Skip to main content

كسر الخبز والسجود

رأينا أن أول كنيسة تكونت كانت في أورشليم استمرت مواظبة على "تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات" (أعمال 2: 42). وعلى ذلك فإلى جانب الشركة التي تنطبق على جميع الاجتماعات، بل تسود على حياة المؤمنين، فأمامنا ثلاثة ملامح خصوصية تميزت بها حياة الكنيسة لهؤلاء القديسين وهي التعليم وكسر الخبز والصلاة. ومن المرجح أنه في البداية كانت كل اجتماعاتهم لها هذا الطابع المميز، ولكن لكون الكنيسة نشأت من اليهودية، فقد أقيمت فيها اجتماعات منتظمة لأغراض خاصة.

وفي أعمال 20: 6 و 7 نتعلم أن اجتماعاً منتظماً كان يعقد في أول الأسبوع غرض كسر الخبز. وهناك نقرأ عن جماعة ممثلة في بولس ورفاقه فقد جاءت إلى ترواس ومكثت هناك سبعة أيام. "وفي أول الأسبوع إذ كان التلاميذ مجتمعين ليكسروا خبزاً خاطبهم بولس". ففي وقت معين (أول الأسبوع، يوم الرب)، وفي مكان معين اجتمع التلاميذ لأجل رض معين (ليكسروا خبزاً). والتعبير المستعمل هنا يجعلنا فهم أن هذه كانت عادة أسبوعية منتظمة.

فهم لم يجتمعوا ليتقابلوا مع الرسول أو ليسمعوه يكرز لكنهم اجتمعوا ليكسروا خبزاً في أول أيام الأسبوع، يوم القيامة، اليوم الذي يحدث عن قوة قيامته. كانت هذه هي عادتهم، وبولس ورفاقه مكثوا في ترواس سبعة أيام حتى يمكنهم أن يستمتعوا بهذا الامتياز العظيم وهو كسر الخبز. وإذا اجتمعوا معاً لأجل هذا الغرض انتهز بولس الفرصة وخاطب القديسين لأنه كان مزمعاً السفر في الغد. لكن الغرض الأول والأساسي من اجتماعهم لكي يتذكروا الرب في موته، كان هذا هو مركز سجودهم وهي عادة منتظمة بينهم في كل يوم للرب، اليوم الأول من الأسبوع.

وعل ذلك فمن أعمال 2، 20 نتعلم أن واحداً من الاجتماعات الرئيسية في كنائس الرسل كان الإجتماع لكسر الخبز والسجود تلبية لوصية الرب التي أوصاهم بها في الليلة التي أُسلم فيها. تعلمنا قبلاً أنهم كانوا كل يوم في البداءة يجتمعون في أورشليم، ليذكروا الرب بكسر الخبز، ولكن أخيراً يبدو أن الكنائس التي تكونت فيما بعد اعتادت أن تجتمع معاً كل أول أسبوع للاحتفال عشاء الرب. لقد قال الرب بواسطة بولس "كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء" (1 كو 11: 26) ولذلك كانوا يذكرونه كثيراً. كان المسيحيون الأوائل في نضارة محبتهم الأولى قد اعتادوا بصفة مستمرة أن يكسروا الخبز وقلوبهم مفعمة عواطف الذكرى لربهم. كان الروح القدس يملأهم فكان المسيح أمام قلوبهم دائماً وبسرور كانوا يحتفلون بهذا العيد العزيز عليهم بابتهاج متذكرين الرب في موته وحسب كلمات الرب نفسه لم تكن هناك ذكرى مؤثرة أكثر من تلك الذكرى الكريمة.

ونلاحظ أن صنع الذكرى لم يكن ي أول الأسبوع من كل شهر أو في أول الأسبوع من كل ثلاثة أشهر، بل في كل أسبوع اجتمعوا لأجل هذا الغرض المقدس إطاعة لقول ربهم ومخلصهم. لم يكن كسر الخبز يتم كما دعت المناسبة كما يعل بعض المسيحيين في هذه الأيام. بل بانتظام في كل أول أسبوع. وهكذا ينبغي أن نفعل نحن أيضاً إن أردنا أن نحذوا حذو المثال الإلهي المُعطى لنا في الكتاب. كان أولئك المسيحيون الأوائل يحبون ربهم جداً ولذلك لم يهملوا ذكرى محبته الغالية التي رسمها لهم في الليلة التي أُسلم فيها. وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نول أنه بقدر ما نحن القديسين نحب المسيح ونب كلمته، ونمتلئ بالروح القدس، بقد ما نرغب في الالتفاف حول مائدته، ونتذكره مخبرين بموته إلى أن يجيء. هو نفسه قال "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" ( يو 14: 15).

الغرض من العشاء

إذ قد رأينا الكنيسة الأولى تجتمع معاً بانتظام في كل أول أسبوع لكسر الخبز وكان ذلك الاجتماع هو الاجتماع الرئيسي للكنيسة (إذ هو الاجتماع الوحيد الذي تميز بصورة واضحة بين باقي الاجتماعات)، نتقدم الآن لنبحث بتدقيق عن المعنى والغرض المنشود في عشاء الرب، في الأناجيل نجد العشاء يرسم، وفي سفر الأعمال نجد العشاء يمارس كما رأينا، وفي الرسالة الأولى لكورنثوس نجد معنى العشاء مشروحاً ومفسراً.

في انجيل لوقا نقرأ "ولما كانت الساعة اتكأ، والإثنا عشر رسولاً معه، وقال لهم شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم ... وأخذ خبزاً وشكر وكسر، وأعطاهم قائلاً هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري. وكذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم" (ص 22: 14 - 20).

كان الرب مجتمعاً مع تلاميذه لآخر مرة قبل الذهاب إلى الصليب لكي يقدم نفسه ذبيحة لأجل الخطية. هناك كان جسده سوف يسمّر على الصليب، وكان سيحمل في جسده خطايانا على الخشبة كما عبر عن ذلك بطرس فيما بعد. هناك كان سيشرب كأس غضب الله ضد الخطية، ويسفك دمه كفارة لأجل الخطاة. وعلى أساس تتميم الفداء كان سيقيم عهداً جديداً بدمه الذي سيسفك عن جميع المؤمنين. ثم بعد ذلك سوف يذهب إلى الأب ولن يكون معهم بالجسد مرة أخرى.

ولذلك فإنه بعد صنع عشاء الفصح، رسم لهم عيداً تذكارياً جديداً هو "عشاء الرب"، الذي سوف يذكرهم ويذكر المؤمنين عبر الأجيال التالية بما صنعه لهم على صليب الجلجثة. كان الخبز (رغيف الخبز الذي أخذه) رمزاً لجسده الذي تألم فيه وأكمل به عمل الكفارة، وكانت الكأس لتذكرنا بدمه الذي سفك على الصليب لأجل خطايانا.

وليس كما يعتقد ويعلم البعض خطأ، بأن الخبز في العشاء يتحول إلى جسد حرفي ومحتويات الكأس تتحول إلى دم حرفي، كما أن أكلنا لجسده الحرفي وشربنا لدمه الحرفي يجعلنا أكثر أهلية للسماء ويعطينا غفران الخطايا. والصحيح إن الرب كان لم يزل معهم حاضراً بجسده عندما رسم العشاء، والرب بالتأكيد لم يقصد أن يوصل إليهم هذا المعني بأن يجعل الخبز والخمر هما جسده الحرفي ودمه الحرفي، بل كان الرب في قصده الوقت الذي سيفارقهم فيه بالجسد، فأعطاهم، وكذلك المؤمنين عبر عصور الكنيسة، تذكاراً أو رمزاً بهذا الخبز والكأس ليذكرهم بشخصه وبموته على الصليب وتصبح هذه الذكرى حية في أذهانهم وعواطفهم.

لما قال الرب "هذا هو جسدي" و "هذا هو دمي" كان يستعمل أسلوب الكلام المجازي كما فعل ذلك كثيراً، وكما نفعل نحن عندما نقدم صورة محبوب لدينا فنقول "هذه أمي"، والخ.... فنحن نقصد أن الصورة مطابقة في الشبه لمحبوبنا، إنها تمثله، ولا مجال على الإطلاق لحرفية الكلام هنا. ومع ذلك فهناك أناس يشددون على حرفية تعبيرات الرب ويصرون على أن الرمزين يتحولان عندما ينطق الكاهن أو الخادم ويصبحان جسداً ودماً حرفيان عند من يتناولهما.

فما هو الغرض، إذن من عشاء الرب؟ "اصنعوا هذا لذكري" هذه هي كلمات الرب المباركة. إنه كان يعرف تماماً ميل قلوبنا إلى التحول والانحراف عنه وعن بعضنا البعض، لذلك هو أعطانا هذه الوليمة التذكارية لشخصه في موته حتى نتذكر محبته العظيمة من نحونا ونتذكر الفداء العجيب الذي أكمله لأجلنا. كان يريد أن نصنع ذكرى موته على الأرض في عالم رفضه ولم يريده، لا بنصب مصنوع من رخام أو نقش ثمين بل بكل بساطة هو أراد أن نتذكره بعمل بسيط كما قال "اصنعوا هذا لذكري" (1 كو 11: 25) ويريد منا أن نطيع هذه الوصية. ونحن نسألك أيها القارئ المسيحي هل أنت تصنع ذلك؟

وإلى أولئك الذين يتجاوبون مع مطلب محبته ويتذكرونه وفقاً للأسلوب الذي رتبه ومعطى لنا بكل تأكيد يقول الرب "فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون (تعلنون أو تخبرون بكل معنى الكلمة. كما جاءت في اليونانية) بموت الرب إلى أن يجيء" (1 كو 11: 26). هذا هو المعنى الكامن في الصنع البسيط لتذكرنا إياه بتناولنا من الخبز وشربنا من الكأس. إننا نعلن موته الغالي كالأساس الوحيد للخلاص. وكلمة "تخبرون" معناها "تكرزون" أو "تبشرون". وعلى ذلك كلما اجتمع المؤمنون معاً ليذكروا الرب في كسر الخبز. فهم بصنع الذكرى يكرزون بالحقيقة المجيدة لموت المسيح لأجل الخطاة ويبشرون بالخلاص بدمه المسفوك. ويا له من شيء عجيب ومدهش..!!

كانت فريضة عشاء الرب هامة جداً حتى إن إعلاناً خصوصياً عنها أعطى للرسول بولس من الرب في المجد، هذا الإعلان مسجل على صفحات الرسالة الأولى لمؤمني كورنثوس ص 11: 23 - 29. وهنا يتضح تماماً الغرض من العشاء وكذلك الكيفية التي بها يصنع العشاء.

أسلوب الممارسة

من هذه الرسالة إلى الكورنثيين نتعلم أن الأمور كانت سيئة جداً وسط كورنثوس ودب التشويش هناك من جهة موضوعات كثيرة ومن بينها موضوع عشاء الرب. ومن الإصحاح الحادي عشر نعرف أن الكورنثيين كانوا يجتمعون معاً باستخفاف ولم يصنعوا عشاء الرب بمعناه الحقيقي. لذلك رأى الرسول أن يكتب إليهم قائلاً "فحين تجتمعون معاً في مكان واحد ليس هو لأكل عشاء الرب لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل فالواحد يجوع والآخر يسكر" (ع 20 و 21).

ويبدو أنهم كانوا يخلطون بين ولائم المحبة (وهي ولائم معروفة كان المسيحيون الأوائل يصنعونها معاً) وبين عشاء الرب، وهكذا كانوا يأكلون العشاء بدون استحقاق وبطريقة غير لائقة، حتى أن صفة عشاء الرب الحقيقية قد فقدت. وكذلك أيضاً امتهنوا صفة ولائم المحبة بإقامة التفرقة الطبقية بمعنى أن الأغنياء كانوا يأكلون مع بعضهم والفقراء بمفردهم وهكذا كانت موائد الأغنياء غنية وموائد الفقراء فقيرة وقوم يتخمون وقوم يجوعون.

من أجل ذلك وجّه روح الله الرسول بولس لكي يكتب هذه الرسالة إليهم ليصحح هذه التشويشات المتعددة. وفي الإصحاح الحادي عشر أورد تعليمات خاصة من جهة الغرض من عشاء الرب والكيفية المقدسة اللائقة التي يجب أن تراعى عند صنع هذا العشاء. ولما كانت هذه الرسالة إلى الكورنثيين في قصد الله، قد أريد بها أن تكون جزءاً من الوحي، فإننا نرى حكمة الله التي سمحت بأخطاء وتشويشات كهذه تدب وسط الكنيسة الأولى حتى تكون لنا عن طريق هذه الرسالة التعاليم الإلهية الثابتة للتعامل مع مثل هذه الحالات ولكي نعرف فكره وترتيبه بوضوح أكمل. ولذلك نرى أن الله لم يعلن فكره لبولس لفائدة الكورنثيين فقط بل أيضاً لأجل قيادة وتعليم الكنيسة كلها في كل تدبيرها الحاضر. وكم يجب أن نشكر الله على ذلك.

ونفهم من العدد 23 أن إعلاناً خصوصياً أعطي لبولس الرسول عن عشاء الرب "لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً". فإن بولس لم يكن واحداً من الإثني عشر رسولاً الذين كانوا مع الرب في الليلة التي رسم فيها هذا العيد التذكاري، من أجل ذلك فإن التعليمات التي يتكلم بولس عنها في هذا الإصحاح أعطيت بإعلان شخصي له من الرب نفسه. فهو لم يعد الآن يسوع المتضع الذي يتكلم في عشاء الفصح ولكنه الرب في عرش المجد في السماء الذي أعطى بولس فكر الله من جهة كسر الخبز.

وبالتأكيد فإن هذه الحقيقة توضح لنا الأهمية العظمى لعشاء الرب كفريضة مسيحية. لقد كان موضوع العشاء بأكمله سواء عندما أسسه الرب بنفسه في ليلة تسليمه، وفي غرضه الإلهي لممارسة الذكرى، وكذلك في أسلوب اشتراكنا فيه، هذا كله له أهمية عظيمة إذ جعله الرب موضوع الإعلان الخاص المعطى لبولس.

وتلزم ملاحظة تكرار لقب "السيد" باعتباره "الرب" في هذا الإصحاح عن العشاء. إنه يتحدث عن عشاء الرب، الرب يسوع، موت الرب، كأس الرب، جسد الرب ودمه، جسد الرب، نؤدب من الرب، ومن السهل أن نرى سبب ذلك فإن الكورنثيين لا بد أنهم نسوا أنه هو الرب وإلا لما وقعوا في ذلك التشويش المخيف من جهة عشاء الرب.

إن ذاك الذي يتكلم عنه العشاء قد صار هو رب الكل وله مطلق الحق أن يسود تماماً علينا وله السلطان على كل ما نمتلكه وما نحن عليه. ونحن مسئولون أمامه عما نفعله وعما نقوله وعما نفكر فيه وبصفة خصوصية عندما نتذكر موته. والكورنثيون نسوا هذا وجعلوا من عشاء الرب عشائهم الخاص. لقد انشغلوا بأمورهم وأغمضوا عيونهم عن أمور الرب، كما نسوا حضرة الرب ففقدوا القيمة الحقيقية لعشاء الرب. هذا كله ما لا بد أن يكون عندما لا نتحقق جلال وهيبة محضره. لقد سقطوا إلى أبعد مدى. وانحطت قيمة العشاء في نظرهم حتى تساوي مع أكلة عادية، ولذلك كان ينبغي أن يردهم الرسول إلى نقطة اعتبار ربوبية المسيح وصفة قداسة عشاء الرب، فكتب إليهم بولس محرضاً بقوة وبصرامة حتى يرد قلبهم إلى التذكار الحقيقي للمسيح في كسر الخبز.

كانت هذه هي حالة الكورنثيين والخطأ لذي وقعوا فيه. ونحن بالمثل معرضون دائماً لخطر السقوط في ذات حالة اللامبالاة والتشويش في الأسلوب والطريقة التي نشترك فيها في عشاء الرب. ومن الأهمية بمكان عظيم أن نتحقق محضر الرب يسوع وأن نركز أفكارنا وعواطفنا عليه عندما نُجِمع معاً لنذكره في موته. لأن الشيطان يدأب باستمرار وبجهد كبير متواصل لكي يشتت أفكارنا وعواطفنا بعيداً عن شخص عمل الرب يسوع المسيح ويملأ أذهاننا بأمور لا ترتبط بعشاء الرب ولا بمائدة الرب.

لذلك يتطلب الأمر جهداً مستمراً ويقظة وصلوات إلى الرب حتى تتركز أفكارنا على ربنا ومخلصنا عندما نذكره ونسجد له. إن شخصه العجيب المعبود وعمل الفداء العظيم هو ما نتطلع إليه في العشاء، إذ نثبت يتحقق أمامنا وممارسة عشاء الرب تتم بالصورة التي تُسّر نفسه.

وفي أعدد 23 و 24 و 25 من 1 كورنثوس 11 يستحضر الرسول أمامنا كلمات الرب المنعشة في تأسيس العشاء فإنهم يخبرون بموت الرب إلى أن يجيء. ولننبه بصفة خاصة إلى هذه الكلمات المباركة "إلى أن يجيء" فنحن نستمر في تذكر الرب في العشاء كل يوم للرب أو في كل أول أسبوع إلى مجيئه ثانية في الهواء لأجل كنيسته. وعلى ذك فإن كسر الخبز يذهب بأفكارنا رجوعاً إلى موت مخلصنا، ويصعد بنا إلى المجد حيث هو الآن، كما يتطلع إلى اللحظة المباركة عندما يجيء لأجلنا.

(ونضيف هنا أن حقيقة ميلاده في العالم كإنسان تأتي أمامنا بالإرتباط برموز العشاء، لأنه بالميلاد أخذ جسداً من لحم ودم. وعل ذلك فميلاده وموته وقيامته وتمجيده ومجيئه ثانية، هذه كلها معاً تُستحضر إلى ذاكرتنا كلما أكلنا من الخبز وشربنا من الكأس في العشاء. ولذلك لا حاجة بنا في كل سنة إلى يوم خاص للإحتفال فيه بذكرى ميلاده ولا بذكرى موته، ولا بذكرى قيامته. والكتاب لم يذكر شيئاً على الإطلاق تجاه أيام كهذه، ولكن الرب يريدنا في كل أسبوع أن نذكره في مولده وموته وقيامته تمجيده ومجيئه ثانية).

نأتي الآن إلى كلمات الرسول الخطيرة عن الأكل والشرب بدون استحقاق: "إذاً أيَّ من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق يكون مجرمً في جسد الرب ودمه. لكن ليمتحن الإنسان نفسه وكذا يأكل من الخبز، ويشرب من الكأس. لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة (قضاء) لنفسه، غير مميز جسد الرب" (1 كو 11: 27 – 29).

فإن كنا ذكر ما قلناه في السطور القليلة الماضية عن التشويش الذي دب وسط الكورنثيين من جهة ممارسة عشاء الرب، فذلك يساعدنا على فهم عبارة "بدون استحقاق". فإن الرسول لا يتكلم عن استحقاق الأشخاص أو عدم استحقاقهم بل يتكلم عن لأسلوب والطريقة التي جعلتهم غير مستحقين معها للأكل أو الشرب من عشاء الرب. لأنه إن كان الأكل من عشاء الرب يتوقف على الاستحقاق الشخصي فلا يوجد على الأرض من هو يستحق في ذاته أن يأكل من عشاء الرب. ونحن مستحقين فقط بمعنى أن المسيح أخذنا من حالة الخراب والهلاك التي كنا فيها وغسلنا من خطايانا بدمه وأهلنا لمحضره وأعطانا الحق أن نشترك في عشائه.هذا الحق هو نتيجة لما عه لأجلنا وليس لاستحقاق شخصي فينا.

والرسول لا يتكلم عن استحقاق فردي على الإطلاق، ولكن على الطريقة التي كان أولئك القديسون يمارسونها عند اجتماعهم معاً. فقد كانوا مستهترين ويجهلون مل يعنيه الخبز وما يعنيه الكأس. ونسوا الحقائق الهامة التي يُعبّر عنها بهذين الرمزين، وبالتالي كان اشتراكهم خالياً بلا أي معنى. إنهم لم يميزوا جسد الرب في الخبز فأكلوا شربوا بدون استحقاق وجلبوا على أنفسهم دينونة.

وذات الخطر يمكن لنا في هذه الأيام. قد نتناول من عشاء الرب باستخفاف ولا نفكر في جسده ودمه عندما نأكل من الخبز ونشرب من الكأس. قد تذهب أفكارنا في أمور كثيرة غير الرب الذي نعترف بأننا نذكره. وإن كنا لا نميز بالإيمان جسده فإننا نأكل بدون استحقاق، ونكون مجرمين في جسده ودمه، لأننا نمارس الذكرى بعدم مبالاة ويا له من فكر خطير.

قلنا آنفاً أن الخبز لا يتحول إلى جسده، ومحتويات الكأس لا تصبح دمه، لكن الإيمان يتكلم بالتحديد عن جسد المسيح المبذول وعن دمه المسفوك فالمسألة هنا هي هل نحن بحق نميز بالإيمان جسد الرب عندما نكسر الخبز؟ وهل يحدث أحياناً أن نأكل ونشرب من العشاء كما نتناول طعاماً عادياً أو نتناوله دون أن يترك أثراً فينا ودون حكم على الذات؟ وهل يغيب عنا حضور الرب فيما بيننا هل تقصر بصيرتنا عن أن ترى في الخبز والكأس ما يريد الروح أن يصوره عن جسده الذي بذل لأجلنا ودمه الذي سفك عنا؟ فإذا كان الأمر كذلك فإننا نأكل ونشرب بدون استحقاق، وإننا نأكل ونشرب دينونة لأنفسنا ونجب على أنفسنا تأديباً من يد الرب. "من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى، كثيرون يرقدون. لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا، لما حُكم علينا. ولن إذ قد حُكم علينا نؤدب من الرب، لكي لا ندان مع العالم" (ع 30 – 32). هذه هي النتائج الخطيرة للأكل والشرب من عشاء الرب بدون استحقاق.

وما دام الاشتراك في عشاء الرب مسألة خطيرة، وطالما هناك احتمال الأكل والشرب بدون استحقاق مع كل تلك النتائج الخطيرة، فقد يبدو أن يهيب المؤمن التقدم من المائدة ويتراجع عن إطاعة طلب الرب الأخير "اصنعوا هذا لذكري". ولكن من يعل ذلك فإنه يقع في غلطة أخرى ويصبح في عدم إطاعة الوصية الحبية التي يطلبها الرب. من أجل ذلك يشجعنا الرب في العددين 28 و 31 والتي لا يجب أن نتغافل عنها بالقول "لكن ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز يشب من الكأس ... لأننا لو حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا".

فبينما التنبير هنا على دواعي القداسة والهيبة من جهة، نجد من جهة أخرى النعمة أيضاً تشجعنا وتقوينا لكي نأتي ونتقدم للأكل من العشاء حاكمين على ذواتنا، ونحن في صحو وتعقل. ومع أن الرب يُلّح علينا أن نمتحن أنفسنا ونفحص طرقنا جيداً ونعتاد الحكم على ذواتنا دائماً، فإنه أيضاً يدعو كل الذين هم له لكي يجلسوا على مائدته ليأكلوا من الخز ويشربوا من الكأس ولكن ليس بالتراخي ولا بروح الاستخفاف. إنه لا يقول "ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل". لقد دعينا كأناس امتحنوا أنفسهم، وحكموا على ذواتهم، لكي نتقدم فنأكل ونشرب من العشاء، ولهذا فالنعمة تشجع وتسند كل من يحكم على ذاته ويفحص طرقه باستقامة قلب، ومثل هذا الشخص يتقدم بثقة إلى العشاء بضمير صالح. أما حيث تكون الخفة عدم الحكم على الذات فإن الرب يُظهر نفسه ويؤدب. وتكون النتيجة إما حدوث المرض أو يصل إلى أقصى مدى بالموت (ع 30).

وهكذا نحن نرى أن ما يحفظنا من ممارسة عشاء الرب بدون استحقاق ويُجنبنا أكل وشرب دينونة لأنفسنا هو تدريب أنفسنا تدريباً مقدساً على الحكم على ذواتنا. هذا التدريب الجاد والمستمر والعميق هو من أسس الحياة المسيحية الناجحة السعيدة. إن الحكم على الذات هو من التدريبات الهامة والأساسية والتي لو مارسناها بكل أمانة وبصفة مستمرة في حياتنا اليومية لتغير الحال كثيراً ولو حكمنا على ذواتنا دائماً في حضرة الله فلن يُطلب منا الحكم على طرقنا وأقوالنا أفعالنا لأن الجسد سيُقمع وسيُحكم على أصل الشر وجذوره قبلما يظهر ثمر الشر، وبالتالي لا يجد الرب ضرورة ليحكم علينا.

بعدما أشرنا إن الأكل والشرب بدون استحقاق يأتي ف لأساس للطريقة والمسلك الذي نمارس به مائدة الرب، فإنه يلزمنا أن نضيف كلمة حول مسلكنا ووطنا خلال أيام الأسبوع. ولا يظن أحد أننا إن كنا تكلمنا كثيراً على اتجاه قلوبنا ونحن حول العشاء لنذكر الرب، فكأننا لا هتم أيضاً بكيفية سلوكنا طوال الأسبوع، أو إن تصرفاتنا في أيام الأسبوع الأخرى لا تؤثر في موضوع عشاء الرب والأكل منه بدون استحقاق.

فإن حياتنا طوال الأسبوع سوف تنكس على حالتنا ونحن حول مائدة الرب. وما كان يشغل قلوبنا في الستة الأيام الماضية سوف يشغل أيضاً قلوبنا ونحن حول العشاء في أول الأسبوع. فإذا كنا طوال الأسبوع متكاسلين ولا نبالي بأمور الرب فإن هذه اللامبالاة سوف تطبع حالتنا ونحن حوله على مائدته فلا نعد نميز جسده ودمه المعنى الصحيح في رموز العشاء. ولذلك فإننا نأكل ونشرب دينونة لأنفسنا. إنه من المستحيل أن نعيش طوال الأسبوع في جو عالمي ثم تنتزع أنفسنا كلية من هذا الجو عندما نوجد في يوم الرب لنتذكره في عشائه.

إننا نقرر هنا بكل صراحة إنه إذا كان مؤمن يقضي الأسبوع كله في مسراته ومشاغله الباطلة وتسلياته الخاصة العالمية فلا تفته حفلات أو مواكب ولا يمنع عينه أو إذنه من أن ترى أو تسمع مناظر وأصوات يتمثل فيها العالم بروحه وأساليبه المنحرفة، فإن هذا المؤمن يصعب عليه أن يميز جسد الرب دمه إذا ما جاء ليذكره في أول الأسبوع. في كل هذا تتمثل الشركة مع العالم ويتمثل عدم الخضوع للرب، فهل مع هذه الحالة يمكن أن يقال أن هناك شركة روحية في جسد الرب ودمه؟ وإذا حصل واشترك مثل هذا المؤمن في الأخذ من الخبز والخمر فذلك بكل يقين، مجرد مظهر خارجي خالٍ من كل قوة حقيقية ومن كل معنى حقيقي للأكل والشرب بالإيمان من جسد المسيح دمه. وبذلك يكون مثل هذا الأخ مجرماً في عدم تمييز جسد الرب ويأكل ويشرب دينونة لنفسه.

ليت روح الله يفحص قلوبنا فحصاً عميقاً ويضع فينا الروح الصحيحة والمستمرة لإدانة الذات حتى نذكر ربنا المبارك بكل إخلاص وبطريقة صحيحة تتوافق معه أي باستحقاق.

تعبير عن الشركة

استعرضنا موضوع العشاء في صفته الأولية كعيد للذكرى يتمثل فيه رمزياً، جسد المسيح ودمه كما هو مفصل في 1 كورنثوس 11. وهناك أيضاً وجه آخر للحق يترتب على هذه النقطة المركزية للذكرى وهي عشاء الرب، وكثيرون يغفلون هذا الجانب وهذا ما نجده مطروحاً في 1 كورنثوس 10: 16 و 17 "كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح. الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح. فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد وحد لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد".

هنا نرى الكلام عن كسر الخبز كعمل جماعي "كأس البركة التي نباركها". في الأصحاح الحادي عشر نجد كل فرد مؤمن يأكل ويشرب كما للرب، وهو مسئول أن يفعل ذلك بأسلوب لائق أو باستحقاق ... "أيُّ من أكل ... أيُّ من يشرب" ، "ليمتحن الإنسان نفسه" أما في 1 كورنثوس 10 فنجد الوجهة المشتركة ممارسة عشاء الرب كجماعة متحدة معاً هو الحق الهام الذي يُؤكد عليه. وعندما نذكر الرب معاً ونشترك كلنا في ذات الخبز وفي ذات الكأس، فإننا بذلك نُعبّر عن شركتنا بعضنا مع بعض وعن شركتنا في المائدة التي نتناول منها. وهذه هي فكرة الشركة أيضاً في كسر الخبز، وهي الفكرة الأساسية لما يخصنا هنا.

وهذا هو السبب في ذكر الكأس أولاً. لأن الكفارة بدم المسيح المسفوك هي أساس الشركة والعلاقة مع الله ومع زمرة المؤمنين. فعندما نشكر على هذه الكأس ونشترك فيها معاً فإننا نُعبّر عن شركتنا "كأس البركة لتي نباركها أليست هي شركة (communion أو fellowship) دم المسيح"، في دم المسيح، وكلما تثبتنا في هذا الحق فعلاً كلما عرفناه فكرة أكثر عن هذا الأمر، وصار لنا نصيباً فيه ونتمتع به ذاك الذي اشترانا بدمه.

ويستمر الرسول قائلاً "الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح؟ لأننا نحن الكثيرين، خبز واحد، لأننا نشترك في الخبز (الرغيف) الواحد". ولهذا فإن الخبز هنا له معنى آخر إلى جانب كونه يرمز إلى جسد الرب المعطى لنا. ونتعلم أيضاً أن الرغيف الواحد الذي نشترك فيه جميعاً في العشاء هو أيضاً يرمز إلى جسده لسري الروحي على الأرض. "الكنيسة التي هي جسده" (أف 1: 22 و 23).

إنها تُعبر عن الوحدة الغير المنظورة لجسد المسيح السري "خبز واحد جسد وحد" ونحن كأعضاء في هذا الجسد الروحي المكون من المؤمنين، فإننا نشترك معاً في عشاء الرب مُعبّرين بذلك عن شركتنا بعضاً مع بعض. وهذا هو معنى القول "شركة جسد المسيح" والمظهر العملي لهذا الحق، فإننا "نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا جميعنا نشترك في (الرغيف) لخبز الواحد". فبكسرنا الخبز نُظهر بالتحديد وحدتنا "كأعضاء بعضنا لبعض" في المسيح.

إذن لا يوجد أقل فكر عن التقسيم بين عنصري العشاء ولا يوجد أقل مجال لفكر كهذا. بل إنهما (الخبز والخمر) يعلنان وحدة جسد المسيح الوثيقة الغير قابلة للانقسام، والتي تظل حقيقية برغم الانقسامات العديدة الموجودة في الكنيسة المعترفة. ومن هنا كان الخطأ في تقسيم الرغيف إلى قطع صغيرة، أو صنع رقائق أو استعمال كؤوس صغيره لتقديم الخمر، فإن هذا لا يتفق ومعنى الرمز الكائن في الخبز الواحد والكأس في 1 كورنثوس 10: 16 و 17. ولا يتق مع الحق الخاص بوحدة الجسد المكون من المؤمنين الحقيقيين إن ممارسة العشاء على هذه الصورة غير كتابية. إن الأساس الكتابي للإجتماع معاً هو التمسك بحدة الجسد لجميع المؤمنين، والرمز المتفق معه هو الرغيف الحد "والكأس التي نباركها وليست كؤوس. فإذا كلن الاجتماع كبيراً فالمعنى لا يضيع إذا ما صبُت الكأس الواحدة في كؤوس أخرى لتوزيعها على المشتركين.

من الذي يشترك؟

إذا كان الرغيف الواحد في عشاء الرب يتكلم عن الجسد الواحد الذي يتكون من المؤمنين الحقيقيين. وإذا كان اشتراكنا فيه يُعبّر عن وحدتنا وشركتنا بعضنا مع بعض، فإن السؤال الخاص عمن يشترك في عشاء الرب تسهل لإجابة عليه. إنه فقط للذين عُرف عنهم وتبرهن أنهم أعضاء في هذا الجسد. إنه لأولئك الذين عرفوا الرب مخلصهم ويؤمنون إيماناً حقيقياً بموته الكفاري لأجل خلاصهم، لهم الحق في عشاء الرب وفي مائدته. إن عشاء الرب فقط للعائلة المفدية وحدها. وإذا ادّعى أحد أنه ابن للِه فعليه أن يبرهن أنه كذلك بسلوكه اللائق بهذا المركز، وإلا فإن اعترافه يكون اعترافاً خارجياً. وكل ما نعرف عنهم أنهم مؤمنون حقيقيون، ويسلكون هكذا بالانفصال عن الشر، وليسوا معزولين عزلاً تأديبياً وفقاً للكتاب، فإن هؤلاء لهم امتياز الاشتراك في عشاء الرب في كنيسة الله "لذلك اقبلوا بعضكم بعضاً كما أن المسيح أيضاً قَبلنا لمجد الله" (رو 15: 7).

فإذا سُمح لأشخاص غير مخلصين أو لمن يكون اعترافهم مشكوكاً في أمره، أن يشتركوا في عشاء الرب مع المؤمنين الحقيقيين، فأي تعبير للوحدة الحقيقية والشركة تبقى في عملية كسر الخبز؟ بكل تأكيد لا توجد. وإن كنا نتناول من عشاء الرب مع غير المولدين من الله، فلا نستطيع أن نقول مع بولس "فإننا نحن الكثيرين خبز وحد جسد واحد" لأن بعضاً ممن يشتركون ليس لهم ارتباط بهذا الجسد.

وكثيراً ما نسمع هذه الإجابة عندما نناقش هذه النقطة مع بعض المسيحيين (أنا اشترك ف عشاء الرب لنفسي ولا دخل لي بالآخرين. فإذا تقدم أحد وليس له الحق أن يأخذ من (ليشترك في) عشاء الرب فإنه يأكل ويشرب دينونة لنسه وهذه ليست مسئوليتي). إن مثل هذا القول يدل بكل تأكيد أن الحق المتضمن في 1 كورنثوس 10: 16 و 17 غير مدرك وغير معروف. فإن الرب لا يدعونا لكي يأكل ويشرب كلّ واحد منا لأجل نفسه. كلا فإن كل ابن لله مدعو لأن يقدم ويشرك مع باقي المؤمنين، وهناك تمتع متبادل ومسئولية مشتركة أيضاً.

ليست شركة مفتوحة

ونحن لا يمكننا أن نترك الباب مفتوحاً أمام كل من يريد أن يشترك في عشاء الرب، بمعنى أن الاشتراك في عشاء الرب أو عدم الاشتراك فيه لا يمكن أن يتقرر من الفرد وحده. ففي 1 كورنثوس 5 ينبر الرسول بولس على مسئولية كنيسة كورنثوس حتى يعزلوا الخمير الذي دخل وسطهم، كما ينبر على مسئوليهم حتى يحكموا على الذين هم من داخل، أي الذين هم داخل دائرة الشركة على مائدة الرب. إنه يحثهم على أن "يعزلوا الخبيث من بينهم". وهنا يبين مسئولية الجماعة ي التمسك والاحتفاظ بقداسة مائدة الرب وعشاء الرب. فإذا كان من واجبهم أن يعزلوا الشر من بينهم فبكل تأكيد من واجبهم أن يسهروا ضد السماح لأي شر يحتمل أن يدخل بين الجماعة أو إلى مائدة الرب.

ومن 1 كورنثوس 5: 12 و 13 نرى أن هناك من هم "من داخل" ومن هم "من خارج" دائرة الشركة في عشاء الرب. وهذا كله يعني أنه يجب أن تكون عناية تُمارس المناظرة من جهة أولئك الذين يشتركون في عشاء الرب، كما يعني التمييز بين من هم من داخل ومن هم من خارج. فالأشخاص ينبغي أن يُفحصوا وأن يُزكوا من جهة اعترافهم ومن جهة سلوكهم إذا ما أريد الاحتفاظ بقداسة مائدة الرب وإذا ما أريد التعبير الصحيح عن الوحدة والشركة في كسر الخبز.

كان في إسرائيل هناك بوابون يلاحظون البوابات يحرسون أبواب بيت الله (انظر 1 أي 9: 17 – 27، نح 7: 1 – 3). كانت وظيفتهم أن يُدخلوا من لهم أن يلوا وأن يمنعوا من يتعين حجزهم خارجاً. هكذا خدمة البابين في هذه الأيام ضرورية للغاية في كنيسة الله لحفظ الكيسة من النجاسة والتي تحدث من دخول غير المؤمنين وغير الطاهين. وليس معنى ذلك أن تكون هناك وظيفة رسمية للبوابين في الجماعة، بل المقصود أن تُمارس العناية التقوية التي تخدم هذا الغرض فيمن يضمون إلى حضن الكنيسة ويشاركون في الامتياز المقدس للاشتراك في عشاء الرب.

أليس صحيحاً وكتابياً أن يقال أن شركة المؤمنين على مائدة الرب ليست شركة مفتوحة ولا شركة مغلقة بل شركة مصانة بالحراسة؟ إنها لا ينبغي أن تكون مفتوحة لأي شخص و لا أن تكون متضيقة في وجه كل "من لا يتبعنا" حتى توصف أنها شركة طائفية SECTARIAN COMMUNION ، بل ينبغي أن تكون شركة لكل من نعرف أنه من المؤمنين المشهود لهم بالسلوك في الحق والقداسة. فطالما كان الأساس الكتابي بالجسد الواحد الذي يضم جميع المؤمنين كأعضاء (والمزمور إليه أيضاً في الرغيف الواحد للعشاء) فإنه بناء على ذلك يتعين علينا أن نقبل على مائدة الرب كل عضو حقيقي في هذا الجسد ولا تمنعه أحكام كتابية تأديبية عن التقدم إليها، وإلا لكنا نتصرف ضد الأساس الذي نعترف أننا نشغله، وبالتالي نصبح طائفة. وفي هذه الأيام التي ازداد فيها الخراب وكثرت فيها الانقسامات وتنوعت أشكال الشر في الكنيسة المعترفة، فإن تطبيق هذا المبدأ يزداد صعوبة أكثر تطبيقاً دقيقاً مع الاحتفاظ بالانفصال عن العلاقات غير الكتابية، لكن على كل حال يبقى دائماً الحق الخاص بالجسد الواحد أساساً لنتصرف بموجبه.

ونحن نعتقد أن ما كتبه تشارلس . ه . ماكنتوش في هذا الخصوص يستحق الاعتبار قال : (إن ممارسة فريضة عشاء الرب يجب أن تكون التعبير الصريح عن وحدانية جميع المؤمنين وليس مجرد التعبير عن وحدانية عدد معين من المجتمعين معاً على مبادىء معينة تميزهم عن غيرهم. إن كان هناك أي تعبير للشركة غير تلك التي تقوم على الأهمية الكاملة للإيمان بكفارة المسيح والسلوك الذي يتوافق مع هذا الإيمان، فإن المائدة تصبح مائدة طائفية، ولا سلطان لها على قلوب الأمناء).

ولذلك فإن القبول على مائدة الرب يجب أن نتجنب فيه، من جهة الرخاوة وعدم الاهتمام، ومن الجهة الأخرى نتجنب الروح الطائفية، صحيح أن هناك أركاناً أخرى للمسألة وحقائق أخرى تتعلق بالموضوع وهذه سوف نناقشها بإيجاز بالعلاقة مع مائدة الرب في الصفحة القادمة.

في سفر الأعمال 9: 26 - 29 نجد مثالاً للاعتناء الواجب ملاحظته عند قبول أي شخص في الكنيسة والذي يرينا أن الأشخاص لا يقبلون على مجرد شهادتهم عن أنفسهم. وهنا نجد شاول المتجدد حديثاً يحاول أن يلتصق بالتلاميذ في أورشليم ولكنهم كانوا يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ. حينئذ أخذه برنابا وأحضره إلى الرسل وحدثهم عن تجديده وكيف أنه جاهر بشجاعة بإسم يسوع. وبناء على شهادة برنابا الحقيقية عن صحة تجديد شاول قبل في الكنيسة وكان معهم يدخل ويخرج "وعلى فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة" (2 كو 13: 1) وهذا مبدأ هام جداً يجدر بنا أن نتصرف بموجبه.

وفي رومية 16: 1و 2، وكورنثوس الثانية 3: 1 نقرأ عن "رسائل توصية" للقديسين الذاهبين أو القادمين من اجتماع إلى آخر الذين هم غير معروفين بالوجه للجماعة التي يزورونها. هذا هو الترتيب التقوي. ويرينا أيضاً الاعتناء عند قبول الأفراد لكسر الخبز على مائدة الرب.

مائدة الرب

تعلمنا من 1 كورنثوس 10: 16 و 17 أن الكلام هناك يتحدث عن هذا الوجه من كسر الخبز وهو كتعبير عن شركة أعضاء جسد المسيح، وأن هذا الرغيف الواحد يتحدث عنه أنه رمز إلى الجسد الروحي. وفي ذلك الإصحاح عينه نجد التعبير الذي يرد مرة واحدة في العهد الجديد، وهو "مائدة الرب" وقد استخدمنا هذا التعبير مراراً. والآن نريد أن نتأمل في هذا التعبير ونستقصي عما يتضمنه وما يرتبط به.

إن الخبز الذي على المائدة رمز لجسد الرب، ولكن حيث أن الجسد الحرفي هو أيضاً صورة للجسد الروحي، فالرغيف الواحد يرمز به في هذا النص أيضاً لجسد المسيح الواحد والذي يتكون من جميع المؤمنين (ع 17) "فإننا نحن الكثيرين خبز (رغيف) واحد جسد واحد، وعلى ذلك نرى في هذا الفصل أن الروح القدس يربط بين عبارة "مائدة الرب" وبين الجسد الواحد وشركتنا معاً كأعضاء في هذا الجسد. قد نقول "عشاء الرب" و "مائدة الرب" إنهما مترادفتان بمعنى من المعاني، بكسر الخبز. فالعشاء يرتبط بالتذكر الفردي لموت الرب، بينما تعبير "مائدة الرب" يرتبط بالأكثر بهذا الوجه من عشاء الرب الذي يظهر هذا التعبير العلني وشركتنا معاً كجماعة. فالمائدة تكلمنا بتعبير منظور عن الشركة في الجسد الواحد. وأساس الشركة التي أعطانا إياها الله أن جميع المؤمنين هم جسد واحد، هذا الذي يقوم على الفداء بدم المسيح. فمن جهة المركز فإن جميع المؤمنين هم على مائدة الرب بمعنى أنهم شركاء في جسد المسيح. وعندما نكسر الخبز معاً فنحن نعلن بتعبير عملي عن هذه الشركة.

إن التعبير "مائدة الرب" هو تعبير رمزي ولا يفهم بمعناه الحرفي. فهو لا يعني "طاولة" أو قطعة من الأثاث يوضع فوقها الخبز والخمر، بل يعني المبدأ أو الأساس الذي يقوم عليه صنع العشاء. والأساس الذي عليه يتم كسر الخبز يحدد خصائص المائدة التي يرتب الخبز عليها. فمائدة الرب هي تعبير عن الشركة معه ومع أعضاء جسده، حيث يعترف له بسلطانه وحقوقه وحيث تراعى قداسة اسمه الكريم.

فإذا كان هناك أساس آخر غير الاعتراف العملي بوحدة جسد المسيح التي عيّنها الله لنا، فإن المائدة المقامة على مثل هذا الأساس لا يمكن أن تحمل الخصائص الحقيقية لمائدة الرب. والموائد المرتبة على مبادئ طائفية أو استقلالية لا تقوم بالضرورة على أساس وحدة جسد المسيح، وبالتالي لا تصبح لها خصائص مائدة الرب المبنية في 1 كورنثوس 10. وحيث لا يعترف عملياً بمبادئ وحدانية جسد المسيح وبدلاً منها يوضع أساس من صنع الناس تقوم عليه الشركة فلن يكون هناك إعلان عن الحق الخاص بمائدة الرب، وعلى ذلك فلا يمكن أن يعترف بهذه الموائد بحسب الكتاب كأنها "مائدة الرب". إنها فعلاً موائد طائفية للشركة على أساس من صنع الناس. وقد يصنع عشاء الرب هناك بكل خشوع وتقوى من مسيحيين مخلصين وبمحبة شاكرة وهم يجهلون الحق المرتبط بمائدة الرب، وبذلك لا يظهرون وحدانية جسد المسيح وبالتالي لا يتحقق أو يستمتع بمائدة الرب، حيث يتمسكون بمبادئ تهدم الشركة في مائدته.

وجه آخر مهم جداً ينبغي أن يستعلن إذا أريد لمائدة ما أن يعترف بها كمائدة الرب، ذلك هو القداسة والحق لأن القداسة والحق هما صفات من نعترف به أنها مائدته. (إنه "القدوس الحق" رؤيا 3: 7 "وكونوا قديسين لأني أنا قدوس" 1 بط 1: 16). فإذا كان هناك مثلاً تعليم غير صحيح وغير كتابي يمس شخص المسيح ويقبل في اجتماع ما، أو إذا كان هناك أشخاص يتمسكون أو يعلّمون بهذه التعاليم وتقبلهم الجماعة فإن صاحب المائدة يكون قد أهين وتكون القداسة والحق قد تدنستا فكيف يمكن أن تعتبر مائدة كهذه كأنها مائدة الرب؟ وبالمثل إذا كان شر أدبي يسمح به في الشركة على المائدة فلا يمكن أن تعتبر المائدة كمائدة القدوس الحق.

ونحن نرى إذن أنه ينبغي أن تراعى قداسة مائدة الرب، كما تراعى وحدانية جسد المسيح. فلا يضحى بنقاوة حق الله من أجل الاحتفاظ بالوحدانية حول مائدته. كما لا ينبغي أن يمس الوحدانية الحقيقية بسبب التشدد الزائد بالحق والقداسة. لكن يلزم أن يتم كل شيء بروح النعمة والوداعة والتواضع وإلا تشوهت نعمة الرب. والآن لنتأمل في الأربعة الأعداد الواردة في 1 كو 10: 18 - 21، هنا نجد مبدأ الشركة مطبقاً على الأكل مما هو مقدم على المذبح. وسبق أن رأينا أن فكر الشركة هي النقطة الغالبة في الحق المرتبط بمائدة الرب. والرسول بعد أن تكلم عن الشركة من عشاء الرب في عددي 16 ، 17 فإنه يقول "انظروا إسرائيل حسب الجسد. أليس الذين يأكلون الذبائح هم شركاء المذبح؟". يرسم لنا مبدأ هاماً ومضموناً. أن الأكل من مائدة أو من مذبح هو تعبير عن الشركة في تلك المائدة أو ذلك المذبح ومع الملتفين حول ذلك المذبح. إن الجلوس على مائدة والأكل منها دليل اتحاد الجالس الآكل مع ما تمثله.

ثم يمضي الرسول في الكلام عن مذابح الأمم (المذابح الوثنية) فيقول "بل إن ما يذبحه الأمم فإنما يذبحونه للشياطين لا لله فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشياطين" فمن وراء الوثن يوجد شيطان ووثن، والوثني دون أن يعي ذلك، يقدم ذبائحه لهذا الشيطان. وبناء على ذلك كانت تلك مائدة شياطين. وبالنسبة للمسيحي فإن مجرد الدخول في هيكل وثن والجلوس على مائدة عليها ذبيحة لهذا الوثن معناه الاشتراك في مائدة شياطين والدخول في شركة مع الوثنيين، وهذا هو عين ما ظن بعض الكورنثيين أنه لهم الحرية أن يفعلوا ذلك، ولم يعلموا أنهم يوحدون أنفسهم مع موائد الشياطين ويصبحون في شركة معهم. من أجل ذلك يقول الرسول في عدد 21 "لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شياطين. لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شياطين". نعم لا يمكن الشرب من كأس الرب بكل ما تمثله من معاني وفي نفس الوقت الاشتراك في كأس شياطين أيضاً. فإذا تم ذلك فهذا معناه أن تربط بين مائدة الرب ومائدة الشياطين، وبذلك ننكر الشركة مع الرب. ولذلك يري الرسول الكورنثيين خطورة الأمر في الاشتراك مع المذبح الوثني.

كانت هذه فخاخ تواجه الكورنثيين في الأيام التي كتب فيها بولس لهم. وفي المعنى العام لا نجد في أيامنا الحاضرة خطورة الشركة في موائد وثنية، لكن يبقى المبدأ الذي أشار إليه بولس وطبقه في حالتهم ما زال حياً وقائماً لتطبيقه على كثير من الظروف الحاضرة. ذلك المبدأ يتلخص في أن الأكل من مائدة معناه الارتباط والاشتراك في هذه المائدة، وفي كل ما تمثله، ومع كل من له شركة بها. صحيح أننا لسنا محاطين بموائد شياطين كما الحال في كورنثوس، ولكن من حولنا الكثير من الموائد الدينية والمذهبية والطائفية، والخطورة أننا معرضون أن نربط بين مائدة الرب والمبادئ التي تتعارض مع الشركة في مائدة الرب والتي تتجاهل أو تنكر سلطان الرب وحده على مائدته.

وبالاختصار فإن النقط التي ينبغي أن نتحقق منها هو أننا حينما نأكل عشاء الرب فإننا نعبّر عن شركتنا في المائدة في ذلك المكان، ونربط ونوحّد أنفسنا بالأساس والمبادئ التي أقيمت عليها هذه المائدة. فإذا كان واحد ممن يكسرون الخبز مع أولئك الذين يجتمعون معاً على مبدأ جسد المسيح الواحد والذين يسعون لإظهار التعبير العملي عن الحق الخاص بمائدة الرب، ثم يذهب إلى أناس يجتمعون على أسس طائفية أو استقلالية ويكسر هناك خبزاً، أو أن يحدث مثلاً العكس أن واحداً من تلك الجماعات يذهب ليكسر خبزاً في المكان الصحيح فإنه بذلك يتصرف خطأ مع أنه قد يفعل ذلك عن جهل. ومثل هذا التصرف يستوجب شرح الحق وتعليمه.

إذن الاشتراك في المائدة يعبّر عنه بكسر الخبز والتمسك بكل هذه الاعتبارات الهامة عن الشركة التي سردناها والتي ترتبط بها. فالمسألة ليست مجرد كسر خبز بل هي أكثر من ذلك. ولكي ندرك المعني المتضمن في الاشتراك في المائدة نلخص ذلك في تلك الأسئلة التي يلزم أن يسأل كل منا نفسه كالآتي:

(1) من الذي أذكره في العشاء؟

(2) من الذي أذكره بلياقة واستحقاق؟

(3) مع من أذكر الرب في العشاء؟

(4) وعلى أي أساس أو مبدأ أتذكر الرب؟

وفي ختام هذه التأملات عن مائدة الرب فإننا نقول أنه وسط كل هذا الخراب والفشل الشامل والانقسامات في الكنيسة التي نجد أنفسنا فيها فإنه بكل تأكيد لا تستطيع أية جماعة من المؤمنين أن تدعي بأنها تملك وحدها وبصفة جامعة ومانعة مائدة الرب. بل أن الجهد والاهتمام ينبغي أن يوجها إلى السعي المستمر للتعبير العملي عن الحقائق التي تمثلها مائدة الرب، وأن نكون صادقين وأمناء لمبادئ اشتراكنا في مائدته. إن الرب له مائدته وهو الذي يهتم ويعتني بها. إنه لم يسلمها لجماعة معينة بالذات من المؤمنين بل أعطى كل المؤمنين امتياز التقدم إلى مائدته. كما وضع على جميعهم مسئولية التصرف إزاءها بكل لياقة وقداسة.

وهنا قد يواجهنا هذا السؤال "أين هي مائدة الرب هذه؟" ونحن نجيب على هذا السؤال بكلمات لها وزنها وقيمتها قالها واحد من رجال الله الأتقياء.

[هناك حيث يجمع معاً اثنان أو ثلاثة، وليس لهم مركز بخلاف الرب يسوع وحده، وهناك حيث لا يسمحون بأية علاقة بين اسمه القدوس الذي هو رباط وحدتهم وبين أي شر، وحيث يمارسون التأديب في بيت الله لدواعي القداسة، وحيث يحترزون لأنفسهم من المبادئ الاستقلالية (التي تسلب من الرب سلطانه)، وحيث يخضعون بعضهم لبعض في خوف الله بلا روح تحزب ولا عجب، وفي نفس الوقت يعترفون بجميع المفديين كأعضاء الجسد الواحد في الروح، ويسعون باجتهاد لحفظ وحدانية الروح برباط السلام، ويفرحهم أن يرحبوا على مائدة الرب بجميع المولودين من الله تحت شرط واحد هو أن يكونوا أصحاء في السلوك وفي التعليم. وهناك حيث يوجد هؤلاء المؤمنون توجد مائدة الرب في وسطهم رغم كل خراب شائع. وكل نقائص تلصق بشهادتهم. وهم متحققون أنهم مجتمعون حول الرب يسوع معاً لصنع العشاء. إنهم خبز واحد وجسد واحد مع جميع الذين يحبون الرب في كل أقطار المسكونة] (مترجمة عن الألمانية).

السجود

عند الحديث عن اجتماعات الكنيسة، ربطنا بين كسر الخبز والسجود معاً باعتباره اجتماعاً كنسياً متميزاً. وهذا حق لأن ذكرى الرب في موته لأجلنا لا بد أن يقود نفوسنا بالتحديد إلى الشكر والسجود. إن عشاء الرب يتميز بأنه وليمة شكر. والرب نفسه عندما أسس العشاء أعطاه هذه الصفة المتميزة، عندما "أخذ خبزاً وشكر". فالتسبيح والشكر والسجود، وليست الطلبات والتوسلات هي الكلمات التي تتناسب حول مائدة الرب.

كذلك بولس يتكلم عن كأس العشاء بقوله "كأس البركة التي نباركها" (1 كو 10: 16) فهي كأس شكر ووليمة فرح وسرور وتقود قلوبنا لأن "نقدم في كل حين لله ذبيحة التسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه" (عب 13: 15). وهكذا بكل تأكيد يرتبط عشاء الرب بالسجود. فالعشاء يشهد عن محبة الرب حتى الموت، ويشهد عن كمال عمله لأجلنا، الذي بفضله استطاع خطاة مثلنا أن يقتربوا ليقدموا السجود.

وإذا نحن اتبعناه مثال الكنيسة الأولى بالاجتماع معاً في كل أول أسبوع لأجل كسر الخبز فإننا بالتأكيد نجعل من عشاء الذكرى مركزاً لاجتماع السجود. لأن اجتماعاً كهذا هو فرصة عظيمة لسجود الكنيسة. صحيح ينبغي أن يفيض التسبيح من قلوبنا للرب دائماً، ولكن الفرصة الذهبية الخصوصية للتسبيح والسجود هي عندما نجتمع معاً بذكريات محبة مخلصنا للموت وهي مقدمة لنا، حينئذ يقودنا روح الله في تسبيح حار وسجود.

لكن نتساءل ما هو السجود؟ إنه من الضروري أن يتضح معناها ذلك لأن المعنى الشائع لكلمة "العبادة الجماعية" أنها تتضمن الصلاة والتسبيح والكرازة لجذب الخطاة ولبنيان القديسين. ولكن لو تدبرنا هذا الفكر بروية لوجدنا أن هذا غير صحيح. فحتى الصلاة مع أنها عمل مبارك، ليست هي السجود، لأن الصلاة هي السؤال الموجه إلى الله لأجل أعوازنا. ولا يمكن أن يعتبر العمل الذي من الله لأجل الناس كأنه سجود. وتبشير غير المؤمنين ليس هو السجود، رغم أنه قد يؤول إلى توليد السجود في القلب، ولا إلقاء الوعظ هو السجود، رغم أنه بالمثل قد ينشئ السجود في القلب.

قال واحد: [إن السجود الحقيقي هو تجاوب القلب تجاوباً مشحوناً بالفرح والعرفان من نحو الله، عندما يمتلئ بالشعور العميق ببركات تغمره من الأعالي. السجود هو الإكرام والتعبد الذي يقدّم لله، لأجل ما هو عليه في ذاته ولأجل ما هو عليه تجاه الذين يرتبطون به. السجود هو الشغل الشاغل للسماء، وهو الامتياز الثمين المبارك لنا على الأرض... السجود هو التعبد الذي يهدى لله سواء من الملائكة أو من الناس.. إن التسبيحات والتشكرات وذكر صفات الله وأعماله سواء أعمال القدرة أو أعمال النعمة، كل هذا إذا ما قدّم كعبادة فإنه يسمى بالتحديد السجود. بالسجود نحن نقترب إلى الله ونقدم أنفسنا إليه] (يوحنا داربي).

هذا بالحقيقة هو السجود الصحيح وفي اللغة اليونانية Proskun وترد في معظم أسفار العهد الجديد ومعناه الحرفي "الانحناء خشوعاً أو احتراماً" أو "الجثو التعبدي".

و الآن نسأل ما هو أساس السجود المسيحي؟ نجد الجواب في يوحنا 4 في حديث الرب مع السامرية. في هذا الإصحاح نجد على ما نظن أهم كلام يمكن أن يقال عن السجود المسيحي في عهد النعمة الحاضر، وهناك تكلم الرب لها قبل كل شيء "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً" (ع 10).

ففي هذه العبارة العجيبة بيّن الرب لنا القاعدة الضرورية للسجود المسيحي. فالثالوث الأقدس بطريقة أو بأخرى ملحوظ بوضوح في كلام الرب. فالله يستعلن بالنعمة كالمعطي الأعظم ومصدر كل عطاء، والابن يظهر في صورة التواضع بين الناس على الأرض، وفي النهاية الابن يعطي المحتاجين ويروي نفوس العطاش ماءً حياً. أي الروح القدس.

وهذا كله لازم جداً للسجود المسيحي في صفته الحقيقية وفي غرضه. فالله يجب أن يعرف كمن استعلن في الصليب في قداسته وفي نعمته، والابن يجب أن يعرف كمن نزل إلى الإنسان في نعمته وفي محبته لكي يموت لأجل الخطاة. والحديث يتضمن أيضاً أن القلب قد استيقظ فعرف حاجاته الحقيقية فطلب من الرب وأخذ منه ماء حياً أي الروح القدس كينبوع إنعاش في الداخل.

كل هذا يعني أن الإنسان ينبغي أن يولد من الله، وأن يقبل المسيح كمخلصه، وأن يسكن فيه الروح القدس، لكي يمكنه أن يسجد سجوداً مسيحياً. والإنسان الطبيعي غير المتجدد لا يستطيع أن يسجد لله فلا إمكانية له على السجود لله. لأن الله يسجد له بالروح وبالحق (يو 4: 24). فالذين غسلوا بدم المسيح ونالوا عطية الروح هم وحدهم الذين يمكنهم أن يقتربوا ويدخلوا إلى حضرة الله ليعبدوه ويسجدوا له. فلا يجرؤ أحد على أن يتقدم بنفسه أمام الله، دون أن يكون عنده اليقين بغفران خطاياه.

إن الروح القدس هو الذي يعطي المؤمن اليقين الكامل من جهة كفاية عمل المسيح لأجلنا، ومن جهة قبولنا أمام الله فيه. وبالروح تنسكب محبة الله في قلوبنا، وبذات الروح نقدر أن نخاطب الله كأبينا. وأن نقترب إلى حضرته في الأقداس كأولاده المفديين. وأن نسجد للآب بلا خوف أو رعب (أف 1: 3 - 7، رو 5: 5، غل 4: 6، عب 10: 19 - 22). إن الروح القدس هو المنشئ فينا لكل الأفكار الصالحة والعواطف ومشاعر المحبة والتسبيح الذي يصعد من قلوبنا فيتجاوب مع محبة الآب والابن. إنه هو قوة السجود المسيحي، ومن أجل ذلك لا يقدر أحد أن يسجد لله بدون سكنى الروح القدس فيه.

وبعد أن تأملنا في قاعدة السجود المسيحي، نتكلم الآن عن صفة وطبيعة السجود المسيحي. ونعود أيضاً إلى يوحنا 4. حيث يقول الرب للسامرية "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود" (ع 22) وما أكثر ما ينطبق هذا الكلام على كثيرين في هذه الأيام الذين يدعون أو يظنون أنهم يسجدون لله. "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون". لأن السجود الحقيقي يتطلب معرفة من الله وإدراكاً لخلاصه المعلن في المسيح يسوع، "أما نحن فنسجد لما نعلم". وهذه هي أولى خصائص السجود المسيحي، إنه سجود عن إدراك ومعرفة محددة بذاك الذي نسجد له.

ثم استمر الرب يوضح للمرأة السامرية "تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو 4: 23 و 24).

وهنا نرى الصفة البارزة والكاملة للسجود المسيحي. فالله يستعلن كالآب الذي يطلب ويجهز أولاداً ليسجدوا له. إنها صفة جديدة تماماً مختلفة كل الاختلاف عن صفة السجود القديمة في اليهودية التي تترك الساجد بعيداً عن الله مرتعباً ومرتعداً. فالله الآب يخرج طالباً وباحثاً في محبته عن ساجدين، إنه يطلبهم في ملء محبته بوصفه "الآب" العطوف واضعاً إياهم في مركز القرب والحرية أمامه كأولاد محبته وهو يفعل ذلك بالإبن بقوة الروح القدس.

في زمان النعمة هذا يعرف الله بأولاده كالآب العطوف المحب ويسجد له في هذه الصفة. هذا هو نصيب أضعف مؤمن، وكل ابن لله مؤهل لأن يسجد للآب بالروح والحق. والإبن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو وحده الذي يعلن الآب لنا كمن يعرفه هو نفسه. والروح القدس يسكب محبة الله في قلوبنا ونحن نسجد ونتعبد لأبينا كما يعلنه لنا الابن بحسب القوة والعواطف التي يولدها فينا الروح القدس.

ويتبع هذا صفة أخرى للسجود المسيحي، فالله يسجد له "بالروح والحق" لأنه هو روح [فالسجود بالروح هو السجود طبقاً لطبيعة الله الحقيقية وفي قوة الشركة التي يوجدها روح الله في الساجد. إذن السجود بالروح يختلف تماماً عن السجود الشكلي والطقسي، والمراسم الدينية التي يسهل على الجسد أن يقوم بها. والسجود بالحق معناه أن نسجد له وفقاً للإعلان الذي أعطاه لنا عن نفسه] (يوحنا داربي).

ولما كان الله روح، فإنه لا يقبل سوى السجود الروحي. والساجدين له ينبغي أن يسجدوا بالروح والحق. فهذه ضرورة أدبية نابعة من طبيعته. وقد أمدّنا بهذه الكفاءة إمداداً تاماً، كما أن الحياة الجديدة التي نستمتع بها بواسطة الروح وهي روح وليست جسداً. نحن نحيا بالروح، ونسلك بالروح "ونعبد بروح الله ونفتخر في المسيح يسوع ولا نتكل على الجسد" (في 3: 3) وعلى ذلك فالسجود المسيحي هو تعبير عن الحياة الجديدة التي بداخلنا في نشاط وقوة الروح القدس. وهذا كله من شأنه أن يطرح جانباً كل الأنظمة البشرية والمراسيم التقليدية والطقوس الموروثة للعبادة، لأن السجود بالروح والحق يستبعد هذه كلها وينفر منها كلها. إن الإرادة البشرية والجسد يرغبان في هذه الأشياء جميعها ولا مكان لنشاط الجسد في السجود لله.

والآن نتأمل في أين هو مكان السجود المسيحي، إن الرسالة إلى العبرانيين فيها الجواب الكافي والواضح لنا على مثل هذا السؤال. في ص 10: 19 - 22 نقرأ: "فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرسه لنا حديثاً حياً بالحجاب، أي جسده، وكاهن عظيم على بيت الله. لنتقدم..." وهنا نرى أن دم يسوع، والحجاب المشقوق، والكاهن العظيم على بيت الله يمنحنا ثقة للدخول إلى الأقداس (قدس الأقداس) لتقديم السجود. ولهذا فمكان سجودنا هو في ذات حضرة الله حيث يجلس على عرشه. وإلى تلك الحضرة المقدسة أعطانا بالنعمة حق الدخول للسجود كل حين بدم يسوع المسيح الثمين. هذا هو مقدسنا حيث نقترب بعضنا مع بعض من حول الرب للسجود والتسبيح.

ونقول أيضاً أن الابن المبارك - ربنا يسوع المسيح هو مع الآب موضوع السجود لأنه ينبغي أن "يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب، من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله" (يوحنا 5: 23).

هذه الكلمات قالها شخص آخر وهو يعطينا صورة للسجود المسيحي: [وبالاختصار يمكننا أن نقول أن السجود المسيحي يستمد مصدره من عمل الفداء الذي أكمل على الصليب وغرضه هو الله الآب والابن، ومكانه في ذات حضرة الله. ومدته طوال الأبدية] (صموئيل ريدوت).

ولعله من اللازم أن نؤكد هنا ما سبق أن قلناه وهو أن جميع المؤمنين كهنة، ولهم جميعاً امتيازات متساوية، واقتراب إلى حضرة الله لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح (1 بط 2: 5 و 9) وعلى ذلك فلكي نسجد سجوداً حقيقياً يجب أن نتقدم معاً في بساطة كمؤمنين، متحققين أننا كهنة قادرون على تقديم ذبائح السجود ويجب أن نترك لروح الله الحرية لكي يستخدم من يشاء ليرفع تسبيحات الجماعة المجتمعة معاً. قد يستخدم الروح واحداً أو ستة أو اثني عشر أو أكثر للتعبير عن تسبيح الرب المتفق مع فكره.

في 1 كو 14: 15 - 19 و 24 نجد إيضاحاً كاملاً لمشيئة الله من جهة سجود الكنيسة متى اجتمعت معاً. هناك نقرأ عن الصلاة بالروح وبالذهن (عن فهم)، وعن الترنيم بالروح وبالذهن أيضاً، ونبارك بالروح، ونشكر بالروح، وعن التنبؤ وعن التكلم في الكنيسة. هذه هي المجالات التي كان ينشط فيها الروح القدس في قيادة المؤمنين الأوائل عند اجتماعهم معاً. وهكذا يقودنا اليوم ويعمل فينا لكي "نسبح اسم الله بتسبيح ونعظمه بحمد" (مز 69 : 30).

وهنا نلاحظ أنه لا في هذا الفصل الذي نجد فيه بالوحي وصفاً لاجتماع الجماعة المسيحية معاً (1 كو 14)، ولا في أي مكان آخر في سفر الأعمال ولا في الرسائل، نقرأ عن استخدام آلة موسيقية كجزء من خدمة العبادة. إن الأدوات الموسيقية لا مكان لها في مثل هذه الاجتماعات - وهي مضادة لروح الكنيسة وصفتها متى اجتمعت. إننا نجتمع والغرض الذي أمامنا ليس أن نرضي حواسنا أو طبيعتها الساقطة أو لإرضاء الذين هم من خارج بنغمات دقيقة وجميلة. بل نجتمع لتقديم ما هو مقبول عند الله ولائق بحضرته، ونقدم له ما ملأ به قلوبنا بالروح القدس. فما هو مقبول ومرضي عند الله هو أن نكلم بعضنا بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية مترنمين ومرتلين في قلوبنا making melody للرب (أف 5: 19). "وبنعمة مترنمين في قلوبكم للرب" (كو 3: 16) والحقيقة أن قال واحد يدعى "هايدن" وهو أعاظم الموسيقيين أن الصوت الإنساني لا تعادله أية نغمة تصدر عن أية آلة موسيقية في تأثيره. وقديماً في زمان إسرائيل الشعب الأرضي، كانت الآلات الموسيقية تحتل مكاناً بينهم، لكن الكنيسة كجسد سماوي كل شيء يتعلق بها ينبغي أن يكون بالروح القدس.

ونحسبه هنا ضرورياً هنا أن نؤكد أن الخشوع يجب أن يكون الطابع المصاحب للسجود الروحي. لأننا إن كنا ندخل إلى الأقداس فينبغي أن تمتلئ نفوسنا بهيبة وخوف تقوي يليق بحضرة الله. وإذا كنا نتمثل بالساجدين الذين ورد ذكرهم في الكتاب فإننا نجد القديسين في كل جيل كانوا يعبرون عن خشوعهم أمام الله حتى بالوضع الذي تأخذه أجسامهم حين يسجدون وحين يصلون. فإبراهيم سقط على وجهه أمام الرب (تك 17: 3). وموسى خر إلى الأرض وسجد (خر 34: 8) واللاويون قالوا للشعب "قوموا باركوا الرب إلهكم" (نح 9: 5) والمجوس خروا وسجدوا لمولود بيت لحم (مت 2: 11) والأبرص الذي طهر خر على وجهه عند رجلي يسوع (لو 17: 16). أما القول بعدم أهمية الوضع الجسدي واللامبالاة أثناء الصلاة أو التسبيح (ما لم تكن هناك أسباب صحية تعوق ذلك)، فهي تؤكد عدم إظهار اللياقة بحضرة الرب.

ثم نحن نلفت النظر هنا أيضاً إلى ذبيحة العطاء فإنها ترتبط بذبيحة التسبيح كما جاء في (عب 13: 15 و 16) فإنه بذبائح مثل هذه (مادية وروحية) يسر الله. كذلك في سفر التثنية ص 26 نجد أن تقديم العشور يرتبط بتقديم سلة الباكورات عند السجود للرب. ولما كان الرسول بولس يخبرنا في 1 كو 16: 1 و 2 بخصوص الجمع لأجل القديسين إنه "في كل أول أسبوع ليضع كل واحد منكم عنده خازناً ما تيسر". فإننا نفهم من ذلك أنه في اجتماع السجود يجب أن نحضر معنا أيضاً ذبائحنا المادية لأجل عمله. فهذه الفرصة هي الأنسب لأجل الجمع لعمل الرب وأعواز الفقراء القديسين. فمن حول مائدة الرب لنا امتياز تقديم ذبائح الحمد والتسبيح وذبائح العطاء المادي في روح السجود.

ليت قلوبنا تسبحه بحمد وبالروح والحق تقدم سجوداً مسيحياً صادقاً. وليتنا على مدى الأسبوع نسلك سلوكاً مقدساً مع الرب حتى تمتلئ سلال باكوراتنا وتفيض في اجتماع السجود شكراً وحمداً لأننا بحضرته. ليتنا نقدر أن نقول مع العروس "عند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي" (نش 7: 13).

  • عدد الزيارات: 17349