مدخل
"رسالة", "بولس", "أفسس"- ثلاث كلمات جامعة, كثلاث نجوم لامعة, تسطع في سماء هذه الرسالة. ولكل من هذه الثلاث الكلمات جاذبية قوية تستميلنا إليها, إذا ما حاولنا كشف كنوز هذه الرسالة "رسالة", "بولس", "أفسس"- أو الرسالة, ومرسلها, والمدينة المرسلة إليها:
-أ- الرسالة: تتبوأ هذه الرسالة عرشاً رفيعاً في قلب كتابات بولس, حساً ومعنى. فهي قلبها الخافق, وهي الدرة اليتيمة المنتظمة في منتصف عقد رسائله الدرية, هي الرسالة الوحيدة التي يفخر بها بولس, ويعتبرها حجة "رسوليته" إلى الأمم, ومقياس درجة "درايته بسر المسيح" (3: 2و3).
حسناً قال فيها كولردج "هي أسمى كتاب في سجل الوحي. لأنها تجمع بين دفتيها خلاصة العقائد المسيحية, وهي ملتقى مطاليب الدين المسيحي بمطاليب الدين الطبيعي".
هي إحدى الرسائل الأربعة التي كتبها بولس الرسول وهو سجين في روما لأول مرة, فهي اللؤلؤة الرابعة في هذا العقد الرباعي النظيم, المؤلف من رسائله: إلى فيلبي, وكولوسي, وفيلمون, وأفسس. ومع أن كل واحدة من هذه الرسائل الأربع, تختلف عن الأخرى معنى ومبنى, إلا أن نغمة واحدة مشتركة تتخللها جميعاً, ونعمة إلهية واحدة أوحت لبولس بها جميعها. فاقلم واحد, والعقل واحد, والقلب واحد, والروح واحد, لكن الظروف متباينة, والنعمة أيضاً متنوعة (1بطرس4: 1). ولقد أجاد مونتانوس, إذ شبه نفس بولس بقيثارة ذات أوتار حساسة, فلما هبت عليها نسمات نعمة الله المتنوعة, أفاضت منها نغمات عدة. فتارة نسمع دوي رعد قاصف كما في رسالتيه إلى غلاطية, وطوراً نصغي إلى ترجيع أناشيد عذبة رخيمة, كما في رسالتيه إلى فيليبي وفيلمون, وحيناً نستمع إلى تسبيح ملائكي يرتفع إلى السماويات في الأعالي كما في الرسالة التي نحن بصددها. وفي كل هذه النغمات المتعددة, توجد أصداء مشتركة تتخللها جميعاً, فتوّحد ما بينها من تجانس. ففي رسالة أفسس نجد أصداء متجاوبة مع رسالة كولوسي, وفي رسالة كولوسي نسمع نغمات مشتركة مع ألحان رسالة فيليبي, وفي رسالة فيليبي نصغي إلى نبرات متفقة مع أناشيد رسالة فليمون.
* * *
في أحد أيام سنة 60 ميلادية, خرج شخصان من روما, وسارا في الطريق السلطاني المعروف وقتئذ بـ "طريق ابيوس": اسم أحدهما "تيخيكوس" وهو من آسيا مولوداً, واسم الثاني "أنسيموس" وهو عبدها رب من مولاه أما أولهما فهو حامل هذه الرسالة. وقلما أتاحت العناية لإنسان واحد أن يحمل من الكنوز في يوم واحد, مثلما حمل تيخيكوس في ذلك اليوم- إذ حمل ثلاث رسائل من خير ما كتب بولس الرسول. رسائله: إلى كولوسي, وإلى فليمون, وإلى أفسس- وآخرها وأفخرها- أو كما قال فيها آرك جراهام: "هي تاج كتابات بولس الرسول".
هذه الرسالة ذات مادة وروح. أما مادتها فهي وليدة سجن روما الضيق المظلم, وهي مكتوبة بقلم بولس أو بإملاء منه. فلقد كتبها في منفاه وسلاسل السجن تقيد جسمه الضعيف الهزيل. وأما روح هذه الرسالة, فهي منبعثة من "السماويات" في الأعالي- موطن الحرية, والنور, لأنها صادرة عن روح إله بولس, وحيث روح الرب فهناك الحرية. فبينما جسد بولس يرسف في السلاسل والقيود, إذا بروحه تتسامى في الأعالي متمتعة بالشركة الروحية مع "الرفيق الأعلى". إن مادة هذه الرسالة مقيدة بأثقال بولس وقيوده, لكن روحها محملة "ثقل مجد أبدي" ومشبعة "بغنى المسيح الذي لا يستقصى".
هذه الرسالة خالية من الجدل- فهي تختلف عن رسالة غلاطية التي يتغلغل فيها روح الجدل العنيف. فإذا كان بولس قد كتب رسالة غلاطية بمداد من محلول أشعة نور عقله النير, فقد كتب هذه الرسالة بمداد من ذوب قلبه الملتهب.
هذه رسالة خالية من الإشارات الشخصية- فهي رسالة الكنيسة الجامعة في كل عصر وعصر. فيها رفع الرسول نظره فوق الحدود الضيقة التي تفصل أجزاء الكنيسة عن بعضها, فقدم رسالته هذه للكنيسة كلها, وقدم فيها أفضل ما عنده. ومن فرط ما غمرته به العناية من أفضال ونعم, خشع بقلبه شاكراً, وفي شكره سكب خلاصة قلبه, وفي سكيبه المقدس كان ساجداً وفي سجوده كان متعبداً, وفي تعبده تركنا نحن الواقفين على رمال الوادي مبهوتين, مندهشين, مرتعدين, نسمع الصوت ولا نميز منه سوى نبرات قليلة تزيدنا شوقاً وحنيناً إلى تلك "السماويات" العليا, ولا تروى فينا غليلاً, ثم انطلق هو إلى الأعالي ليرتوي من تلك الينابيع العليا التي لا ينضب لها معين!؟.
إن الفكرة الأساسية في هذه الرسالة هي: "المسيح والكنيسة". فهي البلاغ النهائي في تفسير ذلك الإعلان الجليل الذي فاه به المسيح على طريق قيصرية فيلبس: " على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها ". فلا غرو إذ كان الخطاب فيها موجهاً إلى " القديسين والمؤمنين في المسيح يسوع", أو بعبارة أخرى, إن موضوع هذه الرسالة هو "قصد الله الأزلي المعلن في المسيح, والمحقق في الكنيسة وبها".
ليس هذا القصد مقصوراً على دعوة الله للكنيسة, ولا على اتحاد عناصر الكنيسة المتنوعة, لكنه يمتد فيطوى على كل الجنس البشري الذي قصد الله أن يجمعه في المسيح الذي هو "الرأس الأعلى". ولكي يفصح الرسول عن هذا القصد, بدأ بالكلام عن حاجة الفرد إلى الخلاص الذي قدمه المسيح, والفداء الذي أكمله بصليبه, والغفران الذي أتمه بدمه الكريم ومن هذا تدرج إلى الكلام عن الصلة الكائنة بين المؤمن وسائر المؤمنين, فهي على مثال الصلة التي تجمع عضواً في الجسد بسائر الأعضاء. وعلى هذه النسبة المكينة تبنى الصلة بين اليهود والأمم, فلئن اختلفوا جنساً, إلا أنهم واحد في المسيح.
وجدير بنا أن نذكر ما قرره الرسول: وهو أن الكنيسة مع سمو مكانتها في قصد الله, ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة لإظهار حكمة الله المتنوعة للعالمين: "حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا".
- عدد الزيارات: 13912