الحب المطلوب للزواج السعيد
نقرأ في سفر التكوين هذه الكلمات:
"فأدخلها اسحق إلى خباء سارة أمه وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبها" (تك 24: 67).
"ثم قال لابان ألأنك أخي تخدمني مجاناً. أخبرني ما أجرتك؟.. وكان للابان ابنتان اسم الكبرى ليئة واسم الصغرى راحيل. وكانت عينا ليئة ضعيفتين. وأما راحيل كانت حسنة الصورة وحسنة المنظر. وأحب يعقوب راحيل., فقال أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى. فخدم يعقوب براحيل سبع سنين. وكانت في عينيه أيام قليلة بسبب محبته لها" (تك 29: 15 - 20).
في هذه العبارات نجد نوعين من الحب .. حب نشأ بعد الزواج بين اسحق ورفقة, وملأ حياة الزوجين هناء وصفاء طول رحلة الحياة, وكان السر وراء هذا الحب الصادق أن الزوجة "رفقة" كانت معينة من الرب, مختارة بالصلاة المخلصة الحارة .. وحب نشأ قبل الزواج بين يعقوب وراحيل, واستمر مضيئاً طوال رحلة الحياة.
والآن ما هو التحديد الدقيق لمعنى الحب الذي يوجد في كل زواج سعيد؟!
هناك أربع أنواع من الحب, واحد منها فقط هو الحب الصحيح الذي يضمن تماماً وجود السعادة في الزواج.
+ هناك حب لما هو أدنى من البشر,
كحب الإنسان للحيوانات الأليفة, أو لنوع معين من الفواكه والزهور, أو حبه للطبيعة في تنوعها وجمالها, ويبقى هذا الحب نقياً إلى أن نجعل منه "ديناً" للحياة, هنا يصبح هذا الحب "روحاً نجساً" فكم من الأشخاص يحبون الحيوانات أكثر من حبهم لله, ويتعبدون في محراب الطبيعة, أكثر من تعبدهم لخالق السموات والأرض.
+ هناك الحب الشهواني,
وقد استخدم الفلاسفة اليونانيون كلمة"Eros. إروس" وهي اسم آلهة الحب عند الإغريق – ولا توجد هذه الكلمة إلا في كتب الأدب اليوناني, ولك تذكر قط في الكتاب المقدس في أسفار العهد الجديد – للتعبير عن هذا النوع من الحب, الذي دافعه الرغبة في إمتاع الذات وإشباع الشهوات .. إن هذا النوع من الحب لا يهدف إلى إشباع شهوات ونزوات المحب ... إنه ليس حباً بحسب مفهوم كلمة الحب في الكتاب المقدس, ولكنه أنانية مقنعة بكلمات ناعمة معسولة لخداع المحبوب, وهذا النوع من الحب شهواني, جسدي, نفساني.. وهو حب هدام يظهر بصورة مجسمة في قصة أمنون وثامار التي سجلها العهد القديم في هذه الكلمات:
" وجرى بعد ذلك أنه كان لأبشوم بن داود. وأحضر أمنون للقسم من أجل ثامار أخته لأنها كانت عذراء وعسر في عيني أمنون أن يفعل لها شيئاً. وكان لأمنون صاحب اسمه يوناداب ابن شمعى أخي داود. وكان يوناداب رجلاً حكيماً جداً. فقال له لماذا يا ابن الملك أنت ضعيف هكذا من صباح إلى صباح. أما تخبرني؟ فقال له أمنون إني أحب ثامار أخت أبشالوم أخي. فقال يوناداب اضطجع على سريرك وتمارض. وإذا جاء أبوك ليراك فقل له دع ثامار أختي فتأتي وتطعمني خبزاً وتعمل أمامي الطعام لأرى فآكل من يدها. فاضطجع أمنون وتمارض فجاء الملك ليراه. فقال أمنون للملك دع ثامار أختي فتأتي وتصنع أمامي كعكتين فآكل من يدها. فأرسل داود إلى ثامار إلى البيت قائلاً اذهبي إلى بيت أمنون أخيك واعملي له طعاماً. فذهبت ثامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع. وأخذت العجين وعجنت وعملت كعكاً أمامه وخبزت الكعك. وأخذت المقلاة وسكبت أمامه فأبى أن يأكل. وقال أمنون أخرجوا كل إنسان عني. فخرج كل إنسان عنه ثم قال أمنون لثامار آيتي بالطعام إلى المخدع فآكل من يدك. فأخذت ثامار الكعك الذي عملته وأتت به إلى أمنون أخاها إلى المخدع. وقدمت له ليأكل فأمسكها وقال لها تعالي اضطجعي معي يا أختي. فقالت له لا أخي لا تذلني لأنه لا يفعل هكذا في إسرائيل. لا تعمل هذه القباحة. أما أنا فأين أذهب بعاري وأما أنت فتكون كواحد من السفهاء في إسرائيل. والآن كلم الملك لأنه لا يمنعني منك. فلم يشأ أن يسمع لصوتها بل تمكن منها وقهرها واضطجع معها. ثم أبغضها أمنون بغضة شديدة جداً حتى إن البغضة التي أبغضها إياها كانت أشد من المحبة التي أحبها إياها. وقال لها أمنون قومي انطلقي. فقالت له لا سبب. هذا الشر بطردك إياي هو أعظم من الآخر الذي عملته بي. فلم يشأ أن يسمع لها بل دعا غلامه الذي كان يخدمه وقال اطرد هذه عني خارجاً وأقفل الباب وراءها" (2صم 13: 1 - 17).
لقد كان حب أمنون لثامار حباً شهوانياً, كان مركزاً في إشباع شهوته, وكان ما أسقم جسده هو أن ثامار "كانت عذراء عسر في عيني أمنون أن يفعل لها شيئاً" فلما اغتصبها رغم إرادتها "أبغضها بغضة شديدة جداً", وفي اعتقادي أن هذا كان نتيجة لفشله في عدم إشباع شهوته بسبب مقاومتها له, وكل حب يؤسس على الشهوة الجنسية وحدها مصيره الدمار عاجلاً أم آجلاً ... إنه الحب الذي يسميه فلاسفة اليونان "Eros. إروس".
+ وهناك نوع ثالث من الحب, هو الحب بين الأصدقاء وأفراد الأسرة,
وقد استخدم الفلاسفة اليونانيون كلمة فيلوس "Philos" ومعناها "محب" للتعبير عن الحب بين الأصدقاء وأفراد الأسرة, وحب "الأصدقاء" حين يبقى في مكانه المتزن السليم هو حب صحي, "المكثر الأصحاب يخرب نفسه. ولكن يوجد محب ألزق من الأخ" (أم 18: 24) .. ونحن نرى صورة رائعة لهذا النوع من الحب في قصة يوناثان وداود المذكورة في العهد القديم.
"وكان لما فرغ (داود) من الكلام مع شاول أن نفس يوناثان تعلقت بنفس داود وأحبه يوناثان كنفسه. فأخذ شاول في ذلك اليوم ولم يدعه يرجع إلى بيت أبيه. وقطع يوناثان وداود عهداً لأنه أحبه كنفسه. وخلع يوناثان الجبة التي عليه وأعطاها لداود مع ثيابه وسيفه وقوسه ومنطقته" (1صم 18: 1 - 4).
هكذا تجسد حب الصداقة الحقيقية في علاقة يوناثان وداود, وكانت العناصر البارزة في هذه الصداقة الخلاقة هي أولاً: بحثها عن إرادة في حياة الصديق أو بمعنى آخر رسالة هذا الصديق في الحياة. وهي ثانياً: نظرتها للصديق من جهة نفعة لعمل الله. وهي ثالثاً: وجود الوحدة في أهداف الحياة. وهي رابعاً: العمل على إنماء شخصية الصديق. وهي خامساً: حماية الصديق في غيبته. وهي سادساً: تذكر عهودها مع الصديق حتى بعد موته. وهي سابعاً: أقوى من الموت.
+ أخيراً نصل إلى الحب الصحي, الذي هو العنصر الأساسي في الزواج السعيد,
والكلمة التي استخدمها اليونانيون للتعبير عن هذا النوع من الحب هي كلمة "Agape أجابيه", وقد كثر استخدام هذه الكلمة في العهد الجديد, وهي تستخدم أساساً للتعبير عن الحب الإلهي, وإن تكن غير مقصورة عليه, وهذا النوع من الحب هو "حب العطاء", هو "حب البذل" الذي عبر عنه يوحنا في إنجيله بالكلمات "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو 3: 16), هو الحب الذي يطلب المصلحة العليا للمحبوب, هو الحب الذي يجد سعادته في إسعاد من يحب, وقد جسد المسيح هذا الحب في أروع صورة, بحبه الذي دفعه للموت على صليب الجلجثة من أجل من أحب.
إن كلمة "Agape أجابية" تستخدم دائماً للتعبير عن حب الله الذي دفعه لإرسال ابنه للموت من أجل الخطاة إن الله لم يحبنا لاستحقاقنا لهذا الحب, أو لأنه يريد أن يسلبنا شيئاً مقابل هذا الحب, بل أحبنا لأنه "محبة".
إن الشاب الذي يراود الفتاة عن نفسها قبل زواجه بها, بحجة حبه الشديد لها لا يعرف الحب الإلهي الصحيح وإنما حبه هو حب نفساني شهواني, وهو بتصرفه المشين هذا يسيء إلى الفتاة إساءة يصعب التعبير عن فداحة أضرارها. إنه لا يتصرف لمصلحتها ولكن إشباع شهوته ونزوته.
ونقول هنا إن هذا الحب الصحي لا يوجد إلا من سكنى الروح القدس في قلوبنا, هو حب مصدره الله ذاته تبارك اسمه, وقد كتب عنه يوحنا رسول المحبة قائلاً "أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً لأن المحبة هي من الله وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله" (1 يو 4: 7).
وقد قدم لنا بولس الرسول أوصاف الحب الإلهي "Agape Love" الذي يجب أن نحب به الآخرين, ونبني على أساس وجوده عش الزواج السعيد, ونمتحن حبنا في نوره, في الأصحاح الثالث عشر من رسالته الأولى إلى المؤمنين في كورنثوس فقال:
"إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن. وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم وإن كان لي كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً. وإن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى احترق ولكن ليس محبة فلا أنتفع شيئاً."
المحبة تتأنى وترفق., المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ. ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء. ولا نفرح بالإثم بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبداً" (1 كو 13: 1 - 8).
هذا النوع من المحبة لا يمكن أن يكون طبيعياً بشرياً, لأن المحبة البشرية الجسدية مهما كانت صادقة, فهي لا تثبت, ولا بد لها من نهاية, فهي باقية ما بقى تبادل المصلحة فيها, وإلا فشلت واضمحلت. وأما المحبة التي مصدرها شخص الرب يسوع المسيح. والتي هي من ثمر سكني الروح القدس فينا فهي المحبة الإلهية, وهي المحبة الحقيقية, التي توجد في كل زواج سعيد.
وتتميز هذه المحبة بما يلي:
(1) "تتأنى" – فلا تسرع في إصدار أحكامها.
(2) – "ترفق" حتى إذا ما أساء الآخرون تصرفاتهم نحونا.
هذه هي المحبة التي ظلت في قلب داود من نحو ابنه أبشالوم, حتى وهو يحاول اغتصاب عرشه, إذ أوصى داود قاد الجيش يوآب وأبيشاي وإتاي قائلاً "ترفقوا لي بالفتى أبشالوم" (2 صم 18: 8)
(3) "لا تحسد" – أي لا تغار من نجاح الآخرين, ولا تغمطهم حقهم من التقدير, ولا تتمنى اغتصاب ما نالوه.
(4) "لا تتفاخر" – أي لا تعتمد بذاتها, ولا يأخذها العجب, والزهو, والغرور.
(5) "لا تنتفخ" – أي لا تتعظم ولا تتكبر.
(6) "لا تقبح" أي لا تبحث عن أخطاء الغير لتجسمها, ولا تتحدث عن الآخرين بأقوال جارحة.
(7) "لا تطلب ما لنفسها"- أي محبة الذات لا تسيطر عليها, وهي تطلب للآخرين ما تطلبه لنفسها.
(8) "لا تحتد" – أي ليست سريعة الغضب.
(9) "لا تظن السوء" – أي لا تفسر تصرفات الآخرين على أساس البغضة والكراهية والحقد.
(10) "لا تفرح بالإثم" أي لا تسر بأي نوع من أنواع الشر, ولا تفخر بما يحيق بالآخرين من ظلم وجور.
(11) "تفرح بالحق" – أي تسر بالحق, وتفرح لنصرته, وتبتهج برفعته.
(12) "تحتمل كل شيء" - أي تحتمل ضعفات الضعفاء, وتعرف كيف تصمت ومتى تسكت على الأذى.
(13) "تصدق كل شيء" – أي أنها مملوءة ثقة وإيماناً, وهي لا تشك في صدق من تحب.
(14) "ترجو كل شيء" أي مفعمة بالرجاء وسط أحلك الظلمات, تنظر إلى الناحية المثيرة التي سيأتي منها الحل لأعقد المشكلات.
(15) "تصبر على كل شيء" – أي تثابر في خدمتها وجهادها محتملة كل الظروف المعاكسة.
(16) "لا تسقط أبداً" – أي لا تغلب بالأخطاء, والظروف والمضايقات بل تغلبها بنعمة الله وتبقى هي راسخة كالجبال.
فأي نوع من المحبة يسود بيتك وعلاقتك الزوجية؟ إن الأساس الوحيد للسعادة الزوجية هو المحبة الإلهية.
- عدد الزيارات: 5664