صلاة الرسول لأجل المؤمنين
1: 15 – 2: 10
15لِذَلِكَ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، 16لاَ أَزَالُ شَاكِراً لأَجْلِكُمْ، ذَاكِراً إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي،
من الحمد, والشكر, والتمجيد, انتقل الرسول إلى الصلاة, والتضرع, والسجود. وفي صلاته وسجوده, رأى المسيح عالياً مرتفعاً, ورأى المؤمنين مرفوعين فيه ومعه, وفيه ومعه ممجدين.
من عادة الرسول, أن يستهل رسائله بكلمة شكر, وصلاة. وفي شكره يشير عادة إلى إيمان المكتوب إليهم, ومراراً يقرن ذكر إيمانهم بمحبتهم. وأحياناً يجمع تلك الفضائل الجليلة المكوِّنة لمثلث النعمة, ويقرنها معاً – "الإيمان, الرجاء, المحبة".
فيقول في رومية: "أولاً أشكر إلهي بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادي به في كل العالم" (رومية 1: 8).
وفي تسالونيكي: "ينبغي لنا أن نشكر الله كل حين من جهتكم أيها الأخوة كما يحق لأن إيمانكم ينمو كثيراً. ومحبة كل واحد منكم جميعاً بعضكم لبعض تزداد (2 تس 1: 3).
وفي فليمون: "أشكر إلهي كل حين ذاكراً إياك في صلواتي سامعاً بمحبتك والإيمان الذي نحو الرب يسوع ولجميع القديسين" (فليمون 5).
وفي تسالونيكي: " نشكر الله كل حين من جهة جميعكم ذاكرين إياكم في صلواتنا متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكم وتعب محبتكم وصبر رجائكم, (1 تس 1: 3).
وفي كولوسي: "نشكر الله وأبا ربنا يسوع المسيح كل حين مصلين لأجلكم إذ سمعنا إيمانكم بالمسيح يسوع ومحبتكم لجميع القديسين من أجل الرجاء الموضوع لكم في السماوات (كولوسي 1: 3 و4).
هذه هي الصلاة الأولى المدوّنة للرسول في هذه الرسالة. وعند ختام الإصحاح الثالث (3: 14– 21), نلتقي بصلاته الثانية:
14الَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ. 15لِذَلِكَ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، 16لاَ أَزَالُ شَاكِراً لأَجْلِكُمْ، ذَاكِراً إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي، 17كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلَهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ، 18مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ، 19وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ
ومتى وصلنا إليها نتبين أوجه الشبه وأوجه الخلاف بينهما, ويكفينا هنا في دراسة صلاته الأولى أن نلاحظ:
أولاً: محتويات هذه الصلاة (1: 15- 19).
(1) المناسبة التي دعت إلى هذه الصلاة (1: 15).
(2) العنصران اللذان تتألف منهما هذه الصلاة (1: 16).
(3) الذات العلية التي رُفعت إليها هذه الصلاة (1: 17 "ا").
(4) غاية هذه الصلاة (1: 17 "ب" – 19).
- ا- الغاية الأولى – إعدادية تمهيدية وموصلة للغاية الثانية
(1) كي يعطيكم روح الحكمة .... (1: 17 (ب) )
(2) مستنيرة عيون أذهانكم (1: 18 (ا) )
- ب- الغاية الثانية – نهائية ومكملة للغاية الأولى – "لتعلموا".
(1) ما هو رجاء دعوته (1: 18 (ب) )
(2) ما هو غنى مجد ميراثه (1: 18 (ج) )
(3) ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا (1: 19)
20الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ
ثانياً: أساس هذه الصلاة (1: 20- 2: 10)
هو عمل شدة قوة الله كما تجلى في مظهرين:
(1) المظهر الأول في صلته بالمسيح (1: 20- 23) في أربع درجات:
(ا) الدرجة الأولى: في إقامته من الأموات (1: 20).
(ب) الدرجة الثانية: في إجلاسه عن يمين الله (1: 21).
(ج) الدرجة الثالثة: في إخضاع كل شيء تحت قدميه (1: 22).
(د) الدرجة الرابعة: في جعله رأساً للكنيسة (1: 23).
(2) المظهر الثاني: (ا) في صلته بالمؤمن الفرد (2: 1- 10).
(ب) في صلته بالأمم (2: 1 و2).
(ج) في صلنه باليهود (2: 3).
(د) في صلته بكليهما معاً في ثلاث درجات:
(1) الدرجة الأولى: في إقامة المؤمن روحياً مع المسيح (2: 5)
(2) الدرجة الثانية: في إصعاده روحياً مع المسيح (2: 6)
(3) الدرجة الثالثة: في إعداده له برنامجاً للسلوك (2: 7- 10)
صلاة الرسول بولس لأجل المكتوب إليهم (1: 15- 23)
عدد 15: (1) المناسبة التي دعت إلى هذه الصلاة: (1: 15)
"لذلك" – هذه الكلمة بمثابة حلقة اتصال بين الفصل السابق والفصل اللاحق. فهي ترجع بنا إلى قول الرسول للمكتوب إليهم: " إذ سمعتم كلمة الحق- إنجيل خلاصكم الذي فيه آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس"... " لذلك أنا أيضاً"- باعتبار كوني واحداً من الذين يهمهم أمركم, ومن باب أولى, أنا أفرح بتقدمكم في الحياة الروحية سيما لأني بشيركم -"فإذ قد سمعت بإيمانكم بالرب يسوع ومحبتكم نحو جميع القديسين "- فاض قلبي "بالشكر لله
من أجلكم"- ولأني أطلب لكم المزيد من كل خير روحي, لم أكتف بالشكر. بل توَّجت شكري لأجلكم, "بذكري إياكم في صلواتي" لأنكم أنتم- وعلى الأخص الأمميين منكم- ثمرة خدمتي بينكم (3: 1-13).
من هذا نرى أن المناسبة التي دعت بولس الرسول إلى شكر الله والصلاة إليه من أجل المكتوب إليهم , هي سماعه بثمرتين ناضجتين جادت بهما شجرة حياتهم - الثمرة الأولى: تربطهم بمن في السماء – وهي: في "إيمانهم بالرب يسوع". إن حرف الجر المترجم إلى العربية"بـ" هو في الأصل اليوناني "في". ويقول إليكوت في تفسيره: إن الفرق بين الإيمان في المسيح", وبين"الإيمان بالمسيح", هو أن الإيمان في المسيح يرتكز على المسيح ثم يوجَّه إلى الآب- فالمسيح عماده. والإيمان بالمسيح موجَّه إلى المسيح نفسه. فالمسيح موضوعه. إن قول الرسول: "سمعتُ بإيمانكم" هو تعبير مجازي عن عمل إيمانهم. لأن الإيمان في ذاته معنوي, خفي, باطني لا يُرى, ولا يُسمع, ولا يُلمس. لكن ثماره هي التي تُرى. إن كلام الرسول هنا يماثله قول كاتب سفر الأعمال: "...الذي لما أتى ورأى نعمة الله فرح".
استنتج بعضهم من القول: "سمعتُ بإيمانكم" أن الرسول لم يكن قد رأى المكتوب إليهم بعد, وأن معرفته بهم, كانت معرفة سماعية. لكنَّ هذه العبارة لا تفرضُ هذا المعنى بالضرورة, لأن الرسول كتب مثل هذه العبارة إلى فليمون الذي لم يكن فقط معروفاً لديه بالذات, بل كان ابناً روحياً له (فليمون 5و19).
أما الثمرة الثانية التي بلغت بولس, فهي:" محبتهم نحو جميع القديسين"- هذه هي الرابطة بمن في الأرض. إن محبتهم لجميع القديسين هي وليدة إيمانهم المشترك بالمسيح الواحد, الذي أحبهم وبذل نفسه لأجلهم. وهي تختلف عن محبتهم لجميع الناس, في أن أولاهما هي محبة الإعزاز والألفة والمصاحبة, لكن الثانية هي محبة المسالمة, والمحاسنة, والمجاملة.
عدد 16: (2) العنصران اللذان تتألف منهما صلاة الرسول ( 1: 16 ).
تتألف صلاة الرسول لأجل المكتوب إليهم من عنصرين:
-1- أولهما: الشكر المستمر :"لا أزال شاكراً لأجلكم". هذه الكلمات القليلة تنم هن قلب الرسول الطيب, الذي يجد موضوعاً للشكر في كل شخص, مهما يكن ضعيفاً, وعن عينه الصافية التي ترى جمالاً في كل شخص مهما يكن قبيحاً دميماً. ذو القلب الخبيث يتجسس على أخلاق الناس, عله يعثر على هفوة, ليتهمهم في صلاحهم ويتشكك في إخلاصهم, وذو العين الشرّيرة يحوّل وجهه عن الشمس المشرقة ليفتش عن كفة غيم, ويتناسى أزهار الربيع اليانعة ليفتش عن أوراق الخريف الصفراء ... أما بولس فقد كان قلبه ونظره من طراز آخر. لأن المكتوب إليهم الذين كانوا موضوع شكره, لم يكونوا "قديسين" بالمعنى الكمالي المفهوم من هذه الكلمة, بل كانوا محاطين بضعفات كثيرة, وربما كانت ضعفاتهم أكثر بكثير من صلاحهم. فظلمات الأوهام الوثنية مازالت عالقة بهم, وجانب غير يسير من بقايا خفايا الخزي لم يزل يحفّ بهم. ولكن على الرغم من ذلك, كتب إليهم الرسول قائلاً: "لا أزال شاكراً لأجلهم". ويكفي المرء أن يلقي نظرة عاجلة على ما جاء في الآيات المذكورة بعد, ليتبين حقيقة حال المكتوب إليهم (4: 22 و25 و28 و29 و31 و5: 3- 6).
- ب- ثانيهما: الذكر المتوالي: "لا أزال .... ذاكراً إياكم في صلواتي". ومما يسترعي الالتفات أن الرسول بولس يقرن الصلاة بالشكر في مقدمات كل رسائله- ما عدا رسالتي غلاطية وكورنثوس الأولى, لأنهما مفعمتان تعنيفاً (انظر رومية 1: 8, فيلبي1: 3, كولوسي1: 3, 1 تسالونيكي 1: 2, 2: 13, 2 تسالونيكي 1: 3, 2: 13, فليمون 4).
جميل بكل منا, أن يقتدي بالرسول في صلواته وتشكراته, فهي خير مثال للصلاة
الفعالة, والشكر الجميل.
عدد 17: (3) الذات العلية التي رفع إليها الرسول صلاته: (1: 17)
هذا وصف مزدوج للإله الحي:
- 1- جانبه الأول: "إله ربنا يسوع المسيح".
- ب- جانبه الثاني: "أبو المجد ".
- 1- الجانب الأول: "إله ربنا يسوع المسيح". هذا الوصف مؤيد لقول المسيح على الصليب: "إلهي إلهي لماذا تركتني" (متى27: 46), ومطابق لقوله بعد القيامة: "...إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يوحنا20: 17). ويتضح لنا من هذه الأقوال مجتمعة معاً, إن الآب هو إله الابن المتجسد باعتبار كونه فادياً جاء أرضنا ليموت من أجل خطايانا, وليقوم لأجل تبريرنا. فالرسول خاطب الآب بهذه الصفة بمناسبة كلامه- في الأعداد التالية – عن موت الفادي وقيامته. لأنه بديهي أن الإله لا يموت وبالتالي لا يقوم. لكن المسيح مات وقام, باعتبار كونه الفادي المتجسد. ولئلا يتطرق إلى ذهن أحد, أي خاطر ينتقص من جلال لاهوت المسيح, بسبب هذه العبارة, أردفها الرسول بقوله: "ربنا يسوع المسيح". هذا دليل آخر على أن لاهوت المسيح غير منفصل عن ناسوته.
"إله ربنا يسوع المسيح" ! تنطوي هذه العبارة على معنى آخر- هو أن الإله الذي صلى إليه بولس, وإياه نحن نعبد, هو الإله الذي أظهر لنا وأعلن لنا في شخص ربنا يسوع المسيح. من أجل ذلك قال فيه بولس الرسول: إليه"ربنا يسوع المسيح". هذا مؤيد لقول المسيح"الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا14: 9).
- ب-الجانب الثاني من هذا الوصف: "أبو المجد". أن إلهنا ليس فقط "إلهاً مجيداً" بل هو "أبو المجد"- أي أنه هو نبع المجد, وملك المجد. ورب المجد, وواهب المجد. فكل ما في الأرض أو في السماء من مجد, ليس سوى شعاعة من نور مجده: "ربنا يسوع المسيح رب المجد" (يعقوب 2: 1). ولاشك أن في مشاركة المسيح للآب في هذا الوصف الجليل, دليلاً على أن المسيح إله بغير نزاع.
"إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد"- ألا يتبين لنا من خلال هذه الكلمات أن المسيح هو "الشكينا" الحقيقي الذي فيه ظهر مجد الله وجلاله, بأفضل مما ظهر في "نار الشكينا" الرمزية في العهد القديم؟!!
إن وصف الرسول بولس لله بالقول: "أبو المجد" يذكرنا بأوصاف أخرى شبيهة له: "أبو الرأفة" (2 كو1: 3), "إله المجد" (أعمال 7: 2), "رب المجد" (1كو 2: 8).
(4) الغاية التي يرمي إليها بولس في صلاته: (1: 17-19)
في هذه الأعداد الثلاثة تتجلى لنا غايتان كان يرمي إليهما بولس الرسول في صلاته:
-1- الغاية الأولى إعدادية – ب- والغاية الثانية نهائية: الغاية الأولى ممهدة للثانية, ومُعدة لها. والغاية الثانية مكملة للأولى ومتممة لها.
-1- الغاية الأولى مؤلفة من جانبين- الأول منشئ ومسبب للجانب الثاني, والثاني ثمرة ونتيجة للأول. الجانب الأول ظاهر في قوله: "كي يعطيكم.. روح الحكمة والإعلان في معرفته". والجانب الثاني بين في قوله: "مستنيرة عيون أذهانكم".
(1) الجانب الأول في الغاية الأولى: "كي يعطيكم .. روح الحكمة والإعلان في معرفته" تذكرنا هذه الكلمات بوعد المسيح لتلاميذه: "فكم بالحرى الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه" ( لوقا 11: 13). هذا هو الروح القدس بعينه- لا مجرد قوة منه, ولا أي تأثير منه, بل هو الروح نفسه - "روح الحكمة والإعلان". لم يكتف الرسول بأن طلب لهم الحكمة التي يهبها الروح - كما فعل سليمان – بل طلب لهم الروح الذي يهب الحكمة – حسب وعد رب سليمان. لم يقنع الرسول بالثمر, ما دام في إمكانه أن يحصل على أصل الثمر. ولم يقف عند حد طلب كأس ماء من نبع, ما دام في إمكانه أن يصل إلى النبع نفسه. حقاً إنه لرسول عظيم, فهو عظيم في كتاباته, عظيم في طلباته. لأنه لم يطلب للمكتوب إليهم بركات الجسد, مع علمه بمسيس حاجتهم إلى الماديات, بل طلب لهم بركات الروح- لا بل روح كل البركات, الذي منه تنحدر كل حكمة, ويهبط كل إعلان, كما وعد المسيح تلاميذه قائلاً: "أما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي, فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم" ( يوحنا 14: 26).
"روح الحكمة والإعلان"- إن "روح الحكمة" يهب المؤمنين ذوقاً سماوياً ليميزوا به الأمور المتخالفة في الحقائق المعلنة لهم . و"روح الإعلان" يكشف لهم القناع عما خفي عنهم من أسرار ملكوت السموات: "إنه بإعلان عرفني بالسر" (3: 3). إن "روح الحكمة والإعلان" هو روح واحد, له عمل مزدوج بالنسبة لحاجة المؤمنين - فهو يمنحهم الحكمة ليتفهموا ما عندهم من معلنات, ويفتح أمامهم باباً جديداً لمعلنات جديدة, ليزدادوا تقدماً من نور إلى نور, ومن مجد إلى مجد. فالحكمة تكشف المعلنات, والمعلنات تغذي الحكمة .
إن مجال عمل "روح الحكمة والإعلان" قد بينه الرسول في قوله :"في معرفته - أي معرفة الله, معرفة شخصية اختبارية. هذه المعرفة ذات درجات متعاقبة - إحداها فوق الأخرى. فإذا ما بلغ الإنسان أول درجة منها, أعلن له الله درجة أرقى منها, وهكذا دواليك حتى يبلغ الإنسان "قياس قامة ملء المسيح". بهذه المعرفة تُبدأ بذرة الحياة الأبدية في قلب المؤمن :"وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته"(يو 17: 3), وبها أيضاً تنمو شجرة الحياة الأبدية في جنة قلب الإنسان:"نامين في معرفة الله" ( كولوسي 1: 10).
عدد 18: (2) الجانب الثاني في الغاية الأولى: "مستنيرة عيون أذهانكم". هذه حالة ناتجة عن تمتع المؤمنين "بروح الحكمة والإعلان في معرفة الله". "مستنيرة عيون أذهانكم"- هذه هي الإنارة الروحية الباطنة التي تصل إلى القلب عن طريق"عيون الأذهان" الروحية, مثلما تصل معرفة المرئيات الحسية إلى الذهن الطبيعي,عن طريق "عيون الأجساد". لقد شبَّه الرسولُ "الأذهان" بأجساد ذات "عيون" ترى المرئيات الروحية, مثلما ترى عيونُ الأجساد المرئيات الحسية. وكما أن العيون الجسدية يلزمها نور طبيعي لترى به المرئيات, كذلك تحتاج"عيون الأذهان" إلى نور "روح الحكمة والإعلان" لتستنير به في معرفة الحق الإلهي بل في معرفة الإله الحي الحقيقي.
من هذا يتبين لنا أن الإنارة الإلهية ليست مجرد علم طبيعي, وإنما هي معرفة باطنية تصل إلى العقل فتصير علماً, ثم تهبط منه إلى القلب والعاطف فتضحى إحساساً حياً, ثم تصل منه إلى الإرادة فتصبح قوة فعالة في حياة الإنسان المتجدد. فلنتنبَّه إلى عيون أذهاننا, ولنحرص على أن تكون بسيطة على الدوام: سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّراً. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً. فإن كان النور الذي فيك ظلاماً, فالظلام كم يكون" (متى 6: 22 و23).
- ب – الغاية الثانية – الغاية القصوى والكمالية في صلاة بولس:
"لتعلموا ..... ". هذه هي الغاية القصوى التي كان يرمي إليها الرسول في صلاته, وهي تُعتبر الغاية النهائية. أم الغاية الأولى الإعدادية, فإنما هي وسيلة لهذه الغاية. فالمؤمنون يُعطون روح الحكمة والإعلان لتستنير عيون أذهانهم. وما استنارة عيون أذهانهم إلا وسيلة بها يعرفون.
ومع أنهم عرفوا هذه الأشياء أو جلها منذ إيمانهم, إلا أن الرسول طلب لهم المزيد من المعرفة الاختبارية. فهؤلاء يطلب لهم معرفة جديدة في نوعها, بل درجة جديدة من هذه المعرفة.
ذكر الرسول ثلاث حقائق, كموضوع لهذه المعرفة: الأولى تتناول الماضي. والثانية تشير إلى المستقبل. والثالثة تنصب على الحاضر – فهذه المعرفة المثلثة تُلم بكل تاريخ الفداء.
(1) الحقيقة الأولى– تتناول الماضي:"لتعلموا ما هو رجاء دعوته". لم يقل الرسول: "ما هو رجاء دعوتنا" أي "دعوة الله لنا", بل قصد ما هو أعمّ – "رجاء دعوته". إن نسبة "دعوته" إلى "دعوتنا", كنسبة الكل إلى أحد أجزائه. فالدعوة المقصودة هنا, هي "دعوة الله" بأوسع معانيها, وأقصى حدودها الغير المحدودة. وهي تتضمن كل البرنامج الفدائي الذي دبره الله للمؤمنين كمجموع. وهي تنمّ عن قصد الله في حياة كل مؤمن بالذات, كما قال بولس في رسالة أخرى: "أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا" (فيلبي 3: 14). والفرق بين كلام بولس في رسالة فيلبي, وكلامه في هذه الرسالة, هو أنه في رسالة فيلبي تكلم عن "جعالة دعوة الله". وهنا تكلم عن "رجاء دعوة الله". إن "رجاء دعوة الله", هو ذلك الأمل اليقيني الذي تولده هذه الدعوة في قلب المؤمن. وهو بلا شك رجاء وطيد, لأنه مبني على رادة الله, وشرفه, وصدق مواعيده, لا على مجرد أماني البشر وأشواقهم: "أمين هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا" (1 كورنثوس 1: 9). ومن المحق أن الله الذي دعانا إلى جعالته العليا, يمنحنا أيضاً قدرة نبلغ بها أمجاد هذه الجعالة التي دعانا إليها, ورتبها لنا. فهو يَعدنا بما أعدَّه لنا. ويُعدنا لما وِعدنا به. "أمين هو الذي يدعوكم الذي سيفعل أيضاً" (1 تسالونيكي 5: 24).
هذه هي الدعوة الفعالة التي تنجز ما تعد لأنها "تعمل في البشر أن يريدوا وأن يعملوا من أجل المسرة" (فيلبي 2: 14).
أما الرجاء الذي تولده هذه الدعوة الإلهية, في قلب الإنسان, فقد وُصف في الكتاب بعدة أوصاف: "الرجاء المبارك" (تيطس 2: 13), "رجاء قيامة الأموات" (أعمال 23: 6), "رجاء بالله" (أعمال 24: 15), "الرجاء المخلص", "الرجاء الغير المنظور" (رومية 8: 24), "الرجاء الحيّ" (1 بطرس 1: 3), "الرجاء الموضوع لنا في السموات" (كولوسي 1: 5), "رجاء المجد" (كولوسي 1: 27), "رجاء الخلاص" (أفسس 5: 8).
فما أمجد هذه الحقيقة, وما أوسع مداها. فإذا كانت الدعوة ترجع بنا إلى قصد الله في الماضي, فإن رجاءها يمتد بنا إلى وقت "استعلان أبناء الله" عند "ظهور ربنا يسوع المسيح" (رومية 8: 19, 1 يوحنا 3: 32).
(2) الحقيقة الثانية– تشير إلى المستقبل:"وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين". غالباً لم يقصد الرسول في قوله هذا, ميراث القديسين في الله – مع أن هذا أمر هام (رومية 8: 17). لكنه يرمي إلى ما هو أهم – ميراث الله في القديسين. وأي شيء في القديسين يستحق أن يكون ميراثً لله ؟!؟ أمام جلال هذه الحقائق وسموّها, يضع المفسر قلمه جانباً, ويجلس صامتاً, مأخوذاً بجلال هذه الحقائق, متعجباً من سموّها, وفي تعجبه يُعجب وفي إعجابه يشكر, وفي شكره يتعبد ! هذه هي الحقيقة التي أعلنت للأمة الإسرائيلية قديماً: "إن قسم الرب هو شعبه يعقوب حبل نصيبه "(تث 32: 9و8)"وأنتم قد أخذكم من كور الحديد من مصر لكي تكونوا له شعب ميراث كما في هذا اليوم", (تث4: 20)" هم شعبك وميراثك الذي أخرجته بقوتك العظيمة وبذراعك الرفيعة "(تث9: 29), "خلص شعبك وبارك ميراثك"(مزمور28: 9), "من خلف المرضعات أتى به ليرعى يعقوب شعبه وإسرائيل ميراثه" (مزمور 27: 71). "فالآن إن سمعتم صوتي, وحفظتم عهدي, تكونون لي خاصة" (خروج19: 5).
إن كلمة :"ميراثه" كما وردت في العهد الجديد باليونانية, وفي العهد القديم بالعبرانية, لا تعني أكثر من كلمة"نصيب" على اعتبار أن المؤمنين هم "خاصة الله". أما مجد ميراث الله في القديسين فهو تلك القداسة المجيدة, الناضجة, المكتملة, التي يستمتع بها المؤمنون عند استعلان يسوع المسيح. ولعل هذا ما أراده الرسول بقوله: "حرية مجد أولاده" (رومية 8: 11) إذ يكونون حينئذ :" قديسين, وبلا لوم قدامه في المحبة".
أما غنى هذا المجد, فهو الكمال, والملء, والوفرة, التي يفيض بها هذا المجد.
تذكرنا كلمة, "غنى مجد" كما جاءت في هذا العدد, بتلك الكلمة التي وردت في العدد السابع – "غنى نعمته". وما الفرق بين النعمة والمجد, سوى أن النعمة هي المجد في البزرة, والمجد هو النعمة في البلوغ.
"غنى مجد ميراثه في القديسين" – هذه العبارة تعني بكلمة أوضح: غنى مجد ميراث اله كما سيظهر ويتجلى أخيراً في القديسين. أو كما قال الأسقف موليه – إنها تعني: "غنى مجد إسرائيل الجديد في كنعان الجديد كما سيتجلى أخيراً في القديسين".
19وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ
عدد 19 : (3) الحقيقة الثالثة – تنصب على الحاضر: "وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين". جميل بالرسول أنه طلب لأجل المكتوب إليهم, أن يعرفوا "دعوة الله", و"غنى مجد ميراث الله" و"عظمة قدرة الله الفائقة". ولكن أجمل منه , إنه أرادهم أن يعرفوا كل هذه الأشياء في صلتها بنا نحن المؤمنين. فإذا كانت هذه كلها عظيمةً في ذاتها, فإن عظمتها في نظرنا متى عرفناها في صلتها بنا. وبما أن الرسول قد أشار في لعبارة السابقة إلى "مجد ميراث الله في القديسين" في المستقبل العتيد, فمن الطبيعي أن يحدثنا عن عظمة قدرة الله الفائقة التي تعمل في قلوبنا في الزمن الحاضر, لتعدَّنا لذلك "المجد العتيد".
- عدد الزيارات: 5954