مدخل - كاتب الرسالة وظروف كتابتها
جـ- كاتب الرسالة وظروف كتابتها
تحمل هذه الرسالة اسم بولس الرسول, مقروناً بالتحية في غرتها, كعادته في سائر الرسائل التي تحمل طابع قلمه الملهم.
وقد قُبلت هذه الرسالة على مر الأجيال حاملة اسم الرسول المبارك. وقرئت وفسّرت من جمهرة المفسرين مقرونة باسم بولس. هذه حقيقة تؤيدها سحابة من الشهود الأقوياء- فمن بوليكاربوس تلميذ يوحنا الرسول وأسقف أزمير, إلى تلميذه أيريناوس الذي نشأ في آسيا الصغرى في القرن الثاني للميلاد. إلى إغناطيوس الذي عاش في أواخر القرن الثاني, إلى سائر اللاهوتيين والمفسرين في جميع العصور. فمع أن الآراء قد تباينت وتشبعت في حقيقة من كُتبت إليهم هذه الرسالة, إلا أنها أجمعت كلها واتفقت على أن كاتبها هو بولس الرسول.
كتب بولس هذه الرسالة أثناء إقامته في روما- لا كما تمنى مرة أن يزور روما حراً طليقاً, معزياً ومتعزياً بالإيمان المشترك بينه وبين مؤمني روما- ولكنه حل فيها أسيراً سجيناً. غير أن ظلال السجن أتاحت له نوراً باهراً لم يهيئه له بهاء النور الطبيعي. وضيق غرفته قدم له سعة ورحابة, عز عليه أن يجد مثلهما في باحة العالم الفسيح. وأوقات خلوته ووحدته, هيأت له فرصة نادرة للتفكير العميق, والإلهام الحر الطليق, والاتصال الوثيق بالرفيق الأعلى, وفي الوقت نفسه أتاحت له فرصة نادرة للاتصال بزائريه من مختلف الأقطار والأمصار (أعمال28: 30).
لقد أجمعت كلمة آباء الكنيسة الأولين, على أن بولس هو كاتب هذه الرسالة. وجلهم أضاء صفحات كتاباته بمقتبسات من هذه الرسالة على اعتبار أن بولس كاتبها.
غير أن هذه الإجماع لم يخل من اعتراضات قامت في سبيله: بعضها سلبي, والبعض الآخر إيجابي:
في مقدمة الاعتراضات السلبية: إن الرسالة خالية من كل طابع شخصي للرسول. فلا مكان فيها لتحيته الشخصية التي ألفناها منه في سائر رسائله. ولا مجال فيها لظروف الكنيسة المحلية الخاصة, كما في كورنثوس وروما وغلاطية.
ومن الاعتراضات الإيجابية: إن أسلوب الرسول في هذه الرسالة, يختلف بعض الاختلاف عنه في سائر رسائله. فبين دفتي هذه الرسالة نلتقي بكلمات "فذة" لا نعثر على مثلها في سائر كتابات الرسول. وسياق الفكر في هذه الرسالة يمتد بالكاتب إلى مدى بعيد, فيخرجه طوراً عن الموضوع الأصلي , وتارة يفتح أمامه أبواباً جديدة. فضلاً عن ذلك, فإن العقائد المتضمنة في هذه الرسالة, قد عولجت بطريقة لا عهد لنا بها في كتاباته الأخرى.
لكن هذه الاعتراضات- أوجلها- تتضاءل, ولعلها تضمحل, أمام نور الحقائق الآتية:
فالتاريخ المسيحي في جانب الرأي القائل إن بولس هو كاتب هذه الرسالة ولا شك في أن العلماء الناقدين الذين عاشوا في القرون المسيحية الأولى, هم خير حكم في هذا الموضوع, لأنهم كانوا قريبين من ذلك العهد, فتعتبر شهادتهم كأنها شهادة عيان, فيتم فيهم ذلك القول المأثور: "وشهد شاهد من أهلها".
أما السبب في خلو هذه الرسالة من الإشارات الشخصية, فقد يظهر لنا متى جئنا إلى بحث هذا السؤال: "إلى من كتبت هذه الرسالة؟".
ومن جهة اختلاف أسلوب الرسول في هذه الرسالة, عنه في سائر رسائله, فالسر فيه يرجع إلى أن أسلوب الكاتب الواحد قد يتخذ أشكالاً مختلفة, باختلاف الموضوعات التي يعالجها, وفوق ذلك فإن رجلاً خصيب العقل كبولس, قوي الإلهام كرسول الأمم, لا يمكن أن يتقيد بأسلوب خاص, في كل رسائله. ويقيننا أن هذا الاعتراض حجة في جانب الرسول, لا عليه.
أما عن كون الرسول قد عالج في هذه الرسالة عقائد لم يعالجها في غيرها أو بطريقة غير طريقته المعهودة, فإن هذا يُعزى إلى أن معلماً عظيماً كبولس, لا بد أن يخرج من كنزه جدداً وعتقاء, سيما وأن أحوال كل كنيسة تختلف عنها في الأخرى. ومن المفروض أن المؤمنين يتقدمون "من نعمة إلى نعمة" ومن "درجة في التمييز إلى درجة أرقى" فمن الطبيعي أن يزاد لهم النور بقدر ازديادهم في المعرفة, والفهم, والقابلية. وفي اعتقادنا أنه لو كانت العقائد في هذه الرسالة, مقصورة على العقائد التي تناولها الرسول في رسائله الأخرى لاعتبرت هذه حجة ضد كتابته هذه الرسالة, ولقيل لنا إن هذه الرسالة ليست من كتابات بولس؟ بل بقلم شخص أراد أن يحاكيه في الكتابة فنقل نحن ولم يحسن النقل, لأن هذه الرسالة لم تأتنا بعقيدة جديدة!!!
فالمعترض لا يكف عن الاعتراض, ولو كان الحق واضحاً كالنهار!. وما أجمل ما قال العلامة هوسن في هذا الصدد: "ليس لنا من جواب على كل معترض سوى أن نقول واثقين: لا يمكن أن يكون لهذه الرسالة من كاتب سوى بولس الرسول. فقد شهد أريناوس في بدء القرن الثاني أن بولس هو الكاتب. فمن إذاً بين بولس وأيريناوس, يكون كاتباً لهذه الرسالة؟ إن وجد شخص مثل هذا, فلا بد أن تكون له مؤهلات لا تقل عن مؤهلات بولس- في سلامة الأسلوب, وسلامة الذوق, ودقة التعبير, وإلهام متصل بباب السماء, ووداعة تمس أهداب الأرض, وصلابة في الحق, وقوة في الشعور, ونور في العقل, ونار في القلب. فإن لم يكن بولس هو الكاتب, فلا بد أن يكون أفضل من بولس!! فمن هو إذاً؟ أليس الأفضل أن نسلم بأنه هو بولس؟!
- عدد الزيارات: 13914