الفصل الخامس: اختبار قيادة الله
أين يذهب المؤمن الحقيقي لطلب الإرشاد في ظروف الحياة العادية؟ وأين يذهب لحل مشاكله المعقدة؟ ومن يستشير حين يقدم على الزواج، أو على اختيار مهنة الحياة؟ هل يذهب إلى المنوم المغناطيسي، أو إلى ضارب الرمل، وقارئ الكف، وقارئة الفنجان؟ أو يلجأ إلى جلسات مناجاة الأرواح وأصحاب الجان والسحرة والمنجمين؟
لقد حرم الله في كلمته هذه الوسائط قائلاً "لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عائف (أي متشائم) ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جاناً أو تابعة ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب" تث 18: 19 – 22 ومن هذه الآيات نتعلم أن الله يحرم التشاؤم والتفاؤل من الأرقام، والأشخاص، وأصوات الطيور، كما يحرم السحر والرقية، وسؤال أصحاب الجان والتوابع واستشارة الموتى، لأن كل هذه الأعمال هي رجس الشيطان، وكل من يفعلها هو مكروه عند الرب،
ومن الجهة الأخرى ضمن الله قيادة أولاده في موكب الحياة الزاخر، فكان يرشد شعبه قديماً بالأحلام، والأنبياء، والأوريم والتميم "والأوريم والتميم" كلمتان عبريتان معناهما "الأنوار والكمالات" وكانا يوضعان في صدرة القضاء، وعنهما قال موسى للاوي "تميمك بالجان واصعدي لي من أقول لك " فالجلسة إذاً بدأت بواسطة الجان واستمرت تحت سيطرته وقيادته بحسب طلب الملك شاول.
3- منع الله استشارة الموتى في تث 18: 10 – 12 بقوله "لا يكن فيك ... من يستشير الموتى" وفي أش 8: 19 و 20 إذ قال "وإذا قالوا لكم اطلبوا إلى أصحاب التوابع والعرافين المشقشقين والهامسين ألا يسأل شعب إلهه، أيسأل الموتى لأجل الأحياء إلى الشريعة وإلى الشهادة إن لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر" فهل يمكن أن يخالف صموئيل وصايا الله بعد موته. وهو النبي التقي الذي اشتهر بالطاعة لله في حياته؟ وهل الممنوع على الأحياء مباح للموتى؟ أو هل القوى الشيطانية تقدر أن تجبر الأرواح الراحلة على عصيان مشيئة الله؟
4- في العددين الثاني عشر والثالث عشر نجد هذا المنظر الغريب، صرخت المرأة العرافة، وأرادت بهذه الصرخة أن تأخذ وعداً من شاول بالعفو عنها، لأنه كان قد أباد أصحاب الجان والتوابع من الأرض، ولا شك أنها عرفته من منظره وطول قامته، ومن معاملة حاشيته له، فلما أعطاها الملك الوعد، سألها: ماذا رأيت؟ قالت "رأيت آلهة يصعدون من الأرض؟" ومع أن المرأة تكلمت في صيغة الجمع فقالت "رأيت آلهة" إلا أن الملك الجائر المضطرب سألها سؤالاً بصيغة المفرد قائلاً: "ما صورته؟" وهنا أجابته العرافة بمكر فصورت له شخصية صموئيل التي كانت معروفة لها ولا ريب، ووصفت النبي بأنه مغطى بجبة، وليس يعقل أن الأرواح ترتدي ملابسها في عالم الخلود، وهكذا تولى الروح المضل الذي ظهر تمثيل الدور تمثيلاً متقناً.
5- قال الروح الذي ظهر لشاول "غداً أنت وبنوك تكونون معي" 1 صم 18: 19 وهذا دليل قوي على أن المتكلم هو الشيطان لأن شاول كان سيذهب إليه في اليوم التالي، إذ لا يصدق عاقل أن شاول المرتد عن الله، الذي انتهت حياته بالالتجاء إلى الجان، ومات منتحراً، يذهب إلى ذات المكان الذي ذهب إليه صموئيل؟ إذ ما هو الفرق بين البار والشرير وبين نهاية الأبرار ونهاية المتمردين الفجار؟
6- أشاع الروح الذي ظهر إحساس الخوف الشديد في قلب شاول وسلبه قواه المعنوية، وهذا عمل الشيطان للإنسان عدد 20 وهكذا ترينا القصة في وضوح أن هذه الجلسة التي تمت تحت ستار الظلام – تماماً كما يفعل أصحاب هذا المذهب الأثيم – قد سيطر عليها الشيطان، ومثل فيها دوره خير تمثيل حين قلد شخصية صموئيل "ولا عجب لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور" 2 كو 11: 14. وهذا يحذرنا من الالتجاء إلى هذه الأرواح لأنها "أرواح شياطين صانعة آيات" والمؤمن المطيع الخاضع للرب له هذا الوعد الكريم "أذناك تسمعان كلمة خلفك قائلة هذه هي الطريق اسلكوا فيها حينما تميلون إلى اليمين وحينما تميلون إلى اليسار" أش 30: 21
من بين الاختبارات الملذة عن قيادة الله اختبار "أم الأيتام المصريين – مس ليليان تراشر" هذه الفتاة التي لمس الرب قلبها بمحبته الفائقة. وحرك أنامله الذهبية على أوتار ذلك القلب، فجعل منها أوتاراً تعزف أناشيد الرحمة والحب والحنان. فأسست هذه الفتاة المباركة ملجأ الأيتام بأسيوط، ذلك الملجأ الذي يأوي المئات من اليتامى والأرامل والعاجزين.
اسمعها تقص قصة حياتها فتقول "ذهبت في ليلة من ليالي الثالثة والعشرين من عمري إلى اجتماع كانت تتكلم فيه مرسلة أمريكية عقب رجوعها من الهند عن الحاجة إلى أشخاص يكرسون أنفسهم لخدمة الرب، وما إن سمعتها تتكلم حتى سمعت صوتاً في قلبي يناديني أن اذهب إلى إفريقيا، ولما كنت قد صرفت كل ما أمتلك استعداداً لحفلة زفافي التي كان ميعادها بعد عشرة أيام من تلك الليلة الخالدة في تاريخ حياتي، لم يكن لدي سوى جنيه واحد، وماذا يفيد هذا الجنيه؟ أصبحت في موقف دقيق، إذ كان علي أن أختار بين أن أفضل الزواج على إطاعة دعوة الله، أو أن أطيع أمر الله وأرفض الزواج. فعرضت على خطيبي أن يرافقني إلى إفريقيا فأبى فتركته وخضعت لأمر إلهي.
كنت أعمل في ذلك الوقت كمساعدة لمس ماتي بيري في ملجأها في ماريون بكارولينا. فلما جاءتني دعوة الله جهزت حقيبتي استعداداً للرحيل وأخبرت أصدقائي بعزمي على السفر، فساعدني بعضهم بمبلغ ثلثمائة وستين قرشاً، وأخبروني عن مؤتمر المرسلات المنعقد في بيتسبرج، ففكرت أن أذهب هناك لأجمع بعض المعلومات من المرسلات وقلت في نفسي: "عسى أن أهتدي هناك إلى أي جهة من أفريقيا يريدني الله أن أذهب"، ... أودعت نقودي عند المس ماتي بيري، وهذه حفظتها في درجها، ولما كانت أخت المس بيري مدينة بمبلغ لأحد الناس، وكانت تجهل أن هذه النقود تخصني، سددت دينها بنقودي، والغريب أنني لم أسمع بما حصل إلا ساعة استعدادي للسفر، لكن أصدقائي بذلوا ما في وسعهم لمساعدتي إلا أنهم لم يستطيعوا إحياء مبلغ الثلثمائة والستين قرشاً ....
تأهبت للرحيل، ولكن ثمن التذكرة كان ناقصاً ورأيت أنني سألقي حزناً على قلوب من حضروا لتوديعي إذا رأوني انثنيت عن عزمي، فرأيت أن أقطع المرحلة التي تكفيها نقودي، وسألت بعض الناس فعلمت منهم أنني أستطيع السفر بهذه النقود إلى واشجتون. كنت أجهل واشنجتون، ولا أعرف أحداً بها، ولكن المس بيري قالت إن لها صديقة هناك، وأعطتني خطاباً تقدمني به إليها. وقالت لي: "امكثي معها إلى أن أرسل لك النقود التي تكفيك للسفر إلى بيتسبرج" ... وصلت واشنجتون في الوقت المناسب، حيث وجدت صديقة مس بيري وسلمتها الخطاب وما أن قرأته حتى قالت "إنني أرثي لحالك، ولكنني لا يمكنني أن أقبلك كضيفة في بيتي، لأنني أقوم بضيافة عائلة مرسل من المرسلين في أسيوط بالقطر المصري ومع ذلك يمكننا أن نتناول الطعام سوياً" كان المرسل الضيف الذي قدموني إليه كمرسلة هو القس برلسفورد.
سألني "أي جهة تقصدين في إفريقيا؟" قلت "لست أدري" سألني "من أرسلك؟" قلت "لم يرسلني أحد" سألني "أطردك أبواك" أجبت "كلا، بل رحلتي هذه بالرغم منهم" سألني "أمعك أجرة السفر؟" قلت "ريال واحد منها".
لا يمكنني أن أتذكر كل ما قاله القس برلسفورد، وكل ما أذكره الآن هو صدى صوته يخترق عباب المحيط، ثم يأتي إلي متموجاً إلى أن يقرع أذني قائلاً "يحسن بك يا ابنتي أن تعودي أدراجك إلى أمك".
لم يثن ذلك عزمي، بل كانت كلماته المثبطة كأنها دوافع تدفعني إلى الأمام، إلى "إفريقيا" وما أنا إلا طائعة صاغرة، مؤمنة بالوعد الكريم "أمين هو الذي يدعوكم الذي سيفعل أيضاً" 1 تس 5: 24
ضحت إحدى السيدات بغرفتها لي، ومكثت في ذلك البيت يومين، وقبل أن أرحل سألني القس برلسفورد أن أعاونه في عمله بأسيوط بالقطر المصري، فأجبته "بالحقيقة إنني لم أعزم قط على المجيء إلى واشنجتون، فيظهر أن رغبة الله قادتني إلى هنا لأقابلك" وفي الحال شعرت بصوت يناديني قائلاً "اقبلي الدعوة إلى أسيوط" وبطريق ما رتب الله لي أجر سفري وبعد أن صليت في غرفتي قبل الإبحار سألني أحدهم أن أفتح الإنجيل وأطلب من الله أن يبين لي إرادته فيه ففعلت، وإذا بالعدد الذي جذب عيني من أعمال 7: 47 وعجيب أن تسمع أن هذا العدد رأيته في تلك اللحظة لأول مرة في حياتي، وهذا نصه " "إني لقد رأيت مشقة شعبي الذي في مصر وسمعت أنينهم ونزلت لأنقذهم فهلم الآن أرسلك إلى مصر" وهكذا بهذه الطريقة الواضحة وضع الله ختمه النهائي على دعوته لي. وجئت إلى مصر.
وبمثل هذه الطرق العجيبة يقود الله أولاده الأمناء، فلنتقدم الآن إلى مقادس الكلمة الإلهية لندرس هذا الموضوع الجليل.
- عدد الزيارات: 15327