Skip to main content

الفصل الثامن: روح المسيح وكنيسة المسيح

إنه لمن الخطأ الفاحش أن يظن أحد أن الخلاص بالمسيح معناه مجرد تسوية خطايانا الماضية فقط، فإن المسيح يهتم بالحاضر والمستقبل اهتمامه بالماضي، فإن كان يضمن لنا غفران خطايانا ومصالحتنا مع الله، فإنه يستطيع أيضاً أن يتغلب على النتائج الشريرة الأخرى للخطية.. فالخلاص كلمة جامعة مانعة، فهي لا تشمل فقط قبولنا لدى الله ولكن أيضاً تحريرنا المتزايد من طغيان محبة الذات واسترداد علاقات الانسجام مع إخوتنا وزملائنا، وإننا لمدينون بأولى هذه البركات إلى موت المسيح، ولكن بواسطة روحه القدوس نستطيع أن نتحرر من أنفسنا، وبواسطة كنيسته يمكن أن نتحد في شركة المحبة. وسوف يقتصر حديثنا في هذا الفصل عن هذه الوجوه من الخلاص الذي أعدّه المسيح.


1ـ روح المسيح

رأينا فيما تقدم، أنه يجب ألا ننظر إلى خطايانا كسلسلة من الحوادث المبعثرة، ولكن كأعراض وعلامات لمرض أدبي داخلي وقد علّمنا السيد أن نوع الأثمار يتوقف على نوع الأشجار التي تحملها "وكل شجرة جيدة تصنع أثماراً جيدة والشجرة الردية تصنع أثماراً ردية. لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثماراً ردية ولا شجرة ردية أن تصنع أثماراً جيدة" (متى 7: 17، 18) من هذا نرى أن السبب الرئيسي لخطايانا هو خطيتنا، طبيعتنا الموروثة الفاسدة الذاتية، وقد دعا يسوع هذه الطبيعة "قلب" الإنسان وقال "من الداخل من قلب الناس تخرج الأفكار الشريرة، زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان" وقال أيضاً "من فضلة القلب يتكلم الفم... الإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور" (مرقس 7: 21 – 23، متى 12: 34، 35)

ومن هذا نلاحظ أن تصرفنا الخارجي أن هو إلا تعبير عن طبيعتنا الداخلية، ومن المعقول أن التحسين في السلوك يتوقف على التغيير في الطبيعة وقد قال يسوع: "اجعلوا الشجرة جيدة، وثمرها (يكون) جيداً" (متى 12: 33) ولكن هل من وسيلة لتغيير طبيعة الإنسان؟ وهل في الإمكان تغيير إنسان فظ إلى إنسان حلو المعشر والحديث؟ ومن متكبر إلى متواضع، ومن محب للذات إلى خدوم مضحي؟ ويعلن الكتاب المقدس مؤكّداً أنه يمكن حدوث مثل هذه المعجزات وعساه جزء من مجد الإنجيل، فإن يسوع المسيح مستعد لا أن يغيّر فقط موقفنا نحو الله ولكنه يغير طبيعتنا أيضاً، وقد تكلم عن ضرورة الولادة الجديدة التي لا يمكن الاستغناء عنها، ولا زالت كلماته التي خاطب بها نيقوديموس ترن في الآذان وهو يقول لكل واحد: "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله .. لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق" (يوحنا 3: 3، 7) وعسى الرسول بولس يكتب أحياناً بشكل تصويري أكثر وهو يقول: "إن كان أحد في المسيح يسوع فهو خليقة جديدة" (2 كورنثوس 5: 17) هذه هي الإمكانات التي يتحدث عنها العهد الجديد – ألا وهي قلب جديد – وطبيعة جديدة، ولادة جديدة وخليقة جديدة.. ويجب أن يطهر النبع أولاً، حتى يتطهر المجرى..

إن هذا التغيير الداخلي العظيم هو عمل الروح القدس، فالولادة الجديدة هي الولادة "من فوق" والولادة من فوق معناها أن "يولد من الروح" (يوحنا 3: 6) وليس من المناسب هنا، أن نبحث عقيدة الثالوث الغامضة.. ويكفينا للوصول إلى غايتنا الآن، أن نتأمل فيما كتبه الرسل الأولون عن الروح القدس، لأن تعاليمهم امتزجت بقدرتهم وحياتهم.

أولاً: من المهم أن ندرك بان الروح القدس لم يأت إلى حيز الوجود أو انه بدأ نشاطه وعمله يوم الخمسين فحسب، ولكنه هو الله وهو أزلي وأبدي، وكان في العالم يعمل منذ بدء الخليقة وقد أشار إليه العهد القديم مراراً، وكانت نفوس الأنبياء تصبو إلى العصر المسيحي بأنه الوقت الذي فيه يتزايد عمل الروح القدس ويمتد وقد تكلم حزقيال وأرميا بنوع خاص عن عمله مستقبلاً في شعب الله وقد جاء في نبوة حزقيال قول الرب: "وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديداً في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم وأجعل روحي داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي، وتعملون بها (حزقيال 36: 26، 27) هذه هي عطية القلب الجديد وهي مرتبطة تمام الارتباط بسكنى روح الله، الأمر الذي يصل بالإنسان إلى نتيجة طبيعية ألا وهي حياة الطاعة لشريعة الله ونلاحظ أن نبوة أرميا عن هذا العهد الجديد، تتضمن قولاً مشابهاً "وأجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم" (أرميا 31: 33) و لن يكون لشعب اللّه فيما بعد، حاجة إلى شريعة خارجية منقوشة على ألواح حجرية لا مندوحة لهم بطاعتها، ذلك لأن شريعة الله مكتوبة في قلوبهم بالروح القدس، الذي لا يكتفي بتعليمهم إياها فقط، بل يعطيهم قوة ليصيغوا حياتهم ضمن مستلزماتها.

وإن ما تنبأ به الأنبياء قديماً قبل مجيء المسيح بنحو سبعمائة سنة، وعد به المسيح أنه وشيك الحدوث، وقد اختلى مع تلاميذه الاثني عشر في العليّة قبل موته بساعات، وكلمهم عن "المعزّى" "روح الحق" المزمع أن يأتي ويحل محله... والواقع أن حضور الروح القدس خير لهم من حضوره الشخصي وهو على الأرض، وقال لهم: "خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله لكم" وإن الامتياز في ذلك هو بأن المسيح كان معهم وبجانبهم، ولكن "روح الحق.. ماكث معكم ويكون فيكم" (يوحنا 16: 7، 14: 17) وبكل تقوى ووقار يمكن أن يقال، إن خدمة يسوع من ناحية تعاليمه قد أصابها بعض الفشل، وكم من مرة أقام ولداً في الوسط وأوصى تلاميذه أن يتواضعوا، ولكن سمعان بطرس ظل متكبراً ومعتداً بنفسه.. وقد علمهم أن يحبوا بعضهم بعضاً وقد سمى يوحنا باسم "ابن الرعد" عن جدارة، ولكن عندما يدرس القاريء رسالة بطرس الأولى، لا يفوته أن يلاحظ إشاراته عن التواضع، كما أن رسائل يوحنا ملآنة بالمحبة.. فما هو السبب في هذا الفرق؟ إنه الروح القدس.. وقد علمهم يسوع أن يكونوا متواضعين ومحبين، ولكنهم فشلوا في إظهار أي من الصفتين قبل أن يمتلكهم الروح القدس بشخصه، وقبل أن يغيّرهم في الداخل ففي يوم الخمسين "امتلأ الجميع من الروح القدس" ولا تظنوا أن ذلك كان اختباراً شاذاً أو غريباً على الرسل والقديسين، لأن الوصية الموجهة إلى جميع المسيحيين تقول: "امتلئوا بالروح" وما حلول الروح القدس في داخل الإنسان؛ إلا حق موروث لكل مسيحي حقيقي وفي الواقع، إن لم يكن الروح القدس، قد سكن في داخلنا، فهذا يعني أننا لم نبلغ بعد حد المسيحية الحقة وقد قال بولس: "إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له (أي للمسيح)" (انظر أعمال 2: 4، أفسس 5: 8، رومية 8: 9).

إذاً هذا هو تعليم العهد الجديد، فحينما نضع ثقتنا في يسوع المسيح، ونتكل عليه ونسلمه أنفسنا وذواتنا، يدخلنا الروح القدس، لأنه مرسَل من الله "إلى قلوبنا" ويجعل من أجسادنا "هياكل له" (غلاطية 6: 6، 1 كورنثوس 6: 19).

هذا لا يعني أننا من تلك اللحظة، غير معرّضين للسقوط في الخطيئة ولكن بالعكس، فإنه في بعض الحالات، تزداد المعركة شدة، ولكن من ناحية أخرى، ينفتح أمامنا باب النصرة، ويرسم لنا بولس الرسول في الإصحاح الخامس من رسالته إلى غلاطية، صورة حقيقية للمعركة، فالخصمان هما: "الجسد" وهو الاسم الذي يطلقه الرسول على الطبيعة الموروثة الفاسدة، ثم "الروح" ويقول: "إن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر" (غلاطية 5: 17) وعسانا نلاحظ أن هذا ليس رأياً لاهوتياً فحسب، ولكنه اختبار يومي يجوزه كل مسيحي، فإننا نشعر باستمرار الشهوات الخاطئة، والملذات الردية، تجذبنا إلى الأسفل وفي نفس الوقت نلمس قوات معاكسة ترفعنا وتسمو بنا إلى القداسة ولو أطلق "للجسد" العنان، لقادنا إلى مهاوي الفساد والانحطاط والرذائل، التي يعددها بولس الرسول في الأعداد 19 – 21، ومن ناحية أُخرى، لو سمحنا للروح القدس، أن يشتق طريقه فينا، لأضحت النتيجة "محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف" (غلاطية 5: 22 – 23) ويسمي بولس أيضاً هذه الفضائل المغرية "أثمار الروح" ويشبه الخلق البشري ببستان حيث يقوم الروح القدس بالزراعة، فهل نسمح له أن يضع أشجاراً جيدة، تعطي أثماراً جيدة..

ولكن ما السبيل إلى قهر "الجسد" وأعماله الردية الشريرة حتى يمكن "لأثمار الروح" أن تنمو وتنضج؟! والجواب يتوقف على موقفنا الداخلي الذي نقفه من كل من الخصمين "فالذين هم مع المسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" "اسلكوا بالروح ولا تكملوا شهوة الجسد" (غلاطية 5: 24، 16).. وعلينا أن نتخذ موقف المعارضة العنيفة والقمع ضد الجسد، أي أن "نصلبه"، أما بشأن الروح، فيجب أن نعطيه السيادة المطلقة على حياتنا، وكلما عودنا أنفسنا على مقاومة الجسد، والخضوع للروح كلما تلاشت أعمال الجسد القبيحة، وازدادت أثمار الروح الجميلة.

ويعلّم الرسول بولس ذات الحقيقة في رسالته الثانية إلى كورنثوس (3: 18) حيث يقول: "ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح".. لا يغيّرنا إلى صورة المسيح ومثاله، سوى روح المسيح إذا ثبتنا وجهنا نحوه، ولذلك يظهر دورنا الذي يجب أن نقوم به وهو التوبة والإيمان وضبط النفس، أما القداسة فهي من عمل الروح القدس..

كل بر نملكه

وكل نصر أحرزناه

وكل تفكير مقدس

كلها منه، دون سواه

***

يا روح الطهر والنعمة

انظر لضعفنا متعطفاً

واجعل قلوبنا لك مسكناً

يليق بك، أيها الإله

اعتاد رئيس الأساقفة "وليم تمبل" أن يوضح هذا الدرس، على النحو التالي: "لا فائدة أن تعطيني رواية تمثيلية مثل رواية هملت أو الملك لير، وتكلّفني أن أكتب رواية مثلها.. لأن شكسبير وحده هو الذي استطاع أن يؤلفها، كما لا فائدة أن تريني حياة مثل حياة يسوع، وتطلب مني أن أحيا حياة مثلها، لأن يسوع وحده استطاع أن يحياها.. أما أنا فلا أستطيع، ولكن لو انتقل إليّ نبوغ شكسبير وعبقريته، وسكن فيّ، لأمكنني أن أكتب روايات مثل هذه " ولو جاء روح يسوع وسكن فيّ، أمكنني أن أحيا حياة مثله" هذا هو سر القداسة المسيحية، فليس الأمر مجرد محاولة لكي نحيا مثل يسوع، بل ان يسوع يأتي بروحه ويحيا فينا، فلا يكفي أن نتخذه مثالاً لنا، ولكننا نحتاجه مخلّصاً لنا، وإنه عن طريق موته الكفاري فقط، يمكن أن ننجو من قصاص الخطية، بينما تكسر حدة خطايانا وقوتها، بواسطة روحه الساكن فينا.


كنيسة المسيح

من خصائص الخطية، أنها تولّد في الإنسان ميلاً للابتعاد عن المركز الأصلي، وتخرج الناس من دائرة الانسجام مع رفاقهم وتبعدهم لا عن خالقهم فحسب، بل أيضاً عن زملائهم وأقرانهم وقد علمنا الاختبار كيف يصبح المجتمع، مدرسة كانت أم مستشفى أم مصنعاً أم مكتباً، كيف تصبح مرتعاً للتنافس والتناحر، ونجده من الصعب "أن يسكن الإخوة معاً".

إن قصد الله – كان ولا يزال – أن يقوّض كل نتائج الخطية الوخيمة، وذلك في المسيح وفكره إذاً، لا أن يدعو أفراداً مشتتين ومستقلين أن يرجعوا إليه، كل بمعزل عن الآخر، ولكن لكي يفدي شعباً خاصاً، شعب اقتناء.

ونرى ذلك واضحاً في الإصحاحات الأولى من سفر التكوين فقد دعا الله إبراهيم، لكي يترك عشيرته وبيت أبيه فيما بين النهرين ووعده، ليس فقط، أن يعطيه أرضاً ميراثاً له، ولكن وعده بنسل لا يعد، مثل نجوم السماء ورمل البحر، وقد تجدد هذا العهد، بإكثار النسل الذي به تتبارك جميع قبائل الأرض، إلى اسحق ابنه، ويعقوب حفيده.

مات يعقوب غريباً في أرض مصر بعدما ذهب مع بنيه إليها، لما حدث جوع في أرض كنعان، وقد خلفه أولاده الاثنا عشر وصار آب الأسباط وقد جدد الله عهده مع البقية الباقية، بعد رجوعهم من العبودية في مصر.

ولكن كيف تتبارك جميع قبائل الأرض؟

مضى قرن بعد قرن، وقد برهنت الأيام، أن هذا الشعب كان أكثر لعنة في العالم مما كان بركة.. وقد أحاط الشعب نفسه، بأسوار مرتفعة من صنعه، رغبة منه في حماية نفسه من الاختلاط بالشعوب الأخرى من الأمم النجسين، ولاح أمام أعينهم، كأنهم أخطأوا الهدف ولن يصلوا إلى أن يكونوا بركة للشعوب الأخرى، فهل كان وعد الله لإبراهيم كذباً؟ كلا! بل إن كثيرين من الأنبياء عرفوا بواسطة كلمة الرب أنه لما جاء المسيح، الممسوح من الله "سيأتي شعوب من كل زوايا الأرض لكي يدخلوا ملكوت الله.

وأخيراً جاء المسيح.. وأعلن يسوع الناصري أن الملكوت العتيد قد قرب، وقال أن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون في حضن إبراهيم، ولن يظل شعب الله شعباً معتزلاً، ولكن شعب يجتمع كل أفراده من كل قبيلة وأمة ولسان.. وقد أمر الرب المقام أتباعه قائلاً: "اذهبوا .. وتلمذوا جميع الأمم" (متى 28: 19) وقد دعا يسوع هؤلاء التلاميذ "كنيستي" (متى 16: 18) وبذا نرى أن عهد الله لإبراهيم، تكرر عدة مرات له، وتجدد مع بنيه، وقد تم فعلاً في نمو وامتداد الكنيسة اليوم، في جميع أنحاء العالم، وقد كتب الرسول بولس: "فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة" (غلاطية 3: 29).

بين أروع الصور التي استخدمها الرسول للتعبير عن الوحدة بين المؤمنين، التشبيه بالجسم البشري، ويقول أن الكنيسة هي جسد المسيح.. وكل مسيحي هو عضو في الجسد، بينما المسيح وحده هو الرأس الذي يضبط كل أعمال الجسد ونشاطه، ولا يقوم عضو بنفس العمل الذي يقوم به عضو آخر، ولكن كل عضو ضروري لحفظ سلامة الجسد وكماله.. وزد على ذلك فإن لكل الجسد، حياة واحدة مشتركة، هذا هو الروح القدس، فإن حضوره يجعل الجسد واحداً، وتدين الكنيسة له بوحدتها وارتباطها، ويؤكد الرسول بولس القول: "جسد واحد وروح واحد" (أفسس 4: 4) حتى ان كل نظم ونشاط الكنيسة الخارجية، لا تؤثر على وحدتها الروحية الداخلية التي لا تنفصم عراها، هذه هي "وحدانية الروح" أو "شركة الروح" (أفسس 4: 3، فيلبي 2: 1، كورنثوس 13: 14) وإن نصيبنا معه يجعلنا دائماً واحداً. إن هذه الوحدة الروحية، التي خلقها وصنعها الروح الواحد، أُطلق عليها في بعض الأحيان اسم: "الكنيسة الغير المنظورة" ذلك لأن أعضاءها لا تراهم العين، فإنها مجتمع لجميع المؤمنين الحقيقيين أو كما يقول عنها كتاب الصلاة العامة: "الشركة المباركة لجميع المؤمنين"، وينتمي إليها كل مسيحي حقيقي، مهما كان جنسه أو مركزة الاجتماعي أو عقيدته الكنسية، فإن كان ضمن خاصة المسيح فإنه خاصة الكنيسة أيضاً.

وفي نفس الوقت، لا يمكن أن نكتفي بعضوية هيئة غير منظورة أو ملموسة.. لأن الكنيسة العامة غير المنظورة، مظاهرها العلنية المنظورة محلياً، ويجب أن ينتمي لإحداها كل مسيحي، حيث يعبد ويتمتع بالشركة، ويجد الفرص سانحة للخدمة، وسوف تبرهن على أنها جماعة من النساء والرجال، الخطاة الأثمة، ولذلك يجب عليه ألا يهجر بلك الجماعة لهذا السبب، لأنه هو نفسه خاطىء أثيم.. وسيدرك أن ليس جميع أعضائها، هم أعضاء حتماً في كنيسة يسوع المسيح غير المنظورة، فإن بعض الذين كتبت أسماؤهم في سجلات الكنيسة لم تكتب أسماؤهم في سفر حياة الخروف ولكن ليس للشخص نفسه أن يحكم "بل يعلم الرب الذين هم له" (2 ثيموثاوس 2: 19) فإن الراعي يقبل للعضوية - عن طريقة المعمودية – أولئك الذين يعترفون بإيمانهم، ولكن الرب يرى القلب فلا ينظر إلى الذين يعترفون بإيمانهم بشفاههم بل إلى مَن يمارس إيمانه في قلب واثق، ومثل هذا المؤمن مولود ولادة ثانية بالروح القدس، ويصبح عضواً في كنيسة المسيح، الكنيسة الجامعة الغير المنظورة.. يا للأسف! لأن بعض الذين تعمدوا حسب الظاهر ثم انضموا إلى عضوية الكنيسة المنظورة، لم يولدوا من فوق، ولم يقبلهم المسيح نفسه.

ليس الروح القدس هو مصدر حياة الكنيسة العامة فحسب، لكنه خالق محبتها المشتركة أيضاً، فإن المحبة هي باكورة أثمار الروح وإن طبيعته في المحبة، ويضعها في قلوب الذين يحل فيهم، لقد عرف جميع المسيحيين، الاختبار العجيب في جذبهم إلى غيرهم من المسيحيين، الذين لم تسبق لهم بهم معرفة، والذين نشأوا نشأة مختلفة، وإن العلاقة القائمة بين أولاد الله والتي تنمو وتتزايد، لهي أعمق وأوضح وأبقى من قرابة الدم، إنها قرابة عشيرة الله، وحقاً "نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة" (1 يوحنا 2: 14) وهي ليست محبة عاطفية أو وليدة المشاعر والإحساس ولكن جوهرها الإيثار وإنكار النفس وتضحية الذات، وتظهر ذاتها في الرغبة للخدمة والمساعدة وإسعاد الآخرين، ويستطيع المؤمن أن يقاوم قوة الخطية التي تبعدنا عن بعضنا البعض، لأن الخطية تسبب الانقسام، بينما المحبة تجمع وتوحّد. الخطية تفصل وتبعد، حيث المحبة تصالح وتقرّب.

ومن البديهي، أن صفحات تاريخ الكنيسة قد لطخت بنقط قبيحة سوداء، وقد تميزت كنيسة يسوع المسيح المنظورة بالحياة والمحبة.. والمسيحيون، رغم أنهم مفديون، بعيدون عن حياة الكمال، كما أن بعض الكنائس تبدو ميتة – أو كادت أن تموت – أكثر مما تظهر حية قوية، وبعضها ممزَّق بسبب الانقسام والأحزاب وفقدان المحبة، بقي علينا أن نقرر بأنه ليس جميع الذين يعترفون ويدعون اسمهم مسيحيين، يظهرون عملياً محبة أو حياة يسوع المسيح فيهم.

وبالرغم من كل هذا، فإن مركز المسيحي بين الجماعة المسيحية – مهما كان ضعيفاً أو ناقصاً – هو أن ينضم مع إخوته في شركة متبادلة، وفي عبادة الله، وفي الشهادة ليسوع المسيح في عالم أوسع.

  • عدد الزيارات: 9114