الفصل الثاني: دعاوي المسيح - دعاوي يسوع الغير المباشرة
3-دعاوي يسوع الغير المباشرة:
أيّدَ يسوع دعواه بالألوهية، بوسائل غير مباشرة، كما سبقَ وأيّدها بالوسائل المباشرة، فإنَّ خدمته– وما تضمنته من أعمال –شهادة واضحة صريحة، لها من القوة والتأثير ما لكلماتهِ وأقوالهِ... فقد قام بأعمال– في مناسباتٍ عديدةٍ –لا يقدر أن يعملها إلاَّ الله، ونسب لنفسه بعض الامتيازات الإلهية، نكتفي بذكر أربعة منها فقط:
(1)دعواه بغفران الخطايا:
غفر يسوع الخطايا في حادثتين مختلفتين، أولاهما: لما قُدِّم إليه المفلوج، مُدلَّّى مِنَ السقف بأربعة حبال،
وقد رأى يسوع أنَّ حاجة ذلك الإنسان روحية، أكثر ممّا هي جسدية، فأَذهلَ جميع الحاضرين حين قال له: "يا بني مغفورةٌ لكَ خطاياك (مرقس 2: 1-12) والثانية: عندما غفرَ خطايا المرأة الخاطئة، وهو مُتكّئ في بيت رجل فريسي، وقد جاءت بقارورةِ طيب، ووقفت عند قدميه من ورائه باكية، وابتدأت تَبُّّل قدميه بالدموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وتُقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب... فقال لها يسوع: "مغفورةٌ لكِ خطاياك" (لوقا 7: 36-50).
وفي كلتا الحادثتين، ملأتْ السامعين حيرة ودهشة، وتساءلوا في أنفسهم قائلين: "من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟ ما هذا التجديف؟ من يستطيع أن يغفر خطايا إلا الله وحده؟" وربما بَدَتْ كلماتهم– في ظاهرها- صحيحة في نظرهم، لأنَّه عادةً، يمكننا نحن البشر، أنْ نسامح إساءات الآخرين إلينا، ولكن الله وحده هو الذي يقدر أنْ يغفر الخطايا التي نرتكبها نحن ضدَّه تعالى.
(2)دعواه بمنح الحياة:
وصف يسوع نفسه بأنّه "خبز الحياة" (يوحنا 6: 35) وبأنّه "الحياة" (يوحنا 14: 6) وبأنّه "القيامة والحياة" (يوحنا 11: 25) وقد شبّه اعتماد شعبه عليه، باعتماد الأغصان على الكرمة، وقدَّم للمرأة السامرية "ماء الحياة" (يوحنا 4: 10-15) ووعد الشاب الغني بالحياة الأبدية إذا تَبِعَهُ (مرقس 10: 17، 21) ودعا نفسه "الراعي الصالح" الذي يضع نفسه عن الخراف، والذي يعطيها الحياة الأبدية (يوحنا 10: 28) وأعلن أنَّ الله أعطاه سلطاناً على كلِّ جسد ليعطي حياة أبدية، للذين أعطاه إيَّاهم الله (يوحنا 17: 2) ونادى قائلاً: "كذلك الابن أيضاً يحيى من يشاء" (يوحنا 5: 21).
كانت هذه الدعوى واضحة قويّة، حتى أنّ تلاميذه أدركوا حقيقته، واستبعدوا أن يفكّروا في تركه، بدليل قول بطرس: "إلى من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك" (يوحنا 6: 68) وعسانا نرى أهمية هذه كلها، لأنّ الحياة لغز وإنَّ بها– جسدية كانت أم روحية –من الغموض ما يحيِّر الألباب، إنَّ في طبيعتها أو أصلها، فلا يستطيع المرء أنْ يحدّد ماهيتها، ولا أنُ يقول مِنْ أين تأتي، ولا يمكننا إلاّ أن ندعوها هبة إلهية، وهذه هي العطية التي منحنا إيّاها يسوع.
(3) دعوى بتعليم الحق:
إنّ الحقائق السامية التي علَّمها يسوع، لا تسترعي ذات الاهتمام، الذي يسترعيه أسلوبه الصريح الواضح، الذي يأخذ بمجامع القلوب، ويسحر الألباب، حتى أنّ معاصريه، تأثروا تأثيراً قوياً، من حكمته وقالوا: "من أين لهذا هذه كلّها؟ وما هذه الحكمة التي أُعطِيَتْ له؟ أليس هذا هو النجار ابن مريم؟" (مرقس 6: 2، 3) "كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلّم؟" (يوحنا 7: 15) ولا شكّ أنّهم لاحظوا كلمات النعمة الخارجة من فمهِ! (لوقا 4: 22).
كما أنَّ سلطانه، ترك في نفوسهم أثراً أكبر فقالوا: "لم يتكلم قطُّ إنسان هكذا مثل هذا الإنسان" (يوحنا 7: 46) "وبُهِتُوا من تعليمه لأنَّ كلامه كان بسلطان" (لوقا 4: 32) وقد جاء في ختام الموعظة على الجبل هذه الكلمات: "فلما أكمل يسوع هذه الأقوال، بُهِتَتْ الجموع مِنْ تعليمه، لأنّه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (متى 7: 28، 29).
ولم يكن سلطانه سلطان نبي، استمدّه من غيره، بل كان سلطاناً أصيلاً، فلم يستخدم في حديثه العبارة القائلة: "هكذا يقول الرب" بل كان يقول: "الحقَّ الحقّ أقول لكم" ومع أنّه ذكر بصراحة أنّ تعليمه ليس له بل للآب الذي أرسله (يوحنا 7: 17، 18) إلاّ أنّه كان يعلم يقيناً أنّه الوسيلة الفعّالة المباشرة، للإعلان السماوي، مما جعله يخاطب الجموع، وكلّه ثقة في نفسه، فلم يتردد في كلامه، ولم يعتذر عن أي شيء، كما لم ينقض شيئاً مما سبق وقاله، ولم يتراجع عن شيء أو يعدّله، لأنّه كان يتكلم بكلام الله (يوحنا 3: 34) وفي حديثه عن المستقبل، بدا واثقاً مما يقول، كما أنّه نطق بوصايا أدبية رفيعة، منها "أحبوا أعداءكم" (متى 5: 44، لوقا 6: 27) "لا تهتموا للغد" (متى 6: 34) "لا تدينوا لكي لا تدانوا" (متى 7: 1) وأمّا وعوده مثل "اسألوا تعطوا" (متى 7: 7، لوقا 11: 9) فلم يشكّبتاتاً في إتمامها، كما أنّه أكدّ أنّ كلامه أبدي، ثابت مثل الناموس، ولا يزول حرف منه (مرقس 13: 31 قابل متى 5: 18) وأنذر سامعيه مشدداً على أنّ مصيرهم الأبدي، متوقف على مدى طاعتهم لأقواله، كما توقف مصير الشعب قديماً، على طاعتهم لأقوال الله (متى 7: 24-27، يوحنا 12: 48).
(4) دعوى دينونة العالم:
ربما كانت هذه، أقوى دعوى قدّمها المسيح، وقد تضمنت بعض أمثاله، فكرة مجيئه الثاني إلى العالم، وأنَّ يوم الدينونة قد يُؤجَّل حتى يجيء، فهو الذي سيُقيم الموتى (يوحنا 5، 28، 29) وإنَّ كلَّ الأمم والقبائل والألسنة، سوف تجتمع قُدَّامَهُ، وسوف يجلس على كرسي مجده، ويعطيه الآب كلّ الدينونة (يوحنا 5: 22) حينئذٍ سيميز الناس بعضهم عن بعض، كما يميز الراعي الخراف عن الجداء، ويدعو البعض لكي يرثوا الملكوت المعد لهم منذ تأسيس العالم، بينما يخاطب البعض الآخر قائلاً: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (متى 25: 31-46) ولا يقتصر الأمر على أن يكون يسوع ديّاناً فحسب، بل إنه يحاسب البشر على موقفهم منه، بالنسبة لموقفهم من "إخوته الأصاغر" الذين هم أتباعه العاملون مشيئة الله (مرقس 3: 35) أو بالنسبة لإجابتهم لدعوته وإطاعتهم لوصاياه (يوحنا 12: 47، 48) وإن الذين اعترفوا به قدام الناس، يعترف به قدام أبيه الذي في السموات، والذين أنكروه، ينكرهم هو أيضاً (متى 10: 32، 33) ويكفي أن يقول يسوع لإنسان ما: "لم أعرفك" (متى 7: 23) في اليوم الأخير، ليحرمه من دخول السماء.. وما أعظم هذا القول، وما أبعد تأثيره ومداه! تصوروا واعظاً يقف على المنبر، ثم يخاطب سامعيه هكذا: "اسمعوا! أصغوا بكل انتباه إلى ما أقول! لأن مصيركم الأبدي، يتوقف على مدى سماعكم لكلامي، والعمل به، وسوف أرجع عند انتهاء العالم، لكي أناديكم، واعلموا أن نصيبكم الأبدي يتوقف على مدى طاعتكم لي"... لو حدث هذا، فلن يمر وقت طويل، حتى يلقى القبض على مثل هذا الواعظ، أو أن يرسل– كمخبول– إلى مصّحة الأمراض العقلية للعلاج.
- عدد الزيارات: 12317