Skip to main content

العدو المثلث للإنسان

ولليهود سفر جليل مختص بآداب السلوك يُعرف ب "كتاب الهالخا" وجاء فيه:

"قبل سقوط الإنسان, كان الله علة حياة نفوس البشر, ومشتهى أرواحهم, وغاية آمالهم. لكن بعد السقوط, أضحت الخطايا أمنية نفوسهم, ومطمح أرواحهم, ومنتهى آمالهم".

إن كلمة "قبلاً" تصف المكتوب إليهم في حالتهم قبل إيمانهم بالمسيح و"السلوك في الذنوب والخطايا" –يعني: سلباً: سير الإنسان في هذه الحياة, بعيداً عن مصدر الإرشاد الإلهي, وهو غير شاعر بالحب الإلهي وغير مُلب للنداء السماوي. وإيجاباً: هو السير حسب اتجاهات روح العالم وإيحاآت الشيطان ومشيئات الجسد. هذا هو العدو المثلث الذي يستأسر بأفكار الإنسان الغير المتجدد, ويستهويه لذاته, ويخضعه لنفوذه وسلطته: العالم, والشيطان, والجسد –هذا هو مثلث الشر, والفساد والدمار. فالعالم حوالينا, والشيطان علينا, والجسد داخلنا. العالم عصر, والشيطان روح, والجسد مبدأ.

-أ- "العالم"-(كوزموس)- لا يراد به هذا الكون المنظور, بما فيه من أفلاك, وجبال ووديان, وبحار وأنهار –فكلها من صنع الإله الحكيم, وهي تحدثنا دوماً بمجده وجلاله (مز 19: 1- 6) ولا الناس الذين في العالم. لأن هؤلاء "أحبهم الله" (يوحنا 3: 16). ولا يُقصد به الوظائف, والصنائع, والحرف, التي يحترفها الناس في العالم, لأن المسيح نفسه كان نجاراً. وإنما يراد ب"العالم" –مظاهر الحياة الجذابة الخلابة, التي تسلب اللب, وتستهوي القلب: "شهوة الجسد, وشهوة العيون, وتعظم المعيشة, ليس من الآب بل من العالم" (1يو 2: 16).

"دهر هذا العالم" –هذا نموذج من غنى أسلوب الرسول. فربما كانت إحدى هاتين الكلمتين كافية للإفصاح عما في فكره, لكنه أضاف كلمة إلى أخرى ليجعل غنى المبنى متمشياً مع غنى المعنى. ويستفاد مما جاء في بعض أسفار الرابيين, أن كلمة "دهر هذا العالم" تعني العصر الحاضر السابق لمجيء مسيّا, تقابلها كلمة "الدهر الآتي" أو "العالم الآتي", التي تشير إلى العصر اللاحق لمجيء مسيّا, ومما جاء في كتاب الرابيين من هذا القبيل: "أن الإله العلي قد أعطى "العالم الحاضر" لكثيرين, وأما العالم العتيد فلقليلين" (قابل اسداراس 8: 1و 6: 9 مع متى 12: 32). فالدهر هو روح العصر الذي يلهي الإنسان بالساعة الحاضرة البائدة عن الحياة الأبدية الخالدة. ويصرفه بالمنظور عن غير المنظور. ويبيعه مجد بركة باقية, بلذة أكلة ذاهبة (عب 12: 16). هذا ما أراده بولس بقوله: "لأن هيئة هذا العالم تزول" (1كو 7: 31), "ديماس قد تركني إذ أحب العالم الحاضر" (2تي 4: 10). بل هذا ما قصده يوحنا بالقول "والعالم يمضي وشهوته" (1يو 2: 17). هذا هو "الدهر" الذي يطلب إلينا الرسول "أن لا نشاكله, بل أن نتغير عن شكلنا بتجديد أذهاننا, لنختبر ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" (رؤ 12: 2).

الكلمة اليونانية التي ترجمت إلى "الدهر" يجوز أن تُترجم أيضاً إلى "أسلوب" أو "نمط" أو "مسلك", فتُقرأ العبارة كلها هكذا: "التي سلكتم فيها قبلاً حسب مسلك هذا العالم". هذا هو المسلك الذي ينافي إرادة الله, ويكون غالباً مقاوماً لها (أطلب يوحنا 8: 23و 9: 39و 12: 25و 31و 13: 1و 16: 11و 18: 36, 1كو 1: 20و 3: 19و 7: 31و 1يو 2: 17). غير أن موقف المؤمن الحقيقي إزاء العالم, واضح في قوله: "قد صُلب العالم لي وأنا للعالم" (غلا 6: 14).

إن كلمة "سلوك" هي إحدى الكلمات الاستعارية المميّزة لأسلوب بولس الرسول. وهو يشير بها هنا إلى الحياة التي يكون حب الذات قائدها, وروح الشيطان مرشدها, وأسلوب العالم الملتوي رائدها, بدلاً من أن يكون الله هاديها وعضدها. وقد استعمل الرسول هذه الاستعارة سبع مرات في هذه الرسالة (2: 2و 10و 4: 1و 17و 5: 2و 8و 15). وليس بغريب أن يكثر الرسول من ترديد هذه الكلمة فهو الذي يعتبر الديانة "طريقاً" سواء أكانت يهودية أم مسيحية (أعمال 24: 14). ولعل لوقا استعارها منه للتعبير عن فكرته في الديانة المسيحية.

-ب-الشيطان: "حسب رئيس سلطان الهواء, الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية". ذُكرت هاتان العبارتان وصفاً للشيطان –

(1)أولاهما تصفه في مقامه, ومكانه: "رئيس سلطان الهواء". هذا مكان أعلى من "العالم" حيث يعيش الإنسان (عدد 2), وأدنى من "السماويات" حيث "أُجلس المسيح, وأُجلس معه المؤمنون" (عدد 6) ولعله تعبير عبريّ استعاره بولس من مصادر يهودية. والظاهر أن العالم بعد السقوط, صار هدفاً لهجمات إبليس. ولكن لما جاء المسيح ليفتدي المؤمنين من هذا العالم الشرير "رأى الشيطان نازلاً مثل البرق من السماء" (لوقا 10: 18).

إن "سلطان الهواء" هو نفسه "سلطان الظلمة" المقاوم والمضاد لملكوت المسيح –ملكوت النور, والحق, والمحبة. في هذا يقول بولس في رسالة أخرى "شاكرين الآب ... الذي أنقذنا من سلطان الظلمة, ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته" (كولوسي 1: 13). هذا يؤيد قول المسيح للمتآمرين عليه: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (لوقا 21: 53).

"رئيس سلطان الهواء" أو "أمير سلطنة الهواء". هذا دليل على أن الشيطان ليس مجرد تأثير أو قوة, بل هو ذات وشخصية. إلا أنها شخصية ساقطة شقية –على خلاف جبرائيل "الواقف أمام الله", فإنه شخصية صالحة تقية. ومع أننا لا نعلم الشيء الكثير عن حقيقة شخصية الشيطان, إلا أننا نفهم من الكتاب المقدس, أنه محدود في كيانه, ومقيد في سلطانه. فلا يمكنه أن يجرب إنساناً إلا بسماح من الله تعالى (أيوب 1: 11و 2: 5), كما أنه لا يجرب شخصاً إلا بالقدر الذي يسمح به الله (أيوب 1: 12و 2: 6). ولكنه رئيس, فمن الضروري أن يكون تحت إمرته جنود يأتمرون بأمره, ويخضعون لنصحه, وينفذون تعليماته. ومع أن "سلطان" الهواء, الذي يرأسه الشيطان, ليس بسلطان مشروع بل جائر, تعسفي, اعتباطيّ, عدوانيّ, إلا أنه موجود بسماح من الله –ولكن إلى حين- حتى تخضع جميع الأعادي لسلطان المسيح الحق, ويسجد الكل ضد موطئ قدميه. ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بإعلان كلمة البشارة وإعلانها حتى تعمَّ المسكونة كما تغطي المياه أرض البحر.

"رئيس سلطان الهواء" –هذا يذكرنا بقول المسيح في مثل الزارع: "...وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فانداس وأكلته طيور السماء" –في الأصل- "طيور الجوّ أو الهواء". وفي تفسير هذا المثل قال المخلّص: "والذين على الطريق هم الذين يسمعون ثم يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم" (لوقا 8: 5و 12). وقد لاحظ بعض المفسرين أن هذا التعبير: "رئيس سلطان الهواء" ورد مراراً في كتابات المعاصرين لبولس من كتّاب اليهود والإغريق, ولكن هذا لا يدل بالضرورة على أن بولس اقتبسه من أحدهم (راجع أعمال 26: 18, متى 12: 16, أفسس 6: 12).

(2)العبارة الثانية: "الروح الذب يعمل الآن في أبناء المعصية" –هذه تصف الشيطان في سلطته- أي أن الشيطان هو رئيس "الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية". وقد استعملت كلمة "روح" اسماً لنوعٍ, كقولنا: "حديد", و"شوك" –فهي لا تعني المفرد لكنها اسم جمع تركَّزت فيه كل الوحدات, فهي تصف طبيعة سلطان الهواء –إنه "روح غير منظور" لا "جسد هيولي" –وهي بالتالي تصف طبيعة الشيطان الذي هو رئيس سلطان الهواء, ورئيس هذا الروح.

إذا كان الروح النجس الشرير, يعمل الآن في أبناء المعصية, فلا نفشل, لأن الرسول صرح في الأصحاح الأول مرتين (1: 11و 20) بأن روح الله القدوس يعمل أيضاً, بل قد عمل حقاً, وأظهر عمله في المسيح, وسيظهر عمله على توالي الأيام في أبناء الله العتيدين أن يرثوا الخلاص, فليست النصرة النهائية للظلام, بل للنور, ولا هي للباطل بل للحق, ولا هي لأبناء المعصية بل لابن محبته.

إن قوله: "أبناء المعصية", تعبير عبريّ, ورد أيضاً في العدد السادس من الأصحاح الخامس في هذه الرسالة: "يأتي غضب الله على أبناء المعصية". ويقابله قول الرسول: "أبناء نور" و"أبناء نهار" (1تس 5: 5) ويماثله قول المسيح: "أبناء هذا الدهر" (لوقا 16: 8و 20: 34). إن "أبناء المعصية" هم الأشخاص المسومون بعصيان الله ومقاومة إرادته لدرجة يُحسب فيها العصيان ميزةً خاصةً لهم, وطابعاً لاصقاً بهم, وشيمةً لاحقة بهم, وداءً متغلغلاً في دمهم –كل هذا بسبب حالتهم الطبيعية من جهة, وبفعل روح العصيان فيهم من الجهة الأخرى. لأن الشيطان هو"المعاند" –كما يدل على ذلك معنى الأصل العبريّ: "شَطسَنَ". فعمله متفق وطبيعته, ومشتق من صفاته, لأن العصيان من أظهر هذه الصفات. وسواء أكان العصيان كامناً بين ضلوعهم, أم ظاهراً في أعمالهم وتصرفاتهم, فهو سيماؤهم المميزة لهم. إن علة هذا العصيان هي اكتفاء الإنسان بإرادته النفسانية الشريرة, ورفضه إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة. وأساس هذا الرضى هو عدم الإيمان,وأساس عدم الإيمان هو البعد عن الله أو الارتداد عنه –كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "انظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي" (عب 3: 12).

ويقول الدكتور كندلش –إن قول الرسول: "أبناء المعصية" هو تعبير مركز يصف قوماً في قبضة المعصية, بل في مخالبها حتى أضحوا ملكاً لها وأبناء بجدتها.


عدد 3:

3الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضاً،

اليهود يشاطرون الأمم مسلكهم وماضيهم

-ج-العدوّ الثالث: "الجسد". "الذين نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا". تكلم بولس في العدد السابق عن ماضي الأمم ومسلكهم. ولئلا يظن الأمم أن الرسول قصد أن يخصهم بذلك الماضي التعيس, وهذا المسلك الشائن, عرّج على اليهود, فادمجهم مع الأمم في مسلكهم وماضيهم. ولأن الرسول بولس يهودي, أورد عبارته في صيغة المتكلم, فقال: "الذين نحن أيضاً" ولئلا يتوهم أن الرسول يقصد فريقاً معيناً دون آخر, أجمل الكل, فقال: "...نحن جميعاً", ولئلا يتطرق إلى ذهن الأمم أي خاطر من جهة فضل أسبقية اليهود عليهم في المجد والكرامة, أبان لهم الكاتب أن لليهود أيضاً ميزة الأسبقية عليهم في العصيان والتمرد, فقال: "تصرّفنا قبلاً". فما أحكم الرسول وما أعدله!! أليس هو القائل في رسالة أخرى: "أما الذين هم من أهل التحزب ولا يطاوعون للحق بل يطاوعون للإثم فسخط, وغضب. شدة, وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر –اليهودي أولاً ثم اليوناني.ومجدٌ, وكرامةٌ, وسلامٌ لكلّ من يفعل الصلاح- اليهودي أولاً ثم اليوناني"؟ (رومية 2: 9- 11).

فلا يعادل ضياء النور الساطع, إلا قتام ظله. ولا يوازي عظمة الامتيازات, قدر ثقل مسئولياتها. فاليهودي شريك الأممي في:

-أ-التصرف السابق في شهوات الجسد –ب-إطاعة مشيئات الجسد والأفكار   -ج-كونه ابن الغضب بالطبيعة. وكل هذه الثلاثة الأوصاف منصبة على الجسد الذي هو عدونا الثالث.

-أ-إن "شهوات الجسد" بحصر اللفظ, تعني الخطايا الحيوانية المنحطة.

-ب-و"مشيئات ..الأفكار" تعني الخطايا الفكرية الناشئة عن الكبرياء العقلية نظير الانتفاخ العلمي, وحب السلطة, وطلب الجاه والشهرة, اللواتي هن بعض أخوات محبة الذات.

ومن الملاحظ, أن الرسول بولس, حين كان يتكلم عن نفسه بالذات في هذا العدد الثالث وصف الخطية في منابعها الداخلية, لكنه لم يتكلم عن خطايا الآخرين (عدد 2) وصف الخطية في مظاهرها الخارجية التي تبدو في الحياة بالتصرف والسلوك.

-ج-"أبناء الغضب" –لئلا يتبقى في قلب اليهود أثر من الفخر بحسبهم على اعتبار أنهم "أولاد إبراهيم", انتزع الرسول من قلوبهم كل أسباب الافتخار بميلادهم الطبيعي, لأنهم بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين- أي أنهم في ميلادهم الطبيعي يستوون والغير المؤمنين من الوثنيين. فليست العلة في البيئة المحيطة بهم, ولا في مرافقهم وظروفهم الخارجية, ولا في الزمان العائشين فيه, بل فيهم هم, لأنهم بالطبيعة أبناء الغضب. نعم أن الله يبنى الأمة الإسرائيلية, ولكن على أساس الإيمان, لا على أساس حياتهم الطبيعية, ولا بناء على استحقاقهم, كورثة جسديين لإبراهيم. لأن بولس نفسه يقول في رسالة أخرى: "كما آمن إبراهيم فَحُسِب له (الإيمان) براً. فاعلموا إذاً أن الذين هم من الإيمان, أولئك هم بنو إبراهيم" (غلاطية 3: 6و 7). فإذا كان بعض اليهود يظنون أنهم يمتازون عن الأمم بكونهم أبناء إبراهيم بميلادهم الطبيعي, فقد هدم بولس صرح تفاخرهم هذا, وأبان لهم أن لا وجه لفخرهم لأنهم بحكم ميلادهم الطبيعي, هم "أبناء الغضب" كسائر الناس, فإن لم يولدوا ثانية ميلاداً روحياً من الأعالي, فلا سبيل إلى تمتعهم برضى الله.

  • عدد الزيارات: 8780