الله لا يفعل السوء -2
كنا قد ابتدأنا في المدة الأخيرة بسلسلة عظات جديدة مبنية على سفر أيوب ولاحظنا أنه مني بضربات هائلة في صميم حياته. فخسر ثروته الطائلة وأولاده وصحته لا لشر خاص عمله بل لتأديبنا لأن الشيطان كان قد ادعى أمام الحضرة الإلهية بأن أيوب إنما سار في طريق الله نظراً لكل الخيرات والبركات التي نالها من ربه. وهكذا سمح الله للشيطان بأن ينهال على عبده أيوب بتلك الضربات والويلات. ولم يكن أيوب ملما بذلك بل أخذ يتساءل عن سبب كل ما نزال به ولم ينجح أصحابه الثلاثة في تعزيته وانقلبوا بين عشية وضحاها إلى منتقدين له.
وبعد أن أجاب أيوب على انتقادات كل من رفاقه الثلاثة لا حظنا في عظتنا السابقة دخول شخص رابع واسمه أليهو إلى حلقة النقاش الذي كان يدور مع أيوب.
وَقَالَ أَلِيهُو: 2[اسْمَعُوا أَقْوَالِي أَيُّهَا الْحُكَمَاءُ وَاصْغُوا لِي أَيُّهَا الْعَارِفُونَ. 3لأَنَّ الأُذُنَ تَمْتَحِنُ الأَقْوَالَ كَمَا أَنَّ الْحَنَكَ يَذُوقُ طَعَاماً. 4لِنَمْتَحِنْ لأَنْفُسِنَا الْحَقَّ وَنَعْرِفْ بَيْنَ أَنْفُسِنَا مَا هُوَ طَيِّبٌ.
لم يتفق أليهو مع رفاق أيوب الثلاثة بخصوص إدانتهم لصاحبهم المعذب لأنه لم يقبل حجتهم الرئيسية بأن كل إنسان متألم إنما يكون قد استحق آلامه لأن الله يكيل لكل إنسان مقدارا معادلا لآثامه وشروره المرتكبة في الحياة الدنيا. هكذا رأي هو تبسيطي للغاية وغير مبني على الوحي الإلهي ولا على الواقع المعاش. وفي نفس الوقت رفض أليهو موقف أيوب الغير حميد تجاه الله لأنه ( أي أيوب ) كان يدعي بأن معاملة الله له لم تكن مبنية على أساس العدل. واستطرد الشاب أليهو قائلا: 5[لأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: تَبَرَّرْتُ وَاللهُ نَزَعَ حَقِّي. 6عِنْدَ مُحَاكَمَتِي أُكَذَّبُ. جُرْحِي عَدِيمُ الشِّفَاءِ مِنْ دُونِ ذَنْبٍ. 7فَأَيُّ إنسان كَأَيُّوبَ يَشْرَبُ الْهُزْءَ كَالْمَاءِ 8وَيَسِيرُ مُتَّحِداً مَعَ فَاعِلِي الإِثْمِ وَذَاهِباً مَعَ أَهْلِ الشَّرِّ؟ 9لأَنَّهُ قَالَ: لاَ يَنْتَفِعُ الإنسان بِكَوْنِهِ مَرْضِيّاً عِنْدَ اللهِ.
كانت هذه الخلاصة شكوى أيوب. الله نزع حقي ! أنا البريء أكذب عدما أظهر أمام الله. ما الفائدة من السير على طريق الله إن كانت نهاية الإنسان الشرير كنهايتي؟ رفض أليهو هذه الآراء من أساسها ووصف أيوب بأنه كان كمن يشرب الهواء كالماء. أي كمن يتفوه بكلمات لا يفقه معناها. ولذلك استمر أليهو قائلا:
10[لأَجْلِ ذَلِكَ اسْمَعُوا لِي يَا ذَوِي الأَلْبَابِ. حَاشَا لِلَّهِ مِنَ الشَّرِّ وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ. 11لأَنَّهُ يُجَازِي الإنسان عَلَى فِعْلِهِ وَيُنِيلُ الرَّجُلَ كَطَرِيقِهِ. 12فَحَقّاً إِنَّ اللهَ لاَ يَفْعَلُ سُوءاً وَالْقَدِيرَ لاَ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ.
ليس الله بصانع الشر ولا ينسب لقدير ظلم. لا يجوز لمؤمن بالله بأن يفكر على هذا المنوال. نعم هناك شر في دنيانا وهناك عذابات وآلام لا تعد ولا تحصى. ويمكنك أنت ويمكنك أنت كما يمكنني أنا أيضا في هذه اللحظة بأن نجيء بلائحة طويلة وعريضة لتفاصيل المآسي والنكبات التي حلت بمعاصرينا منذ أواسط القرن العشرين. لكنه هل يجوز لنا أن ننسب لله عجزه عن السيطرة على مقدرات عالم القرن العشرين أو عدم اكتراثه بدنياه؟
طبعا نحن لا نفهم ولا نفقه أسباب العديد من حوادث التاريخ المعاصر أن كانت تلك التي مست حياتنا الشخصية بالفعل أو تلك التي أثرت على مجريات حياة أقراننا بني البشر. كوننا مؤمنين بالله لا يعني أن كل شيء في حياتنا وفي دنيانا يصبح سهل الفهم. ليس التاريخ القديم منه أو الحديث المعاصر , ليس التاريخ موضوعا شفافا. تبقى الكثير من تفاصيله ألغازا لا تفهم. لكنه بالرغم من كل ذلك فإننا نبقى على يقيننا بان زمام الأمور لم يفلت من يد الله ونكرر مع أليهو قائلا: حاشا لله من الشر وللقدير من الظلم.
أنهى أليهو الفصل الرابع والثلاثين قائلاً: 34ذَوُو الأَلْبَابِ يَقُولُونَ لِي بَلِ الرَّجُلُ الْحَكِيمُ الَّذِي يَسْمَعُنِي يَقُولُ: 35إِنَّ أَيُّوبَ يَتَكَلَّمُ بِلاَ مَعْرِفَةٍ وَكَلاَمُهُ لَيْسَ بِتَعَقُّلٍ. 36فَلَيْتَ أَيُّوبَ كَانَ يُمْتَحَنُ إِلَى الْغَايَةِ مِنْ أَجْلِ أَجْوِبَتِهِ كَأَهْلِ الإِثْمِ. 37لَكِنَّهُ أَضَافَ إِلَى خَطِيَّتِهِ مَعْصِيَةً. يُصَفِّقُ بَيْنَنَا وَيُكْثِرُ كَلاَمَهُ عَلَى اللهِ].
ما يعنيه أليهو لدى تقييمه لكلمات أيوب هو أن صاحبنا المتألم والمعذب والذي كان يجهل سبب كل ذلك , أن صاحبنا أخذ يفكر بأن الله لم يعامله بمقتضى مبادى ء العدل بل كأنما صار أيوب عدوا لباريه وصانعه هكذا أفكار تجاه الله ومن طرف أيوب كانت غير مقبولة وأظهرت كما قال أليهو أن صاحبنا يتكلم بلا معرفة وكلامه ليس بتعقل ! أن نقبل وجود ألغاز في الحياة الدنيا أمر لا مفر منه , ولكن أن ننسب انعدام العدل من قبل الله فهذا أمر مرفوض مبدئيا.
وكما المحنا في مناسبات عديدة علينا نحن الذين نعيش في أيام اكتمال الوحي , علينا النظر إلى موضوع الآلام والعذابات من وجهة نظر العهد الجديد حيث نجد تعليما تكميليا في الفصل الرابع من رسالة بولس الثانية إلى جماعة الإيمان في مدينة كورنثوس اليونانية:
7وَلَكِنْ لَنَا هَذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ لِلَّهِ لاَ مِنَّا. 8مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لَكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. 9مُضْطَهَدِينَ، لَكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لَكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. 10حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا. 11لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِماً لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضاً فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ. 12إِذاً الْمَوْتُ يَعْمَلُ فِينَا، وَلَكِنِ الْحَيَاةُ فِيكُمْ. 13فَإِذْ لَنَا رُوحُ الإِيمَانِ عَيْنُهُ، حَسَبَ الْمَكْتُوبِ «آمَنْتُ لِذَلِكَ تَكَلَّمْتُ» - نَحْنُ أَيْضاً نُؤْمِنُ وَلِذَلِكَ نَتَكَلَّمُ أَيْضاً. 14عَالِمِينَ أَنَّ الَّذِي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ، وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ. 15لأَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لِكَيْ تَكُونَ النِّعْمَةُ وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بِالأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ. 16لِذَلِكَ لاَ نَفْشَلُ. بَلْ وَإِنْ كَانَ إنسان نَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً. 17لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً. 18وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ.....
1لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ. 2فَإِنَّنَا فِي هَذِهِ أَيْضاً نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ. 3وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً. 4فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ. 5وَلَكِنَّ الَّذِي صَنَعَنَا لِهَذَا عَيْنِهِ هُوَ اللهُ، الَّذِي أَعْطَانَا أَيْضاً عَرْبُونَ الرُّوحِ. 6فَإِذاً نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ. 7لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَيَانِ.8فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ. 9لِذَلِكَ نَحْتَرِصُ أَيْضاً مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ. 10لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً.
وخلاصة الأمر وبعد أن التجأنا إلى المنظور المتكامل للوحي الإلهي نتطلع إلى جميع أمور وتفاصيل الحياة الدنيا من زاوية محبة الله لمؤمنين والمؤمنات وسياسته لحياتهم بما فيها من أفراح وأتراح. وغايته العظمى هي أن ينقينا ويطهرنا من الأدران العالقة بنا وهكذا لا يجوز لنا _ إن كنا قد وضعنا ثقتنا القلبية في المخلص المسيح _ لا يجوز لنا أن نظن بأن النكبات الحياة هي لقصاصنا. على العكس يسمح الله بها لتأديبنا لأنه تعالى إنما يهيئنا لحياة النعيم الأبدية. المهم , المهم , أن نبت اليوم في أهم موضوع نجابهه أي أن نعين موقفنا من منقذ الإنسان الوحيد: يسوع المسيح. كل من آمن به لن يكون من الخاسرين , آمين.
- عدد الزيارات: 3754