قدس الأقداس
اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ عَشَرَ
بهذا الأصحاح, يستهل القسم الثاني الرئيسي في هذه البشارة الخالدة. في القسم الأول أظهر المسيح ذاته للعالم, وفي القسم الثاني أعلن ذاته لخاصته. استغرقت حوادث القسم الأول ثلاثة وثلاثين عاماً ونيفاً من حياة المسيح, أما حوادث القسم الثاني فلم تستغرق إلا يوماً واحداً. في القسم الأول, وردت كلمة: "آية" 16 مرة, ولم ترد سوى مرة واحدة في القسم الثاني (20: 30). في القسم الأول, أجريت 7 معجزات, وفي الثاني تمت 25 نبوة.
في درسنا هذا الأصحاح, والأربعة الأصحاحات التي تليه, نشعر أننا دخلنا "قدس الأقداس" في هيكل هذه البشارة,"قداس أقداس" المعلنات الإلهية كلها. في هذه الأصحاحات الخمسة, بنوع خاص يلتقي جلال لاهوت المسيح وهيبته. بحنو ناسوته ورقته. وتجتمع في أقواله, بساطة الكلام, بعمق المعاني.
في هذه الأصحاحات, وقد حان وقت افتراق المسيح عن تلاميذه, ودنت ساعة ارتقائه إلى الجلجلة, كشف لتلاميذه القناع عن وجهه الوضيء. وفتح لهم قلبه الرحيب, ومن مكنوناته أخرج لهم لآلئ وجواهر, قد يراها غيرهم يجهل قدرها, لأن كنوز المحبة لا يقدرها غير المحبين.
في "قدس الأقداس" هذا, الذي لا يسمح بدخوله, إلا الذين جعلهم المسيح "ملوكاً وكهنة", استراحت نفوس متعبة, واطمأنت قلوب مضطربة, وتشددت ركب مخلعة. أما جدرانه فكم سمعت من تأوهات استحالت إلى ترنيمات, وكم شهدت من دموع حالت إلى ابتسامات. وكم أصغت إلى أناث, آلت إلى تشكرات. تنقسم هذه الأصحاحات إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
أولاً: المسيح ينقي التلاميذ بفعلين (13: 1 – 30): (أ) بغسله أرجلهم (13: 1 – 20). (ب) بإماطة اللثام عن يهوذا (13: 21 – 30).
ثانياً: المسيح يشدد التلاميذ بسلسلة أحاديث (13: 31 – ص 16):
(أ) أحاديثه التي فاه بها في العلية (13: 31 – 14: 31). (ب) أحاديثه في الطريق (15 و16).
ثالثاً: صلاة كاهننا الأعظم (17): (أ) المسيح والآب (17: 1 – 5). المسيح والتلاميذ (17: 6 – 19). (ج) المسيح والكنيسة (17: 20 – 26).
أولاً: المسيح ينقي التلاميذ بغسله أرجلهم (13: 1 – 20). يقع هذا الفصل في ثلاثة أدوار: (1) تمهيد (13: 1 – 3). (2) المسيح يغسل أرجل التلاميذ (13: 4 – 11). (3) المسيح يوضح مغذى الحادث (13: 12 – 30).
1- تمهيد (13: 1 – 3). نحن الآن في العلية التي كلف المسيح اثنين من تلاميذه بإعدادها, وهناك أكل الفصح معهم, "قبل أن يتألم". ويقول سائر البشيرين, إن خلافاً جرى بين التلاميذ عمن يكون الأعظم فيهم. من أجل هذا أراد السيد أن يطهرهم ويصهر إيمانهم.
يستهل يوحنا البشير هذا الأصحاح بمقدمتين – إحداهما عامة (عدد 1), وهي تمهيد لما عمله المسيح وما قاله في الأصحاحات الخمسة (ص 13 – 17). والثانية خاصة (عدد 2 و3), وهي منصبة على العمل الخاص الذي أجراه المسيح بغسله أرجل التلاميذ. وكل مقدمة منهما تتضمن ثلاثة ظروف ملابسة
1أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ
للفعل الممتاز الممهدة له. وكل ظرف من الثلاثة الظروف التي في المقدمة الأولى يتمشى مع الظرف الذي يقابله في المقدمة الثانية. وإليك البيان:
عدد 1 |
يقابله |
عدد 2 و3 |
||
الظرف الأول توقيت تاريخي |
..."قبل عيد الفصح" (عدد 1-أ) |
"... فحين كان العشاء" (عدد 1- أ) |
||
الظرف الثاني شعور يقيني |
"... وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب" (عدد 1- ب) |
"يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي" (عدد 3) |
||
الظرف الثالث حالة نفسية |
" ... إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم" (عدد 1 ج) |
"وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلمه" (عدد 2 ب) |
||
العمل الممتاز الذي أظهره |
"أحبهم إلى المنتهى" (عدد 1 د) |
"قام عن العشاء .... " (عدد 4) |
||
من مميزات قلم يوحنا البشير, أنه يستهل أعمالاً وأقوالاً للمسيح بمثل هذه المقدمة, التي بين دفتيها, توقيتاً تاريخياً, وحالة نفسية. فمن مثيلاتها 2: 23 – 25 و3: 22 – 24. إن نسبة كل من هذه المقدمات إلى الحادث الذي يليها, كنسبة المقدمة المتضمنة في 1: 1 – 18, إلى البشارة كلها.
عدد 1. مقدمة عامة: "أما يسوع" – وهل يوجد اسم أعذب من هذا الاسم المقدس, ليكون براعة استهلال لـ"قدس أقداس" هذه المعلنات الإلهية؟!.
الظرف الأول – توقيت تاريخي: "قبل عيد الفصح". يذكرنا
عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ
هذا الظرف التاريخي, بذاك الذي استهل به الأصحاح السابق: "قبل الفصح بستة أيام" (12: 1). على أن التعبير الذي استهل به هذا الأصحاح, يختلف نوعاً ما عن ذاك الذي أفتتح به الأصحاح السابق. هناك قيل: "قبل الفصح", وهنا قيل "قبل عيد الفصح". يراد بـ"الفصح", ذلك العشاء الذي كانوا يأكلون فيه الحمل التذكاري, في المساء الواقع في تمام اليوم الرابع عشر من شهر نيسان (مارس – أبريل). (خروج 12: 8 ولاويين 23: 5 وعدد 28: 16).
أما كلمة: "عيد الفصح" التي يبدأ بها هذا الصحاح, فهي أعم وأوسع من كلمة: "الفصح", فهي تشمل اليوم الرابع عشر, الذي كانوا ينزعون فيه الخمير من البيت, ويحسبونه عادة ضمن أيام العيد (عدد 33: 3). قابل هذا بما جاء في يشوع 5: 11 حيث يعتبر اليوم الخامس عشر, ضمن أيام عيد الفصح. فإذاً قوله: "قبل عيد الفصح" يحملنا إلى أواخر اليوم الثالث عشر من شهر نيسان, الذي صادف في تلك السنة يوم خميس. وأما اليوم الرابع عشر الذي هو يوم نزع الخمير من السبت, فقد وافق يوم جمعة, وفيه رفع المسيح على الصليب, في نفس الوقت الذي ذبح فيه حمل الفصح في الهيكل, ليكون المسيح – حساً ومعنى – "فصحنا الأعظم". على هذا الاعتبار, يكون المسيح قد أكل الفصح مع تلاميذه قبل موعد الفصح المعتاد بيوم واحد.
لمزيد الإيضاح, أطلب "شرح بشارة لوقا" للمؤلف, صحيفتي 552 و553.
الظرف الثاني – شعور يقيني: "وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل
مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ
من هذا العالم إلى الآب". هذا برهان ناسوته الكامل, وحجة لاهوته الشامل. بناسوته الكامل أحس الإحساس عينه, الذي يجيش في فلب كل إنسان, عند دنو ساعة توديعه أصدقاءه. فمن منا لا يشعر عند اقتراب ساعة الوداع, إن القلب يكاد يضيق بما فيه من شعور فياض, فيحاول أن يعبر عما يكنه بكلمة ملتهبة, أو هدية ثمينة, أو خدمة جليلة ممتازة؟ أما لاهوته الشامل فقد ترجم عنه علمه اليقيني بمجيء "ساعته لينتقل من هذا العالم" – حيث التقلقل والشقاء, والغدر, والخيانة, "إلى الآب" - هناك البقاء, والراحة, والأمن, والحب الخالص. أما "ساعته", فهي تلك التي قال عنها في مناسبات سابقة, إنها قد أتت بعد (2: 4 و7: 6 و 11: 9) - أعني بها ساعة صلبه الذي توج بالقيامة والمجد.
يكتم الله عن الناس ساعة موتهم, إشفاقاً عليهم من هولها, ورغبة منه في أن ينتفعوا من جهلهم بميعادها. فيكونوا مستعدين على الدوام للقائه. أما المسيح, المتحد بالآب, فقد كان عليماً بهذه "الساعة", وواثقًًاً من أنها ليست بساعة موت, بل ساعة "انتقال" من دائرة إلى دائرة أرقى وأوسع. فهي إذاً ساعة ارتقائه, ومجده, ومآبه إلى حيث أتى. إذاً لم يكن صلبه حكماً إجباريا, بل فعلاً اختيارياً . وما كان موته انحداراً إلى القبر, بل ارتفاعاً إلى الآب.
ومما يلذ لنا ذكره, أن المسيح "وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب",, وموقن أن هذه الساعة مريرة بآلامها, لم بسمح
إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى
لآلامها بأن تلهيه عن الاهتمام بتلاميذه, بل انشغل بحبهم عن نفسه- هذا أقصى غاية الحب.
الظرف الثالث – حالة نفسية: "إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم". إن محبة المسيح التي أظهرها لخاصته, لم تكن عاطفة مرتجلة, ولا هي بنت ساعتها, كيقظة يونان التي ترعرعت في يوم وذبلت في ليلة. بل كانت مبنية على تصميم أزلي. وأن أزليتها خير ضمان لأبديتها. فكل مياه لا بد مرتفعة إلى المستوى الذي منه نبعت. كلمة: "خاصته", تعني الذين اشتراهم بدمه, واقتناهم بحبه (أعمال 4: 23 و24 و 1تي 5: 8). إن "العالم" الذي كان المسيح مزمعاً أن ينتقل منه, هو نفس "العالم" الذي ترك فيه "خاصته". وردت كلمة :"العالم", في كتابات يوحنا, في 8: 23 و9: 39 و11: 9 و12: 25 و31 و16: 11 و18: 36 ورسالته الأولى 4: 17. وهي كثيرة الورود في كتابات بولس الرسول.
العمل الممتاز الذي أظهره: "أحبهم إلى المنتهى" - أي أظهر لهم حبه إلى الغاية. إن اقتراب ساعة افتراق المسيح عن تلاميذه, لم يزد في حبه لهم. لأن حبه, نظير شخصه, غير متغير. لكن المسيح اتخذ من هذه المناسبة الخاصة, رصة أظهر فيها أقصى حدود محبته, كما لو أراد أن يستنفذها. إن قوله: "إلى المنتهى", ليس قاصراً على وصف محبة المسيح في زمنها ومداها, بل يصفها أيضاً في نوعها, وقياسها, وشدتها – فقد أحبهم
الْمُنْتَهَى. 2فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا
إلى غاية الحب. هذه العبارة: "إلى المنتهى", يقابلها القول: "قد أدركهم الغضب إلى النهاية" – أي إلى نهاية حدود الغضب (1 تسالونيكي 2: 16), وقوله: "ولما انتهى يشوع من ضربهم ضربة عظيمة" (يشوع 10: 20). وقوله: "فلم يهلكه تماماً" (2 أيام 12: 132).
عدد 2 و3. مقدمة خاصة: "فحين كان العشاء ...". إذا اعتبرنا العدد الأول, مقدمة عامة لما عمله المسيح وما قاله في الخمسة الأصحاحات الآتية (ص 13-17), فإن عددي 2 و3 يحسبان مقدمة خاصة لعمل المسيح الممتاز الذي أجراه بغسله أرجل تلاميذه. وهي نظير المقدمة العامة- تقع في ثلاثة أدوار:
(أ) الظرف الأول- توقيت تاريخي "فحين كان العشاء" –أي ولما اجتمعوا معاً للعشاء, الذي أكله المسيح مع تلاميذه, وفيه رسم فريضة العشاء الرباني (راجع تفسير العدد السابق). يغلب على اعتقادنا أن يوحنا البشير لم يذكر رسم فريضة العشاء الرباني, لأن سائر البشيرين سبقوه إلى ذلك. وكانت هذه الفريضة وقت كتابة بشارته أعرف من أن تعّرف.
الظرف الثاني – حالة نفسية: "وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي". ما أعظم الفرق بين الموقف الروحي في هذا العدد, وبين ذلك الموقف الموصوف في العدد الأول: "إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم"! ذاك وصف منير يكشف عن قلب المسيح الفياض بالمحبة الأزلية لخاصته. وهذا وصف مظلم يلقي حجاباً كثيفاً على قلب يهوذا وقد اختاره الشيطان
سِمْعَانَ الإسخريوطي أَنْ يُسَلِّمَهُ 3يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ
حقلاً خصيباً ألقى فيه بزور مؤامراته وايحاآته. إن هذا التلميذ التعيس, لم يحصن قلبه بالسهر والصلاة, فلما جال الشيطان مفتشاً عن قلب يلقي فيه بذاره السامة, وجد قلب يهوذا كمدينة بغير سور, فألقى فيه بذاره ومن المحزن, أنها وجدت في هذا القلب التعس تربة خصيبة, فارتوت من مياه عدم إخلاصه, واغتذت بعصارة حبه للمادة, فأزهرت, وأثمرت هلاكاً لنفسه. لم يكن حب المسيح لتلاميذه, حباً ارتجالياً وكذلك بغض يهوذا لسيده لم يكن أيضاً ارتجالياً. وما كان كلام المسيح له (عدد 26), إلا نوراً كاشفاً القناع عن حقيقة نياته. ومن العجيب أن محبة المسيح لتلاميذه, كانت بلا سبب, وكذلك كانت كراهية يهوذا له. وخليق بنا أن نذكر أن يوحنا البشير ذكر هذا الخائن باسمه الخاص: "يهوذا", واسمه العام: "سمعان", ولقبه "الإسخريوطي" تمييزاً له عن "يهوذا ليس الإسخريوطي" (14: 22).
عدد 53 الظرف الثالث – شعور يقيني: "يسوع وهو عالم..". يدخلنا هذا الكلام إلى أعماق قلب المسيح, ويكشف لنا المعنى الحقيقي لاتضاعه. يختلف موضوع علمه المذكور هنا, عن ذاك الوارد في العدد الأول في هذا: هناك رأيناه عالماً بدنو ساعة افتراقه عن خاصته, وهنا نراه شاعراً ب: (1) مقامه الملكي وسلطانه المطلق: "إن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه" – هذا علمه بحقيقة حاضرة. (2) علو أصله وسمو رسالته: "وإنه من عند الله خرج" – هذا علمه بحقيقة ماضية. (3) جلال مآبه "وإلى الله يمضي" –
دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي
هذا علمه بحقيقة مستقبله. بهذا الشعور المثلث الذي تناول حاضره, وماضيه, ومستقبله, اتضع المسيح إلى الحد الذي فيه غسل أرجل تلاميذه بما فيهم يهوذا الخائن. لم يكن اتضاع فادينا متنافياً مع شعوره بعظمته فإن العظمة الحقيقية ليست عقبة في سبيل الاتضاع , وإنما هي باعث له, وأقوى تحريض عليه. ومما يكسب عظمة المسيح ثوباً بهياً, وضاعة مركز التلاميذ. إن الاستعباد لأجل العبيد هو العظمة مجسمة, لكن الاسترقاق لأجل السادات, هو العبودية بعينها. التواضع الاختياري, عظمة مقنعة, والتواضع الإلزامي, مذلة سافرة.
(2) العمل الممتاز الذي قام به المسيح – غسل أرجل التلاميذ 13: 4 – 11. إننا مدينون ليوحنا المؤرخ الباطني الذي عرفناه في الأعداد السابقة, بالحالة النفسية الداخلية التي كان عليها المسيح, فكانت تحريضاً له على إتيان العمل الجليل الذي قام به, إذ غسل أرجل تلاميذه. وكذلك نحن مدينون أيضاً للوقا البشير المؤرخ, لأنه أعلمنا بالموقف التاريخي الذي كان محيطاً بالتلاميذ, فكان بمثابة فرصة خارجية, هيأت للمسيح القيام بها العمل الفذ (لوقا 22: 24 – 27): "وكانت بينهم مشاجرة من منهم يظن أنه يكون أكبر".
من هذا يتضح لنا, أن المسيح وهو مشبع بالحالة النفسية التي وصفها قلم التلميذ الذي كان يسوع يحبه, قد وجد في مشاجرة التلاميذ مع بعضهم البعض, فرصة سانحة لينزع من قلوبهم بقايا خمير الطمع, والكبرياء, والحسد, قبل أن يأكلوا فصحهم الجديد.
4قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً
يقع هذا الفصل في دورين رئيسيين: الدور الأول – غسل أرجل التلاميذ (13: 4 و5). الدور الثاني: حوار بين المسيح وبطرس (13: 6 – 10). ثم ختمها يوحنا البشير بكلمة توضيحية (13: 11).
الدور الأول – غسل أرجل التلاميذ (13: 4 و5).
عدد 4. (ا) المسيح يتهيأ لهذا العمل الجليل: "قام ....". وصف البشير استعداد المسيح لهذا العمل بأربع خطوات متتابعة, متدرجة, مما يدلنا يقيناً, على أن كاتب هذه الأوصاف الدقيقة كان شاهد عيان, فأخذ بهذا المشهد العجيب, الذي ترك في ذاكرته أثراً لم يمحه كر الأيام ومر العشي. كان التلاميذ, في مسيس الحاجة إلى من يقوم لهم بخدمة غسل الأرجل من الأتربة والغبار, بعد المرحلة التي قطعوها من بيت عنيا إلى أورشليم في حر النهار.
ومن المرجح أن كلاً منهم امتنع عن القيام بهذه الخدمة الوضيعة, فكان رب المجد أسبقهم إليها. أما الخطوات الأربع التي اتخذها المسيح في هذا العمل الإعدادي, فهي: (1) "قام عن العشاء" – ولاشك أن عيون الجمع شخصت إليه متفرسة, منتظرة أن ترى ماذا يبغي من قيامه هذا. (2) "خلع ثيابه" الخارجية, وبينها ذلك الثوب المنسوج كله بغير خياطة. وغالباً هذه هي الثياب عينها التي اقتسمها الجنود عند الصليب (3) "أخذ منشفة" – هذا هو المنديل الذي كان يلبسه العبيد عند قيامهم بخدمة أسيادهم. فياله من تواضع عجيب! (4) "واتزر بها" – كما يتمنطق العبد الواقف على
وَاتَّزَرَ بِهَا 5ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ
خدمة سيده. هل كنت مقدراً هذا الصنيع يا يهوذا؟ وهل أدركت قيمته يا بطرس؟ وهل تقدرينه أنت يا نفسي؟ وجدير بالذكر أنه لا يوجد عنصر ناقص في استعداد المسيح. لأن كل عمل يقوم به, يتممه على أكمل صورة.
عدد 5. (ب) المسيح يغسل أرجل تلاميذه: "ثم صب ماء .... وابتدأ يغسل .... ويمسحها بالمنشفة". هذه ثلاث درجات متتابعة في هذه الخدمة الشريفة. ومع أنه كان في إمكان المسيح أن يكلف غيره بمعاونته في أحد هذه الخدمة أو في بعضها, إلا أنه رضي أن يقوم هو وحده بكل أركانها. حتى متى حان الوقت الذي يقول فيه: "قد أكمل", لا يبقى مجال لإنسان ما, أن يدعي أن كانت له يد في ما عمل المسيح.
(1) "صب ماء في مغسل" – كان الماء موضوعاً عادةً في ردهة الطعام, لمثل هذا الغرض (انظر 2 ملوك 3: 11).
(2) "ابتدأ يغسل أرجل التلاميذ". لو غسل المسيح عيون التلاميذ, لحسب هذا منة منه وتكرماً. ولو غسل أيديهم, لكان هذا منه منتهى التواضع. أما وقد تنازل وغسل أرجلهم القذرة, فإن الملائكة وحدهم, قد يستطيعون أن يقدروا هذا العمل الجليل. يقول أهل التلمود - في تفسيرهم ما جاء بحزقيال 16: 9 - "عند البشر, يقوم العبيد بغسل أقدام أسيادهم. ولكن عند الله, الأمر بالعكس". (انظر تكوين 18: 4 و19: 2 و24: 32 و43: 24 وقضاة 19: 21 و1 تيموثاوس 5: 10). إن كلمة "ابتدأ" كثيرة الورود في كتابات سائر البشيرين, لكنها لم ترد في
وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا.
يوحنا سوى هذه المرة. ويهمنا أن نلاحظ, أن "الغسيل" يعبر عنه في اللغة اليونانية بثلاث كلمات وردت كلها في العهد الجديد, ولكل منها معنى خاص. فالكلمة الأولى وردت في مرقس 7: 3 وهي تعني غسل جزء من الجسد كاليدين والرجلين – هذه هي الكلمة المستعملة في هذا العدد. وقد وردت خمس مرات أخر في الأعداد التالية عند الكلام عن غسل الرجلين, والكلمة الثانية تعني غسل الجسد كله (الاستحمام) – هذه هي الكلمة الواردة في عدد 1 من هذا الأصحاح. والكلمة الثالثة تفيد غسل الملابس وقد وردت في سفر الرؤيا 7: 14 و22: 14 وسنتبين ضرورة التمييز بين هذه الكلمات الثلاث لدى بلوغنا العدد العاشر. (3) "ويمسحها بالمنشفة التي كان متزراًً بها" – لكي يكمل تعب محبته.
"قام عن العشاء" و"خلع ثيابه" و"أخذ منشفة" و"أتزر بها" ثم "صب ماء في مغسل" و"ابتدأ يغسل أرجل التلاميذ" و"يمسحها بالمنشفة التي كان متزراً بها" – هذه سبع خطوات تاريخية متتابعة, قد تحمل بين ثناياها رمزاً ضمنياً إلى الخطوات التاريخية الخالدة التي اتخذها الفادي في تنفيذه تدبير الفداء العجيب. فقيامه عن العشاء, يرمز إلى تركه أمجاد السماء. وخلعه ثيابه, يشير إلى إخلائه نفسه. وأخذه المنشفة, يكنى به عن لبسه بشريتنا. واتزاره بالمنشفة يرمز إلى أخذه صورة العبد. وصبه الماء في المغسل, يشير إلى بذله دمه الثمين لأجلنا. وغسله أرجل التلاميذ, يكنى به عن تطهيره إياهم. ومسحه أرجلهم, يرمز إلى إتمامه عملية التقديس.
6فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ أَنْتَ
حوار بين المسيح وبطرس (13: 6 – 10). يقع هذا الحوار, في ثلاثة أدوار – وفي كل دور منها كان بطرس البادئ بالكلام. في الدور الأول (13: 6 و7), نرى بطرس مستفهماً متعجباً. في الدور الثاني (13: 8), نجد بطرس محتجاً ممانعاً. وفي الدور الثالث (13: 9 و10), نشاهد بطرس مندفعاً متطرفاً. وفي كل دور من هذه الأدوار نرى الفادي المحب, معالجاً ضعفات بطرس بلطف حازم لا يأتيه الضعف من ناحية من نواحيه.
عدد 6. الدور الأول (13: 6 و7). (أ) بطرس مستفهماً متعجباً "فجاء إلى سمعان بطرس ...". يقول تقليد قديم: "إن المسيح, عندما شرع في غسل أرجل تلاميذه, ابتدأ بيهوذا الذي خانه, واختتم ببطرس الذي أنكره, لكي يفهم يهوذا أنه أحبه فضلاً, ولكي يقدم لبطرس أطول وقت ممكن, ليعتبر فيه بتواضع سيده العجيب". ومهما يكن نصيب هذا التقليد من الصحة, فإنه يكاد يكون من المحقق, أن بطرس لم يكن أول من غسل المسيح رجليه (عدد 24). يؤيد هذا قول البشير: "فجاء إلى بطرس". ويغلب على اعتقادنا, أن بطرس, بعد أن رأى أن من سبقوه من التلاميذ, سمحوا للمسيح بأن يغسل أرجلهم, أراد أن يسبقهم هو إلى فضيلة التواضع, ليبرهن على أنه أعظم منهم في هذا الباب أيضاً. لذلك سأل متعجباً "يا سيد أنت تغسل رجلي؟!" هذا تكبر مقنع يدل على محبة ذات كامنة في القلب. إن احترام بطرس لسيده, ظاهر من تنبيره على المخاطب:
تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» 7أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». 8قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!» أَجَابَهُ يَسُوعُ:
"أنت", وعلى ضمير المتكلم في: "رجلي". ير أنه احترام زائف. فهو وليد عدم الاحترام الحقيقي (أنظر متى16: 22). لأن أثبت علامة للاحترام, هي الطاعة.
عدد 7. جواب المسيح: "أجاب يسوع وقال له لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد" – كما نبر بطرس, في سؤاله, على ضميري المخاطب والمتكلم, كذلك وضع المسيح النبرة في جوابه, على كلمتي: "أنت" و"أنا". إن في جواب المسيح شطرين متقابلين. فقوله في الشطر الأول: "لست تعلم", يقابله قوله في الشطر الثاني: "لكنك ستفهم". وكلمة "الآن" تقابلها كلمة: "فيما بعد".غالبا فهم بطرس أول معنى من معاني اتضاع المسيح, عندما أوضح المسيح له, ولسائر التلاميذ, مغزى هذا العمل الجليل الذي قام به (عدد 14). لكن المعنى العميق, لم يفهمه بطرس إلا "فيما بعد", لما أرسل الروح القدس بملئه إلى الكنيسة. والمعنى الأكمل, لم يفهمه بطرس إلا "فيما بعد" حينما رفع هو على الصليب منكس الرأس – كما يحدثنا التقليد.
عدد 8 . الدور الثاني: بطرس محتجاً ممانعاً: "قال له بطرس لن تغسل رجلي أبدا". في عدد 6, رأينا بطرس مستفهماً. وكأن لطف السيد قد شجعه على التمادي في موقفه, فأضحى الآن رافضاً, ومتصلباً في رفضه إلى النهاية: "لن" جواب المسيح "أجاب يسوع إن كنت لا أغسلك فليس لك
«إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ».
معي نصيب". إن تشدد بطرس في رفضه خدمة التواضع المقدمة له من المسيح, جعل السيد يتشدد أيضاً في إفهام بطرس حقيقة موقفه. وما كان أشد وقع هذه الكلمات على أذني كليم الرسل: "ليس لك معي نصيب!" وفي الغالب لم يكن بطرس منتظراً أن يسمع من فم المسيح مثل هذه الكلمات, جواباً على ممانعته التي لم يقصد بها سوى مبالغته في التواضع . إلا أنه اتضاع نم عن كبرياء وصلف. ولعل المسيح قصد بجوابه هذا, أن يضع بطرس على المحك الحقيقي, فيرى ما إذا كان يقدر حرمانه من سيده, فيعدل عن امتناعه, أم يصر على موقفه مضحياً بهذه الصلة القدسية؟ يراد بـ"الغسل" غفران الخطايا, في الولادة الجديدة. ويعبر عنه أيضاً بـ"غسل الميلاد الثاني" (تيطس 3: 5) و"غسل الماء بالكلمة" ( أفسس 5: 26). و"الميلاد من الماء والروح" (رو 3: 5).
أما "النصيب" الذي أراده المسيح, فهو القسم الذي يصيب المرؤوس من غنيمة ظفر بها رئيسه (يشوع 22: 2 و2 صموئيل 20: 1 و1 ملوك 12: 16) وهو يشير: إما إلى نصيب بطرس من المسيح في الحياة الحاضرة أو نصيبه في الحياة العتيدة. على أن جواب المسيح, لم يكن فيه شيء من الصرامة, فهو نتيجة طبيعية لتطرف بطرس, لأنه برفضه خدمة التواضع التي قدمها له المسيح, برهن على أنه كان بعيداً عن "روح المسيح". "ومن ليس له روح المسيح فذلك ليس له. هذا يؤيده قول المسيح "الحق الحق أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل هؤلاء الأولاد, فلن تدخلوا ملكوت السموات. فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السموات". (متى 18: 1 - 4).
9قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي». 10قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى
عدد9 و10. الدور الثالث – بطرس مندفعاً متطرفاً "قال له سمعان بطرس يا سيد ليس رجلي فقط يل أيضاً يدي ورأسي" إن هذا القول يرسم أمامنا صورة وافية لبطرس
كما عهدناه في اندفاعه, وتطرفه. فمن الرفض بإباء في عدد 8, إلى رفض ذلك الرفض, بنفس ذلك الإباء. قبلاً رفض رغبة المسيح, والآن نراه طالباً أكثر مما رغب المسيح. لم يطلب المسيح منه سوى غسل رجليه, لكنه بعد أن رفض بتطرف, عاد فطلب غسل رجليه, وزاد عليهما يديه, ورأسه. هذا هو بطرس بعينه الذي نراه ي سائر البشائر. ففي لحظة يندفع ليمشي على الماء. وبعد لحظة أخرى يصرخ قائلاً: "إني هلكت". بغير استئذان, يقطع أذن عبد رئيس الكهنة, وفي لمح البصر يهرب كالجبان. في برهة يندفع داخلاً بيت رئيس الكهنة, وبعد هنيهة , ينكر سيده أمام جارية. مثله مثل "رقاص الساعة", لا ينتقل من أبعد نقطة عن اليسار إلا إلى أبعد نقطة عن اليمين. وأما الموقف الوسط فلا يعرفه.
عدد 10 جواب المسيح: "قال له يسوع الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه". كلمة: "اغتسل" تختلف في الأصل, عن كلمة "غسل". فالأولى تعني كل الجسد بالاستحمام في الصباح, وهي ترمز إلى غسل الميلاد الثاني دفعة واحدة عند التجديد - هذا الفعل لا يتكرر في اختبار المؤمن. ولكن الثانية, تعني تنظيف القدمين مما علق بهما من غبار
غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». 11لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ».12فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضاً قَالَ لَهُمْ:
الطريق اليومي. وهي ترمز إلى عملية التقديس التي تتكرر مراراً في اختبار المؤمن. من أجل هذا, قال المسيح لبطرس: "الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه". أراد المسيح أن يعلم بطرس وسائر التلاميذ, درساً في التواضع, بغسل الرجلين. لأن هذا العمل يتطلب انحناء. وأما غسل اليدين أو الرأس, فلا شيء فيه من معنى التواضع. (راجع شرح عدد 5).
ما أسرع انتقال المسيح من الماديات إلى الروحيات (4: 13)! فمن الكلام عن الغسل المادي انتقل إلى الكلام عن الطهارة الروحية "بل هو طاهر كله" وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم" – لأن بينهم واحداً لم يكن قد اغتسل بعد بغسل الميلاد الثاني. فلم يكن قد تطعم بعد, في الكرمة الحقيقية. وهذا الواحد هو الذي كان أحوجهم إلى ما طلبه بطرس _ إلى غسل الرجلين, وأيضاً اليدين والرأس. هذه أول إشارة خفية إلى خيانة يهوذا, الوشيكة الظهور, بل ربما كانت هذه أول نبرة من ذلك الصوت العلوي, الذي أريد به رد يهوذا عن ضلال طريقه. ولكن ما نفع الأصوات, لمن قد وضع أصابعه في أذنيه!!
عدد 11. كلمة تفسيرية: "لأنه عرف مسلّمه.." هذا دليل على أن المسيح لم يؤخذ بخيانة يهوذا على غرة.
«أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ 13أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. 14فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ 15لأَنِّي
المسيح يوضح لتلاميذه مغزى هذا الحادث (13: 12 - 20). تكلم المسيح في هذا الفصل عن أمرين: (1) عظيم القوم خادمهم (13: 12 - 17). (2) وجود الحصى بين الجوهر (13: 18 - 20).
عدد 12 - 17. (1) عظيم القوم خادمهم (13: 12 - 17). بعد أن أتم المسيح هذه الخدمة الجليلة, لبس ثيابه التي كان قد خلعها, وعاد فاتكأ. ثم فتح فاه قائلاً: "أتفهمون ما قد صنعت بكم. أنتم تدعونني معلماً وسيداً. وحسناً تقولون. لأني أنا كذلك". من هذا نفهم أن التلاميذ كانوا يطلقون على السيد لقبين: أولهما "معلم" - وهو يصف المسيح في تنويره العقل والقلب. وثانيهما: "سيد" وهو يصف المسيح في تسلطه على الحياة, وسيادته عليها, وامتلاكه إياها. اللقب الأول تقابله في اللغة الآرامية, كلمة: "رباي". والثاني تقابله كلمة "مار". اللقب الأول يفترض أن تابع المسيح تلميذ له. واللقب الثاني أنه عبد له. وقد ذكر هذان اللقبان من الأدنى إلى الأعلى - "معلم", "سيد", على سبيل التدرج.
عدد 14 و15. مثلنا الأعلى "فإن كنت .... لأني أعطيتكم مثالاً, حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً" – هذا هو مثلنا الأعلى. ظن فريق من المسيحيين أن المسيح أراد حرفية هذا العقل بقوله: "فأنتم
أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. 16اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ
يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض". فأصدر مجمع توليدو قراراً سنة 694 ميلادية, يقضي بضرورة ممارسة هذا الفعل كفريضة, في أسبانيا والغال, مساء "خميس العهد" من كل سنة. وإلى يومنا الحاضر, يمارسها رئيس الكنيسة الرومانية, في حفل حافل, تحف به مظاهر الأبهة والجلال, وترنم له أناشيد الإطراء والتمجيد. وكان ملوك انجلترا يمارسون هذه العادة كفريضة, حتى أيام حكم جيمس الثاني. على أن المسيح لم يقصد شكل ذلك القول ولا صورته, لأن الشكل والصورة, أوحت بهما ظروف الحادثة المحلية. وهما عرضة للتقلب, حسب مقتضيات الظروف الملابسة لهما. فقد تتخذ هذه الخدمة شكل التنازل عن حق, أو "شكل" البدء بالاستغفار بين شخصين متنابذين, أو "شكل" الصبر على الأذى, بقلب صفوح غافر. "فالشكل" ليس بذي خطر, ولكن "الموضوع" ذو خطر بعيد الأثر.
إن المبدأ الذي قصده المسيح, هو: أن العظمة الحقيقية, هي العظمة متواضعة. وأن التواضع الحقيقي هو التواضع خادماً, وأن الخدمة الحقيقية هي الخدمة مخلصة ومخلصة. وأن عظيم القوم خادمهم. ومما يجدر بنا ملاحظته إن المسيح, وإن يكن مثالاً لنا في كل شيء - في المحبة, والطهارة, والكمالات الأخلاقية, إلا أنه بنوع خاص مثال لنا في التضحية (2 بطرس 2: 6).
عدد 16. السيد مثال للعبد. من المحال, أن يكون العبد أحقر من
أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. 17إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ.18لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ.
أن يقوم بعمل قام به سيده من قبل. أو أن يكون الرسول أشرف من أن يؤدي رسالة, قد سبقه سيده في تحمل أعبائها. ولقد ورد ذكر هذا المبدأ في مناسبات أخرى (لوقا 6: 4 ومتى 10: 24 و25).
عدد 17. تطويب العالم العامل. هنا أضاف المسيح تطويبة جديدة إلى قائمة التطويبات التي استهل بها موعظته على الجبل (متى 5) - أعني بها "الطوبى" التي ينالها العالم العامل: "إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه". سهل على المرء أن يعرف لزوم خدمة الآخرين, وأسهل منه أن يتكلم عن اللذة الكامنة في القيام بخدمتهم, لكن من الصعب جداً أن يطبق الإنسان العلم على العمل سيما في هذا الباب. وأن من يقوى على هذا, هو السعيد حقاً.
إن المسيحية الحقيقية, هي المسيحية الخادمة - لا من المنبر, "الكلام واللسان", بل في سبيل الحياة, "بالعمل والحق".
(2) وجود الحصى بين الجواهر (13: 18-20).
إن غبطة التلميذ الحقيقي, المقدم نفسه قرباناً على مذبح خدمة الآخرين, تقابلها شقاوة ذلك "التلميذ الزائف" الذي قدم سيده على مذبح منفعته الذاتية. هذا هو الفكر الذي يربط هذا الفصل بسابقه. فبعد أن تكلم المسيح والسرور يطفح على محياه, عن سعادة التلميذ الحقيقي, تكلم والحزن يملأ قلبه, عن شقاوة يهوذا الذي "أكل معه الخبز" مدة ثلاث سنوات - والثلاثة عدد كامل - وفي نهايتها "رفع عليه عقبه". "لست أقول عن
أَنَا أَعْلَمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ. لَكِنْ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ: اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ. 19أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ
جميعكم أنا أعلم الذين اخترتهم" – ليس هذا اختيار التلاميذ للخلاص قبل تأسيس العالم, وإنما هو اختيارهم للتلمذة والرسولية منذ بدء خدمة المسيح الجهرية . ومع أن المسيح كان "يعلم الذين اختارهم, لكن" - اختار يهوذا وهو عالم به هو أيضاً - "ليتم الكتاب" - القائل - "الذي يأكل معي الخبز رفع على عقبه". ورد هذا القول في مزمور 41: 9 ومع أنه ينطبق مبدئياً على أخيتوفل مشير داود وخائنه, إلا أنه ينطبق كمالياً على يهوذا الإسخريوطي تلميذ يسوع, ومسلمه . إن رفع العقب بعد الأكل هو من عمل الحيوان الناكر الجميل, الذي بعد أن يأكل العلف يرفس صاحبه. وقد استعملت هنا مجازياً للتعبير عن جحود الإنسان, وتعمده الأذى, والغدر. ومن المؤسف أن الإنسان, قد يهوى إلى درك الحيوان, وقد يمسي أحط وأسفل: "الثور يعرف قانيه, والحمار معلف صاحبه . أما شعبي فلا يعرف" ( إشعياء 31: 3).
يستنتج من قوله "ليتم الكتاب", إن خيانة يهوذا, لها مكانها في تدبير الله الأزلي. والظاهر أن يوحنا استعمل هذه العبارة "ليتم الكتاب" من قبيل القول: "مصداقاً لما جاء في الكتاب" (أنظر أيضا ً18: 9 و17: 12).
عدد 19. حجر عثرة يستحيل إلى حجر معونة: "أقول لكم قبل أن يكون" - أي قبل أن تظهر خيانة يهوذا - "حتى متى كان" - أي
حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ. 20اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي وَالَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
متى تمت هذه الخيانة وبانت لكم - "تؤمنون إني أنا هو". لولا هذا التصريح الذي أفضى به المسيح إلى تلاميذه عن خيانة يهوذا قبل ظهورها, لصارت لهم حجر عثرة. أما وقد نبههم الفادي إلى الخطر قبل وقوعه, فمتى وقع بعد هذا التنبيه, أضحى وقوعه "حجر معونة" في صرح إيمانهم, إذ يتأكدون حينئذ أن فاديهم يعلم بالمستقبل, علمه بالحاضر والماضي . ويعتقد المفسر وايس, إن خيانة يهوذا صارت سبباًًً في ازدياد إيمان التلاميذ بالمسيح. لأنها عجلت بالصليب, والقيامة, والصعود - وبهذه الخطوات,أعلن لهم سيدهم, رباً ومسيحاً.
عدد20. مجد الرسول مشتق من مجد مرسله: "الحق. الحق. أقول لكم الذي يقبل من أرسله يقبلني والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني". بعد أن تكلم المسيح في عددي18 و19, عن شقاوة يهوذا, عاد إلى كلامه الذي بدأه في عددي 16 و17 عن غبطة التلاميذ الحقيقي, فأكد لتلاميذه في هذا العدد أن الرسول الأمين لا تفترق عنه شخصية مرسله: "الذي يقبل من أرسله يقبلني والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني". في عدد 16 قرر المسيح أن الرسول ليس بأعظم من مرسله, وفي هذا العدد أكد, أن الرسول ليس دون مرسله.
إذا كانت الكلمات تبين عظمة مكافأة خادم المسيح الأمين, فهي أيضاً تصف المكافأة العظمى التي يحظى بها من يرحبون بخدام المسيح, كما أنها تحدد المسؤولية الخطيرة الواقع تحتها من يرفض خدام العلي.
21لَمَّا قَالَ يَسُوعُ هَذَا اضْطَرَبَ بِالرُّوحِ وَشَهِدَ وَقَالَ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي». 22فَكَانَ التّلاَمِيذُ
ثانياً. المسيح يميط اللثام عن يهوذا ( 13: 21 - 30).
هذا هو العمل الثاني الذي به نقى المسيح تلاميذه في تلك الليلة الوداعية إذ انتزع من بينهم ذلك العضو الدخيل - يهوذا الإسخريوطي - الذي تمثلت فيه الآمال العالمية التي كانت تنتظر مسيحياً سياسياًًًًًًًًًً أرضياً غير المسيح المخلص الروحي, فاصطدمت بصخره وتحطمت.
عدد 21. شعور المسيح تجاه هذا الحادث المروع. يحدثنا هذا العدد عن أمرين - أولهما مبلغ إحساس المسيح بهذا الحادث الجلل: "لما قال يسوع هذا" - أي كلامه عن خيانة يهوذا - "اضطرب بالروح". ليس هذا اضطراب الخوف أو الجزع, وإنما هو شعور عميق روحي تولد في روح الفادي الإنسانية, تجاه أكبر خيانة في التاريخ, لأن المخلّص, رأى وراء هذه الخيانة, شبح يهوذا الذي كان واحداً من أتباعه, ووراء يهوذا الخائن شبح إبليس الغادر الذي استجمع كل قواه لمحاربة قدوس الله (راجع شرح 11: 33).
الأمر الثاني: تصريح المسيح من خلال هذا الشعور: "وشهد وقال الحق. الحق. أقول لكم إن واحداً منكم سيسلمني", لقد صرّح المسيح في هذه العبارة, بما سبق فلمّح به في عددي 10 و18, كما تدل عليه كلمة: "شهد". إن قوله: "الحق الحق", يعطي لهذا التصريح يقينية أكيدة.
عدد 22. حيرة التلاميذ الناشئة عن عدم ثقتهم ببعضهم البعض,
يَنْظُرُونَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَهُمْ مُحْتَارُونَ فِي مَنْ قَالَ عَنْهُ. 23وَكَانَ مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ.
وعن شكهم في أنفسهم: "فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون في من قال عنه". لم يكن شك التلاميذ متجهاً إلى كلام الفادي, بل كان منصبّاً على أشخاصهم. ويحدثنا متّى البشير (متى 26: 22 و25) أنهم "حزنوا جداً وابتدأ كل واحد منهم يقول له هل أنا يا رب؟" ومن العجيب أن يهوذا أيضاً سأل قائلاً: "هل أنا هو يا سيد"!. والظاهر أن المسيح أجاب على تساؤلهم جميعاًً, بذلك الجواب العملي الذي دونه يوحنا في عدد 26.
عدد 23 - 25. بطرس ويوحنا يحاولان أن يتعرفا شخصية الخائن: كان المسيح وتلاميذه متكئين حول مائدة العشاء, فكان كل منهم متوكئا ًبذراعه اليسرى على وسادة, مسنداً رأسه, وهو يأكل بذراعه اليمنى, وماداً رجليه إلى الخلف. وعلى هذا الوضع, كان رأس كل منهم قريباً من صدر المتكئ عن يساره - هذا معنى القول "متكئاً في حضنه". لأن هذا هو المكان الذي كان يشغله يوحنا بالنسبة إلى المسيح في هذا العشاء الأخير. لذلك قال البشير "وكان متكئاً في حضن يسوع واحد من تلاميذه. كان يسوع يحبه" – قاصداً نفسه بهذا لقول. فقد أجمع كل مؤرخي العصور الأولى على أن يوحنا البشير هو المعني بالقول: "واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه" (عدد 23).
راجع المقدمة العامة في صدر هذا التفسير, تظهر لك هذه الحقيقة.
24فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ. 25فَاتَّكَأَ ذَاكَ عَلَى صَدْرِ يَسُوعَ وَقَالَ لَهُ: «يَا سَيِّدُ مَنْ هُوَ؟» 26أَجَابَ يَسُوعُ: «هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ». فَغَمَسَ
عدد 24. بطرس يومئ إلى يوحنا ليتعرف حقيقة الأمر. يستفاد من كلمة "أومأ", أن بطرس كان متكئاً قبالة يوحنا, وغالباً كان بعيداً عنه حتى أنه استعمل الإيماء دون الكلام, وأنه (بطرس), لم يكن متكئاً في جوار المسيح, وإلا كان قد سأله هذا السؤال بنفسه, من غير أن يوسط يوحنا. فيا ترى ما هو قول الذين يحتكرون الزعامة لبطرس دون سواه من الرسل؟!
عدد 25: يوحنا يلبي نداء بطرس: لبى يوحنا النداء, الذي استوحاه إليه بطرس, بإيمائه فمال بذراعه اليسرى ولامس صدر يسوع. وقال: "يا سيد من هو"؟
عدد 26. جواب المسيح: قضت عادة اليهود, في ممارستهم الفصح, أن يتصدر رب العائلة مائدة العشاء, ويقدم لضيوفه قطعة من لحم, أو لقمة خبز, مغموسة في خلاصة فاكهة ممزوجة بعصير العنب. فاتخذ المسيح من هذه العادة القديمة, أداة بها أجاب بها يوحنا, جواباً عملياً, على سؤاله الذي أوحى به بطرس إليه. وكان هذا الجواب العملي, متفقاً عليه
بين المسيح ويوحنا وحدهما: "فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا الإسخريوطي". لم يكن إذاً في إعطاء هذه اللقمة ليهوذا أي إحراج لمركز يهوذا ولا ثمة تحريض له على القيام بفعلته الشنعاء. فقد كان في إمكان يهوذا أن يرى في
اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإسخريوطي. 27فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ
اللقمة علامة جديدة من علائم محبة المسيح له – تلك المحبة التي لا تعرف نهاية لأنها أزلية لا بداية لها. لكنه بدلا من أن يفتح قلبه لعوامل الخير, فتحه للشيطان, وأدخله إليه على الرحب والسعة, وبدلاً من أن يتشدد بالرب, تقوى بالشيطان.
عدد 27 (1) الشيطان يحتل قلب يهوذا احتلالاً مؤبداً. "فبعد اللقمة دخله الشيطان". كما أن دخول الروح القدس قلب إنسان ما, يتم تدريجياً, وبإرادة الإنسان نفسه, كذلك دخول الروح النجس, يتم أيضاً تدريجياً (عدد 2), ويرضي الإنسان نفسه.
ظن بعضهم خطأ أن دخول الشيطان قلب يهوذا, كان نتيجة تأثير سحري, فعلته اللقمة في قلب يهوذا. لكن بطلان هذا الظن, يتضح لنا, متى ذكرنا أن الشيطان لم يدخل قلب يهوذا مع القمة, بل بعدها. فكأن هذه اللقمة كانت آخر شعاع من نور المحبة, وجهه المسيح إلى قلب يهوذا. وإذ رفضه يهوذا, أدخل نفسه إلى ظلمة الليل الدامس طائعاً مختاراً.
عدد 27. (ب) رسالة المسيح الأخيرة إلى يهوذا: "فقال يسوع ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة". ليس في هذا القول, تصريح ولا تحريض من المسيح ليهوذا, بأن يشرع في أمر لم يكن قد بدأ به, لكنه حث من المسيح ليهوذا, لينجز ما سبق فشرع فيه بنيته – والأعمال بالنيات. فلم يقل له المسيح: ما أنت "ستهمله" بل: ما أنت "تعمله" – أي ما قد شرعت
فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ». 28وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ لِمَاذَا كَلَّمَهُ بِه 29لأَنَّ
فيه فعلاً, أنجزه بسرعة. هنا ذكر المسيح تصريحاً, ما فاه في عدد 24 تلميحاً.
الآن, وقد وطن يهوذا نفسه على فعل الشر, وأدخل نفسه, باختياره, في منطقة العدو, رغم كل نداء, معتقداً بأن السيد صار في قبضة يديه, لم يجد المسيح بداً من أن يستحثه على إتمام مأموريته التي شرع فيها, سيما وأن الليل قد أرخى سدوله (عدد 30), والفادي يريد وقتاً يخلو فيه إلى خاصته ليبوح لهم بأسرار قلبه قبيل ساعة الوداع, فلا مندوحة من أن يزيح هذا "الحاجز" الآدمي الكثيف الذي كان يحول دون كشفه مكنونات قلبه لتلاميذه. وفوق هذا, فإن المسيح أراد أن يعبر بهذه الكلمات عن استعداده التام لمواجهة الصليب لأن يهوذا وسيده الجديد, عاجزان عن صلب المسيح لو لم يرد هو.
يعتقد الدكتور إدي أن هذا إذن من المسيح ليهوذا, على قياس إذن الله لبلعام حينما كان مع رسل بالاق (عدد 22: 20), وعلى نمط قول المسيح للفريسيين "إملأوا أنتم مكيال آبائكم" (متى 23: 32).
عدد 28. عدم فهم المتكئين مغزى هذه الرسالة. "وأما هذا". إن إشارة البشير إلى يهوذا بكلمة "هذا" بدلا من ذكره اسمه – في هذا العدد وفي عدد 30 – لدليل على أن يهوذا لم يعد محسوباً فيما بعد في عداد الرسل. "فلم يفهم أحد من المتكئين" – إلا يوحنا البشير (عدد 26) - "لماذا كلّمه به".
عدد 29. تأويل بعضهم لهذه الرسالة, وعلة هذا التأويل: "لأن
قَوْماً إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِيدِ أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلْفُقَرَاءِ.30فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ
قوماً" – أي بعضاً منهم – "إذ كان الصندوق مع يهوذا" – وهل كان هذا الصندوق علة انحدارك إلى الهاوية يا يهوذا؟! فيا ويلنا من الصناديق الخاوية التي تكسر القلب بخلوها, ويا ويحنا من الصناديق المليئة التي تحجر قلوبنا بوفرتها – "ظنوا أن يسوع قال له اشتر ما نحتاج إليه للعيد" – من هذا يستنتج أن الفصح اليهودي لم يكن قد ابتدأ بعد, وإلا لما جاز الشراء فيه. لأن كل يوم فيه, سبت. فضلاً عن ذلك, فإن كل "لوازم" العيد كانت تشترى قبيل العيد, قبل إعداد حمل الفصح. إذاً قد مارس المسيح و تلاميذه فصحاً جديداً قبل الفصح اليهودي, بيوم واحد (راجع عدد 1).
ألا تلقي هذه الكلمات نوراً على أخلاق يهوذا الشاذة؟ إن في تكتمه الشديد, وإخفائه نياته عن زملائه, دليلاً على أنه لم يكن منهم, على رغم كونه معهم.لأن له تدبيرات ومؤمرات لا يطلع عليها أحداً.
عدد 30. الليل المزدوج: "فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت. وكان ليلاً". هذا ليل مزدوج – ليل طبيعي وليل معنوي. وكذلك حرص البشير على أن يربط بعض الأعمال بما يناسبها من الملابسات الطبيعية المحيطة بها انظر (10: 30). إن الوقت الذي ارتكب فيه بطرس خطيته, غير الوقت الذي اقترف فيه يهوذا جريمته. فبطرس أنكر السيد عند إقبال السحر, ويهوذا باع مولاه عند إقبال الليل الدامس. فخرج بطرس من خطيته إلى فجر خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً. 31فَلَمَّا
التوبة, الذي أعقبه صبح الغفران. وخرج يهوذا من خطيته إلى ليل داج ظلامه, فالتقت ظلمة الليل الطبيعي, بظلمة قلبه الطبيعي الغير المتجدد.
يحاول بعض المفسرين أن يعين الوقت الذي فيه رسم المسيح فريضة العشاء الرباني في هذه البشارة. فيميل هنجستنبرج إلى وضع هذه الفريضة ما بين عددي 27 و30. ويعتقد جودي أن توزيع الخبز حدث قبل الكلام الذي في عدد 18, وأن توزيع الكأس بعد الكلام المدون في عدد 30 ولكننا نعترف أن تقرير هذا الأمر بالضبط, ليس ميسوراً لنا.
الخطاب الوداعي – (1) حديث العلية (13: 31 - 14: 31).
ينقسم هذا الفصل إلى قسمين رئيسيين:
أولاً: افتراق المسيح عن تلاميذه: ماهيته, وضرورته, ونتيجته (13: 31 – 35).
ثانياً: أربع محادثات دارت بين المسيح وبعض تلاميذه (13: 36 - 14: 31).
المحادثة الأولى – بين بطرس والمسيح – (13: 36 – 38).
كلمة تشجيع للتلاميذ – (14: 1 – 4).
المسيح المحادثة الثانية – بين توما والمسيح – (14: 5 و6).
والآب كلمة ترغيب للتلاميذ – (14: 7).
المحادثة الثالثة – بين فيلبس والمسيح – (14: 8 – 11).
المسيح وإتيانه إلى تلاميذه – ثلاث مزايا - (14: 12 – 21). المحادثة الرابعة – بين المسيح ويهوذا ليس الإسخريوطي (14: 22 – 26).
كلمة ختامية للشطر الأول من الخطاب الوداعي (14: 27 - 31 ).
خَرَجَ قَالَ يَسُوعُ:
(1) افتراق المسيح عن تلاميذه –ماهيته, وضرورته ونتيجته (13: 31 – 35). الآن, قد انعزل من التلاميذ, ذلك العنصر الممثل للظلام, وكان خليقاً به حقاً أن "يخرج في الظلام", فيتلاءم ظلام الطبيعة الخارجي, وظلام نفسه الباطني, ويكون الظرف الخارجي متناسباً مع الحالة الداخلية. وفي الوقت نفسه خلا الجو لرب النور, فانفرد بأبناء النور, فاطمأن إليهم, وحدثهم بلغة المحبة التي تأبى أن يعكر صفاءها وجود عدو أو رقيب, عن:
(أ) مجد الصليب – (13: 31 و32) (ب) دنو ساعة افتراقه عنهم 13: 33). (ج) الشعار لذي تركه لهم في غيابه (13: 34 و35). (د) التدريب اللازم لهم, قبل أن يشاطروه أمجاده (13: 36 – 38).
عدد 31. مجد الصليب: "فلما خرج" – يهوذا من تلقاء ذاته - "قال يسوع: الآن تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه" – إن حرف الفاء الذي به بدئ هذا العدد, يدل على أن لكلمات المسيح المدونة في هذين العددين, صلة قوية بخروج يهوذا.
تبين لنا هذه الصلة من ملاحظة أمرين. أولهما – أن خروج الخائن من مجلس المسيح وأحبائه يعد بمثابة إزاحة حاجز كان عائقاً لحرية التعبير, بين قلب المسيح وقلوب أحبائه. لأن زهرة المحبة لا تتفتح إلا في جو يسوده الصفاء, والإخلاص, والمودة. وثانيهما – أن خروج يهوذا كان أول خطوة تنفيذية في الإتيان بالصليب, مما جعل المسيح يرى الصليب ماثلاً أمامه
«ﭐلآنَ تَمَجَّدَ
كحقيقة قد تمت, وقلبه عامر بالثقة والظفر, فصرح بهذه الكلمات بنغمة الهتف والتمجيد: "الآن تمجد ابن الإنسان...". أراد بقوله: "الآن", أن وقت خدمته على الأرض, على وشك الانتهاء بموته. وقد وردت كلمة "تمجد" بصيغة الماضي, للتحقيق لأن خروج يهوذا كان أول حلقة من سلسلة حلقات متصل بعضها ببعض تمام الاتصال, فهي الخطوة العملية المؤدية للقبض عليه, فمحاكمته, فصلبه, فقيامته, فصعوده, فجلوسه عن يمين العظمة في الأعالي. وأن وقوع أول حلقة من هذه الحلقات المتماسكة كان بمثابة انفراط السلسلة كلها, لذلك قال المسيح "الآن تمجد" مع أن هذه كانت بداية التمجيد. لأن الماضي أدخل في حكم الحاضر والماضي, "باعتبار ما سيكون". وقد اختار المسيح لنفسه, في هذا الظرف, لقب "ابن الإنسان", بياناً أنه لم يبلغ التمجيد المقصود هنا إلا باتضاعه. إن اتضاع المسيح يسير جنباً إلى جنب مع تمجيده – حتى في بشارة يوحنا التي عرف عنها أنها "بشارة لاهوت المسيح".
أما التمجيد الذي ذكره المسيح في هذين العددين, فهو تمجيد مثلث: (1) ابن الإنسان تمجد بالصليب: "الآن تمجد ابن الإنسان". (2) الله تمجد في ابن الإنسان: "وتمجد الله فيه" (عدد 31). (3) ابن الإنسان تمجد وسيتمجد في ذات الله: "فإن الله سيمجده في ذاته" (عدد 32).
(1) ابن الإنسان تمجد بالصليب: "الآن تمجد ابن الإنسان". عجيب أن يكون الصليب أداة تمجيد للمسيح. فالصليب رمز العار, واللعنة.
ابْنُ الإِنْسَانِ
لأن "المعلق على الخشبة ملعون" (تثنية 21: 23). فكيف يتأتى لرمز اللعنة والعار, أن يصير أداة للمجد والفخار؟!
صار الصليب وسيلة لتمجيد المسيح, من وجهين – أولهما: أن الصليب هو أكمل مظهر لأعظم نصرة أحرزها المسيح. فمع أن المسيح أظهر قوة فائقة في صنعه المعجزات, ومع أنه رأى الشيطان نازلاً مثل البرق من السماء حين أذاع رسله كلمة بشارته, إلا أنه على الصليب, جلس على عرش الحياة والقوة, لأن الصليب كان أكمل مظهر لأبهى انتصاراته. هنالك استجمع الشيطان كل قواته على أمل أن يظفر بالمسيح في معركة فاصلة, فكان الصليب معركة فاصلة حقاً – ولكن في جانب المسيح. ففي الصليب كسر المسيح شوكة الخطية, "إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض, الذي كان ضداً لنا, وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب. إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً, ظافراً بهم فيه" (كولوسى 2: 14 و15). ثانيهما: أن الصليب هو أعظم مظهر لمجلي محبته المضحية للبشر. وفي إعلان هذه المحبة للبشر, تمجيد للمسيح. نعم ظهرت محبة المسيح المضحية, في رضاه أن يتسربل لباس البشر, وفي ميلاده في المذود, وفي رضاه أن يعلم الخطاة المحتقرين الأشقياء, وفي إبرائه العمى, والبرص, والجدع, إلا أن محبته للبشر تجلت في أكمل مظاهرها على الصليب, لأنه في تجسده تنازل عن مقامه. وفي تعاليمه جاد على البشر بكلامه. وفي معجزاته منّ على البشر بقوة من قواته. لكنه على الصليب, جاد على البشر بنفسه وحياته, إذ بذل
وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ. 32إِنْ كَانَ اللَّهُ
دمه – والدم هو النفس – هذا أقصى غاية الجود. إن محبة المسيح المضحية, منشورة باستمرار في كلام حكمته, وأعمال قدرته. لكن على الصليب, قد تركزت أشعة أنوارها في نقطة واحدة مضيئة, لامعة, ملتهبة, ملهبة.
(2) الله تمجد في ابن الإنسان: "وتمجد الله فيه". إن أسرار المعلنات الإلهية تزداد عمقاً, كلما تقدمنا في هذه البشارة. ليس بعجيب أن يتمجد الله في ابن الإنسان, ولكن وجه العجب أن يتمجد الله في موت ابن الإنسان البريء, موت مجرم أثيم؟ فأين إذاً جزاء الفضيلة؟ بل أين العدالة الإلهية؟ بل أين سلطان الله المسيطر على الكون؟ إن الجواب على هذه الأسئلة, وعلى سواها, نجده متى ذكرنا أن ابن الإنسان الذي رفع على الصليب وهو بار, قدم للعالم صورة جلية واضحة لمحبة الله وعطفه على البشر "أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه. غير حاسب لهم خطاياهم" (2كورنثوس 5: 19) فإذا كانت كلمات المسيح هي مجلى حكمة الله, وإذا كانت أعماله, مظهر قدرته, فإن صليبه هو مجلى محبة الله البار, للبشر الفجار. على الصليب تكلمت محبة الله للناس بلغة بليغة واضحة, مؤثرة, مفتنة للقلوب الحجرية.
عدد 32. (3) ابن الإنسان تمجد وسيتمجد في ذات الله: "إن كان الله قد تمجد فيه" – في ابن الإنسان - "فإن الله سيمجده في ذاته" – أي في ذات الله- " ويمجده سريعاً". إن خير تفسير لهذه الكلمات, نجده في قول
قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً. 33يَا أَوْلاَدِي أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي
المسيح في 17: 4 و5 "أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجدني أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم". إن تمجيد ابن الإنسان. المذكور في العدد السابق, هو تمجيد علني أمام الناس, لكن تمجيده المذكور في هذا العدد, هو تمجيد سري خاص, فيه يرفع ابن الإنسان, ويقبل إلى المجد الذي يتمتع به الآب ذاته, فيكون الجو المحيط به مجداً في مجد (راجع 1: 18). إن كلمة: "في ذاته" تتمشى مع كلمة: "فيه". فالجزاء من جنس العمل والوقت المقصود في قوله: "سيمجده سريعاً". هو وقت قيامته وصعوده بعد أن أكمل الفداء.
عدد 33. افتراق المسيح عن تلاميذه: "يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد..". من التفكير في الصليب وما يجلبه له من مجد, انتقل المسيح بفكره إلى تلاميذه, وما يصيبهم بعد أن يرفع هو عنهم, فالتفت إليهم بوجه يفيض عطفاً, وحنواً, ورقة, ووجه إليهم الخطاب, قائلاً: "يا أولادي. أنا معكم زماناً قليلاً بعد", إن هذه الكلمة الرقيقة: "يا أولادي" لم ترد سوى هذه المرة وحدها في كل البشائر, وقد أوحى بها ذلك الظرف الخاص, الذي شعر فيه المسيح, بأن تلاميذه سيكونون يتامى, بعد افتراقه عنهم. ولقد عبر الفادي أجمل تعبير عن شعورهم في وحشتهم, بقوله: "ستطلبونني" كان المسيح للتلاميذ خير عضد وسند, فهو الآب, والمرشد, والمؤدب.
وَكَمَا قُلْتُ لِلْيَهُودِ: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآنَ. 34وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ:
لقد عرفهم وعرفوه, فتركوا الاشتغال بأعمالهم الاعتيادية, وانصرفوا عن دينهم الأصلي – اليهودية, واعتنقوا المسيح ديناً لهم. ومن المحقق أن غيبته عنهم, في وقت قيام اليهود عليهم, ستشعرهم بمسيس الحاجة إليه – وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. عندئذ يتمنون اللحاق به ولكن هيهات! "وكما قلت لليهود" – منذ ستة أشهر – "حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا" – 7: 34 و8: 21, "أقول لكم أنتم الآن" – لأنكم لستم مستعدين بعد للحاق بي. على أن عجز التلاميذ عن اللحاق بالمسيح يختلف عن عدم قدرة اليهود على اللحاق به, في أنه عجز التلاميذ, وقتي. فالنبرة في كلام المسيح لليهود واقعة على كلمة "لا تقدرون", وفي كلامه مع التلاميذ, واقعة على كلمة: "الآن". فمتى انقضت هذه الفترة الإعدادية التي سيكمل فيها التلاميذ سعيهم, يأتي المسيح "ويأخذهم إليه" (14: 3). ولكن عجز اليهود كان حكماً عليهم, قضت به طباعهم العنيدة, والبعيدة عن الإيمان. وهو لمزيد الأسف حكم نائي لا استئناف له, ولا يقبل نقضاً ولا إبراماً.
عدد 34 و35. شعار التلاميذ في غيبة سيدهم – أو الوصية الجديدة: "وصية جديدة أنا أعطيكم ....". قد نعجب لقول المسيح عن المحبة أنها: "وصية جديدة", لعلمنا أن هذه الوصية وردت في لاويين 19: 18. فبأي معنى إذا, اعتبرها المسيح "وصية جديدة"([1])؟ يقول ناب, إن هذه وصية
أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. 35بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ
جديدة في قياسها – لأن قياسها كان قبل المسيح: "تحب قريبك كنفسك". فأضحى, مذ أن نطق بها المسيح: "تحب قريبك أكثر من نفسك", "مقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة", "حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسكم" (رومية 12: 10 وفيلبي 2: 3). ويقول أولزهوزن: إنها "جديدة" بمعنى أنها "متجددة على الدوام". ويقول أوغسطينوس إنها "وصية مجددة". وفي اعتقادنا أن المحبة التي أوصى بها المسيح تلاميذه, جديدة في نوعها, وفي مثالها, وفي الباعث لها, وفي غايتها: "كما أحببتكم". "فإنه بالجهد يموت أحد لأجل بار. ربما لأجل الصالح بحسر أحد أيضاً أن يموت. ولكن الله بين محبته لنا, لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو 5: 7 و8). إن محبة اليهودي لليهودي, مبعثها الاعتقاد بأن الله اختار اليهود ليكونوا له شعباً خاصاً. لكن محبة المسيحي للمسيحي, ولغير المسيحي مستمدة من الاعتقاد بأن المسيح مات لأجل الأعداء, فهو يحبهم "في المسيح". إن قوله "كما أحببتكم" لا يقتصر على وصف المحبة في قياسها, بل يصفها أيضاً في طبيعتها, وفي جوهرها.
علاوة على الباعث المذكور في عدد 34: "كما أحببتكم", أضاف المسيح, باعثاً آخر في عدد 35: "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب" – أي أن محبتهم لبعضهم البعض, هي الميزة الخاصة التي تميزهم عن سواهم, في غيبة سيدهم عنهم, فهي إذاً رمز حضورهم معهم,
بَعْضاً لبَعْضٍ».36قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟»
وشعاره الدائم الذي خلعه عليهم. وقد تم هذا فعلاً. قال مينوتيوس فيلكس: "لقد نجح سيدهم في إقناعهم بأنهم جميعاً اخوة". وقال طرطليانوس: "لقد دهش الوثنيون من محبة المسيحيين لبعضهم البعض حتى الموت".
منذ الآن حتى نهاية الأصحاح الرابع عشر سنستمع لأربع محادثات جرت بين المسيح وبعض تلاميذه.
عدد 36 – 38. المحادثة الأولى – بين بطرس والمسيح.
عدد 36. (أ) سؤال بطرس "قال له سمعان بطرس يا سيد إلى أين تذهب؟"([2]) هذه أول حلقة من سلسلة أسئلة ألقاها التلاميذ على المسيح, بعد أن سمعوا كلامه عن مبارحته لهم. ومن يكون البادئ بهذه الأسئلة, سوى بطرس كليمهم؟! ولاشك في أن بطرس كان مخلصاً في سؤاله هذا, لأنه أراد أن يتحاشى به افتراق المسيح عنه وعن سائر التلاميذ, بعد أن سمع من فم المسيح هذه الكلمة الأليمة: "حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا (عدد 33). على أن بطرس, في سؤاله هذا, كان مدفوعاً أيضاً برغبته في أن تكون له الأسبقية على سائر التلاميذ في التضحية والإقدام.
أَجَابَهُ يَسُوعُ: «حَيْثُ أَذْهَبُ لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي وَلَكِنَّكَ
(ب) جواب المسيح: "أجابه يسوع. حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني. ولكنك ستتعبني أخيراً". لم يكن سؤال بطرس قاصراً على استعلامه عن المكان الذي يذهب إليه المسيح, بل كان منطوياً على رغبة منه في الذهاب معه. فهو شبيه بقول الولد لأبيه حينما يراه خارجاً: "إلى أين أنت ذاهب" ولسان حاله يقول: "خذني معك يا أبي". لذلك لم يكتف المسيح بأن يجيب عن سؤال بطرس, بل جاوبه أيضاً عن رغبته المستترة وراء سؤاله. فكأني به يقول له: "ليس المهم عندك يا بطرس أن تعرف إلى أين أنا ذاهب, وإنما يهمك أن تعلم أنك لا تقدر أن تتبعني الآن, لكن لا تيأس ولا تقنط, فإنك ستتبعني بعد حين". بهذا الجواب قرر المسيح لبطرس: (1) أن افتراقه عنه وعن سائر التلاميذ, أمر لابد منه, (2) أن هذا الافتراق وقتي: "الآن", (3) أن بطرس لا يقدر أن يتبع سيده الآن لأن عليه رسالة لم تكمل بعد, ولأنه للآن لم يفهم معنى الصليب. سواء أكان الصليب الذي سيحمله سيده من أجله, أم الصليب الذي سوف يحمله هو من أجل سيده. ولأن الفداء لم يكمل بعد (19: 30), وبالتالي فإن مكان بطرس في المجد, غير معد (14: 2 و3), وبطرس غير معد لهذا [3]
سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً». 37قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ». 38أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ».
المكان. (4) إن بطرس سيتبع سيده بعد وقت, حين يكون قد امتلأ من روح المسيح في التضحية, وإنكار الذات, والشجاعة.
عدد 37. (ج) اندفاع بطرس: "قال له بطرس يا سيد. لماذا". عز على بطرس أن يسمع هذا الجواب الصريح, فأخذته الحمية على كرامته الشخصية. لقد مشى على الماء ليكون مع سيده (مت 14: 29), وارتقى معه على جبل التجلي (لوقا 9: 28), ووقف معه في وجه الموت (لوقا 8: 15). فأي مكان إذاً يتعذر عليه أن يتبع سيده إليه؟ هل إلى الموت؟. وهنا بلغ الغرور ببطرس مبلغاً عظيماً, وفي ثور اندفاعه, توهم نفسه "فادياً للفادي", فقال – ولم يكن يدري ما يقول "إني أضع نفسي عنك". (انظر لوقا 9: 33).
عدد 38. (د) الحق المر: "أجابه يسوع أتضع نفسك عني؟" عرف المسيح بطرس أكثر مما عرف بطرس نفسه. فصارحه بحقيقة حاله – والحق مر, لكنه لازم – وخاطبه بنغمة يمازجها الحزن والأسى: "أأنت يا بطرس تبذل نفسك عني"؟ نعم سأمتعك بهذا الشرف – ولكن فيما بعد. أما الآن, "فالحق الحق أقول لك لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات".
وقعت هذه الكلمات على مسمع بطرس, وقع الصاعقة. فحبست لسانه عن الكلام والاستفهام إلى ما بعد نور القيامة (21: 21).
(1) اعتاد هليل, أحد أحبار اليهود, أن يقول: "لا تصنع بقريبك ما تكرهه لنفسك.
(1) جاء في أسطورة قديمة, أن بطرس كان في سجنه الأخير في رومية, متوقعاً الحكم عليه بالصلب. ولما هاله توقع هذا الحكم, انسل من الحراس, وهرب من السجن, فانطلق في الطريق الموصل بين رومية وجنوبي إيطاليا, المعروف بـ"طريق ابيوس". وهنالك تمثل له المسيح حاملاً صليبه, ومتوجهاً إلى رومية. فابتدره بطرس بالقول: يا سيد: "إلى أين أنت تذهب؟". فأجابه السيد: "أنا ذاهب إلى رومية". فقال بطرس: "ولأي غرض؟" فكان جواب الفادي: "لكي أصلب ثانية". فصرخ بطرس قائلاً: "ولكنك صلبت مرة يا سيد".
فأجابه المسيح: "نعم صلبت مرة في أورشليم. وها أنا ذاهب لأصلب مرة ثانية في رومية". "ولم يا سيد"؟. "عوضاً عنك يا بطرس. لأنك هربت من صليبك هناك". فحزن بطرس وبكى بكاء مراً. ثم عاد إلى رومية, قابلاً حمل صليبه. ولما جاءت ساعة صلبه, قال للجلادين: "لا تصلبوني مرفوع الرأس كسيدي. بل اصلبوني منكساً".
- عدد الزيارات: 11221