ختم الروح القدس
عدد 14
"الذي فيه أيضاً آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتني لمدح مجده".
جميل أن خاتمة البركات الإلهية الموهوبة للمؤمنين, هي بركة ختم الروح القدس. فيليق بنا أن نتَّئد في سيرنا, لنتأمل جمال هذه الماسة البديعة, مقبلين إياها على أوجهها الأربعة, لأن لكل وجه فيها جمالاً خاصاً: - ا– القصد من الختم – ب– وقت الختم – ج– طبيعة الختم – د– دلالة الختم.
- ا- القصد من الختم: يُستعمل الختم عادة لأحد الأغراض الآتية, أو لبعضها, أو لجميعها معاً: - للملكية كما تعودت السلطات أن تدمغ الأشياء التابعة لها, دليلاً على امتلاكها إياها. أو لتقرير صحة الشيء المختوم, مثلما تختم الوثائق الرسمية دلالة على صحتها. أو لإذاعة الاسم أو الرسم الذي يحمله الختم مثلما تحمل قطع النقود صورة الملك. فصورة الملك تشهد بصحة قطعة النقود, كما أن قطعة النقود تحمل صورة الملك وتذيعها بين الملأ. أو لضمان حفظ الشيء وصيانته من الأيدي التي قد تعبث به, مثلما تختم أهراء الغلال بختم صاحبها, أو مثلما تختم أبواب خزانة بها ودائع أو مضبوطات للإبقاء عليها وحفظها من العبث بها. وفي الغالب خُتم المؤمنون لهذه الغايات الأربع. لأنهم ملك لله (رؤيا 7: 3), ولأنهم أولاد الله بالحقيقة (رومية 8: 16 و5: 5), ولأن الله افتداهم "ليخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب, وأن يحدثوا بمجد الله الذي أنقذهم من سلطان الظلمة ونقلهم إلى ملكوت ابن محبته "(كولوسي 1: 12 و13) ولأن الفادي وعد بحفظهم من كل خطر وصيانتهم من كل ضرر (يوحنا 10: 28 و29).
إن هذا الختم هو معمودية الروح القدس التي ينالها المؤمن, وبها يحصل على يقين الخلاص والبهجة, والنصرة والحرية في الخدمة, والصلاة. فقوله:"ختم الروح" مرادف للقول:"معمودية الروح" و"حلول الروح".
وهنا نقرر بكل وضوح وجلاء أن "ختم الروح" لا يشير إلى تلك المواهب الروحية الخارقة التي منحها الله لبعض الناس, في بعض الكنائس, لبعض مناسبات – كموهبة التكلم بالألسن وما إليها. لكن الإشارة هنا منصرفة إلى النعم الروحية الداخلية العميقة التي جعلها الله حقاً لكل مؤمن متجدد في كل عصر وفي كل مصر – كنعمة المحبة, والرجاء, واليقين, والبهجة, والسلام, والوداعة, والطهارة وما إليها. قابل ما جاء في 1 كورنثوس 12: 31, 13: 1 و2, 14: 22 بما ورد في 1 كورنثوس 13: 8 يتضح لك أن المواهب الخارقة وُهبت لأناس معينين في عصر معين وأنه قُصد بها أن تُبطل يوماً, بخلاف المواهب الروحية الباطنة فإنها باقية ما بقي الله.
- ب- وقت الختم: "إذ آمنتم ختمتم". يختم المؤمن حالما يؤمن. ومع أن المؤمن لا يشعر بالختم ولا يتحققه إلا بعد الإيمان, إلا أن الله يختمه وقت الإيمان. فالإيمان فعل داخلي, يوجّه قلب المؤمن إلى الله, والختم هو جواب الله على لإيمان المؤمن, فالختم ليس ثمرة من ثمرات الإيمان, بل هو دلالته, وعلامته, وصحته. في العهد القديم أخذ ابراهيم علامة الختان ختماً لبر الإيمان, وفي العهد الجديد ينال المؤمنون معمودية الروح علامة لبنوَّتهم لله.
- ج- طبيعة الختم: "خُتمتم بروح الموعد القدوس". إن نسبة الختم إلى الروح, نسبة وصفية – أي أن الله الآب ختمنا بالروح القدس – "وأعطى عربون الروح في قلوبنا" (2 كو 1: 22).
وُصف الروح القدس في هذه العبارة بوصفين: أولهما: "روح الموعد", لأن الروح القدس حل في الكنيسة وفق الموعد. ففي العهد القديم كان الوعد بمجيئه موضوع نبوات الأنبياء (إرميا 31: 31- 34 ويوثيل 2: 28- 30 وحزقيال 36: 27). وفي العهد الجديد وعد المسيح تلاميذه مرات بمجيء الروح القدس, على اعتباراته وعد منه هو. وفي ظروف أخرى حدثهم عن مجيء الروح باعتبار كونه وعداً من الآب (يوحنا 14: 15- 21 و26, 15: 26, 16: 7- 10, أعمال 1: 4).
إن كلمة, "موعد" ترجع بنا إلى الوعد الأول الذي وعد به الله ابراهيم رئيس العائلة اليهودية. وقد أبان الرسول بولس في رسالة أخرى, الصلة الكائنة بين الموعد الابتدائي الذي وعد به ابراهيم ونسله, وبين موعده النهائي الذي شمل الأمم أيضاً إذ قال, "وأما المواعيد فقيلت في ابراهيم وفي نسله .... لتصير بركة ابراهيم للأمم في المسيح يسوع, لننال بالإيمان موعد الروح" (غلاطية 3: 16 و14). وفي هذا الصدد عينه يقول بطرس الرسول في خطابه الخمسيني: "لأن الموعد" – موعد الروح القدس – "هو لكم ولأولادكم ولكل الذين هم على بعد كل من يدعوه الرب إلهنا" (أعمال 2: 39).
والوصف الثاني الذي وُصف به الروح, هو: "القدوس". وقد جاء هذا الوصف بعد الوصف الأول في الترتيب من باب التوكيد, فهو الوصف الذي اختص به الأقنوم الثالث في اللاهوت, متميزاً عن الروح البشرية الإنسانية, وهو "قدوس" في طبيعته, ومقدس في عمله.
14الَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ.
عدد 14: - د- فاعلية الختم: "الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتني لمدح مجده".
إن كلمة "عربون" مستعارة من لغة التجارة, وهي في اللغة الأصلية "أرّابون"- ولعلها فينيقية الأصل.
"العربون" في عُرف التجارة, هو جزء من الثمن يُدفع مقدماً كضمان لصحة الصفقة, على أمل أن يُدفع باقي الثمن بعد تسلم البضاعة. ويراد به هنا, أن الله أعطى المؤمنين روحه القدوس كضمان لحقهم الأكمل في ميراثهم العتيد في المجد الأبدي. فالروح القدس الذي به ختم المؤمنون, ليشهد لأرواحهم أنهم أولاد الله هو ذات الروح الذي يضمن لهم ميراثهم الأبدي بوصف كونهم أبناء الله. وفي هذا الصدد يقول بولس في رسالة أخرى: "أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب. الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً ورثة الله ووارثون مع المسيح إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه" (رومية 8: 15- 27). والحقيقة المشجعة هي أن الميراث محفوظ للورثة, والورثة محفوظون للميراث (1 بط 1: 4 و5).
إن النعم الروحية المعطاة للمؤمنين, نتيجة حلول الروح القدس في قلوبهم كالفرح والمحبة والسلام والوداعة, هي عربون المجد الذي يتمتع به المؤمنين في الحياة العتيدة. فالنعمة هي المجد في البذرة, والمجد هو النعمة في البلوغ.
وهنالك حقيقة أخرى مكملة لهذه – هي أن نعم الروح القدوس, التي بها خُتم المؤمنون, ليست فقط عربون ميراث المؤمنين في الله, بل هي أيضاً عربون ميراث الله في المؤمنين, بدليل قول الرسول في تتمة هذا العدد: "لفداء المقتني". إن هاتين الحقيقتين ليستا سوى وجهين لحقيقة واحدة شهد بها قديماً إرميا: "ليس كهذه نصيب يعقوب. لأنه" - الله – "مصور الجميع وإسرائيل قضيب ميراثه" (إرميا 10: 16).
إن قوله "لفداء المقتني" – يراد به نوال المِلك المكتسب بحق الشراء والفداء. وقد ورد الفعل الأصلي المشتقة منه كلمة: "مقتني" في أعمال 20: 28 – في كلام بولس الرسول نفسه " .... ارعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه". والفكر الذي تنطوي عليه العبارة "لفداء المقتني" هو أن المؤمنين بالمسيح – من اليهود والأمم – هم شعب اقتناه الله واشتراه بدم الفادي, فأصبحوا ملكه, وخاصته, وميراثه. ومع أن الله – في الوقت الحاضر– لم يمتلكهم تماماً, لكونهم عائشين في بيئة مفسدة, ومعرضين لهجمات الشيطان وسهامه الملتهبة, إلا أنهم مازالوا لله ومختومين له. غير أن الله تعالى, لا يستولي عليهم تماماً, إلا متى حررهم وفكهم من هذا العالم الشرير, وأتم فداء أجسادهم مثلما أنجز فداء أرواحهم – وذلك عند مجيء المسيح ثانية (ملاخي 3: 17 و1 بطرس 2: 9).
ومع الملاحظ, أن بولس الرسول, عاد إلى استعمال ضمير المتكلم في قوله: "ميراثنا" بعد أن كان قد استعمل ضمير المخاطب: "سمعتم"... "خلاصكم" ... "آمنتم" ... "خُتمتم", في العدد السابق.
في ختام هذه الأنشودة البديعة كرر الرسول – للمرة الثالثة – ذلك القرار الجميل: "لمدح مجده".
قديماً أريد ببني إسرائيل أن يكونوا "لمدح مجد الله", كما قبل في إرميا 13: 11 "لأنه كما تلتصق المنطقة بحقوى الإنسان, هكذا ألصقت بنفسي كل بيت إسرائيل وكل بيت يهوذا يقول الرب ليكونوا لي شعباً, واسماً, وفخراً, ومجداً" – لكنهم لم يسمعوا" – على أن وجه العزاء هو أن ما فشل فيه إسرائيل العالمي سينجح فيه إسرائيل الروحي ليكون "لمدح مجد الله". وما قصرت دونه الأمة, سيفوز به الفرد.
- عدد الزيارات: 7240