية الكريمة, متى كان في الإمكان أن يجري الله هذه المصالحة بغير هذه الآلام المبرّحة التي تحملها المسيح؟ أما كانت تكفي كلمة واحدة من فم الله صاحب الشأن الأعلى, وبهذه الكلمة تتم المصالحة! وجواباً على هذا القول: لو كانت كلمة واحدة أو كلمات عدة تكفي لإجراء المصالحة, لما أقدم الله على تضحية ابن محبته. لأن الله مدبر حكيم, لا يسمح بالإسراف والتبذير في تدبير الفداء.

من السهل على الإنسان الغارق في بحر الخطايا والآثام أن يتكلم باستخفاف عن الخطية وغفرانها. مثله مثل والد مستبيح, يرى ابنه يرتكب الشر والموبقات فلا يبالي. لكن الوالد المقدس السريرة, النقي السيرة, لا يسمع بخطايا ابنه إلا وعينه دامعة وقلبه دامٍ. لأن خطية ابنه تكون له بمثابة صليب يقاسي عليه مُرّ العذاب. فكم بالحري يكون موقف الله الكلي القداسة, تجاه البشر, وهو لهم بمثابة الأب الذي يتألم لخطايا أولاده! فكيف به إذا كان عليهم قاضياً عادلاً مكلفاً بتنفيذ أحكام شريعته القائلة: "إن النفس التي تخطئ هي تموت"؟!

فالصليب –بل المصلوب- هو أداة المصالحة بين الأرض والسماء. أليس من عوامل شكرنا لله أن نكون نحن المخطئين, فيقوم هو بواجب التكفير؟ أن يكون لنا الغنم, وأن يمون عليه الغرم؟ فأين القلوب الشاكرة, وأين الألسن التي تكف عن الاعتراض والاستجواب وتنصرف إلى الحمد والشكر والتمجيد؟!!

(4)أساس المصالحة: "قاتلاً العداوة به" إن عمل المصالحة يفترض وجود عداء بين الفريقين اللذين تمت بينهما المصالحة. وما لم يُقتل هذا العداء لا تصلح المصالحة ولا تقوم لها قائمة. إن مثل من يحاول أن يجري مصالحة من غير قتل العداء, كمثل من يحاول أن يعالج مريضاً من غير أن يصل إلى علة الداء, أو كمن يريد أن يقيم بيتاً على غير أساس, أو على أساس واهٍ.

إن "العداوة " المقصودة هنا هي تلك التي تحدّث عنها الرسول في العدد الخامس عشر. وهي ذات سهمين –أولهما له اتجاه أفقي- بين اليهود والأمم والثاني له اتجاه علوي –بين الله والناس (رومية 5: 10, كولوسي 2: 14)

ولعل الرسول استعمل كلمة: "قاتلاً" بدلاً من كلمة: "ماحياً" أو "مزيلاً" أو "رافعاً", لأن أداة المصالحة هي الصليب, وفي الصليب قتل وإعدام. فالذي قُتل فعلاً على الصليب ليس المسيح, بل الخطية والعداوة. كأن زعيم الخطاة عندما أراد أن يقتل المسيح بالصليب, قتل نفسه وهو لا يدري. فالسهم الذي أرشه في صدر المسيح قد انخلع منه وارتد إلى قلبه, فأصاب منه مقتلاً, وبذلك أضحى القتيل قاتلاً, والقاتل قتيلاً!!

فكلمة "به" تشير إلى الصليب, أو بالحري إلى الصلب الذي به تم فداؤنا بموت المسيح الكفاري عنا.

وهنا نقرر بكل وضوح أن لا مكان للعداء في قلب الله من جهة البشر, لأن الله محب, بل الله محبة, ولكن هذا العداء متمكن من أفكار البشر من جهة الله بسبب خطاياهم وجهالتهم "وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة" (كولوسي 1: 21) فالجهل ينشئ عداوة, والاعتداء يولد عداء.

أما شعور الله من جهة الخطاة, فيجوز أن نعبّر عنه بكلمة: "عدم رضاه عنهم" أو "تحويل وجهه عنهم", ماداموا مصرين على التمادي في المعاصي.

  • عدد الزيارات: 4517