الفصل الثامن: روح المسيح وكنيسة المسيح - كنيسة المسيح
2ـ كنيسة المسيح
من خصائص الخطية، أنها تولّد في الإنسان ميلاً للابتعاد عن المركز الأصلي، وتخرج الناس من دائرة الانسجام مع رفاقهم وتبعدهم لا عن خالقهم فحسب، بل أيضاً عن زملائهم وأقرانهم وقد علمنا الاختبار كيف يصبح المجتمع، مدرسة كانت أم مستشفى أم مصنعاً أم مكتباً، كيف تصبح مرتعاً للتنافس والتناحر، ونجده من الصعب "أن يسكن الإخوة معاً".
إن قصد الله – كان ولا يزال – أن يقوّض كل نتائج الخطية الوخيمة، وذلك في المسيح وفكره إذاً، لا أن يدعو أفراداً مشتتين ومستقلين أن يرجعوا إليه، كل بمعزل عن الآخر، ولكن لكي يفدي شعباً خاصاً، شعب اقتناء.
ونرى ذلك واضحاً في الإصحاحات الأولى من سفر التكوين فقد دعا الله إبراهيم، لكي يترك عشيرته وبيت أبيه فيما بين النهرين ووعده، ليس فقط، أن يعطيه أرضاً ميراثاً له، ولكن وعده بنسل لا يعد، مثل نجوم السماء ورمل البحر، وقد تجدد هذا العهد، بإكثار النسل الذي به تتبارك جميع قبائل الأرض، إلى اسحق ابنه، ويعقوب حفيده.
مات يعقوب غريباً في أرض مصر بعدما ذهب مع بنيه إليها، لما حدث جوع في أرض كنعان، وقد خلفه أولاده الاثنا عشر وصار آب الأسباط وقد جدد الله عهده مع البقية الباقية، بعد رجوعهم من العبودية في مصر.
ولكن كيف تتبارك جميع قبائل الأرض؟
مضى قرن بعد قرن، وقد برهنت الأيام، أن هذا الشعب كان أكثر لعنة في العالم مما كان بركة.. وقد أحاط الشعب نفسه، بأسوار مرتفعة من صنعه، رغبة منه في حماية نفسه من الاختلاط بالشعوب الأخرى من الأمم النجسين، ولاح أمام أعينهم، كأنهم أخطأوا الهدف ولن يصلوا إلى أن يكونوا بركة للشعوب الأخرى، فهل كان وعد الله لإبراهيم كذباً؟ كلا! بل إن كثيرين من الأنبياء عرفوا بواسطة كلمة الرب أنه لما جاء المسيح، الممسوح من الله "سيأتي شعوب من كل زوايا الأرض لكي يدخلوا ملكوت الله.
وأخيراً جاء المسيح.. وأعلن يسوع الناصري أن الملكوت العتيد قد قرب، وقال أن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون في حضن إبراهيم، ولن يظل شعب الله شعباً معتزلاً، ولكن شعب يجتمع كل أفراده من كل قبيلة وأمة ولسان.. وقد أمر الرب المقام أتباعه قائلاً: "اذهبوا .. وتلمذوا جميع الأمم" (متى 28: 19) وقد دعا يسوع هؤلاء التلاميذ "كنيستي" (متى 16: 18) وبذا نرى أن عهد الله لإبراهيم، تكرر عدة مرات له، وتجدد مع بنيه، وقد تم فعلاً في نمو وامتداد الكنيسة اليوم، في جميع أنحاء العالم، وقد كتب الرسول بولس: "فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة" (غلاطية 3: 29).
بين أروع الصور التي استخدمها الرسول للتعبير عن الوحدة بين المؤمنين، التشبيه بالجسم البشري، ويقول أن الكنيسة هي جسد المسيح.. وكل مسيحي هو عضو في الجسد، بينما المسيح وحده هو الرأس الذي يضبط كل أعمال الجسد ونشاطه، ولا يقوم عضو بنفس العمل الذي يقوم به عضو آخر، ولكن كل عضو ضروري لحفظ سلامة الجسد وكماله.. وزد على ذلك فإن لكل الجسد، حياة واحدة مشتركة، هذا هو الروح القدس، فإن حضوره يجعل الجسد واحداً، وتدين الكنيسة له بوحدتها وارتباطها، ويؤكد الرسول بولس القول: "جسد واحد وروح واحد" (أفسس 4: 4) حتى ان كل نظم ونشاط الكنيسة الخارجية، لا تؤثر على وحدتها الروحية الداخلية التي لا تنفصم عراها، هذه هي "وحدانية الروح" أو "شركة الروح" (أفسس 4: 3، فيلبي 2: 1، كورنثوس 13: 14) وإن نصيبنا معه يجعلنا دائماً واحداً. إن هذه الوحدة الروحية، التي خلقها وصنعها الروح الواحد، أُطلق عليها في بعض الأحيان اسم: "الكنيسة الغير المنظورة" ذلك لأن أعضاءها لا تراهم العين، فإنها مجتمع لجميع المؤمنين الحقيقيين أو كما يقول عنها كتاب الصلاة العامة: "الشركة المباركة لجميع المؤمنين"، وينتمي إليها كل مسيحي حقيقي، مهما كان جنسه أو مركزة الاجتماعي أو عقيدته الكنسية، فإن كان ضمن خاصة المسيح فإنه خاصة الكنيسة أيضاً.
وفي نفس الوقت، لا يمكن أن نكتفي بعضوية هيئة غير منظورة أو ملموسة.. لأن الكنيسة العامة غير المنظورة، مظاهرها العلنية المنظورة محلياً، ويجب أن ينتمي لإحداها كل مسيحي، حيث يعبد ويتمتع بالشركة، ويجد الفرص سانحة للخدمة، وسوف تبرهن على أنها جماعة من النساء والرجال، الخطاة الأثمة، ولذلك يجب عليه ألا يهجر بلك الجماعة لهذا السبب، لأنه هو نفسه خاطىء أثيم.. وسيدرك أن ليس جميع أعضائها، هم أعضاء حتماً في كنيسة يسوع المسيح غير المنظورة، فإن بعض الذين كتبت أسماؤهم في سجلات الكنيسة لم تكتب أسماؤهم في سفر حياة الخروف ولكن ليس للشخص نفسه أن يحكم "بل يعلم الرب الذين هم له" (2 ثيموثاوس 2: 19) فإن الراعي يقبل للعضوية - عن طريقة المعمودية – أولئك الذين يعترفون بإيمانهم، ولكن الرب يرى القلب فلا ينظر إلى الذين يعترفون بإيمانهم بشفاههم بل إلى مَن يمارس إيمانه في قلب واثق، ومثل هذا المؤمن مولود ولادة ثانية بالروح القدس، ويصبح عضواً في كنيسة المسيح، الكنيسة الجامعة الغير المنظورة.. يا للأسف! لأن بعض الذين تعمدوا حسب الظاهر ثم انضموا إلى عضوية الكنيسة المنظورة، لم يولدوا من فوق، ولم يقبلهم المسيح نفسه.
ليس الروح القدس هو مصدر حياة الكنيسة العامة فحسب، لكنه خالق محبتها المشتركة أيضاً، فإن المحبة هي باكورة أثمار الروح وإن طبيعته في المحبة، ويضعها في قلوب الذين يحل فيهم، لقد عرف جميع المسيحيين، الاختبار العجيب في جذبهم إلى غيرهم من المسيحيين، الذين لم تسبق لهم بهم معرفة، والذين نشأوا نشأة مختلفة، وإن العلاقة القائمة بين أولاد الله والتي تنمو وتتزايد، لهي أعمق وأوضح وأبقى من قرابة الدم، إنها قرابة عشيرة الله، وحقاً "نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة" (1 يوحنا 2: 14) وهي ليست محبة عاطفية أو وليدة المشاعر والإحساس ولكن جوهرها الإيثار وإنكار النفس وتضحية الذات، وتظهر ذاتها في الرغبة للخدمة والمساعدة وإسعاد الآخرين، ويستطيع المؤمن أن يقاوم قوة الخطية التي تبعدنا عن بعضنا البعض، لأن الخطية تسبب الانقسام، بينما المحبة تجمع وتوحّد. الخطية تفصل وتبعد، حيث المحبة تصالح وتقرّب.
ومن البديهي، أن صفحات تاريخ الكنيسة قد لطخت بنقط قبيحة سوداء، وقد تميزت كنيسة يسوع المسيح المنظورة بالحياة والمحبة.. والمسيحيون، رغم أنهم مفديون، بعيدون عن حياة الكمال، كما أن بعض الكنائس تبدو ميتة – أو كادت أن تموت – أكثر مما تظهر حية قوية، وبعضها ممزَّق بسبب الانقسام والأحزاب وفقدان المحبة، بقي علينا أن نقرر بأنه ليس جميع الذين يعترفون ويدعون اسمهم مسيحيين، يظهرون عملياً محبة أو حياة يسوع المسيح فيهم.
وبالرغم من كل هذا، فإن مركز المسيحي بين الجماعة المسيحية – مهما كان ضعيفاً أو ناقصاً – هو أن ينضم مع إخوته في شركة متبادلة، وفي عبادة الله، وفي الشهادة ليسوع المسيح في عالم أوسع.
- عدد الزيارات: 9268