الفصل الثاني: دعاوي المسيح - دعاوي المسيح المباشرة
2-دعاوي المسيح المباشرة:
من الواضح أنّ يسوع اعتقد بأنه المسيا الذي تنبأ عنه العهد القديم، واعتبر خدمته إتماماً لتلك النبوات، وقد جاء لكي ينشئ ملكوت الله، الذي أخبر عنه الأنبياء قديماً، ومما يستحق كبير الاهتمام، أنّ أول كلمة سجلها الوحيلخدمة المسيح العلنية، هي "كَمُلَ"، كما وردت في أول عبارة وهي "قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله" (مرقس 1: 15) واتخذ لنفسه لقب "ابن الإنسان" وهو لقب من ألقاب المسيا المقبولة، والمشتقة من إحدى رؤى دانيال –وقد قبل يسوع الوصف "ابن الله"، عندما تحداه رئيس الكهنة (مرقس 14: 61، 62) وهو لقب متعلق بالمسيا، مأخوذ عن مزمور 2: 7، وفسّر إرساليته في ضوء الصورة التي رسمها أشعياء، صورة عبد الرب المتألم، وقد بلغت المرحلة الأولى من تعليمه ذروتها، في قيصرية فيلبس، عندما اعترف سمعان بطرس، بإيمانه أنّ يسوع هو المسيح (مرقس 8: 27-29) وبينما ظنّه البعض واحداً من الأنبياء، أكدّ بطرس أنّه هو هو عين الشخص الذي تنبأ عنه الأنبياء قديماً.
فلم يكن مجرد إنسان بين رفاقه، ولكنه هو الشخص الذي إليه تتجه أنظار وقلوب الجميع، وكان "الإتمام" أو "الإكمال" هو الطابع الذي امتازت به خدمة المسيح وإرساليته، وهذا نفس ما قاله لتلاميذه على انفراد: "طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه. لأنّي أقول لكم إنّ أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا" (لوقا 10: 23، 24) (قابل أيضاً متى 13: 16، 17).
ولكن هذه الدعاوى المباشرة التي نحن بصددها الآن، لا تشير إلى المسيح بصفة كونه المسيا فحسب، بل تشير أيضاً إلى لاهوته. فقد جاهر أنّه ابن الله، لا بوصفه المسيا فقط، بل أيضاً بالنسبة لعلاقته الفريدة الأزلية مع الله الآب، وها نحن نورد ثلاثة أمثلة، بهذا الصدد: نذكر أولاً، علاقته الوثيقة بأبيه "الله".. وقد ورد ذكرها مراراً وتكراراً، وها نحن نرى يسوع في سن الثانية عشرة، وقد أدهشت أبويه– حسب الجسد –غيرته المتقدة على ما لأبيه السماوي (لوقا 2: 49) وأيضاً قوله: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يوحنا 5: 17) "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30) "أنا في الآب والآب فيَّ" (يوحنا 14: 10، 11) "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يوحنا 14: 23) ومن المسلّم به أنَّ يسوع علَّم تلاميذه أيضاً أن يخاطبوا الله "كأب" ولكن شتّان بين بنوة المسيح لله، وبنوتنا نحن.. وقد فرّق يسوع بين الاثنتين، فعندما تكلم عن الله، كان يقول "أبي" (متى 18: 10، 19: 35، 7: 21، 20: 23، 26: 53) لذلك خاطب مريم المجدلية بقوله: "إني أصعد إلى أبي وأبيكم" (يوحنا 20: 17) ولم يكن بالإمكان أن يقول: "إني أصعد إلى أبينا"– ومع أنَّ هذه الآيات مأخوذة من إنجيل يوحنا، إلاّ أننا نرى يسوع، وقد جاهر بهذه العلاقة الفريدة– علاقة المسيح بأبيه– في إنجيل متى 11: 27 أيضاً حيث يقول: "كل شيء قد دفع إليَّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له". إلاّ أنّ حنق اليهود وغيظهم، بدا قوياً واضحاً في قولهم: ".. جعل نفسه ابن الله" (يوحنا 19: 7) وجاء نتيجة لدعوى المسيح بشأن علاقته الوثيقة بالله، حتى أنّه وضع على قدم المساواة، موقف الإنسان نحو الله، وموقف الإنسان نحو المسيح وقال: "لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً"– فمعرفته هي معرفة الله (يوحنا 8: 19، 14: 7) كما أنّ رؤياه هي بعينها رؤية الله الآب "الذي يراني يرى الذي أرسلني" (يوحنا 12: 45، 14: 9) والذي يؤمن به، يؤمن بالله (يوحنا 12: 44، 14: 1) ومن يقبله يقبل الله (مرقس 9: 37) ومن يبغضه يبغض الله (يوحنا15: 23) ومن يكرمه يكرم الله (يوحنا 5: 23).
ولننتقل الآن من وجه التعميم إلى وجه التخصيص، وإلى علاقة يسوع الشخصية، الوثيقة بالله الآب، ولتوضيحها نورد مثلين آخرين:
المثل الأول جاء في الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا، عندما اشتد الجدل مع اليهود، في قول يسوع: "الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد" ع 51 ولما لم يحتمل أعداؤه هذا القول، أجابوا قائلين: "قد مات إبراهيم والأنبياء..ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم... من تجعل نفسك.. (52-53)"وأجاب يسوع وقال: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح.. فلمّا سمع اليهود ذلك ازدادت حيرتهم وقالوا: ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟" فأجابهم يسوع بعبارة أفحمتهم قائلاً: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يوحنا 8: 51-58) فرفعوا حجارة ليرجموه، لأنّ ناموس موسى أوصى برجم المجدّفين، وقد اعتبروا كلام يسوع تجديفاً.. فما الذي حسبوه تجديفاً؟
إنّ أول ما خطر على البال قوله: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" هذا ما جاهر به يسوع، في مناسبات عديدة، وأيضاً قوله إنّه مُرسَل من الآب، وإذ ننعم النظر نرى أنه لم يقل: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت" بل قال "أنا كائن"... ولعلّ هذا يعني إقراره بوجوده، ليس فقط قبل إبراهيم، بل منذ الأزل، كما أنّ في هذا القول: "أنا كائن" ما هو أعمق من هذا، لأنّ فيه إقراراً بألوهيته... لأنّ هذا هو ذات الاسم الذي أعلنه الله لموسى عند العليقة في البرية، إذ قال إنّ اسمه هو "أهيه الذي أهيه" أي "أنا الذي أنا" وهو نفس القول "أنا الكائن" "أهيه أرسلني إليكم" (خروج 3: 14) وقد نسب يسوع لنفسه هذا السم، وكلّه طمأنينة وثقة... من أجل هذا رفع اليهود حجارة لكي يرجموه إذ حسبوه مجدِّفاً.
المثل الثاني بشأن دعواه بألوهيته: هذا ما حدث بعد القيامة فإنه بعد ثمانية أيام من القيامة، كان التلاميذ في العلية، وتوما معهم، عندما جاء يسوع والأبواب مغلقة، ووقف في الوسط، وبعد أن حيّاهم، قال لتوما: "هات إصبعك إلى هنا وأبصر يديّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن، بل مؤمناً، واعترت توما دهشة وحيرة فصرخ قائلاً: "ربي وإلهي" (يوحنا 20: 26-29) وقد وبخ يسوع توما لعدم إيمانه – مؤيداً هذا الاعتراف.
- عدد الزيارات: 12319