Skip to main content

ليت الله يتكلم -1

النص الكتابي: أيوب 11

قد نتساءل إذ نجابه مرضاً عضالاً حل بنا: لماذا هجم علينا هذا المرض؟ وان فاجأتنا مشكلة كبيرة كخسران بيتنا أو ثروتنا أو عزيز لنا, نقول: أهناك عدل في هذه الدنيا؟ لماذا حدث لنا هذا الأمر المزعج ونح نعيش في عالم تحت سلطة الله القدير؟

وما أن ابتدأنا بالكلام عن معضلات الحياة حتى أتينا على ذكر الله فنحن لا نستطيع البحث في موضوع الحياة البشرية وما يكتنفها من ألغاز إلا وان نأخذ الله بعين الاعتبار. فنحن نقر به ولا نجري وراء العديدين من معاصرينا الذين وقعوا فريسة للالحاد بشتى مظاهره. نقطة ابتداء تفكيرنا هي الله خلق الكون وبارينا نحن البشر. وعندما نقر بهذا المبدأ الأساس لا نعني بأن كل شيء في حياتنا يصبح شفافا سهل الفهم. على العكس يجابه المؤمن صعوبات فكرية وروحية جمة لأنه مع معتقده القويم المتركز على سلطة الله وهيمنته على كل ما يجري في تاريخ البشر لا يقدر أن يسوى بين ذلك وبين ما يتم في حياته الخاصة.

وكنا في المدة الأخيرة قد ابتدأنا في البحث في موضوع الآلام التي تنصب على بني البشر وخاصة على المؤمنين. ولم نسع إلى انتهاج مسلك مستقل عن إيماننا بالله بل لجأنا إلى أحد كتب الوحي وهو سفر أيوب الصديق الذي أعطانا إياها الله في أيام ما قبل الميلاد.

عاش أيوب الصديق في القسم الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية وكان الله قد أنعم عليه بخيرات عديدة لا تعد ولا تحصى. وكان أيوب يخاف الله ويتقيه ويعبده عبادة حقيقية صافية وخالية من النفاق. ولكن الشيطان الذي كان واقفا له بالمرصاد ادعى أمام حضرة الله بان أيوب كان يتقي الله ويعبده بسبب كل ما كان الله قد أغدق عليه من بركات س. فسمح له الله للشيطان بأن يسلب أيوب ثروته وأولاده وصحته ولم يدري أيوب بذلك بل أخذ يتساءل عن سبب كل ما حل به وهو الذي كان يخاف الله ويسير في طريقه المستقيم.

جاء أصحاب أيوب الثلاثة أليفاز التيماني وبلدد الشوحي وصوفر النعاماتي جاؤوا لتعزيته ولكنهم كانوا قد حكموا عليه مسبقا بأنه نظرا لما كان قد حل به من مصائب كان قد استحقها بشر معين كان قد ارتكبه وهكذا انقلبوا من معزين إلى مضايقين ولم يستفد أيوب من خطبهم التي نادوا بها. وعندما نأتي إلى الفصل العاشر من سفر أيوب نقف على كلمات صوفر النعماتي الذي كان أشد صرامة مع أيوب ولذلك جاءت كلماته جارحة للغاية.

قال هذا لأيوب مؤنبا إياه:

[أَكَثْرَةُ الْكَلاَمِ لاَ يُجَاوَبُ أَمْ رَجُلٌ مِهْذَارٌ يَتَبَرَّرُ؟ 3أَصَلَفُكَ يُفْحِمُ النَّاسَ أَمْ تَلْغُو وَلَيْسَ مَنْ يُخْزِيكَ؟ 4إِذْ تَقُولُ: تَعْلِيمِي زَكِيٌّ وَأَنَا بَارٌّ فِي عَيْنَيْكَ. 5وَلَكِنْ يَا لَيْتَ اللهَ يَتَكَلَّمُ وَيَفْتَحُ شَفَتَيْهِ مَعَكَ 6وَيُعْلِنُ لَكَ خَفِيَّاتِ الْحِكْمَةِ! إِنَّهَا مُضَاعَفَةُ الْفَهْمِ فَتَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يُغَرِّمُكَ بِأَقَلَّ مِنْ إِثْمِكَ.

ظن صوفر أن أيوب كان قد تكلم أكثر من الحاجة أي أنه صار ثرثارا في أجوبته على عظات كل من أليفاز وبلدد ولذلك كان على أيوب أن يلازم الصمت ولا بتابع دفاعه على نفسه. و كما ذكرنا سابقا كان أصحاب أيوب الثلاثة قد جاؤوا بفلسفتهم المحدودة الأفق والتي كانت مبنية على الظن بأن كل إنسان  معذب هو مستحق لعذاباته لأن الله يعاقب كل بشري بالنسبة للأخطار ء والمعاصي والشرور التي ارتكبها وبعبارة أخرى , لم يقر رفاق أيوب الثلاثة بأن أمور هذه الحياة لا تفهم دائما على أساس تلك النظرة التبسيطية والأحادية وأنه هناك ألغاز وأسرار لا يستطيع العقل البشري أن يسر غورها.

وهكذا كانوا يفسرون كل ما يجري في الدنيا على أساس نقطة انطلاق تفكيرهم: يتعذب النسان بمقدار الشر الذي يرتكبه في هذه الدنيا.

على هذا الأساس أدان صوفر أيوب واتهمه بأنه رجل مهذار يحاول أن يبرر نفسه بكثرة كلامه. وتظاهر صوفر بتقواه وتدينه متمنيا لو كان الله يتكلم في تلك اللحظة ويفحم أيوب ويعلمه الحكمة ليرى أنه كان يستحق عقابا أكبر من العقاب الذي حل به. يالها من كلمات مؤلمة للغاية ! كيف تفوه بها صديق لأيوب؟ هل كان يشعر بعبء الآلام التي كان أيوب ينوء تحتها؟ وهل كان صوفر قد خسر جميع أمواله وأولاده وصحته كأيوب؟ وكيف كان بامكانه أن يقول: أن الله يغرمك بأقل من إثمك؟

رغب صوفر بأن يعلن الله لأيوب خفيات الحكمة. ولكنه كان هو بحاجة ماسة إلى الحكمة الإلهية التي كانت ستمكنه من الابتعاد عن الحكم على رفيقه بأنه كان قد نال جزاء أقل مما كان يستحقه. وتمادى هذا الرفيق المنتقد , تمادى في انتقاد أيوب عندما أخذ يلقي عليه محاضرة عن سمو الله على جميع مخلوقاته وعن حكمة القدير اللا محدودة قائلا:

7[أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ أَمْ إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ 8هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَةِ فَمَاذَا تَدْرِي؟ 9أَطْوَلُ مِنَ الأَرْضِ طُولُهُ وَأَعْرَضُ مِنَ الْبَحْرِ. 10إِنْ بَطَشَ أَوْ أَغْلَقَ أَوْ جَمَّعَ فَمَنْ يَرُدُّهُ؟ 11لأَنَّهُ هُوَ يَعْلَمُ أُنَاسَ السُّوءِ وَيُبْصِرُ الإِثْمَ فَهَلْ لاَ يَنْتَبِهُ؟ 12أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْمِ وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإنسان .

لم يكن أيوب ولا أي مؤمن آخر بالله القدير , لم يكن لينكر صوابية هذه الكلمات التي تصف لنا قدرة الله وحكمته الفائقة للعقل البشري.

جميعنا نقر بها ونقول ما أكبر البون الشاسع الذي يفصل حكمة الله عن معرفة بني البشر المحدودة ! لكن أيوب وهو الذي يقر بها من أعماق قلبه والذي كان يشعر في نفس الوقت بأنه لم يرتكب ذنبا معينا ليستحق ما حل بها من كوارث , لم يفهم أيوب كيف صار له ما صار. كيف سمح الله وهو العادل والشفوق والمحب وهو على كل شيء قدير , كيف سمح لعبده بأن يسقط إلى هذا الحضيض؟ لم تساعده كلمات صوفر لأنها مع كونها واصفة لبعض أمور الله بصورة صحيحة إلا أنها لم تقترب من مشكلة أيوب ولم تساعد على حل الألغاز التي كانت تكتنفه.

وثابر صوفر على معتقده الخاطىء بأن أيوب كان مستحقا لكل ما حل به ولذلك ناشده في القسم الأخير من خطابه بأن يتوب عن غيه طالبا من ربه بأن يمن عليه بالغفران فقال:

13[إِنْ أَعْدَدْتَ أَنْتَ قَلْبَكَ وَبَسَطْتَ إِلَيْهِ يَدَيْكَ. 14إِنْ أَبْعَدْتَ الإِثْمَ الَّذِي فِي يَدِكَ وَلاَ يَسْكُنُ الظُّلْمُ فِي خَيْمَتِكَ 15حِينَئِذٍ تَرْفَعُ وَجْهَكَ بِلاَ عَيْبٍ وَتَكُونُ ثَابِتاً وَلاَ تَخَافُ. 16لأَنَّكَ تَنْسَى الْمَشَقَّةَ. كَمِيَاهٍ عَبَرَتْ تَذْكُرُهَا. 17وَفَوْقَ الظَّهِيرَةِ يَقُومُ حَظُّكَ. الظَّلاَمُ يَتَحَوَّلُ صَبَاحاً. 18وَتَطْمَئِنُّ لأَنَّهُ يُوجَدُ رَجَاءٌ. تَتَجَسَّسُ حَوْلَكَ وَتَضْطَجِعُ آمِناً. 19وَتَرْبِضُ وَلَيْسَ مَنْ يُزْعِجُ وَيَتَضَرَّعُ إِلَى وَجْهِكَ كَثِيرُونَ. 20أَمَّا عُيُونُ الأَشْرَارِ فَتَتْلَفُ وَمَلْجَأُهُمْ يَبِيدُ وَرَجَاؤُهُمْ تَسْلِيمُ النَّفْسِ].

طبعاً إن كل إنسان  خاطىء ومتعد على الشريعة الإلهية عليه التوبة والابتهال إلى الله ليغفر له ذنوبه وأخطاءه ومعاصيه. لكن أيوب كما ذكرنا في مناسبات عديدة , لم يكن ملما بأي معصية معينة كان قد ارتكبها. وكل مصائبه كانت قد انقضت عليه انقاد الصاعقة وبدون سابق إنذار. فمناشدة صوفر له (أي لأيوب ) لم تكن في محلها وكانت عبارة عن محاضرة عامة في العلوم الدينية والأخلاقيات. وكأن لسان حال أيوب الصديق كان: أنا اعرف ما تقوله لي وأقر بصوابيته ولكن ما علاقة كلماتك هذه بحالتي الخاصة؟ ولماذا ألقيت علي يا صوفر أنت الذي كنت من أصحابي وخلاني الأوفياء , لماذا ألقيت علي هذه المحاضرة الدينية وأنت تظن بأني رجل خاطىء أثيم وأني قد أخفيت بناء على سابق تصميم خطاياي ومعاصيّ؟

وهكذا علينا أن نتعلم من مقدمة سفر أيوب ومن كلماته وأجوبة رفاقه الثلاثة أن معضلة أيوب الروحية كانت أعمق بكثير مما تعلمناه حتى الآن من الفصول الإحدى عشر الأولى. ذكرت مقدمة هذا الكتاب أن أيوب كان كاملا ومستقيما يتقي الله ويحيد عن الشر. شهد له الوحي الإلهي بأنه لم يكن من كاسري الشريعة الإلهية ولا من الذين كانواقد نسوا الله أو عبادته عبادة صادقة وصافية. وكذلك أطلعنا الوحي عن العامل الشيطاني في سيرة أيوب أي كون الشيطان قد أنزل به كل تلك النوائب ولكن أيوب كان جاهلا لذلك فلم يأخذ هذا العامل بعين الاعتبار. وأما رفاق أيوب الذين وفدوا عليه لمؤاساته فإنهم صاروا من المشتكين عليه.

وعلينا نحن الذين نعيش في أيام اكتمال الوحي أي في العصر الميلادي , علينا أن نذكر بأن الأبرياء كثيراً ما يتعذبون في هذه الدنيا وأن الأشرار لا يعاقبون تواً لدى ارتكابهم للمعاصي والآثام. كانت مشكلة رفاق أيوب العقائدية أنهم نظروا إلى الحياة البشرية من منظور ضيق للغاية وأن دليلهم الوحيد لتفهم مسيرة الحياة البشرية إنما كان اجتهادهم الخاص بكون كل متألم ومعذب في هذه الدنيا مستحقاً لعذابه. لم يكن هذا الإجهاد سليماً لأنه تناسى أن الحياة البشرية كثيرا ما تكتنفها ألغاز وأسرار وأن عقلنا البشري لا يستطيع سبر غورها. وإقرارنا بوجود هذه الألغاز لا يعني بأننا قد نسينا أو تناسينا معتقدنا بكون الله قديرا ومهيمن على كل ما يتم ويجري في هذا العالم.

وقد ناشد كاتب الرسالة إلى العبرانيين المؤمنين والمؤمنات بالمخلص يسوع المسح ناشدهم بأن يتشبثوا بمواعيد الله وسط العذابات التي يقاسونها ولا يخالوا بأن ما حل بهم إنما كان عقاباً من الله, فقال:

5وَقَدْ نَسِيتُمُ الْوَعْظَ الَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ: «يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ. 6لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ». 7إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ 8وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ. 9ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدّاً لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟ 10لأَنَّ أُولَئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّاماً قَلِيلَةً حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هَذَا فَلأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ. 11وَلَكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ. 12لِذَلِكَ قَّوِمُوا الأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَالرُّكَبَ الْمُخَلَّعَةَ، 13وَاصْنَعُوا لأَرْجُلِكُمْ مَسَالِكَ مُسْتَقِيمَةً، لِكَيْ لاَ يَعْتَسِفَ الأَعْرَجُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ يُشْفَى. 14اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ.

آمين

  • عدد الزيارات: 3917