Skip to main content

الأيام الأخيرة في خدمة المسيح على الأرض

اَلأَصْحَاح الثَّانِي عَشَرَ

 

ها قد بلغنا الآن نقطة انتقال مهمة في خدمة المسيح على الأرض. في الإصحاحات السابقة, رأينا المسيح في خدمته الجهرية. وفي الإصحاحات اللاحقة, سنراه على أكتاف هضبة الآلام والتضحية. وفي الإصحاح الذي أمامنا, نشهد ثلاث حوادث, هي أشبه الأشياء ببوغاز يوصل بين خدمته في الدائرة المتسعة – بحياته وكلامه, وبين خدمته لخاصتخ – بمعلناته وآلامه, وقيامته.

إننا مدينون ليوحنا البشير بترتيب حوادث أسبوع الآلام. فهو يرجع بنا ستة أيام قبل عيد الفصح اليهودي, ويستهلها بالوليمة التي صنعت تكريماً للمسيح الذي كسر أبواب الهاوية. واحتفاء بليعازر الذي عاد إلى العالم الحاضر, بعد مرحلة قصيرة من عالم الأبد.

في هذا الإصحاح حدثنا البشير عن: أولاً: الوليمة التكريمية في بيت عنيا (12: 1-11). ثانياً: دخول المسيح أورشليم ظافراً (12: 12-9). ثالثاً: قبل اليونانيين إلى المسيح (12: 20-36). وبعد هذه الحوادث الثلاث, يختتم الإصحاح بملحة عن تأثير خدمة المسيح على اليهود (12: 37-50)

أولاً: الوليمة التكريمية (12: 1-11). (أنظر مت 26: 6 و مر 14: 3).

في هذه الوليمة, تجلت عواطف أصدقاء المسيح في أسمى مظاهرها – ممثلة في أصحاب الوليمة. وفي الوقت نفسه ثارت عواصف ألداء المسيح في أبشع

1ثُمَّ قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ.

صورها – ممثلة في يهوذا الاسخريوطي.ومن المحزن جداً، أن يكون صفوف المقربين، رجل برهنت الأيام على انه كان مندوب المعادين!

عدد 1. (أ) ميعاد الوليمة: "ثم قبل الفصح بستة أيام". يقع الفصح اليهودي في اليوم الرابع عشر من نيسان (مارس - ابريل). إذاً قد أقيمت هذه الوليمة في اليوم الثامن منه. وبما أن الفصح، وافق يوم سبت في تلك السنة, طبق التقويم المعتمد، فتكون هذه الوليمة قد صنعت بعد غروب السبت.

"ستة أيام" – تقابلها ستة أيام التكوين التي فيها خلق الله العالم. إن ستة أيام الآلام، أهم في نظرنا من ستة أيام الخلق، لأننا بآلام المسيح، "ولدنا ثانية لرجاء حي"، بل خلقنا خليقة جديدة، لولاها لكانت خليقتنا الأولى ويلا علينا ووبالا، هذه إحدى النقط التي يلتقي فيها يوحنا بموسى, ثم يسمو فوقه محلقاً بجناحي النسر. "ستة أيام" – بأسبوع مقدس يستهل يوحنا بشارته (1: 29 و 35 و 43 و 2: 1), وبأسبوع أكثر منه قدسية يختتم بشارته.

(ب) مكان الوليمة: "أتى يسوع إلى بيت عنيا", خرجنا من الإصحاح الماضي, مودعين المسيح في أفرايم, وها نحن نراه الآن, وقد ترك أفرايم إلى وادي الأردن, وقبل أريحا انضم إلى المعيدين, الصاعدين إلى أورشليم.

"حيث كان لعازر الميت الذي أقامه يسوع من الأموات" – بهذه الكلمات يمهد البشير للمناسبة المفرحة التي بسببها أقيمت هذه الوليمة.

2فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. 3فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ

عدد2.(ب) الوليمة:"فصنعوا له هناك عشاء" – إننا لا ندري بالتحقيق من هم الذين صنعوا العشاء. وفي الغالب هم آل لعازر. ويظن وستكوت أنهم أهل القرية, وقد صنعوا العشاء تكريماً للمسيح.

(ج) نصيب مرثا في الوليمة: "وكانت مرثا تخدم". لقد ظلت مرثا حريصة على "نصيبها" الذي حدثنا عن لوقا: "في خدمة كثيرة" (لو 10: 40) وفي اعتقادنا أنها بعد قيامة أخيها, كانت تخدم مجردة عن روح التذمر, والشكوى, لأن الآلام قد صقلتها, والإيمان القويم قد قومها.

(د) نصيب لعازر من الوليمة: "وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه". يستنتج من وجود لعازر بين المتكئين, ومما جاء في متى 26: 6, ومرقس 14: 4, إن صاحب الوليمة هو سمعان الأبرص وليس لعازر.

عدد 3. (هـ) نصيب مريم في الوليمة: "أما مريم فكانت, كما عهدناها, ملازمة للمكان الذي اختارته نصيباً لها" – الجلوس عند قدمي المسيح. وفي بشارة لوقا (لو 10: 39), رأينا مريم جالسة عند قدمي المسيح, مستمعة. وفي يو 11: 32 وجدناها ساجدة عند قدمي الفادي, باكية متألمة. وهنا نراها عند قدمي المخلص مقدمة أثمن وأذكى ما عندها.

بهذه الكلمات, يصف يوحنا تقدمة مريم: "مناً من طيب ناردين خالص كثير الثمن". "المنا" – أو المن – كما جاء في التلمود – هو اللتر.

الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا فَامْتَلَأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ. 4فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ وَهُوَ يَهُوذَا

و "الناردين" هو نوع من الطيب الزكى الصافي. وقد ذكر بين أطياب عروس سليمان (نشيد 1: 12 و 4: 13 و 14) وهو يستخرج من ساق نبات من فصيلة حشيشة الهر, المعروفة اللاتينية باسم (Nardostachys Jatamansi) ويتبين من كلام يهوذا (عدد 5), إن ثمن الناردين الذي دهنت به مريم قدما يسوع كان ثلثمائة دينار – والدينار يساوي أربعة قروش مصرية. فيكون ثمنه نحو اثني عشر جنيهاً مصرياً – أي نحو أربعة أضعاف الثلاثين من الفضة التي أخذها يهوذا ثمناً للمسي. فتأمل كم أعطت مريم وكم أخذ يهوذا!!

ولكي تعبر مريم عن كمال تكريسها للفادي القدوس, لم تكتف بتقديم ما عندها بل مسحت قدما يسوع بشعرها وهذا أقصى غاية التكريس (أنظر مز 23: 5). "فامتلأ البيت من رائحة الطيب" – هذه العبارة الأخيرة, من التفصيلات الدقيقة, التي لا يقوى على الإيمان بها إلا من كان شاهد عيان. يقول متى ومرقس, إن الطيب سكب على رأس المسيح. وفي هذا لا يختلفان عن يوحنا الذي قال إن قدمي المسيح قد دهنتا بالطيب. لأن مريم بعد أن سكبت الطيب على رأس المسيح كالعادة, دهنت أيضاً قدميه (لو 7: 44).

عدد 4 و 5. مصيب يهوذا في الوليمة – "فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا". بهذه الكلمة المرة اللاذعة, يعرفنا البشير يهوذا. هذه خير نعمة لمن يحفظها, وشر نقمة لمن لا يقدرها. ما كان نوراً لغير يهوذا صار له ناراً:

سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ: 5«لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هَذَا الطِّيبُ

"واحد من تلاميذه". وعلى قدر الصعود يكون الهبوط (6: 71 و 13: 2 و 26) "المزمع أن يسلمه" –يستفاد من هذه العبارة, إن نية الخيانة كانت متوفرة في قلب يهوذا. فلقدبيتها بين ضلوعه, وغذاؤها, ورباها, حتى كملت, ونضجت, فأثمرت هلاكاً لنفسه, وخلاصاً للعالمين!.

"لماذا لم يبع هذا الطبيب...؟" (غريب أمرك يا يهوذا!) كان يكفينا منك أن تكون بغير ثمار حسنة, فتقف تجاه من يثمرون طيب الثمار, وثمار الطيب, موقف المحايد, على الأقل, إذا عز عليك أن تقف منهم موقف المشجع. ولكن إني للقلب الذي بيت الشرفية, أن يكف عن أن ينضج بما فيه؟ ألم يقل الفادي: "من فضلت القلب يتكلم اللسان"؟ وهكذا برهن يهوذا, من غير قصد منه, على أن من المستحيل على أي إنسان أن يكون بغير ثمر, فإن لم يثمر ريحاناً وورداً, أثمر شوكاً وقتاداً.

"لماذا لم يبع هذا الطبيب بثلثمئة دينار ويعطي للفقراء"؟ - تحت ستار الشفقة على الفقراء, أراد يطعن مريم طعنة نجلاء, فطعن نفسه, وهو لا يدري. إن شر أنواع الشر هو ما كان ظاهره خيراً.

"لماذا لم يبع هذا الطبيب..."؟ بمثل هذه الكلمات, نطق قوم آخرون (مت 26: 8 ومر 14: 4) لكنهم يختلفون عن يهوذا في أن ما قالوه كان تعبيراً عن طيف خطر لبالهم ثم ذهب, وأما يهوذا كان معبراً عن نية بيتها في نفسه, ليظهرها متى جاء أوانها. إن في كلمة يهوذا تعريضاً بالمسيح

بِثلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟» 6قَالَ هَذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقاً وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ

من طرف خفي, كما لو كان مقدماً مصلحة الفقراء على مذبح منفعته الشخصية, وقد فات يهوذا أن أمر الفقراء لم يكن منسياً من المسيح (13: 29), وأن الفادي إنما جاء لأجل الفقراء، فولد فقيراً، وعاش فقيراً، ومات في زمرة الفقراء, وأنه لأجل الفقراء افتقر وهو غني. إلا يخجل يهوذا من مريم, وقد قدمت للمسيح طيبا, يعادل أربعة أضعاف الثمن الذي هو باع به سيده.

عدد 6. جملة تفسيرية معترضة: "فقال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء". الكلمة الأصلية المترجمة "يحمل", قد تترجم حرفيا إلى: "يحمل بعيداً" أو "يقصي وينهب" ما أقسى هذا الوصف الذي خلعه البشير على يهوذا: "لصاً". ولكن ما عيب المصور إذا كان الوجه المصور قبيحاً؟.

قد تساءل بعضهم قائلاً: "لماذا رضي المسيح بتسليم الصندوق ليهوذا وهو عالم أنه سيكون تجربة له"؟ وعلى قدر ما عندنا من النور نجيب بأن المسيح رضي بأن يتسلم يهوذا الصندوق, ربما لأنه كان أكثر التلاميذ كفاءة في الأمور المالية. على النقطة القوة في الإنسان, قد تستحيل يوما ما إلى نقطة ضعف إذا انغلب من التجربة التي تعرض لها من ناحيتها, كما أنها قد تصبح فيه مصدر قوة وبركة, إذاً استفاد من عوامل الخير والصلاح التي تعرض لها من ناحيتها. وبما أن هذين الطريقين كانا أمام يهوذا, بل كانت العوامل المحيطة به مما يساعد, ويرفع, ويشجع, إذا كان محاطاً بأحسن بيئة في

وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ. 7فَقَالَ يَسُوعُ: «ﭐتْرُكُوهَا.

الوجود – أعنى بها المسيح نفسه, لكن يهوذا, اختار الظلام وهو في حضرة النور. ويقول وايس: "أن المسيح سلم الصندوق ليهوذا لأنه رأى فيه كفاءة لإدارة الشئون المالية, وفيما بعد, لم يرد أن يتدخل في أمر له مكانته في تنفيذ برنامج الفداء". وهذا ما نميل إلى الأخذ به. ويظن جودي أن المسيح لم يتدخل في تعيين يهوذا "أميناً" للصندوق, بل إن هذا التعيين تم بين التلاميذ وبين يهوذا, الذي أظهر غالبا ميلاً شديداً إلى هذه الوظيفة فأسلمه المسيح إلى "أهواء الهوان" (رومية 1: 26).

عدد 7. المسيح يثني على مريم: "فقال يسوع..." في هذه الكلمات أثنى المسيح على مريم وطيبها, ثناء مستطاباً وفي ثنائه عليها, قدم: -

(أ)دفاعاً: "أتركوها" – لا تزعجوها بانتقاداتكم وتأنيباتكم (مر 14: 5).

(ب) تقديراً: "إنها ليوم تكفيني قد حفظته". إن المسيح بلطفه قد أعطى لعمل مريم قيمة أسمى مما قصدت هي, مثلما أعطى البشير كلمات قيافا معنى أبعد مما كان يرمي هو إليه (11: 51). كان وجه انتقاد يهوذا لعملها إنه ذهب ضياعاً من غير فائدة, فأظهر الفادي إن لعمل مريم قيمة أعظم مما يحلم به يهوذا أو سائر الموجودين الذين ظنوا أن في عملها إتلافاً (مر 14: 4). لقد رأت عين المسيح الطاهرة, في ما عملته مريم, أمرا سابقا لأوانه, وفي الوقت نفسه في أوانه الحقيقي. لأنه علم ببصره الثاقب أنه بعد موته ودفنه سيرفع بجسده إلى السماء ومتى جاء أوان وضع الطيب على جسده,

إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي

يكون هذا الجسد قد رفع من القبر (مر 16: 1) إذاً الأوان الحقيقي لوضع الطيب على جسده هو تلك الآونة التي قامت فيها مريم بعملها المبرور. كأنها ببصيرة المحبة تخطت الزمن فسبقته:"قد سبقت ودهت بالطيب جسدي للتكفين" (مر 14: 8). هم يقولون: "لماذا هذا الإتلاف؟" والمسيح يقول: "إنها قد حفظته". إن خير وسيلة بها نحفظ ما لنا هي سكبه عند قدمي المسيح. لأن دهن قدمي المسيح هو أول خطوة في تكفينه.

هذا تقدير المسيح لعملها. أما هي فقد أرادت تكريم جسد المسيح الحي. في هذا يظهر تفوقها على نيقوديموس الذي جبن على أن يتبع المسيح الحي, فقدم أطياباً لجسده في القبر. إن كأس ماء بارد نقدمها لإنسان في حياته خير من ألف زهرة ننثرها على قبره ميتاً. وإن كلمات طيبة نقولها لصديق في حياته, خير من وابل الدموع نسكبها على تربته. فلا نؤجل عمل اليوم إلى الغد.

أما قوله: "قد حفظته" فمفاده أن مريم حرصت على هذا الطيب, ولم تبعه أو تتصرف فيه, لكنها كرسته لتكفينه. ويميل وستكوت إلى الاعتقاد بأن المسيح نطق بهذه الكلمة, والمستقبل ماثل أمامه كالحاضر, فتكلم عن التكفين كما لو كان مائلاً أمامه في ساعة دهن قدميه بالطيب. فرأى في دهن قدميه, درجة ابتدائية في تكفين جسده. هذه هي الفرصة الوحيدة التي فيها كان يمكن لمريم أن تشترك, في تكفينه (أنظر 19: 40 و مر 16: 1).

هذا هو ثناء المسيح على مريم. ولكن ألا نلاحظ فيه تقريعاً خفيفاً,

قَدْ حَفِظَتْهُ 8لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ

وخفياً ليهوذا؟ وهل في الإمكان أن نذكر تكفين المسيح, من غير أن نذكر الدور الذي لعبه فيه يهوذا الخائن؟ إن مريم بأمانتها وولائها رفضت أن تبيع طيباً ذكياً وكرسته لتكفين الجسد المقدس, الذي في سبيله كسب يهوذا ثلاثين من الفضة ليسلمه إلى الموت. إن عمل مريم قد ظهر مقابل عمل يهوذا فلا يوازي نور أولهما إلا ظلام ثانيهما. وبضدها تتبين الأشياء.

عدد 8. (ج) تعليلاً جليلاً: "لأن الفقراء معكم في كل حين, وأما أنا فلست معكم" – بالجسد الذي يلزمه التكفين – "في كل حين". وأما بالروح, فالمسيح "معنا كل الأيام وإلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20). فاه المسيح بهذا القول وهو يعني جسده الذي سيبعث إلى السماء, في الوقت تقضي فيه عادة اليهود بدهنه بالحنوط (مر 16: 1). ولا يفوتنا أن نذكر أن مريم هذه لم تكن بين النساء اللواتي قصدن القبر لهذا الغرض.

لم يقصد المسيح بقوله هذا, أن يزاحم الفقراء, وهو الذي قد علمنا أن شخصه قد يكون ممثلاً في الفقراء, وإن كان معروف يصنع مع الصغار, إنما هو مصنوع معه بالذات (مت 25: 40), بل أراد أن يفهم يهوذا والعالم أجمع, أن كل غال رخيص متى قدم لمن قدم ذاته لأجلنا, فلم يحسب نفسه عزيزة حتى الموت. وإنما ما قاله عن الفقراء, لما جاء في (تث 15: 11).

إن أمثال يهوذا كثيرون في عصرنا الحاضر, ممن يعتبرون الأنفاق على التبشير باسم المسيح, إتلافا. ويفضلون عليه ما يسمونه بالمشروعات

مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ». 9فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً

الإجتماعية, وقد فاتهم أن كل مشروع اجتماعي لا يقوم على اسم المسيح, محكوم عليه من ذاته بالفشل المحقق, وأن التبشير باسم الفادي فيه أكبر ضمان للعناية بالفقراء. فملاجيء الأيتام والعجزة, ومستوصفات الفقراء والفقيرات, المقامة في ظلال الصليب, أرفع عماداً, وأنبل قصداً, وأشرف غاية من كل مشروع خيري يقام في برية المجتمع المجدبة القاحلة.

عدد 9 – 11. (د) عاقبة الوليمة: "فعلم جمع.. فجاءوا.. لينظروا... فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضاً". إن بعضا من الحجاج الذين صعدوا مع المسيح من أريحا إلى أورشليم, نشروا بين معارفهم خبر وجوده على مقربة من أورشليم – في بيت عنيا, ولما كان المسيح موضوع حديث القوم (11: 55 و 56), لم يتمالكوا أنفسهم من الذهاب إلى بيت عنيا, ليروه, ولينظروا أيضا لعازر الذي أقامه من الأموات. هؤلاء هم عامة الشعب. أما رؤساء الكهنة الذين ملأ الحسد والغل قلوبهم, فتشاوروا ليقتلوا لعازر أيضاً مثلما تشاوروا ليقتلوا يسوع من قبل (11: 50). لأنهم رأوا في لعازر شهادة حية بأن يسوع هو المسيح, وقد غاب عنهم نور الشمس لا تحجبه الأكف. وأن الحق حق ولو مات بعض شهوده, فالحق أعظم شاهد لنفسه, وفعلاً قد كان ما خافوا أن يكون, فأن تيار الشعب

11لأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا بِسَبَبِهِ يَذْهَبُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ. 12وَفِي الْغَدِ

قد بدأ يتحول إلى جسد المسيح, نتيجة الشهادة الحية التي قدمتها قيامة لعازر من الأموات. ومما أخجل كبرياء رؤساء الكهنة, أن شعب أورشليم, الذي كانوا يعتمدون عليه, في صد تيار شعب الجليل, قد صار من أتباع المسيح.

كان هذا يعتقد مقدمة إعدادية لدخول المسيح ظافرا إلى أورشليم. فساعته التي أرادت أمه أن يستقدمها (2: 4), والتي طلبها أخوته في وقتهم ولم تكن قد جاءت بعد (7: 4), قد دقت الآن.

ثانيا: دخول المسيح أورشليم ظافراً (12: 12 - 19)

أنظر شرح بشارة لوقا للمؤلف (صفحة 490 - 497)

اهتم الأربعة البشيريون بذكر هذه الحادثة التاريخية, لأنهم رأوا فيها إقرارا من الشعب, ومصادقة من المسيح نفسه, على أنه هو "مسيا" المتنظر, ملك اليهود. وقد كتب عنها البشيريون, كل بحسب وجهة نظره. فاتجه نظر متى بنوع خاص إلى هتاف الأولاد في الهيكل, وإلى مجيء العمي والعرج إلى المسيح لكي يستشفوا (مت 21: 14 و 15). والتفت مرقس إلى تسجيل نظرات المسيح "إلى كل شيء حوله في الهيكل" (مر 11: 11). وعنى لوقا بحفظ دموع المسيح على قرطاسه (لو 19: 41). وأرانا يوحنا ذلك الجمع الحافل الذي خرج من أورشليم للقاء المسيح, وهم يحملون سعف النخيل (يو 12: 12 و 13).

سبق للمسيح فكبح جماح الذين أرادوا, من مناسبات سابقة, أن يجعلوه

سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ 13فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا!

ملكاً (6: 16 ولوقا 14: 25 – 33 و 19: 11). لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد. فهو لا يقبل تاجاً منفصلاً عن الصليب.

عدد 12 و 13. (1) الجمع يحتفي بالمسيح – "وفي الغد" – أي في غد يوم الوليمة, وحسب التقويم المسلم به, وقع هذا اليوم في صباح الأحد 10 نيسان – "سمع الجمع الكثير الذي جاء إلى العيد" – وجله, إن لم يكن كله من الجليليين. يمتاز هذا الجمع الجليلي, عن ذاك الجمع اليهودي المذكور في عدد 9, بالإخلاص والولاء للفادي. "إن يسوع آت إلى العيد" – غالبا اتصل بهم هذا الخبر من المعيدين القادمين من بيت عنيا (انظر متى 21: 1).

لما علم هذا الجمع الجليلي أن يسوع آت إلى أورشليم, احتفوا بقدومه الميمون, وعبروا عن احتفائهم هذا, بوسيلتين – أولاهما رمزية: "فأخذوا سعوف النخل" – المنزرع على الطريق – "وخرجوا للقائه". وبما أن سعف النخيل دائم الاخضرار والازدهار, فهو رمز إلى النصرة, والفرح, والجمال, والخلاص (لاويين 23: 40 ورؤيا 7: 9). والوسيلة الثانية تعبدية: "كانوا يصرخون أوصنا" – هذه كلمة أرامية أصلها "هو شعنا" – أي خلصنا. ومنها تسمى هذا اليوم "بأحد الشعانين". "مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل". إن هذا القول مقتبس من مزمور 118: 25. ويعتقد فريق من المفسرين أن هذا المزمور تلي لأول مرة في حفلة تدشين

مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» 14وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: 15«لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَِهْيَوْنَ. هُوَذَا

الهيكل الثاني. يقول فريق آخر إن الجماعة أنشدته يوم وضع الحجر الأساسي للهيكل. ويظن فريق ثالث أنه أنشىء خصيصاً ليرتل يوم عيد المظال. فإذا صدق ظن هذا الفريق الثالث, كان لسعف النخيل معنى ممتاز في هذه المناسبة, لأن له مقاماً خاصاً عند اليهود في عيد رأس السنة, وفي أعيادهم القمرية. "الآتي باسم الرب.." – أن في هتافهم هذا, إقرارا منهم بـ (أ) مصدر رسالته: "الآتي باسم الرب". (ب) مقامه الملكي: "ملك إسرائيل" فهو مسيا المنتظر.

عدد 14 و 15. (2) نبوة قديمة تمت: "ووجد يسوع جحشاً فجلس عليه". هذا تسليم من المسيح بأنه هو مسيا المنتظر, ملك اليهود. نعم هو ملك, ولكن على طراز جديد. فهو الوديع المتواضع القلب, ورب السلام, لذلك امتطى الأتان – لا العربات المطهمة تجرها أفخر الجياد.

"كما هو مكتوب" – لم يكن إتمام المكتوب باعثاً للمسيح على إقدامه على هذا الأمر, وإنما أقدم عليه إجابة لنداء "الساعة", فتمت بعمله هذا, إحدى النبوات الرئيسية التي أشارت منذ القديم إلى "مسيا" (زكريا 9: 9).

إن إتمام هذه النبوة الممتازة في هذا الظرف الخاص, يلقى نوراً ساطعاً على: (أ) حقيقة ملك المسيح. فهو ملك حقيقي, لا بشهادة الجماهير المتحمسة التي قد تخطئ محمولة وراء ثورة عواطفها, بل بشهادة نبي من

مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِساً عَلَى جَحْشِ أَتَانٍ». 16وَهَذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تلاَمِيذُهُ أَوَّلاً وَلَكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هَذِهِ لَهُ.

خير الأنبياء الأقدمين – زكريا. (ب) طبيعة ملكوت المسيح – فإن ملكه مطبوع بطابع السلام. (ج) ميزة ملك المسيح – فهو ملك وديع ومتواضع القلب.

عدد 16. كلمة توضيحية: "وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً. ولكن لمل تمجد حينئذ تذكروا...". لا شك في أن هذه الذكرى, كان يمتزج فيها الفرح, فبالإعلانات الجديدة التي كشفت لهم. وأما الحزن, فعلى قصورهم – حتى هم – في الإدراك. وأما التعجب, فمن حكمة العناية الإلهية التي أتاحت لهم أن يكرموا سيدهم, وهم لا يدرون.

إن النور الذي كشف هذه الحقيقة للتلاميذ, لم يكن قاصرا على نور التاريخ الذي يريقه المستقبل على الحاضر والماضي, وإنما هو نور الروح القدس الذي استقر في قلوب التلاميذ بعد صعود المسيح وإرساله الروح القدس.

كانت لهذه الحقيقة مكانة خاصة في قلب يوحنا البشير, لذلك كرر كلمة: "هذه" ثلاث مرات في هذا العدد الواحد, مشيراً بها إلى المعنى الخفي الذي كان كامناً في هذا الحادث التاريخي. ولم ينس يوحنا أنه كان واحد منهم.

إن ضمير الجماعة في قوله: "وإنهم صنعوا هذه له", يعود على التلاميذ. وخير تفسير لهذه العبارة, ما جاء في لوقا 19: 29 – 36. هذا دليل جديد على اتفاق البشيرين, وعلى أن يوحنا أغفل عمداً بعض ما كتبه سائر البشيرين.

17وَكَانَ الْجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ الْقَبْرِ وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. 18لِهَذَا أَيْضاً لاَقَاهُ الْجَمْعُ لأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ هَذِهِ الآيَةَ.

عدد 17-19. (3) تأثر هذا الحادث الجلل. "وكان الجمع.. يشهد...فقال الفريسيون". لم يقصد يوحنا أن يرسم صورة تاريخية كاملة لدخول المسيح ظافراً إلى أورشليم, وغنما أراد أن يبين (1) الصلة المزدوجة التي بين هذا الحادث وبين قيامة لعازر. (ب)التأثر الذي تركه هذا الحادث.

عدد 17 و 18. (1) الصلة المزدوجة التي بين هذا الحادث وبين قيامة لعازر. إن "الجمع" المذكور في عدد 17, يتألف غالباً من الذين كانوا مع المسيح حين أقام لعازر. وهم خليط من اليهود المذكورين في 12: 9 و 11, ومن أولئك المذكورين في 11: 49, ومن بعض مستوطني عنيا. إن شهادة هذا الجمع, شهادة عيانية يقينية, لم تقتصر على ذكر المعجزة بكلمة مجملة, بل وصفتها في درجتين متتابعتين – "دعا لعازر من القبر" و "أقامه من الأموات" من هذا يتضح لنا أن قيامة لعازر من الأموات, كانت موضوع شهادة الجمع الذي كان مع المسيح حين أقام لعازر,وظل في معيته حتى دخوله أورشليم.

على أن لمعجزة قيامة لعازر, صلة أخرى بهذا الحادث التاريخي. فهي أيضاً علة خروج الجمع من أورشليم لاستقبال المسيح عند دخوله إليها. وكان هذا الجمع, قد جاء إلى أورشليم ليعيد (عدد 12). وكانت قد انصلت به أخبار هذه المعجزة من الحجاج الذين مروا ببيت عنيا في طريقهم إلى أورشليم

19فَقَالَ الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «ﭐنْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!».

فإذا هذا "الجمع" المذكور في هذا العدد, هو غير "الجمع" المذكور في عدد 17.

عدد 19. (ب) تأثير هذا الحادث: "فقال الفريسيون.. " إن هذا الحادث المبهج الجلل, قد لعب هو أيضا دوره في إنضاج عوامل البغضاء الكامنة في قلوب الفريسيين, حتى عملوا على صلب المسيح. فإذا كان عددا 17 و 18 يحدثاننا عن صلة معجزة إقامة لعازر, بحادثة دخول المسيح إلى أورشليم, فإن عدد 19 ينبئنا بالصلة الكائنة بين دخول المسيح ظافراً إلى أورشليم, وبين رفعه على الصليب.

إن الفريسيين هم اللون القاتم, الذي يظل به البشيرون كل صورة جميلة. وإذا كان هؤلاء المساكين, والحسد يحز في رقابهم وقلوبهم من غير سكين, فهو أيضا لم ينس أن يذكرنا بغباوة هؤلاء الحكماء في أعين أنفسهم. فإنهم في كلامهم ضد المسيح, صاروا أحسن الشهود لنجاحه وانتصاراته: "انظروا.. هوذا العالم قد ذهب وراءه.. ". هذه إحدى الآيات التي تتألف منها "بشارة الفريسيين"! ما أشبهها بتلك التي فاه بها قيافا! (11: 50). أن مؤامرة هؤلاء, كان القصد منها تنفيذ مشورة ذاك. والجالس في السموات يضحك!

تتضمن كلمتهم هذه: (أ) توجيهات للالتفات: "أنظروا.." إنهم يشيرون بهذا إلى ما حدث عند دخول المسيح أورشليم. (ب) تحريصاً: "إنكم لا تنفعون شيئا". (ج) اعترافا بفشلهم ونجاحه: "هوذا العالم قد ذهب وراءه" – يريدون بـ "العالم", مستوطني أورشليم الغرباء. بهذا أيدوا اعتراف السامريين (4: 42).

20وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ

ثالثاً لإقبال اليونانيين إلى المسيح: (12: 20 - 36).

من كل الحوادث التي وقعت يوم الأحد – الذي فيه دخل المسيح أورشليم ظافراً – المعروف عادة "أحد السعف", وبين يوم الخميس المشهور بـ "خميس العهد" – الذي فيه أكل المسيح الفصح الجديد مع تلاميذه -, تفرد يوحنا بذكر حادثة واحدة أغفلها سائر البشيرين – وهي التي نحن بصددها الآن. لأنه رأى فيها صلة مكينة بآلام المسيح وأمجاده, ومنها تبينت وجهة نظر المسيح إلى الصليب. ينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام:

(1) طلب اليونانيين وجواب المسيح (12: 20 - 27). (2) الصوت السماوي وتأويله (20: 28 - 33). (3) تحذيرات ووعود (12: 34 - 36).

(1) طلب اليونانيين وجواب المسيح (12: 20 - 27). (أ) طلب اليونانيين (12: 20 - 22). عند مذود بيت لحم, جاء الأمم ممثلين في المجوس, وقبيل الجلجثة نرى الأمم أيضاً, ممثلين في هؤلاء اليونانيين.إن قوله: "ليسجدوا في العيد" دليل على أنهم كانوا يونانيين دخلاء. وقد جرت العادة, أن يقضي مثل هؤلاء اليونانيين مدة العيد في دار الهيكل الخارجية, المعروفة بـ "دار الأمم" (1 مل 8: 41 - 43). وفي الغالب وقع هذا الحادث في صباح الخميس, بعد أن دخل المسيح ظلال الصليب. هذه آخر مرة نشهد فيها المسيح في الهيكل.

عدد 20. لمحة عنهم. سمع هؤلاء اليونانيين بدخول المسيح أورشليم ظافراً – إن لم يكونوا قد شاهدوه بعيونهم – وغالباً رأوا المسيح وهو يطهر

مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ. 21فَتَقَدَّمَ هَؤُلاَءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ وَسَأَلُوهُ: «يَا سَيِّدُ

الهيكل ويطرد التجار اليهود من المكان المخصص أصلاً للأمم – ومنهم هؤلاء اليونانيين. ولا شك في أنهم سمعوا تلك الكلمة الخالدة التي وبخ بها المسيح أولئك التجار قائلاً: "بيتي بيت الصلاة يدعى لجميع الأمم". فكانت هاتان الكلمتان بردا وسلاما على قلوب اليونانيين, فقالوا في أنفسهم من هو هذا اليهودي العجيب العامل على استرداد حقنا المهضوم؟ ومما لا جدال فيه, أنهم سئموا الفتات اليابسة المتساقطة من مائدة اليهودية المتعالية, ولم يجدوا طعاما في فلسفة الأبيقوريين المادية, ولا لذة في حكمة الرواقيين الغبيين, فتعطشت نفوسهم إلى ما هو أعلى, وتاقت قلوبهم إلى من هو أسمى. إلا أن تهيبهم وتغربهم الجنسي حالا دون تقدمهم بأشخاصهم إلى هذا السيد اليهودي الجديد. لذلك وسطوا أحد تلاميذه: "فيلبس". والذي حدا بهم إلى اختيار "فيلبس" دون سواه, هو أن فيه عنصرا يونانيا, كما يستفاد من اسمه اليوناني, بخلاف سائر الرسل – ما عدا اندراوس – فان أسماءهم يهودية. وقد يستفاد من ذكر وطن فيلبس: "من بيت صيدا الجليل" إن هؤلاء اليونانيين أتوا من مكان مجاور للجليل.

عدد 21. أمنيتهم. "يا سيد نريد أن نرى يسوع". إن مجد السيد, يكسب التلميذ رفعة, لذلك قالوا لفيلبس: "يا سيد! نريد أن نرى يسوع". لم يقصدوا مجرد رؤية المسيح بالعين الجسدية, كما رآه زكا, لأن مثل هذه

نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ» 22فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لأَنْدَرَاوُسَ ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ. 23وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا:

الرؤية كانت ميسورة لهم من غير وساطة, ويكاد يكون من المحقق, أنهم إلى الآن كانوا قد فازوا بهذه الرؤية, وإنما أرادوا أن يحلوا إلى المسيح حيناً من الزمن, فيه يبثونه أشواق قلوبهم, ويمتعون بصائرهم بمرأى سناه, ويلذذون أسماعهم بطيب حديثه ونجواه. ولعلهم أرادوا بأمنيتهم هذه, وقد رأوا مقاومة اليهود للمسيح, أن ينتهزوا هذه الفرصة فيقدموا إليه هذه الدعوة ليذهب إليهم[1], فينال منهم كل إجلال – بذلك كانت تتم كلمة اليهود التي ألقوها جزافا في مناسبة سابقة: "ألعله مزمع أ، يذهب إلى شتات اليونانيين" (7: 35).

عدد 22. تصرف فيلبس بطلبهم: لم يأنس فيلبس في نفسه الشجاعة ليتقدم بهم إلى المسيح, ومن أجل ذلك استأنس برأي أندراوس – وهو أيضا يوناني الاسم – فاستقر رأي أندراوس على أن يرافقهما مع فيلبس إلى المسيح. في هذا العدد كما في 6: 7, يتمثل لنا فيلبس رجلا شديد الحرص, يحسب حسابا لكل خطوة يخطوها. وليس من المستبعد أنه حسب حسابا لهذه الخطوة, لأنه ذكر كلام المسيح في مناسبة سابقة: متى 15: 24.

عدد 23. (ب) جواب المسيح (12: 23 - 27). "وأما يسوع فأجابهما" – أي أندراوس وفيلبس – "قائلا..". رأى المسيح في طلب اليونانيين, قطرة من مطر غزير سوف ينهمر, وحبة من حصاد عظيم

«قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ

سيضم من حقول الأمم إلى خزائن الملكوت, لكنه علم أن العالم لن يقبل إليه أفواجا, إلا بعد أن يخلع هو الرداء اليهودي المتسربل به ويرفع على الصليب, فيخرج من البيئة الضيقة المنظورة ويدخل إلى المجد, فيضحي شخصية عامة تبسط قوة جاذبيتها على العالم أجمع. فالصليب إذاً هو باب النصرة, والمجد والحرية. هذه هي الحقيقة الباهرة التي أعلنها المسيح وأمام بهاء نورها لم نستطع أن نرى هؤلاء اليونانيين فيما بعد, ولا علمنا ماذا تم بطلبهم. فأمام شمس هذا الإعلان اختفت كواكب شخصياتهم. على أننا وإن كنا لا نجد في كلام المسيح جوابا مباشراً لهذا الطلب, إلا أننا نرى فيه تصريحا ضمنياً, بأن: (1) وقت اقتبال اليونان – والأمم – إليه قد حان. (2) إن اقتبالهم إليه لا يتم إلا بعد صلبه, وقيامته, وصعوده.

"قد أتت الساعة" – التي جعلها الآب في سلطانه (أنظر تفسير 13: 1). "ليتمجد ابن الإنسان". يستفاد من قرينة الكلام أنه أراد بتمجيده أمرين – أولهما: اجتذاب الجميع إليه, بالصليب (عدد 32),وثانيهما: ارتقاءه فوق القيود البشرية, وارتفاعه إلى المجد, عن طريق الصليب (عدد 24).

إن قوله "ابن الإنسان" في هذا العدد, يقابله قوله "ابن الله" في 11: 4. هنا تحدث عن نفسه باعتبار كونه حاملا طبيعة الله وممثلا إياه على الأرض.

الإِنْسَانِ. 24اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي

إن الحقيقة التي تنطوي عليها هذه العبارة: "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان", هي نواة لكل الحديث الذي فاه به المسيح (12: 23 - 36), وقد أوضحها بـ (1) تمثيل من الطبيعة (عدد 24). (2) مبدأ أولي تناول حياة تلاميذه (عدد 25 و 26). (3) تصريح عن الغاية المثلى من حياته (عدد 27 و 28).

عدد 24. تمثيل من الطبيعة: "الحق الحق" - أطلب تفسير 6: 53 – "أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض.. " – ما أعمق فلسفة المسيح وما أبسطها! فهي عميقة لدرجة أنها غابت عن "الحكماء والفهماء". وبسيطة لدرجة أن حبة الحنطة تخبر بها! ثلاث حقائق تحدثنا عنها حبة الحنطة: (1) الموت باب الحياة لأن حبة الحنطة إن بقيت مخبوءة في المخازن, أكلها السوس. (2) التضحية باب الإثمار والإنتاج: "إن لم تقع في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير". (3) الصليب باب المجد. لأن حبة الحنطة المجردة تكاد تكون خالية من كل أسباب الجمال. لكنها متى ماتت, نبتت, فازدهرت, فأينعت, فلبست ثوباً أخضراً قشيباً, ثم توجت في النهاية بتاج السنبلة الذهبي. فما أقوى المسيح وما أقدره! لأنه بحبة الحنطة هدم صرح الفلسفة اليونانية المؤسسة على سفسطة ديمتريوس القائلة: "إن الحياة الطبيعية هي كل شيء, ومتى أدركها الموت, فلا مناص لها من الفناء والزوال". فأفهمهم المسيح أن فناء الحياة الطبيعية, هو بدء الحياة الأبدية..

بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. 25مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.

أو لا نجد في هذا الكلام خير جواب لطلب اليونانيين – إذا صح الفرض إنهم طلبوه ليقدموا له في وطنهم كل إكرام وتمجيد – فصارحهم بأن الصليب – لا مجد وطنهم – هو خير باب المجد ؟!

عدد 25 و 26. مبدأ أولى يتناول حياة التلاميذ: "من يحب نفسه... ومن يبغض نفسه..". كلمة: "نفس", تعني الحياة الطبيعية الحسية. أما الحياة الأبدية فهي الحياة في كمال مظهرها: في طولها, وعرضها, وعمقها, وعلوها. إن من يحرص على حياته الجسدية حرص الغني الغبي على حنطته في مخازنه, لا يلبث أن يخسرها. لأن الحياة الطبيعية تحمل في قلبها بزور الفناء, ولكن من يضحي بهذه الحياة في سبيل الله والبشرية, فإنه يرفع حياته من المستوى الطبيعي الفاني، إلى المستوى الروحي الخالد. فالتضحية, وإنكار النفس, والموت, هي باب الحياة الفضلى. وحب الذات هو سمها القاتل! إن من يلصق نفسه بالفانيات, يحكم على نفسه بالفناء مثلها, ومن يرفعها عن الماديات, يمجدها. هذا أكبر معول ينقض الفلسفة اليونانية القائلة بأن الحياة وهمية.

مع أن هذا مبدأ عام (متى10: 39 و 16: 25 ومرقس 8: 35 ولوقا 9: 24 و 17: 33), إلا أنه لا يوجد ما يحول دون إنطباقه على المسيح, فإنه ضحى بحياته الإنسانية, مختاراً, فربحها الحياة ممجدة و كسب نفوس جميع تابعيه.

على إن صليب المسيح, ليس فقط موضوع اتكالنا, بل هو أيضاً

26إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي

مثالنا. هذه هي الحقيقة المبينة في عدد 26: "إن كان أحد يخدمني فليتبعني" – الإتباع هنا منصب على ناحية خاصة – هي الصليب والتضحية. فقد نتبع المسيح إلى بحر الجليل فنأكل الطعام الذي يقدمه لنا, وقد نجلس تحت قدميه عند جبل الموعظة, وقد نرتقي معه صاعدين إلى جبل التجلي فنتملى من بهاء سناه, وقد نتبعه حتى جسيماني, ودار الولاية, والمحاكمة. ولكن إن لم تتبعه حتى الجلجثة – حتى الصليب – فإن كل خطواتنا السابقة تذهب هباء. نعم إن كل حياة المسيح مليئة بالمجد لكن المجد كله قد تركز على قمة الجلجثة – في الصليب. فإن لم نشاطره عاره, فلا نصيب لنا في أمجاده وفخاره.

يحدثنا هذا العدد عن ثلاث حقائق مهمة تتعلق بالخدمة: (1) شرط الخدمة: "إن كان أحد يخدمني فليتبعني". (2) شرف الخدمة: "حيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي" – وهل من شرف معادل للوجود في معية المسيح – في الألم والمجد؟ إن كان تألمنا معه خير مجد لنا, فكم بالحري تمجيدنا معه؟ إن أفضل تفسير لهذه الكلمات, هو تلك الطلبة التشفعية التي قدمها المسيح لأجل تلاميذه: "أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا. لينظروا مجدي الذي أعطيتني". (2) مكافأة الخدمة: "إن كان أحد يخدمني" – سواء أكان من اليهود أم من الأمم –

يُكْرِمُهُ الآبُ. 27اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا

"يكرمه الآب". للمسيح المحل (17: 5), ولخادمه الأمين الكرامة. إن هذا العدد, خير مفسر للشطر الثاني من العدد السابق, وإليك البيان

"إن كان حد يخدمني":{"فليتبعني".."من يبغض نفسه في هذا العالم".} "حيث أكون أنا هناك

{"يكرمه الآب".. "يحفظها إلى حياة أبدية". } أيضاً يكون خادمي"

عدد 27 و 28.(1) (4). الغاية المثلى من حياة المسيح: "الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول.." نطق المسيح بالكلمات السابقة, متمثلاً أمامه شبح الصليب الذي تأباه النفس الإنسانية بحكم طبيعتها. وكأني بموجة من التأثر, صدمت صخرة عزيمته, وما هي إلا لحظة حتى تكسرت هذه الموجة وزالت وبقيت عزيمته قوية كالصخرة – بل الصخرة قوية مثلها – فرحب بالصليب, وقهر المنون قهر عزيز مقتدر.

كلمة "نفس" المستعملة هنا, هي بعينها التي وردت في العدد 25, وهي (نفس) المسيح الإنسانية التي تنفر بحكم طبيعتها من الموت, نفور البرارة من الظلام, سيما وإن موت المسيح لم يكن بالموت العادي, بل كان موتاً كفارياً, حمل فيه كل خطايا البشرية في جسده على الصليب, من غير أن تنقض ظهره. إنه لم يمت موت شهيد, بل موت المخلص الفادي المجيد.

ويغلب على اعتقادنا أن هذين العددين يصوران لنا صراعاً نفسياً اجتازه المسيح فخرج منه ظافراً. عندما رأى الصليب ماثلاً أمامه, أحست نفسه الإنسانية بقشعريرة, لكن روحه الإلهية ظلت مثبتة وجهها شطر الصليب فكان الفادي بين عاملين. فهل يستسلم لهزة نفسه الإنسانية ويقول "أيها

الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ.

الآب نجني من هذه الساعة"؟ كلا. لأنه إنما لأجل هذه الساعة قد جاء – ساعة الصلب. أم يغضى عن إحساس النفس البشرية, ويصغي إلى إيحاء روحه الإلهية فيقول: "أيها الآب مجد اسمك"! – وهذا ما فعله المسيح هنا وفيه كمال الظفر والفوز.. لأن اسم الآب لا يتمجد إلا بالصليب الذي هو أعظم مترجم عن محبة الله المضحية, الغافرة, المجانية.

يميل بعض المفسرين إلى الاعتقاد بأن الكلمات: "نجني من هذه الساعة" هي صلاة رفعها المسيح إلى الآب, ويرون فيها "جثسيماني[2] بشارة يوحنا". لكننا نعتقد مع جمهور المفسرين الموثوق بهم بأن هذه الكلمات ليست سوى خاطر[3] نفسي, لم يلبث أن تبخر أمام حرارة عزيمة المسيح الإلهية القوية فحلت محله هذه الأمنية الجليلة التي أفرغها في شكل طلب: "أيها الآب مجد اسمك". إن الإشارة إلى جثسيماني, هي البشارة, ليست في هذا العدد بل في 18: 1 "حيث كان بستان".

(2) الصوت السماوي وتأويله (12: 28 ب-33). (أ) الصوت السماوي (12: 28 ب). (ب) تأويله (12: 29-33).

28أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً».

عدد 28 ب. (أ) الصوت السماوي: "فجاء صوت من السماء. مجدت وأمجد أيضاً". كان هذا الصوت إيجابة لأمنية المسيح التي أفرغها في شكل طلب. هذا مستفاد من حرف الفاء في كلمة "فجاء".

مثلما شهد الآب للمسيح شهادة مسموعة عند بدء خدمته وقت المعمودية (1: 32), ومثلما شهد له أيضاً في قلب خدمته على جبل التجلي (متى 17), كذلك شهد له أيضاً عن خاتمة خدمته قبيل الصلب. وكان القصد من هذه الشهادة ختم عمل المسيح وشخصه, بخاتم رضا الآب.

ومن المحقق أن هذا الصوت للم يكن ظاهرة طبيعية أولها المسيح روحياً, وإنما كان علامة خارقة للطبيعة, فأولها الغير المؤمنين إلى ظاهرة طبيعية. ويختلف هذا الصوت عما يسميه اليهود الرابيون بـ "بت قول" – أي "بنت الصوت" أو "صوت الوجدان", في أن هذا الصوت كان مسموعاً, بخلاف صوت الوجدان الذي هو أشبه الأشياء بلسان الحال.

إن الكلمات الذي حملها هذا الصوت: (أ) تتناول الماضي: "مجدت" – يشير هذا القول إلى خدمة المسيح بين اليهود وقد دنت إلى النهاية. (ب) تمتد إلى المستقبل: "وأمجد أيضاً" – يشير هذا القول إلى خدمة المسيح بين الأمم وقد آذنت بالبداية. إن حلقة الاتصال بين الخدمتين هي "الصلب". بهذا يتمجد اسم الآب بين اليهود, وبين الأمم, فتتم بذلك نبوة سمعان – "نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك اسرائيل", (أنظر أيضاً يوحنا 17: 1 و 2 و 4 و 5).

29فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ». 30أَجَابَ يَسُوعُ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا

عدد 29 و 30. تأويل هذا الصوت (12: 29-33). اختلف السامعون عن تأويل هذا الصوت, باختلاف استعدادهم. فالفرق الأول, وهم الغير المدربين على التمييز, قالوا: "قد حدث رعد". هؤلاء – لمزيد الأسف – كانوا الأغلبية. ومن المحزن, إن أنسالهم لا يزالون يعيشون بين ظهر أنينا إلى اليوم, إذ يحاولون أن يفسروا كل معجزة كتابية, كأنها ظاهرة طبيعية. والفريق الثاني – وهم أكثر تمييزاً من الأولين, استطاعوا أن يميزوا في الصوت بعد النبرات فسمعوا فيه كلمات, لكنهم جهلوا مصدرها, فقالوا: "قد كلمه ملاك". وكم من مرار يكلمنا فيها الله, فلا نفهم ولا نميز, لأن أسماعنا عليظة, وقلوبنا أشد علاظة. فالعبرة ليست بالصوت بل بالإذن السامعة, وبالعقل الذي يوحي إلى الأذن, ويترجم لها المعاني التي تحملها الأصوات. فالوحوش الغير المدربة, قد تسمع كلاماً, فلا تجد فيه إلا مجرد صوت. لكن الحيوانات الأليفة, تستطيع أن تميز في الصوت أمرا أو زجرا. والببغاء يفوق كل الحيوانات تهذيباً, يستطيع أن يميز الكلمات, لكن قوة المعاني تغيب عنه. لكن الإنسان العاقل, يفهم الفكر الذي تحمله الكلمات الصادرة من إنسان آخر.

إن صوت الله لم يميزه سوى الإله المتجسد: "أجاب يسوع وقال ليس من أجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم". لم يكن المسيح في حاجة إلى الشهادة له بصدق رسالته, لأن له الشهادة في نفسه. وإنما جاءت هذه الشهادة

الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ. 31اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ.

ليسمعه كل من له أذنان, وليميزها كل من لم يضع أصابعه في أذنيه. وكان القصد منها امتحان إيمان السامعين, وتثبي إيمان المؤمنين.

أما رسالة هذا الصوت, فهي مثلثة, ولها صلة وثيقة بالعالم: (1) دنو ساعة دينونته هذا العالم (عدد 31): "الآن دينونة هذا العالم". (2) حلول وقت إنزال رئيس العالم عن عرشه الزائف: "الآن يطرح رئيس هذا خارجاً". (3) مجيء ساعة ارتقاء المسيح على عرش الصليب. (عدد 32): "وأنا عن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع".

عدد 31. (1) دنو ساعة دينونة هذا العالم. يراد بدينونة العالم, إماطة اللثام عن وجه العالم الغادر, فيرى في صورنه الحقيقة. و "العالم" المقصود هنا, ليس العالم الطبيعي الذي خلقه الله: كالبحار والجبال وما إليها, ولا الناس العائشين على وجه هذه البسيطة, فهؤلاء قد أحبهم الله (3: 16). وإنما يراد به الروح العالمية, المادية, الغارقة في الحاضر المنظور, والمعادية لروح الله "لأن كل ما في العالم شهوة الجسد, وشهوة العيون, وتعظم المعيشة. ليس من الآب. بل من العالم. والعالم يمضي:" (1 يو 2: 16). هذا يوافقه قول بولس: "ديماس تركني إذا أحب العالم الحاضر" (2 تيموثاوس 4: 10).

إن أداة الدينونة المقصودة هنا, هي الصليب. لأن في نور الصليب انكشفت نيات العالم وخفاياه وتجسمت عداوته للمسيح في أشخاص الذين عملوا على صلبه فالعالم, حين صلب المسيح, فضح نفسه وشهر لذاته. فإذاً

اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ

الصليب صلب العالم. فإن العالم, برفضه مسيح الله برهن على أن أفكاره مضادة لأفكار الله, لأن أفكار العالم سطحية أفقية, لكن أفكار الله علوية عمودية. وهل الصليب ألا تقاطع خط أفقي مع عمودي (+)؟!

إن دينونة العالم, التي ابتدأ أول فصل منها يوم "الجمعة الحزينة", وتم الفصل الثاني منها يوم "خراب أورشليم", وتنجز بعد فصولها مع تعاقب الزمان, سيتم آخر فصل منها يوم يقام العرش الأبيض العظيم (عدد 48). وسيكون الصليب موضوع الدينونة, فكل الخطايا المنصوص عنها في ناموس موسى, تهون أمام خطية صلب المسيح. "من خالف ناموس موسى, فعلى شاهدين أو ثلاثة يموت بدون رأفة. فكم عقابا أشر تظنون أنه يحسب مستحقا من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قدس به دنساً" (عبرانيين 10: 28 و 29). على إن خطية صلب المسيح ليست منحصرة في الذين قاموا بهذا الفعل الذميم في بدء القرن الأول للميلاد, لكنها تتعداهم إلى الذين يرفضون صليبه, ويقيمون في قلوبهم كل يوم جلجثة جديدة يصلبونه عليها في القرن العشرين ويشكرونه. (عبرانيين 6: 6).

(2) حلول ساعة إنزال رئيس العالم عن عرشه الزائف: "الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجاً" – إذا كان الصليب قد أماط اللثام عن حالت العالم الروحية المعادية لله, فأنه قد استنفد آخر سهم في جعبة الشيطان – رئيس العالم الزائف, وإذ جرده عن سلاحه, طرحه خارجاً. في مناسبة سابقة

هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً. 32وَأَنَا

(لوقا 10: 18), سمعنا المسيح يقول إنه: "رأى الشيطان ساقطاً" أمام كلمة البشارة التي حملها تلاميذه. وهو الآن يراه وقد قوض الصليب دعائم عرشه الزائف, وطرحه خارجاً. في الصليب ظهرت خطية الشيطان الخاطئة في أشنع مظاهرها. فقديماً حرض الشيطان حواء على الأكل من الثمرة المحرمة, وبعدها بقليل سول لقايين أن يقتل أخاه هابيل, ولكن أشنع الخطايا التي ارتكبها إبليس هي تحريضه البشر على قتل المسيح البار الذي جاء أرضهم ليخلصهم. وبخطية الخطايا هذه, جرد الشيطان من رياسته للعالم, ونفى كما ينفي أسرى الحروب. إن الصليب هو المعركة الفاصلة بين المسيح وإبليس, فيها استجمع إبليس كل قواه, وضرب ضربة, فكانت القاضية – ولكن عليه لا على المسيح.

ومن المؤسف أن معلمي اليهود, كانوا يقولون إن الله أسلم العالم كله – إلا اليهود – ليد إبليس. فبرهنت الأيام على أن إبليس استخدمهم هم – قبل سواهم – في صلب ملكهم ومسيحهم.

إن قوله: "يطرح خارجاً" يشار به إلى تجريده من سلطته التي يسبى بها النفوس تحت سحر تأثيره (1يو 5: 19). فعندما أكمل الفداء على الصليب (19: 30), تم الفصل الأول من هزيمة الشيطان, وعندما تتم عملية الفداء (رؤيا 21: 6), يختتم الفصل الأخير من انهزامه. إن هذا اللقب "رئيس العالم" يقابله ذلك اللقب الجليل الذي وصف به المسيح: "رئيس الحياة" (أعمال 3: 15).

عدد 32. مجيء ساعة ارتقاء المسيح على عرش الصليب."وأنا".إن

إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ

ساعة انكسار "رئيس العالم", هي ساعة انتصار "رئيس الحياة ". وأن سقوط الملك الزائف, هو قيام الملك الحقيقي. وما كان الصليب الذي رفع المسيح عليه إلا عرشاً جلس عليه, وما كان الرداء الأرجواني الذي ألبسه إياه البشر هزءاً وسخرية, إلا حلة ملكية ألبسه الله إياها حقاً, وما كانت تلك القصبة سوى صولجان. أما أسلحته التي بها يملك, فهي سهام محبته. وجواهره التي يزين بها تاجه هي قطرات دمه الثمين. ليس في معداته شيء من القوات الدافعة,فكل قواته رافعة, وليس بين جيوشه جنود غاصبة, فكل قواته تأثيرات جاذبة: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع".

كان الصليب, رفعة للمسيح حساً ومعنى. أما حساً, فلأن صليب المسيح كان مرفوعاً عن الأرض فوق أكمة. وأما معنى, فلأن صليب الفادي كان أفصح ترجمان عن محبته المضحية, فانتهى بالقيامة وتوج بالصعود, فالجلوس على العرش في الأعالي (3: 14 و 8: 28). (أطلب تفسير هذين العددين في موضعيهما). إن مركز الجاذبية في المسيحية هو صليب المسيح.

ومن المهم أن نذكر أن المسيح لم يجلس على عرش الأرض, إلا بعد ارتفاعه عن الأرض, وفوقها. أما الغارقون في الأرض وفي مادتها ومجدها, فليسوا ملوكها. وإنما هم عبيدها المتوجون: فلا عرش أساساً وأثبت على تقلبات الزمان من العرش المخضب – لا بدماء الرعية بل بدم الراعي.

إن هذا العرش الصليبي أو الصليب الملكي الذي رفع عليه المسيح, قد

إِلَيَّ الْجَمِيعَ». 33قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ. 34فَأَجَابَهُ الْجَمْعُ: «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ

جرده من القيود لجسدية التي قبلها على نفسه بالتجسد, ورفعه فوق الحدود الوطنية, التي كان مرتبطاً بها كيهودي, فصار مسيحاً للعالم أجمع – ولليونانيين بنوع خاص: "أجذب إلى الجميع" – أي جميع الناس من كل أمة, ولغة, وجنس. نعم إن "الجميع" لم يأتوا إليه بعد, لأن الكثيرين لا يزالون مقاومين سحر تأثيره الخفي, لكن الغلبة في النهاية هي لمصلوب الجلجلثة, الذي أضحى وهو على الصليب أعز من ألف ملك, على ألف عرش, في ألف مملكة.وعما قريب "تصير جميع ممالك العالم للرب ولمسيحه". "فيملك من البحر إلى البحر, ومن النهر إلى أقاصي الأرض". (أنظر رومية 5: 18 و 2 كورنثوس 5: 15 و 1تيموثاوس 2: 6 وعبرانيين 2: 9 و1 يوحنا 2: 2 وكولوسي 1: 20).

عدد 33. كلمة تفسيرية: "قال هذا مشيراً إلى أي ميتة كان مزمعاً أن يموت". هذه كلمات يوحنا البشير- كعادته في تعليقه على بعض الحقائق. ليس كلام المسيح منحصراً في "الميتة التي كان مزمعاً أن يموت", بل يتناول أيضا القيامة والصعود, اللذين يتبعان موته, وإن تكن الإشارة في كلامه متجهة بنوع خاص إلى الصليب قابل هذا بما جاء في 18: 32 و 21: 19.

3- تحذيرات ووعود (12: 34-36). (أ) اعتراض الجمع: (12: 34). (ب) جواب المسيح (12: 35 و 36).

عدد 34. (أ) اعتراض الجمع: "فأجابه الجمع نحن سمعنا من الناموس

أَنَّ الْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟»

أن المسيح يبقى إلى الأبد. فكيف تقول أنت..". كان يفهم اليهود مما جاء في أشعياء 9: 6 ومزمور 100: 2-4 ودانيال 7: 14, إن المسيح سيأتي لقيم ملكوتاً أرضياً مستديماً, يظل هو عليه ملكاً إلى الأبد. فوجد في كلامه عن موته وارتفاعه عن الأرض, صعوبتين – إحداهما: كيف يقول عن نفسه إنه "ابن الإنسان" – بوجه التعميم – حال يكون مسيحهم المنتظر يلقب بـ "ابن داوود" على وجه التخصيص. فمن هو "ابن الإنسان" هذا؟ أهو شخصية مستقلة عن المسيح, أم هو مسيح على طراز جديد لم يسمعوا به من قبل؟ والصعوبة الثانية: كيف يتأتى وجود ملك منفصل عن ملوكته؟ فإن كان يسوع هو المسيح باعتراف الجماهير يوم أحد السعف, وبإقراره هو, وإذا كان سقيم ملكوتاً أرضياً مستديماً, فماذا يعني انفصال هذا الملك عن ملكوته بارتفاعه عنه؟ وأي نوع من الملكوت هذا؟ بل وأي طراز من الملكوت هذا؟.

إن في قولهم له: "أنت", نغمة استهانة بشخصه, مقابل تكريمهم للناموس. (قد أوضحنا معنى كلمة "ناموس" في 10: 34 فاطلبها هناك). غير أن المسيح لم يذكر كلمة: "ابن الإنسان" في عرض كلامه عن ارتفاعه, وإنما ذكرها في عدد 23 في كلامه عن تمجيده. ولعل اليهود ربطوا هاتين الآيتين معاً في احتجاجهم عليه. أما "ارتفاع ابن الإنسان" بحصر اللفظ, فقد تكلم عنه المسيح في 3: 14 "هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان".

35فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلنُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلَّا يُدْرِكَكُمُ الظّلاَمُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ

(ب) جواب المسيح: "فقال لهم يسوع. النور معكم زمانا ًقليلاً..." لم يشأ المسيح أن يدخل معهم في حوار جدلي, بل قدم لهم مزيداً من حقه الإيجابي وإذا كان قد تكلم عن صلة الصليب بشخصه وبتلاميذه في الأعداد 23 – 27, فقد تحدث في عددي 31 و 32 عن صلة الصليب بالعالم, وفي عددي 35 و 36, عن صلة الصليب بالمستمعين له من اليهود. إن الكلام المتضمن في هذين العددين, أشبه بكلمات وداع من المسيح لليهود كأمة. لأنه بعد هذا, مضى واختفى عنهم, فغابت شمس مجدهم وراء الأفق. يتضمن كلامه في هذين العددين:

عدد35. (1) إعلاناً خطيراًً بأن شمس نعمتهم آذنت بالمغيب: "النور معكم زماناً قليلاً ". لعل المسيح ذكر هذه العبارة معارضة لقولهم له: "إن المسيح يبقى إلى الأبد" (عدد 34). إن الشمس التي ستغرب عنهم لا تزول, لكنها تشرق في حي الأمم. وسفر الأعمال, خير موعظة على هذه العبارة.

2 – تحريضاً: "فسيروا مادام لكم النور" في السير حياة, ونفع, وتقدم. والويل كل الويل لمن يقف لأن الوقت قصير, والمسافة طويلة. كلمة: "مادام" تتمشى مع كلمة "زماناً يسيراً بعد".

3 – تحذيراً "لئلا يدرككم الظلام" – بعد غروب شمس النغمة عنهم, فيكونون كبني إسرائيل في البرية من غير عمود النار. (قابل هذا بما جاء في إرميا13: 16). "والذي يسير في الظلام لا يعلم إلى أين يذهب", لأن الظلمة

إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. 36مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ». تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ. 37وَمَعَ أَنَّهُ

أعمت عينيه. ومن المحزن جداً أن يغمض الإنسان عينيه في الظلام والشمس لا تزال مشرقة – هكذا فعل اليهود.

عدد36. (4) وعداً: "مادام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور". لم يشأ رب النعمة أن يختتم كلامه معهم بالتحذير, بل خاطبهم مشجعاً وواعداً, بل داعياً إياهم إلى الإيمان به, على اعتبار أنه هو "النور". إن من يسير في الظلام, لا يقف عند حد صيرورته أعمى, بل يصير مظلماً, وفي النهاية يمسى ظلاماَ مجسماً. وكذلك من يؤمن بالنور, ويقبل إليه, لا يكتفي بأن يكون مبصراً, بل يصير منيراً لأن طبيعته تستحيل إلى نور – هذا معنى قوله "لتصيروا أبناء النور". قابل هذا بما جاء في لوقا 16: 8 "أبناء النور في جيلهم", وفي 1 تس 5: 5 "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار", وفي أفسس 5: 8 "اسلكوا كأولاد نور". إن كل شخص يتأثر بالبيئة المحيطة به, فتصير هي فيه, وهو فيها.

دينونة عدم الإيمان: (12: 37 - 50).

بهذا الفصل, يختم القسم الأول من هذه البشارة. في القسم الأول حدثنا البشير عن خدمة المسيح الجهرية في العالم, وسيحدثنا في القسم الثاني عن خدمة المسيح الخاصة بين خاصته. ثمرة القسم الأول – عدم الإيمان. وثمرة القسم الثاني – الإيمان. شعار القسم الأول: "خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم". وشعار القسم الثاني: "أترك العالم وأذهب إلى الآب" (16: 28).

كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ 38لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ

فما أشبه هذا الفصل ببرزخ يفصل بين بحر خدمة المسيح الجهرية, وبحر خدمته الخاصة. بل ما أشبهه بأكمة وقف عليها البشر وألقى نظرة استشفاف إلى الماضي, فحدثنا عن: (أ) وصف عدم إيمانهم وعلته (12: 37 - 43). (ب) كلمات ختامية عن مقام المؤمن, ومقام غير المؤمن (12: 44 - 50).

(أ) وصف عدم إيمانهم وتعليله: (12: 37 - 43).

عدد 37. (1) كان عدم إيمانهم عنادياً, على رغم كثرة الوسائط: "ومع أنه" – أي المسيح – "كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها, لم يؤمنوا به". هذا إقرار من البشر, بأن المسيح صنع معجزات أكثر كثيراً من السبع المدونة في بشارته كعينات رمزية, تحمل كل منها "آية" لقوم يعقلون. فهي "آيات" في السماء, وفي الأرض, وفي البحر. منها "آيات" صنعت في الأحياء, وأخرى تمت في الموتى. منها ما تم في بيت الوليمة, وما أجري في بيت النوح. لكن اليهود, على الرغم من ذلك, لم يريدوا أن يؤمنوا, لأنهم أغمضوا عيونهم عن النور لئلا يروا!.

عدد 38. (2) لم يمكن عدم إيمانهم, حادثا جديدا: - فقد سبق وتنبأ عن أشعياء: "ليتم قول إشعيا النبي الذي قال يا رب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب": يراد بقوله "خبرنا" – تلك الرسالة التي حملها أشعياء وسائر الأنبياء, إلى الناس. إن إشعياء, في قوله "من صدق"

خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟» 39لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً: 40«قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لِئَلَّا

(53: 1), يشكو قلة عدد المؤمنين لا عدم وجودهم على الإطلاق. وهو يشكو عدم إيمان الناس بأمرين – أولهما: الخبر الذي جاءهم من الله على يد أنبيائه: "خبرنا". وثانيهما: القدرة الإلهية التي استعلنت لهم: "ذراع الرب". ولا يبرح عن أذهاننا أن النبوة التي يستهلها إشعياء بهذا القول: "من صدق خبرنا", خاصة بمسيا (المسيح) المتألم. وإذا كان الشعب في أيام إشعياء لم يصدق هذه النبوة لغموضها وعدم وضوحها, فتمت فيه هذه النبوة مبدئياً, إلا أن زعماء اليهود العائشين في وقت المسيح, لم يصدقوا تعاليم المسيح – المعبر عنها بقوله: "خبرنا", ولم يؤمنوا بمعجزاته وآياته المنوه عنها بقوله: "ذراع الرب", على رغم جلائها ووضوحها, فتمت فيه نبوة إشعياء كمالياً. إذاً لم يكن عد إيمان الشعب في أيام إشعياء, سوى رمز ونبوة لعدم إيمان زعماء اليهود أيام المسيح.

عدد 39 و 40. عدم قدرتهم على الإيمان كلن نتيجة طبيعية لعدم إرادتهم أن يؤمنوا: "لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا لأن إشعياء قال أيضا..". ليس معنى هذا, أن ما قاله إشعياء كان له تأثير عليهم, بل أن المبدأ الذي قالع إشعياء ينطبق عليهم: إن من يرفض الإيمان في بادئ الأمر, حراً مختاراً, يرفضه الإيمان في نهاية الأمر, قهراً وإجباراً. وإن من يغمض عينيه عن النور, يرفع عنه النور, وتسحب منه قوة الإبصار. هذا مبدأ طبيعي بل حكم إلهي لأن الله يستخدم العوامل الطبيعية لإتمام مقاصده. إن من يكف عن تحريك

يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». 41قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ. 42وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً

ذراعه حينا من الدهر, لا يلبث أن يخسر هذه الذراع, لأنها تصبح فريسة للجفاف والجمود. ويقول علماء الأحياء, إن في كهف "ماموث" بأمريكا الشمالية, بركة مظلمة, يعيش فيها نوع من السمك, وإن هذا السمك أمسى بلا عيون, لأن عدم فتح العيون إلى حين, انتهى إلى فقدها. فأما أن ننتفع بما عندنا فيزاد لنا, أو نحسره فيزال عنا. وما ربك بظلام للعبيد.

عدد 41. كلمة تفسيرية: "كان إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه" بهذه الكلمات قدم يوحنا المفتاح الحقيقي لرؤيا إشعياء (إش 6), ومن غير يوحنا الرائي, يستطيع أن يكشف أسرار رؤيا إشعياء؟ هذا دليل من أقوى الأدلة لإثبات لاهوت المسيح, وحجة دامغة على أن المسيح كائن قبل التجسد, فرأى إبراهيم يومه (8: 56), ورأى إشعياء مجده, حين "رأى السيد (أدوناي) جالسا على كرسي عال ومرتفع. وأذياله تملأ الهيكل" (إش 6: 1). هنا يلتقي يوحنا ببولس في تفسير رموز العهد القديم (أنظر 1 كورنثوس 10: 4). إن ضمير "الهاء" في كلمة "عنه" يعود على المسيح.

عدد 42 و 43. الإيمان الذي حجزه الخوف: مع أن السواد الأعظم من اليهود لم يؤمن بالمسيح كمجموع, كما يستفاد من عدد 37 – 41, "ولكن مع ذلك آمن به كثيرون من الرؤساء أيضاً" – وهم أفراد مثل نيقوديموس,

غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ لِئَلَّا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ 43لأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ. 44فَنَادَى يَسُوعُ: «ﭐلَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي

ويوسف الرامي, الذين تغلبا على ضعفهما فيما بعد (19: 38 - 42), وغمالئيل الذي غالبه الضعف فغلبه. وقد دلنا يوحنا في هذين العددين على العلة التي كانت السبب في خنق إيمان أمثال غمالئيل – وهي: الخوف على المركز الاجتماعي: "غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به لئلا يصيرون خارج المجمع". أما علة هذا العلة فقد كشف عنها يوحنا بقوله: "لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله"! ألا ننجد في قوله "أكثر من مجد الله" مقابلة بين هؤلاء الرؤساء المستضعفين, هواة الصيت والمديح المستطاب, وبين إشعياء الذي شبع وارتوى من رؤية "مجد الرب" (عدد 40)؟ إن قوله "مجد الرب" يعني المجد الذي أعده الله للمؤمنين به (أنظر رومية 3: 23).

(ب) كلمات ختامية عن مقام المؤمن, ومقام غير المؤمن 12: 44 – 50 ليست هذه كلمات جديدة فاه بها المسيح في الوقت الذي انتهت فيه خدمته الجهرية, وإنما هي خلاصة استجمعها البشير, من أقوال المسيح, ليبين لنا منها: (1) مقام المؤمن (12: 44 - 46). (2) مقام الغير مؤمن (12: 47 - 49). (3) مقام كلام المسيح (12: 50).

عدد 44 – 46. (1) مقام المؤمن: مراراً وتكراراً شهد المسيح بالصلة المكينة التي بينه وبين الآب – تلك الصلة التي أظهرت الآب بكمال تجلياته

بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. 45وَﭐلَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. 46أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ. 47وَإِنْ سَمِعَ

في شخص المسيح. فكل من يؤمن بالمسيح لا يقف إيمانه عند شخص يسوع الإنسان, بل يمتد إلى الآب الذي أرسله. وكذلك كل من يرى المسيح, لا يقف نظره عند حجاب جسد المسيح, بل يتعداه إلى شخص الآب الذي أرسله. هذه شهادة قوية, من فم المسيح, تدحض قول القائلين بأن من أرسله. هذه شهادة قوية, من فم المسيح, تدحض قول القائلين بأن من يؤمن بالمسيح, يعد كافراً بالله. لقد كذبوا في ما يدعون. لأن من يؤمن بالله, يؤمن بالمسيح ومن يؤمن بالمسيح يؤمن بالله (14: 1).

ليس في هذا القول أية رائحة للادعاء, لكنه ينم عن تضحية تامة, وإخلاء للذات: "أنا قد جئت نوراً إلى العالم, حتى كل من يؤمن بي, لا يمكث في الظلمة" – الطبيعية المولود فيها, بل يرى الله الذي جاء المسيح ليرينا إياه. (14: 9). وكما أن النور لا يجذب الأنظار إلى ذاته, بل إلى المرئيات التي يكشفها, كذلك جاء المسيح نوراً إلى العالم, ليرينا الله ما هو ومن هو. ولا يبرح عن بالنا أن المسيح تكلم في هذا العدد الأخير, عن وظيفته, لا عن مقامه.

عدد 47 – 49. (2) مقام الغير المؤمن. إذا كان المجد من نصيب من يؤمن بالمسيح, فالدينونة واقعة على من لا يؤمن به. لأنه كما أن شخص المسيح, هو مرآة تجليات شخص الآب, كذلك كلامه, مرآة فكر الآب. فهو المحك الذي يدان به الغير المؤمنين. وجدير بنا أن نلاحظ الأهمية الكبرى التي جعلها المسيح لكلامه, إذ جعله في مقام شخصه بالذات: "وإن سمع

أَحَدٌ كلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِأُخَلِّصَ الْعَالَمَ. 48مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ 49لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ. 50وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ».

أحد كلامي ولم يؤمن" (عدد 47), "من رذلني ولم يقبل كلامي" (عدد 48). أما قول المسيح: "لأني لم آت لأدين العالم .." فارجع في تفسيره إلى 8: 15.

من الكلام عن الدينونة الأدبية, في هذه الحياة, انتقل المسيح إلى الكلام عن الدينونة الأبدية, في اليوم الأخير, وبما أن كلامه, هو مرآة فكر الله وإرادته, فهذا الكلام هو خير شاهد في القضاء, بل أكمل مقياس للدينونة العتيدة. لأنه وصية تسلمها المسيح من الله.

عدد 50. مقام كلام المسيح. "وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية.." إن الوصية التي تسلمها المسيح من الآب, ليست مأمورية تلقاها منه دفعة واحدة قبل التجسد, وإنما هي رسالة متواصلة كانت تبلغ إليه على التوالي حسب مقتضيات الأحوال. وقد تكلم بجزء منها للعالم الخارجي, وأما جزؤها الباقي, فسيتحدث به إلى التلاميذ الأخصاء فيما يلي. يراد بقوله: "هي حياة أبدية", إنها تبعث الحياة في القلوب الميتة, وتأتي بالناس إلى معرفة الإله الحقيقي وحده, ويسوع المسيح الذي أرسله – هذه المعرفة هي الحياة الأبدية.


12- يقول يوسابيوس المؤرخ الكنسي الشهير إن ملك ادسا Edessa من أعمال سورية, أرسل وفداً إلى المسيح طالباً إليه أن يقيم معه, واعدا إياه بحفاوة ملكية, تعوض عليه رفض اليهود إياه.

(تاريخ يوسابيوس الجزء الأول صفحة 13).

13- لقد أجاد احد المصورين الإيطاليين إذ رسم صورة الملاك الذي ظهر في جثسيماني حاملا صليباً في يده ليقوي المسيح به.

14- يختلف هذا الخاطر عن صلاة جثسيماني في أنه مجرد من القول: "إن أمكن" و "لكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (متى 26: 39) - أنظر شرح بشارة لوقا للمؤلف صفحة 576-583.

  • عدد الزيارات: 5714