Skip to main content

الفصل الخامس: كنيسة المسيح

كل الخيرات الوفيرة التي يهبها المسيح لتابعيه على الأرض تبلغ اكتمال أوجها في التمجيد الذي يكون من نصيبهم جزئياً عند موتهم ويكتمل فقط بعد يوم الحساب. لكن بركة التمجيد هذه لا يمكننا أن نبحث فيها الآن، لأنه علينا أولاً أن نولي بعض الانتباه للطريقة التي بها - أو السبيل الذي بواسطته - أتى المسيح بخيرات: الدعوة والولادة الثانية، الإيمان، والتوبة التبرير والتبنّي كأطفال، التجديد والتقديس إلى حيز الوجود في المؤمنين به على الأرض ويعولهم ويعززهم وقد سبق أن أشرنا إلى أن المسيح يهب جميع هذه الخيرات بواسطة كلمته وروحه، إنما ينبغي لنا بعدُ أن نتبين أنه أيضاً يمنح هذه الخيرات فقط من خلال الشركة التي تربط جميع المؤمنين بعضهم ببعض. فهو لا يوزّعها على أفراد متفرقين ولا على جماعة صغيرة من الأشخاص، بل يوزعها على جمهورٍ عظيم، على مجمل الخليقة الجديدة التي اختيرت فيه من قِبَل الآب قبل تأسيس العالم (أف 1: 4).

فالمؤمن إذاً لا يقوم وحده بمعزل عن الآخرين أبداً ولا يكون منفصلاً عن سواه البتة. وفي العالم الطبيعي يولد كلّ مخلوق بشري في شركة مع أبويه، ولذلك، بدون أي جهد من جانبه، عضواً في عائلة ما وشعبٍ من الشعوب وفرداً من أفراد الجنس البشري كله. هكذا هي الحال في الدائرة الروحية. فالمؤمن يُولد من فوق، من الله، لكنه لا ينال الحياة الجديدة إلا في شركة عهد النعمة الذي فيه المسيح الرأس والمضمون في نفس الوقت. وإذا كان الله بفضل الولادة الجديدة هو أب للمؤمن، فلنا أن نعتبر الكنيسة أُمّاً لنا بمعنىً من المعاني الحميدة. حتى إن عالم الوثنية أيضاً لا يصير فيه مؤمنٌ أو تجمّع مؤمنين إلا بطريقة التبشير الذي تتولّى أمره كنيسة المسيح. وعليه، فإن المؤمن، بغير إرادته وبغير عمله الخاص، ومنذ اللحظة الأولى التي فيها يُولَد من جديد، يُضَمّ إلى كيانٍ عظيم ويُدخَل في شركة غنية، إذ يصير عضواً في أمة جديدة ومواطناً في مملكة روحية ملكها مُمجَّد بكثرة رعاياه (أم 14: 28).

هذه الشركة عضد قوي لكل مؤمن بمفرده. علينا أن نكون أقوياء بحيث لا نشك ولا نخاف ولو كنّا وحدنا تماماً، ولو كان هنالك شياطين بعدد الآجر على السقف - على حدّ تعبير لوثر. فإنه إن كان الله معنا، فمن علينا، إن كان الرب معنا فماذا يصنع بنا الإنسان؟[178] ولكننا على العموم لسنا أكفاء لمثل هذا الاستقلال والعزلة والوحدة. صحيح أن ثمّة حالات خاصة يُدعى فيها المرء لإطاعة صوت الرب حيث يقطع كل علاقة له ببيئته كلها ويخالف أهل جيله كلياً؛ وحيث يكون ذلك ضرورياً يمنح الله الإنسان نعمةً خاصة وقوةً فائقة، كما وهب مثلاً إبراهيم وموسى وإيليا وأمثالهم. ولكن العزلة، حتى في تلك الحال، تكون شديدة الوطأة. فإيليا اشتكى أنه بقي وحده من المؤمنين (1مل 18: 22؛ 19: 10)، وبولس كان حزين القلب في أواخر حياته إذ رأى أن الجميع قد تركوه (2تي 4: 10). ذلك أن الكائن البشري مخلوق اجتماعي يألف العشرة ويأنف من الوحدة.

والاختيار الإلهي شاملٌ لجمهور عظيم جداً من جميع الأجيال واللغات والشعوب والأمم. حقاً إنه أيضاً شخصي وفرديّ، وغرضه خلائق من البشر معيّنون ومعروفون لدى الله بأسمائهم، ولكنه يختار هؤلاء على نحوٍ ما ويجمعهم على نحوٍ ما بحيث يشكلون معاً هيكل الله، جسد المسيح وعروسه. فهدف الاختيار هو تكوين كيانٍ عضوي، بالفداء والتجديد والتمجيد على بشرية مولودةٍ ثانيةً تُخبر فضائل الله وتحمل اسمه على جبينها. وعندما يتمّم الله هذا الاختيار في الزمان، يفعل ذلك فقط عن طريق عهد النعمة؛ وهو لا يشمل أحداً في ذلك العهد البتة بالاستقلال عن الآخرين جميعاً، بل يدعو في الوقت عينه من خلال ذلك الشخص أسرته وجيله. هكذا فعل مع آدم ونوح وإبراهيم، وهكذا ما زال يفعل مع كل من ينقله من خدمة هذا العالم إلى شركته تعالى. فهو يثبت عهده مع مثل هذا ومع نسله ويمكِّنه من جيل إلى جيل.

بالإضافة إلى هذا العمل العضوي من جانب الله، يوجد في قلب كلِّ مؤمن نـزوع اجتماعي، وتوقٌ إلى الشركة، يتجاوبان مع هذا العمل العضوي من جانب الله. من جهة ليس في العالم، قوةٌ أعظم من هذه تفصل بين الناس بعضهم عن بعض على نحوٍ عظيم بهذا المقدار، ومن جهة أخرى، ليس في العالم أيضاً قوة أعظم من هذه تجمعهم معاً وتوحّدهم على نحوٍ عظيم بهذا المقدار. فخارج نطاق المسيحية، على كل حال، تكاد الشركة الدينية تطابق في كل حين وحدة القبيلة أو الشعب. بعبارة أخرى، لا يكون الدين، على ما يظهر، قوياً إلى حدٍّ كافٍ بحيث يقف على قدميه بغير سندٍ قبليّ أو قومي. من هنا لا توجد في العالم الوثني كنيسةٌ بالمعنى الصحيح للكلمة. أما في العالم المسيحي فالحال مختلفة جداً.

صحيح أن المجمع والأمة عند بني إسرائيل كانا، بصورة عامة، متوافقين في الزمان والمكان. ولكن الوحدة القومية قامت منذ البداية على الوحدة الدينية، وليس بالعكس. وفي ولادة إسحق العجيبة بيّنة على هذا؛ إذ أن عهد النعمة يكوّن شعباً خاصاً له كان إبراهيم حاملاً ورائداً. ففي هذا الشخص من الآباء جعل الله، بوصفه القدير على كل شيء، الطبيعة في خدمة النعمة. من هنا يظهر في العهد القديم من أن إله العهد وشعب إسرائيل وأرض كنعان كانت تربط بينها جميعاً علاقة متبادلة قوية جداً. فالفضل في قومية الشعب ووحدته يعود لحقيقة كون الله قد اختاره؛[179] وكنعان هي أرض الرب (لا 25: 23؛ 1صم 26: 19) وقد أُعطيت ميراثاً لإبراهيم ونسله بمحض النعمة.[180] وقد عبّرت راعوث عن هذه الحقيقة عندما قالت لمّا رجعت إلى أرض يهوذا مع حماتها: "حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بتِّ أبيت؛ شعبك شعبي وإلهك إلهي". ولهذا السبب أيضاً لمّا زاد ارتداد الشعب حتى سيقوا أخيراً إلى السبي والشتات، بقيت رغم ذلك بقيةٌ ظلت أمينة لله ولخدمته، فكانت في وسط جمهور الشعب كله هي إسرائيل الحقيقي، نسل إبراهيم الحقّ.[181] وإذ انفصل هؤلاء القديسون عن غير الأتقياء، انجذبوا بالتبادل بعضهم إلى بعض وتقوّوا بشركتهم بعضهم مع بعض.[182]

هذا الانفصال استمرّ واكتمل في العهد الجديد. فبعدما هيّأ يوحنا المعمدان الطريق بمناداته بالتوبة وغفرة الخطايا، باشر الرب يسوع خدمته موجّهاً إياها في بادئ الأمر إلى الشعب كله. فقد علَّم في الجليل واليهودية، في المدن والقرى، وجال في أنحاء البلد يصنع خيراً ويشفي جميع الذين تسلَّط عليهم إبليس (أع 10: 38). ولكنه سرعان ما تبيّن أن الشعب تحت قيادة الكتبة والفريسيين لم يريدوا أن يسمعوا شيئاً عن مسيانيّته وملكوته الروحي؛ وكلما تقدَّم في خدمته ازداد الشعب عداءً له، حتى أسلموه إلى الصلب أخيراً. وكلما اقتربت هذه النهاية كثر كلام الرب بالتالي عن مدن كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم (مت 11: 20 وما يلي) وعن الكتبة والفريسيين (مت 23: 13 وما يلي) وأورشليم وبنيها (مت 23: 37) وشعب إسرائيل (مت 24) ناطقاً له المجد بدينونته الرهيبة على هذه كلها. ولمّا رفضت الأمة مسيحها، كان ينبغي أن يحلَّ محلَّها آخرون.

وفي أول الأمر لم يعترف سوى جماعة التلاميذ الصغيرة بيسوع رباً لها، ولكن هذا الاعتراف ربطهم بعضهم ببعض في وحدةٍ جعلتهم، بعد ترك المسيح لهم أيضاً، يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والدعاء (أع 1: 14). وفي يوم الخمسين أُلبسوا قوة من الأعالي إذ نالوا الروح القدس فكان لهم في ذلك مبدأ حياة مستقلٌّ أعتقهم من كل رباط قومي وجعلهم ينتظمون في شركة خاصة في هذا العالم، مستقلة تماماً عن أي شعبٍ وأي بلد. فإن انسكاب الروح القدس أعطى كنيسة المسيح كيانها المستقلّ.

وقد أُطلق منذ البداية على جماعة المؤمنين المعترفين بيسوع رباً لهم اسم الجماعة أو الكنيسة. وكان في العهد القديم قبل ذلك كلمتان تُطلقان على تجمّعات الشعب، ولكن لم يكن بينهما فارق في الاستعمال أول الأمر. إنما يبدو أن اليهود المتأخرين قد ميّزوا بين الكلمتين بحيث أُطلقت الأولى على "الكنيسة" في حالتها الفعلية، فيما أُطلقت الثانية على الكنيسة في مقامها المثالي، أي باعتبارها جماعةً مؤلفة من أُناس دعاهم الله إلى خلاصه. وقد تُرجمت الكلمة الأولى إلى اليونانية باللفظة "سيناجوج" (أي: مجمع أو محفل) والثانية باللفظة "إكليزيا" (أي: كنيسة أو جماعة). والتمييز الذي كان حاصلاً عند اليهود بين هاتين الكلمتين ساهم في الواقع في تفضيل المسيحيين للكلمة الثانية. وعلى أية حال، فإن الكنيسة المسيحية هي تلك الجماعة من المؤمنين التي حلّت محل إسرائيل القديم وحققت فكرة محبة الله القائمة بالاختيار.

ولمّا انفصل المسيحيون عن اليهود ومضى كلٌّ في طريقه إلى غير رجعة، درج شيئاً فشيئاً إطلاق كلمة "المجمع" على اجتماع اليهود، وكلمة "الكنيسة" (جماعة المؤمنين) على المسيحيين؛ وما زال هذا الاستعمال سارياً حتى اليوم. ولم يكن مثل هذا التمييز محدداً لمعنى اللفظتين في الاستعمال الأصلي. ففي يعقوب 2: 2 (وعب 10: 25) تستعمل الكلمة اليونانية المترجمة مجمعاً أو اجتماعاً للدلالة على اجتماع الكنيسة المسيحية، وفي (أعمال الرسل 7: 38) (وعب 2: 12)تستعمل الكلمة المترجمة كنيسة للدلالة على جماعة الشعب القديم. بل إن الكلمة الأخيرة تستعمل في (أعمال الرسل 19: 32، 39، 41) للدلالة على اجتماع شعبٍ حاشد ("محفل" هنا هي ترجمة "إيكليزيا"). ولكن انفصال المسيحيين عن اليهود عزّز التمييز في المعنى بين اللفظتين.

وقد ظلّ تلاميذ المسيح، بعد يوم الخمسين أيضاً، يجتمعون غالباً في الهيكل أو في المباني الملحقة،[183] حفاظاً منهم على ساعات الصلاة المقدسة في السلوك الأخلاقي عند اليهود، ورغبةً في الكرازة بالإنجيل للشعب في نفس الوقت. وكرازة الرسل هذه، في يوم الخمسين وبعده حتى أمد غير قصير، كانت مباركة بركةً عظمى. فقد انضمّ إلى الكنيسة آلاف المخلَّصين.[184] ولكن بعد ذلك ثارت موجة اضطهاد بلغت ذروتها في رجم استفانوس، الشهيد الأول (أع 6: 8 - 7: 60)، وتشتّت التلاميذ من أورشليم إلى جميع أنحاء اليهودية والسامرة بل وصلوا بعيداً إلى فينيقية وقبرص وإنطاكية (أع 8: 1؛ 11: 19). ومن جرّاء كرازة التلاميذ هناك في عدد من الأماكن قَبِل كثير من اليهود الإيمان، وتأسست كنائس عديدة؛ وهذه الكنائس نعمت بالسلام مدة من الزمن وتكاثر عددها جداً.[185] وغنيٌّ عن البيان أن هؤلاء اليهود الذين صاروا مسيحيين ظلوا مدة طويلة يحتضنون الرجاء بأن يرجع الشعب كله إلى الرب (أع 3: 17 - 26). إلا أن هذا الرجاء أخذ يذوي ويتلاشى، وبالتدريج أخذ مركز الجاذبية ينتقل من الكنيسة اليهودية الأصل إلى الكنيسة الأممية الأصل.

وفي الفترة التي قضاها المسيح على الأرض وُجِد بعض الدخلاء من اليونانيين، ومنهم أولئك الذين صعدوا ليسجدوا في العيد وعبّروا عن رغبتهم في رؤية المسيح (يو 12: 20 وما يلي). وكان أيضاً بين أفراد الكنيسة في أورشليم بعض اليونانيين (أع 6: 1)، يُحتمل أنهم شابهوا إستفانوس في النظر إلى علاقة المسيحيين بالهيكل والشريعة بنظرة أكثر تحرراً (أع 6: 13، 14). وإذ تشتّت التلاميذ من أورشليم كرزوا بالإنجيل أيضاً للسامريين (أع 8: 5 وما يلي) وللوزير الحبشي (أع 8: 26 وما يلي)، ولقائد المئة الروماني كرنيليوس (أع 10) ولليونانيين في إنطاكية (أع 11: 20).

وقد كانت هذه الوقائع كلها إعداداً للعمل التبشيري العظيم الذي اضطلع به بولس ومعه برنابا امتثالاً لأمر الروح القدس وبعد وضع الأيدي عليهما من قبل الكنيسة (أع 13: 2 وما يلي). وفي هذا العمل التبشيري عمل بولس بقاعدة ثابتة في التوجه بالدعوة إلى اليهود أولاً.[186] ولكن لمّا ازدرى هؤلاء كعادتهم، بكرازته، تحوَّل نحو الأمم.[187] وقد سبّب له تعثر إخوته حسب الجسد بصليب المسيح وسعيهم إلى إثبات برّهم الذاتي حزناً عظيماً ووجعاً لا ينقطع (رو 9: 2). ولم يكفّ قطّ عن محاولة إثارة غيرتهم لعل بعضاً منهم يخلصون (رو 11: 14). وكان هنالك بقية بحسب اختيار النعمة، وبولس نفسه دليل حيّ على ذلك (رو 11: 1 - 5).

ولكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم (رو 11: 25). فإن أغصان الشجرة الطبيعية قد قُطِعَت بسبب عدم الإيمان، وفي مكانها طُعِّمَت أغصان الشجرة البرية (رو 11: 17 - 24). ويوجد اختلاف بين إسرائيل حسب الجسد وإسرائيل حسب الروح[188] كنيسة المسيح هي الآن نسل إبراهيم الحقيقي، وهي شعب إسرائيل الله.[189] ورافضو لمسيح من بين اليهود ليسوا هم اليهود الحقيقيين؛ إنهم ليسوا من الختان بل من القطع (في 3: 2)، وهم متمردون يتكلمون بالباطل ومخادعون يضطهدون المؤمنين (1تس 2: 14 - 16؛ تي 1: 10، 11). والذين يضايقون الكنيسة في سميرنا يقولون إنهم يهود، لكنهم ليسوا يهوداً، بل هم مجمع الشيطان (رؤ 2: 9؛ 3: 9). وهكذا سار اليهود والمسيحيون كلٌّ في طريقه منفصلاً عن الآخر. ومع أن المعترفين الأوائل بيسوع كانوا في أول الأمر يُعتَبَرون طائفة من طوائف اليهود (أع 24: 5، 14؛ 28: 22) فقد أُطلق عليهم اسمهم في إنطاكية، أولاً "مسيحيين" (أع 11: 26). وهكذا بدأ الفصل بين اجتماع اليهود واجتماع المسيحيين، الأمر الذي أدّى من الناحية اللغوية إلى إطلاق الاسم "مجمع" على جماعة اليهود، و"الكنيسة" على جماعة المسيحيين.

وقد استخدم المسيح كلمة "الكنيسة" أول مرة بالإشارة إلى جمهور المعترفين به (مت 16: 18؛ 18: 17). وليس في هذا الأمر ما يدعو إلى الغرابة لو تذكرنا أن الكلمة العبرية التي استخدمها المسيح وردت مراراً وتكراراً في العهد القديم وكانت معروفة ومألوفة. أما الجديد في الأمر فهو أن المسيح أطلقها على دائرة تلاميذه، وبذلك أعلن كنيسته ستحلُّ محل "كنيسة" الشعب القديم. أضف أن المسيح لم يستعمل اللفظة للإشارة إلى اجتماع للمؤمنين في مكانٍ ما، بل يشمل بدائرتها جميع الذين يؤمنون به عبر الأزمنة بواسطة كلام الرسل. إنه يستعملها على أشمل نطاقٍ ممكن. وفيما بعد فقط أضفي على الكلمة معنىً أكثر تحديداً، وذلك بحسب نموّ الكنيسة.

وفي (أع 2: 47؛ 5: 11؛ 8: 1؛ 11: 22) يُطلق اسم "الكنيسة" على اجتماعات المؤمنين المحلّية في أورشليم. آنذاك لم يكن في أورشليم فعلاً إلا كنيسةٌ واحدة. ويُحتمل جداً أن بعض التلاميذ وُجدوا في أماكن متفرقة، في اليهودية والسامرة والجليل، وعندما نشب الاضطهاد في أورشليم وتشتّت التلاميذ لاحقاً شكّل هؤلاء نقطة تواصل لعمل التبشير الجاري بين اليهود. ولكن اجتماعاً للمؤمنين، أو كنيسة، لم يوجد في البداية إلا في أورشليم وحدها. على أنه لمّا حصلت مثل هذه الاجتماعات أيضاً في أماكن أخرى بواسطة كرازة الرسل بالكلمة، أُطلقت الكلمة "كنيسة" على هذه الجماعات المحلّية أيضاً. فلم تكن الكنيسة في أورشليم منظَّمة كوّنت لها فروعاً في أماكن أخرى، بل بالأحرى نشأت مع هذه الكنيسة تجمّعات أخرى للمؤمنين دُعيت "كنائس" أيضاً.

وهكذا، مثلاً، نجد ذكراً للكنيسة في إنطاكية (أع 11: 26؛ 13: 1)، ولكنائس في لسترة ودربة والبلدان المجاورة (أع 14: 23). ويستعمل بولس باستمرار اسم "الكنيسة" بالإشارة إلى جماعات المؤمنين في روما وكورنثوس وأفسس وفيلبي كولوسي، وأماكن أخرى، كما أنه أيضاً، ووفقاً لهذه القاعدة، يتحدّث بصيغة الجمع عن كنائس غلاطية (غل 1: 2) وكنائس اليهودية (غل 1: 22). وليس هذا كلّ ما في الأمر. بل إن المؤمنين الساكنين في منطقة معيّنة سرعان ما أخذوا يجتمعون بانتظام، يومياً في بعض الأحيان (أع 2: 46)، ولكن كلَّ يوم أحدٍ فيما بعد.[190] إنما لم تكن لديهم مبانٍ خاصة بالكنائس - وربما كانت الكلمة "مجمع" في يعقوب 2: 2 هي أول إشارة في العهد الجديد إلى مكان مخصص للاجتماع معاً - ولذا دعت الضرورة لأن يجتمع المؤمنون في بيت أخٍ أو أخت مناسب لهذا الغرض.

ففي أورشليم اجتمع المسيحيين أولاً في الهيكل فترةً من الزمن،[191] ولكن فضلاً عن هذا كانت لهم أيضاً اجتماعات خاصة (أع 1: 14؛ 2: 42) في بيوت بعض الإخوة (أع 2: 46؛ 5: 42). وهكذا جرى أن بيت مريم أم يوحنا مرقس أولاً (أع 12: 2) وبيت يعقوب فيما بعد (أع 21: 18) صارا مركزاً للحياة الكنسية في أورشليم. فلأن الكنيسة كانت كبيرة، توزّعت في جماعات، وكانت تجتمع في بيت واحد في أوقات مختلفة، أو في بيوت مختلفة في وقت واحد. هذه الممارسة حصلت في أمكنة أخرى أيضاً: في تسالونيكي (أع 17: 11) وترواس (أع 20: 8) وأفسس (أع 20: 20) وكورنثوس (1كو 16: 19) وكولوسي (فل 2) ولاودكية (كو 4: 15) وروما (رو 16: 5؛ 14، 15). ومن اللافت للنظر أن كلاً من هذه الكنائس (البيوت أو البيوت الكنائس) أُطلق عليها الاسم "كنيسة".[192] لم تكن واحدة من هذه الكنائس تابعة للأخرى، بل كانت كلٌّ منها مستقلة عن الأخرى ولها الحقوق الواحدة بعينها.

ومع ذلك كانت الكنائس كلها كياناً واحداً. فقد تكلّم المسيح عن جميع تلاميذه معاً باعتبارهم كنيسته (مت 16: 18؛ 18: 17)، ويتحدث الرسل - ولاسيما بولس - بالطريقة عينها عن مجموع المؤمنين. فالكنيسة، منظوراً إليها بمجملها، هي جسد المسيح، والمسيح هو رأسها.[193] والكنيسة هي عروس الخروف مزيَّنة لعريسها،[194] وهي أيضاً بيت الله وهيكله الذي بناه الرسل على أساس المسيح (1كو 3: 10 - 16)، أو باستعمال صورة أخرى للتشبيه عينه هي البيت المبنيّ على أساس الرسل والأنبياء حيث المسيح نفسه هو حجر الزاوية والمؤمنون هم الحجارة الحية.[195] والكنيسة جنسٌ مختار، كهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، وهي مدعوة للإخبار بفضائل الذي دعاها من الظلمة إلى نوره العجيب (1بط 2: 9).

وبالنظر إلى الفضائل المجيدة التي ينسبها الرسل إلى الكنيسة، شاء بعض المراقبين أن يقيموا فاصلاً بين الكنيسة الحاضرة والكنيسة المثالية. ولكن مثل هذا الفصل الغربي غريب على العهد الجديد. فعندما يتحدّث الرسل عن الكنيسة على هذا النحو المجيد، ولاسيما في (يوحنا 14 - 17)، وذلك نسجاً على المنوال الذي وضعه المسيح، لا يكون في فكرهم شيء مجرد موجود في المطلق أو نظرياً وحسب، ولا عن مثالٍ ينبغي أن نسعى إليه ويُحتمل ألا نبلغه البتة. بل إنهم بالأحرى يفكرون في الكنيسة القائمة كلها، في الجسد الواحد تعبيرات محددة عنه. صحيح أن هذه التعبيرات ما تزال كلها تشكو النقص إلى حدّ بعيد - ويشهد بذلك الرسل في جميع رسائلهم - ولكنها مع ذلك إعلانات لحقيقة كامنة وراءها، وصورٌ لتحقيق مشورة الله السارية من جيل إلى جيل.

في هذه المشورة، أو المرسوم، يرى الله أمامه كنيسة المسيح كلها في كمالها، يراها في المسيح الذي اشتراها بدمه كامنةً كالثمرة في البذرة. وفي الروح القدس الذي يأخذ كل شيء من المسيح تكمن جذور وجود الكنيسة وضمانة اكتمالها. فالكنيسة إذاً ليست فكرة، ولا مثالاً، بل هي حقيقة واقعية صارت شيئاً ما وستصير شيئاً ما لأنها الآن في الوجود. وفي واقع الحال فإن الكنيسة تشهد تغيّراً ثابتاً كلّ حين؛ فهي كيان منذ بداية العالم ولسوف تظل كذلك حتى نهاية العالم. فكل يومٍ يرحل عنها قومٌ جاهدوا الجهاد الحسن وأكملوا السعي وكسبوا إكليل البرّ، وهؤلاء تتألف منهم الكنيسة الظافرة - كنيسة الأبكار وأرواح الأبرار المكمَّلين (عب 12: 23). وكل يوم يضمّ أعضاء جدد إلى الكنيسة المجاهدة على الأرض، إذ هم يولدون في الكنيسة عينها من بين أبنائها أو يُدخَلون إليها عن طريق العمل التبشيري.

وقسما الكنيسة هذان ينتميان إلى كيانٍ واحد بعينه. فهما طليعة جيش المسيح وساقته. وأولئك الذين سبقونا يشكلون الآن حولنا سحابة عظيمة من الشهود، فخلال حياتهم اعترفوا بالإيمان الاعتراف الحسن وبذا يدفعونا على الأمانة والصبر. ولا يمكن أن يكملوا من دوننا، كما لا يمكن أن نكمل نحن من دونهم (عب 11: 40). فالقديسون أجمعون وحدهم يمكن أن يدكوا كلياً محبة المسيح الفائقة ويمتلئوا بكل ملء الله (أف 3: 18، 19). وعليه، فإن التاريخ باقٍ إلى أن نصل جميعاً إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13).

وكون الرسل، يعزون خصائص عظيمة كهذه إلى الكنيسة ككلّ، لا يقصدون بذلك فكرةً ولا مثالاً، بل حقيقة واقعة، أصبحت واضحة المعالم كونهم يتكلمون بالطريقة نفسها عن كل كنيسة محلية، بل أيضاً عن كل مؤمن بمفرده. فالكنيسة المحلية في كورنثوس مثلاً، رغم نقائصها وأخطائها الكثيرة، تُدعى هيكل الله، ومسكن الروح القدس، وجسد المسيح (1كو 3: 16؛ 12: 27). وهكذا أيضاً نقرأ عن كل مؤمن أن جسده هيكل للروح القدس وأنه مِلكٌ لله جسداً وروحاً (1كو 6: 19، 20). فالمؤمنون جميعاً، أي الكنيسة بمجملها، وكل كنيسة محلية، وكل مؤمن بمفرده، يتشاركون جميعاً في البركات عينها، ولهم نصيب في المسيح عينه، ويمتلكون الروح عينه، وبذلك الروح ينقادون للآب الواحد بعينه.[196] ثمة فرق في مقدار النعمة التي يمنحها المسيح لكل واحد من مؤمنيه (رو 12: 6؛ أف 4: 7) - فرقٌ في الموهبة والخدمة والعمل والممارسة (1كو 12: 4 - 6). غير أن هذا الفرق ليس عائقاً لوحدة المؤمنين، بل بالأحرى يعززها ويقويها.

وإذا كانت الكنيسة بالفعل كياناً عضوياً واحداً، أي جسداً حياً، فذلك يعني ضمناً أنها تشتمل على أعضاء كثيرين ومتنوعين، يتلقى كل واحد منهم اسمه مكانه ووظيفته ودعوته داخل الجسد. وإن كانوا كلهم عضواً واحداً فأين الجسد؟ (1كو 12: 19). فكما أن الجسد واحد وله أعضاء كثيرة، وجميع الأعضاء هي أعضاء في الجسد الواحد، كذلك أيضاً حال الكنيسة (1كو 12: 12). وعليه، فكلّ عضوٍ في الجسد، أي الكنيسة، يتلقى من المسيح موهبته الخاصة، مهما كانت وضيعة أو صغيرة، وعليه أن يخدم الكنيسة، لا نفسه، بتلك الموهبة التي أخذها كلّ واحد، عليه أن يخدم الكنيسة، لا نفسه، بتلك الموهبة. وبحسب طبيعة الموهبة التي أخذها كلّ واحد، عليه أن يخدم إخوته، كوكيلٍ صالح على نِعَم الله المتنوعة (1بط 4: 10). وهو لم يُعطَ موهبته لأجل نفسه بل لنفع الآخرين بها (1كو 12: 7)، لبنيان الكنيسة (1كو 14: 12)، للاعتناء بالآخرين كاعتنائهم به.

وهكذا تبقى كنيسة المسيح، في تنوّعها، وحدة واحدة. ولا يعني هذا فقط أنه لم تكن إلا كنيسة واحدة، بل يعني أيضاً أن هذه الكنيسة في كل زمان ومكان هي هي، ولها الفوائد والامتيازات والخيرات نفسها. فهذه الوحدة لا تُضفى على الكنيسة من الخارج، ولا تُفرَض عليا بالقوة، ولا توجد بالترتيبات التعاقدية، ولا تُنَظّم مؤقتاً لمواجهة عدو مشترك. حتى إنها أيضاً لا تنشأ من الغرائز الاجتماعية في الحياة الدينية. بل هي بالأحرى وحدةٌ ذات طبيعة روحية. فمستندها وأساسها ومثالها الوحدة الكامنة بين الآب والمسيح من حيث هو الوسيط (يو 17: 21 - 23). إنها وحدة تنبع من المسيح بصفته الكرمة التي تنبت جميع الأغصان وتغذّيها (يو 15: 5)، والرأس الذي منه يُحصِّل كامل الجسد نموّه وقوته (أف 4: 16)؛ وهي وحدةٌ يحققها الروح الواحد الذي به ننقاد للآب الواحد.[197] ذلك أن محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس هي نصيب كل مؤمن، وكل كنيسة محلية، ونصيب الكنيسة ككل. هذا هو سر وحدة الكنيسة الراسخة وغير المتغيرة.

وهذه الوحدة تظل ناقصة وغير مكتملة في الكنيسة هنا على الأرض. فكما الكنيسة ذاتها، كذلك وحدتها أيضاً ما تزال في طور التكوين. إنها قائمة في كلّ حين، لكنها تنمو وتُطبَّق بالتدريج. وقد صلى المسيح لأجلها (يو 17: 21)، قدمها الرسول بولس باعتبارها أمراً لن يتحقق بالكامل إلا في المستقبل (أف 4: 13). غير أنها ليست صنيعة الخيال بغير أساس في الواقع. بل إن هذه الوحدة، على النقيض، موجودة حقاً ومُعبَّر عنها في حياة الكنيسة بصيغة ما. فهي حاضرة ليس في الكنيسة غير المنظورة فقط بل إنها تلقى تعبيرها أيضاً في مظهر الكنيسة المنظورة. وقد تجلّت هذه الوحدة عند الكنيسة في أورشليم بالطريقة المعروفة، إذ إن جميع الإخوة والأخوات، بعدما انضموا إلى الكنيسة إذ قبلوا المعمودية، واظبوا على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات (أع 2: 42)، وكان لهم جميعاً قلبٌ واحد ونفس واحدة، وكان عندهم كل شيء مشتركاً (أع 2: 44؛ 4: 32 - 35). ولمّا تأسست فيما بعد كنائس في أماكن أخرى أيضاً استمرت وحدة المؤمنين هذه.

ولقد واجهت الكنيسة عقبة كبيرة في سبيل الحفاظ على هذه الوحدة، من جراء اختلاف الخلفيات والعوائد بين المسيحيين ذوي الأصل اليهودي والمسيحيين ذوي الأصل الأممي، فغالباً ما وقف الطرفان في مواجهة أحدهما الآخر داخل الكنائس المختلطة، وأحياناً - بل غالباً كان يحصل نـزاع سافر بين الطرفين. حتى بطرس بالذات أثبت أنه ضعيف ذات لحظة فيما يتعلق بذلك النـزاع، لما كان نازلاً في إنطاكية، فاستحق أن يوبّخه بولس (غل 2: 11 - 14). ولكن رسول الأمم الذي كان يهودياً لليهود، وصار للكل كل شيء، جعل هدف الوحدة نصب عينيه دائماً وحثّ الكنيسة كلها على المحبة والسلام. وقد أكّد بولس أن الجميع جسدٌ واحد، ولهم جميعاً روحٌ واحد، ومعمودية واحدة، وإيمان واحد، وإله آبٌ واحد فوق الجميع وفي الجميع (أف 4: 4 - 6). ولم يكن ينبغي بالضرورة للجميع أن يكون أحدهم مثل الآخر في كل شيء، لأن الجسد يحتم وجود أعضاء مختلفة، وكلّ عضوٍ يجب أن يخدم الجماعة بقدراته الخاصة (1كو 12: 4 وما يلي)، وعلى الجميع أن يحترم كل حرية الآخر (رو 14). وبموت المسيح نقُض الجدار الفاصل، وتصالح الاثنان – اليهود والأمم أحدهما مع الآخر وخُلقا في المسيح إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً (أف 2: 14 وما يلي). وبالاعتراف بالمسيح رباً يظهرون أن الجميع واحد (1كو 12: 3) وهم جميعاً ملتزمون واجباً واحداً، ألا وهو فعل كل شيء لمجد الله.[198] وقد بارك الله بولس في عمله هذا، فتلاشت المقاومة بين الطرفين تدريجياً، وذلك لصون وحدة الكنيسة.

ولكن كنيسة المسيح أصابها فيما بعد الانقسام بسبب مختلف أنواع البدع والشقاق عبر القرون المتعاقبة, حتى إن كثرة الطوائف والمذاهب في الكنيسة اليوم تشكّل مظهراً يرثى له من مظاهر انعدام الوحدة. ومع ذلك ما تزال آثار الوحدة في الماضي ظاهرة للعيان، حيث أن جميع الكنائس المسيحية منفصلة عن العالم بالمعمودية الواحدة بعينها، إن الكنائس ثابتة على تعليم الرسل كما يظهر في الاعتراف بمواد قانون الإيمان الرسولي، وما زالت تشترك في كسر الخبز والصلوات - ولو بصِيَغٍ وأشكال مختلفة. فالكنيسة في وحدتها غرضٌ من أغراض الإيمان؛ ومن أننا لا نستطيع الآن أن نرى هذه الوحدة، أو لا نستطيع أن نراها بالوضوح الذي نرجوه، فهي وحدة موجودة الآن وسوف تُكمَّل ذات يوم.

والأمر ذاته يصحّ فيما يتعلق بخاصية أخرى من خصائص الكنيسة، ألا وهي قداستها. فمنذ البداية كان سبيل القدوم الوحيد إلى الكنيسة هو سبيل الإيمان والتوبة: فكل من تاب واعتمد نال غفران الخطايا وعطية الروح القدس (أع 2: 38). ومع أن المسيح نفسه لم يكن يعمِّد (يو 4: 2)، ومع أن الرسل لم يفعلوا ذلك كقاعدة عامة (أع 10: 48؛ 1كو 1: 14 - 17)، فقد كانت المعمودية تُجرى لجميع الذين رغبوا في الانضمام إلى الكنيسة. ولكن هذه المعمودية فُهِمَت دائماً باعتبارها جامعةً في ذاتها للعلامة المنظورة والدلالة الروحية غير المنظورة، لا من حيث كونها إزالة لوسخ الجسد بل تعهّد ضمير صالح أمام الله (1بط 3: 21)، وتبعاً لذلك وضعت مقابل الختان. من وجهة النظر هذه كانت المعمودية بالحقيقة وسيلة حفظ، شأنها شأن الفلك الذي نجا فيه نوح (1بط 3: 20، 21)، كما كانت دفناً مع المسيح وقيامةً معه (رو 6: 3، 4)، وغسلاً للخطايا (أع 22: 16)، وقطعاً للعلاقة بالعالم ودخولاً في شركة جديدة.

وهكذا تضمنت المعمودية على موقف مختلف كلياً تجاه العالم، وكان المرء في حاجة إلى شجاعة عظيمة لقبولها وإعلان انتمائه إلى كنيسة المسيح. فلم تكن تلك الكنيسة تضم أغلبية من البسطاء والعاميين وحسب (1كو 1: 25 - 29)، بل كان على المنتمي إليها أيضاً أن يكابد الازدراء والاضطهاد غالباً. وفي بادئ الأمر صدر هذا العداء والاضطهاد من جانب اليهود، سواء في ذلك السلطات[199] أو الشعب الذين حرّضوا الأمم غير مرة على المعارضة والشغب.[200] كما أن الأمم أيضاً في بعض الأحيان بادروا من تلقاء أنفسهم إلى إبداء العداء نحو المسيحيين، ولكن هذا كان استثناء، إذ لم تكن الحكومة في أغلب الأحيان منحازة ضدّ المسيحيين.[201]

وقد بدأ اضطهاد الكنيسة من قِبَل روما أولاً تحت حكم نيرون في السنة 64م. ولذلك سبق أن توقَّع المسيحيون من السلطات الرومانية الحماية لا الاضطهاد،[202] ورأوا في الحكومة الرومانية سلطةً رتبها الله، وشجعوا الناس على الخضوع لقوانينها والصلاة لأجل خيرها.[203]

وفيما خصّ الحياة الاجتماعية، نصح الرسل المؤمن والمؤمنة بألا يترك كلٌّ زوجه (1كو 7: 12؛ 1بط 3: 1)، بل أن يعيش المتزوج في حال الزواج كما يريد الرب (1كو 7: 39؛ 2كو 6: 13). وأوصوا بأن يبقى كلّ واحد، عبداً كان أو أمة، على الحالة التي كان عليها لما دُعي (1كو 7: 20)، وألا ينسحب المؤمنون كلياً من التعامل مع غير المؤمنين (1كو 5: 10)؛ كما سمحوا للمؤمنين قبول الدعوة إلى وليمة ما، على أن يمتنعوا عن الأكل من ذبيحة مقرَّبة لوثن، وذلك لأجل الضمير والقدوة الحسنة (1كو 10: 27، 28؛ 8: 12؛ 10: 20). وقد علّم الرسل فيما بعد أنه ينبغي للمؤمنين أن يعيشوا في سلامٍ ومحبة مع جميع الناس، ومع الأعداء أيضاً،[204] وألا يعتبروا شيئاً ما نجساً في ذاته، ما دامت كل خليقة الله طاهرة (رو 14: 14؛ 1تي 4: 4).

وتبعاً لذلك، فإن علاقة الكنيسة هذه بالعالم هي علاقة حرية، وهي بعيدة كلّ البعد عن أي تقشّف أو اعتزال زائف. ولكن لا يمكن أن تكون العلاقة على هذه الصورة إلا إذا ظلّت الكنيسة مُدركة لدعوتها وسالكة في القداسة قدّام الله. فالكنيسة مقدسة، وهي شعب ومقدس، والمؤمنون أشخاص مقدسون أو قديسون (رو 1: 7؛ 1كو 1: 2)، لأنهم - جماعة وأفراداً - هياكل للروح القدس (1كو 3: 16، 17؛ 6: 19)، وبفضل ذلك الروح هم مغتسلون ومقدسون في المسيح يسوع.[205] ولذلك عليهم أن يتجنبوا ويجاهدوا حتى الموت ضد كل خطية، ويميتوا أعمال الجسد كلها، والشهوات العالمية جميعها،[206] ويمارسوا - على نقيض ذلك - جميع الفضائل يدعموا كلّ ما هو صالح.[207] وأن يسلكوا في المحبة (أف 5: 2) لأن المحبة هي أعظم الفضائل (1كو 13: 13) ورباط الكمال (كو 3: 14) وتكميل الناموس (رو 13: 10).

إن التأديب وسيلة أعطاها المسيح للكنيسة كي تحافظ بها على طبيعتها المقدسة. ولذا يجب أن يُمارَس التأديب لا في السر فقط، كأن يمارسه أخٌ من الإخوة تجاه الآخر مثلاً،[208] بل يجب أن تطبّقه الكنيسة على أي من أفرادها في حال وجود خطية علنية.[209] وفي كل الرسائل يتضح إلى أي مدى كانت هذه القداسة ما تزال مفتقدة في زمن الرسل، كما أن العصور اللاحقة غالباً ما شهدت انحلالاً يصعب فهمه في الدين والأخلاق. ولكن روح المسيح كان يحرك نهضةً وانتعاشاً مرةً تلو الأخرى بعد استشراء التراخي والفساد. وقداسة الكنيسة هذه أيضاً هي خاصية من الخصائص التي اكتسبها المسيح للكنيسة والتي يُجريها إلى التمام في الكنيسة وبها.

وأخيراً هنالك صفة الجامعة الرسولية التي تتصف بها الكنيسة. وقد أُشير إليها أولاً إلى كون الكنيسة "كاثوليكية" أي جامعة في نص كتب في الفترة التالية لزمن الرسل، وكان القصد من ذلك هو التصريح بأن الكنيسة الصحيحة، في مواجهة جميع أنواع البدع والانشقاقات، هي تلك التي تطيع الأسقف وتبقى مع الجماعة الرئيسية، ما دامت الكنيسة الكاثوليكية أي الجامعة الرسولية هي تلك الكنيسة التي فيها المسيح. وفيما بعد أُضيفت إلى هذه التسمية تأويلات أخرى مختلفة، فصار الناس يفهمون منها أن الكنيسة منتشرة في جميع أنحاء العالم، وأنها منذ البداية حتى الزمن الحاضر تشتمل على جميع المؤمنين على مرّ العصور، وأنها وسيلة لإعلان الخلاص الكافي والوافي للجميع حيث أنها تشترك فعلاً في كامل الحق والنعمة. هذه التعاليم ليست على خطأ إذا كنا عند التفكير في الكنيسة لا نفكر فقط في منظومة كنسية واحدة، كالكنيسة الكاثوليكية مثلاً، بل نعتبر ذلك منطبقاً على الكنيسة المسيحية المتمثلة في جميع الكنائس الكاثوليكية معاً وعلى درجات متفاوتة من النقاوة وسلامة العقيدة. فإن تلك الكنيسة هي في الواقع كنيسة كاثوليكية، أي جامعة، فعلاً. حتى إن الوعد الرئيسي قُطِع في العهد القديم لآدم وحواء، وللجنس البشري كله بالتالي. ومع أن أحوال الزمان أدت فيما بعد إلى انتخاب شعب خاص من خلال إبراهيم ليقوم بدور حامل الإعلان الإلهي، فإن ذلك الإعلان كان وسيظل موجهاً على البشرية كلها. ففي نسل إبراهيم أُعدَّت البركة لجميع قبائل الأرض (تك 12: 2). وظلت عين النبوة شاخصة دائماً على غاية الفداء العامة.[210]

ولما باشر المسيح خدمته، بدا واضحاً أنه توجّه فقط إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (مت 15: 24)، ومع ذلك كان الملكوت الذي كرز به جامعاً شاملاً، وخالصاً إلى التمام من أية حدود قومية، ومفتوحاً أمام جميع الذين يؤمنون ويتوبون (مر 1: 15). وقد قال المسيح إنه إذا رفض اليهود إنجيله يُطرح بنو الملكوت خارجاً ويأتي كثيرون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب (مت 8: 11، 12). ولابد له هو بالذات من أن يقع في الأرض ويموت، كحبة الحنطة، لكنه فيما بعد يأتي بثمر كثير (يو 12: 24). وله خرافٌ أخر من خارج حظيرة بني إسرائيل، فينبغي أن يأتي بتلك أيضاً كي تكون رعية واحدة ولها راعٍ واحد (يو 10: 16؛ 11: 52). وبعد قيامته أمر تلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها ويتلمذوا جميع الأمم (مت 28: 19؛ مر 16: 15). وقد أتمّ الرسل هذه المأمورية، فانطلقوا شهوداً للمسيح، في أورشليم وفي جميع أنحاء اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض أيضاً (أع 1: 8).

ومن اللافت للأنظار أنه بينما تحدّث المسيح كثيراً عن ملكوت السماء ومرّات قليلة عن الكنيسة، يذكر الرسل - على النقيض - ملكوت الله في النادر نسبياً فيما يفصِّلون الكلام عن كنيسة المسيح، بيد أن لهذه الظاهرة ما يفسرها.

فإن ملكوت السماء الذي يتحدث عنه المسيح ليس، في المقام الأول ورغم كلّ شيء مجموعة من الناس أو رعية من المواطنين، بل هو جملة خيرات وبركات روحية - إنه كنـز (مت 13: 44) ولؤلؤة ثمينة (مت 13: 45) وبرّ وسلام وفرح في الروح القدس (مت 6: 33؛ رو 14: 17). ذلك الملكوت هو من السماء، وها قد نـزل الآن إلى الأرض مع المسيح، لأنه فيه - له المجد - يوزّع الآب جميع هذه البركات والخيرات (1كو 1: 30؛ أف 1: 3). وقد جعل الآب الملكوت للمسيح الذي بدوره يجعله لتلاميذه (لو 22: 29). وهو فعل ذلك على الأرض فيما مضى، فعندما أخرج الشياطين بروح الله قدّم بذلك بيّنةً على أن ملكوت الله قد أقبل (مت 12: 28). كما أن هذا الملكوت يوالي الإقبال إذ يُتاح للإنسان أن يكون له نصيب فيه وفي جميع خيراته من طريق الإيمان (لو 17: 21). هذا الملكوت ينمو ويتعاظم كشجرة تنمو وكخميرة تخمّر العجنة كلها (مت 13ك 31 - 33)، ولسوف ينتشر بملئه الكامل في المستقبل عند مجيء المسيح.[211]

على أن هذا الملكوت، بهذا المفهوم، ومنذ مجيء المسيح الأول حتى مجيئه الثاني، مُعطى لأناسٍ هم المولودون من الماء والروح والمؤمنون باسم المسيح (يو 1: 12، 13؛ 3: 3 - 5). ولهذا السبب هو مشبَّه ببذرة تُغرَس في الأرض لكي تأتي بثمر، أو بشبكة تُطرَح في البحر فتجمع سمكاً من كل نوع (مت 13: 24، 46). أما الرسل فهم الصيادون الذين ينطلقون حاملين تلك الشبكة ويجمعون الناس ليتيحوا لهم الاشتراك في بركات الملكوت الحاضرة والآتية (مت 4: 19).

وبينما كرز المسيح بالملكوت هكذا، مفسِّراً طبيعته وصفاته وتطوره على ذلك النحو، دعا تلاميذه وأهّلهم ليجمعوا الكنيسة بواسطة إنجيل الملكوت - الكنيسة التي لها نصيب في كنوز الملكوت وخيراته الثمينة والتي سوف تمتلكها جميعاً ذات يوم وتتمتع بها جميعاً. وكلمة "الملكوت" تركّز انتباهنا خصوصاً على الكنوز والبركات والخيرات التي يوزعها علينا المسيح من قبل الآب؛ أما كلمة "الكنيسة" فتجعلنا، بالمقارنة، نفكر في جَمْع الناس الذين تلقوا هذه الخيرات والذين يتقدمون نحو التمتع بها إلى التمام. بعبارة أخرى، إن الكنيسة هي في المسيح صاحبة ملكوت الله، ومالكته والحافظة له، وناشرته ووراثته. ذلك هو كنـزها ومجدها، وليس لديها شيء سواه ذو قيمة ثمينة. وما قاله بطرس مرةً، تستطيع الكنيسة أن تردّده من بعده بطريقتها الخاصة - ليس لي فضة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإياه أعطيك: باسم يسوع الناصري قم وامشِ (أع 3: 6).

ولما كانت جميع كنوز الملكوت التي تمتلكها الكنيسة روحية بطبيعتها، وليست من الذهب والفضة، ولا من السلطة والقوة، بل من البرّ والسلام والفرح في الروح القدس، فإن صفة الجامعة الرسولية تُنسَب إلى الكنيسة. فليست الكنيسة وقفاً على أرض أو شعب، ولا على زمان أو مكان، ولا على جيلٍ من الأجيال، ولا على أموال وأملاك؛ بل هي مستقلة عن جميع الفروق الأرضية والتمايزات الدنيوية. إنها تحمل الإنجيل إلى البشرية جمعاء، وذلك الإنجيل هو - فقط ودائماً - البشارة بكل معنى الكلمة: خبر مفرح مناسب وضروري لجميع الشعوب، في جميع الأزمنة، وتحت جميع الظروف، وعلى جميع الأحوال. وليس ملكوت الله متعارضاً مع شيء ما خلا الخطية.

وقد كان لهذه الكنيسة منذ البداية تنظيم خاص باعتبارها جمع للمؤمنين، ولابد لكل جماعة تضمّ بشراً تجنّباً للفوضى والانحلال، من نُظُمٍ تتحكم في اجتماعاتها ونشاطاتها، ولكي تفي بالغرض الذي أُنشئت لأجله. فكنيسة المسيح أيضاً خاضعة لهذا القانون العام للمجتمع البشري. إذ ليس الله إله تشويش، بل إله سلام، وهو قد وضع فرائض لجميع خلائقه، وقصده أن يكون كلّ شيء في الكنائس أيضاً بلياقة وترتيب (1كو 14: 33، 40). ووضع النظم على هذا النحو أكثر لزوماً لحياة الكنيسة لأن الله يريد استخدامها لغرضٍ محدد. وعلى كل حال، فإن الكنيسة ما تزال غير كاملة ما دامت على الأرض: فأفرادها جميعاً، وكلّ واحد منهم بمفرده، يجب أن يجاهدوا دائماً ضدّ الخطية ويسعوا في إثر القداسة؛ وفي كل حين يحتاج هؤلاء إلى التعليم والتوجيه والإرشاد، والتقوية والتعزية، والحثّ والتأديب. ليس ذاك فقط، بل على الكنيسة أيضاً أن تتكاثر من جيلٍ على جيل؛ ولا تقتصر على الأفراد أنفسهم، إذ إنها تفقد يومياً أولئك الذين يُنقلون إلى الكنيسة الظافرة، وينضم إليها دائماً أعضاء جدد يتربون فيها وينبغي أن يُدخلوا إلى حياة الكنيسة. إضافة إلى هذا، تلقّت الكنيسة من المسيح المأمورية بأن تكرز بالإنجيل للخليقة كلها. وبالتالي، فإن الكنيسة، داخل ذاتها وخارجها على السواء، دعوة مقدسة وخطيرة من واجبها أن تضطلع بأعبائها.

وإذ يلقي الله على الكنيسة واجب هذه الدعوة، ويؤهّلها ويجهّزها في الوقت عينه لكي تقوم به. فهو يرتّب الأمور على نحوٍ معين، ويعطي الكنيسة ما يلزم من المواهب والقوات والتدابير، لكي يُعدّها للقيام بالمهمة الملقاة على عاتقها. فقد أعطى الله الكنيسة، على حدّ قول بولس، رسلاً ومبشرين ورعاةً ومعلمين، لكي يقوم هؤلاء بعمل الخدمة في الكنيسة، وبذلك يبنون جسد المسيح ويعملون على تكميل القديسين. وعليه، فإن هذه السلسلة من الترتيبات ينبغي أن تظل سارية المفعول إلى أن يتحقق الغرض منها فينتهي الجميع إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 11 - 13). وبكلامٍ آخر، فإن الكنيسة، باعتبارها جماعة المؤمنين ونظراً إلى الدعوة التي ينبغي لها أن تضطلع بأعبائها، وتسلّمت من المسيح مؤسسة قائمة بذاتها، أي ترتيباً خاصاً من المواهب والقدرات، والوظائف والخدمات، التي من خلالها تستطيع أن تستجيب لدعوتها. شريعة القوانين والنظم هذه لم تُضَف إلى الكنيسة لاحقاً، بل رافقتها منذ البداية. ولما كان من المتعذر النظر في مختلف الموضوعات معاً، فمن الضروري أولاً أن ننظر في كون الكنيسة جماعة المؤمنين، ومن ثم نتحدّث عن النظم السائدة في حياتها وخدماتها. ولكن لا يُستنتج من هذا أن الأمر الأول وُجِد عملياً قبل حصول الأمر الثاني ببعض الزمن، أو أن ذاك كان قائماً دون هذا. فإن الله أنشأ الكنيسة على الأرض حال وجودها على النحو الذي تقتضيه مكانتها ورسالتها في العالم.

ولكن بين الأمرين فرقاً، وإن لم يكن بينهما فارقٌ زمني. ويظهر ذلك جلياً من حقيقة كون النظام الذي جُعل للكنيسة قد اختلف بصورة لافتة على مرّ العصور. فمنذ زمن جنة عدن كان على الأرض مؤمنون، وليس من شكّ في أنهم اجتمعوا أيضاً بعضهم مع بعض. إذ نقرأ في (تكوين 4: 26) أنه في أيام أنوش ابتدأ الناس يدعون باسم الرب، ولاشك أن في هذه العبارة وصفاً لواقع الحال الحاصل في أيام بني قايين إذ انفصل عنهم بنو شيث واجتمعوا معاً حول الاعتراف باسم الرب. إذاً منذ ذلك الحين وُجدت العيادة الجمهورية. وكان قوامها على العموم الوعظ وتقديم الذبائح والصلاة. ولكن، فيما يتعلق بغير هذا، لا نجد ذكراً للتنظيم. فقد تركّزت "الكنيسة" آنذاك في الأسرة. وفي زمن الآباء كان الأب هو أيضاً الملك والكاهن في أسرته، فهو يُجري الختان (تك 17: 23) وهو يقدّم الذبائح (تك 22: 2؛ 26: 1).

ولما أُعطي الناموس في سيناء، وأقام الله عهده مع الشعب، حصل تغيّر كبير. فقد أُنشئت حينئذ مؤسسة خاصة تضم الكهنة واللاويين، وحدّد لتقريب الذبائح مكان محدد وزمان معيّن. والتقدمات بعينها تميّزت إحداها عن الأخرى وترتبت وفقاً لنظام مخصوص. وقد نظّم بدقة وحُدّد بالتفصيل كل ما يتعلق بالأمور المقدسة - الأشخاص والأوقات والأماكن والممارسات. وكان الناموس نيراً أثقل من أن يُحمَل (أع 15: 10)، لكنه كان ضرورياً يومذاك للإحساس بثقل الخطية، وإثارة الحاجة إلى الغفران، وإلقاء الضوء على أهمية الذبائح وحتميتها، ولتمهيد السبيل بالتالي أمام المسيح.

ولكن إلى جانب هذا النظام الرسمي والشرعي، وفي ظله، نشأت أيضاً ممارسة منظمة للحياة الدينية عند شعب العهد القديم. وينبغي أن نذكر أن الشعب أقاموا في جميع أنحاء كنعان، وفي عبر الأردن أيضاً إلى حدّ ما. فغنيٌّ عن البيان أن قسماً ضئيلاً فقط، وعلى نحو نسبيّ، كان يمكنه أن يذهب إلى أورشليم في الأعياد الكبرى. وإلى ذلك كانوا جميعاً ملزمين بكل تدقيق أن يراعوا تقديس يوم السبت، الأمر الذي مارسوه في أماكن إقامتهم. فقد كان ميسوراً وعملياً، كما يُحتمل جداً، أن يقوم المؤمنون في مثل هذه الأيام بعقد اجتماعات دينية حيث تتاح لهم المشاركة في التأمل بالشريعة، والترتيل، والصلوات. وعليه، ففي (أعمال الرسل 15: 21) نقرأ أن موسى منذ أقدم الأجيال له في كل مدينة من يكرز به، وأنه كان يقرأ في المجامع كلّ سبت.

وبينما نجهل أصل هذه المجامع، من المؤكد أنها قديمة العهد وأنها اكتسبت أهمية جديدة وشأناً جليلاً خلال السبي وبعده، إذ تشتت العبرانيون في جميع البلدان وسكنوا في أغلب الأحيان بعيداً عن موطنهم وهيكلهم. فحيثما أقام اليهود، بنوا مجمعاً، ودرجوا على الاجتماع هناك في أوقاتٍ معلومة - كأيام السبت والأعياد وبعض أيام الأسبوع أيضاً - للتعبير عن اعترافهم بالإيمان المشترك، وللاشتراك في الصلاة، والإصغاء إلى قراءة شيء من الناموس والأنبياء، والاستماع إلى حديث حرّ (لو 4: 21)، وقبول بركة الشيخ الذي يرأس المجمع. وقد عُهِد بإدارة المجمع إلى جماعة من الشيوخ كان لهم حقّ إجراء التأديب والفرز من الشركة، وكانوا يشرفون على سائر أجزاء الخدمة، وينظمون الخدمات الدينية. وكان بين المسؤولين أمين الصندوق، ومهمته تلقّي الهبات التي يتم التبرع بها لأجل الصدقات، والخادم (لو 4: 20) وهو مكلَّف أن يوزع الأسفار المقدسة ويعيدها إلى مكانها. وقد كان هذا التنظيم في إدارة المجامع بالغ الأهمية بالنسبة إلى حياة اليهود الدينية، كما شكّل أيضاً، وبطرقٍ شتى مثالاً لتنظيم اجتماعات الكنيسة المسيحية.

فإن الرب يسوع درج على عادة القيام بزيارة هذه الاجتماعات في المجامع (لو 4: 16) والتزم راحة السبت أيضاً عملاً بجميع الأحكام الواردة في ناموس موسى، وهكذا أكمل كلّ برّ (مت 3: 15). على أنه جاء لكي يكمل الناموس بحفظه ومن ثم يضع على أكتاف التلاميذ حملاً يختلف عن نير الناموس الثقيل. هذا الحِمل المختلف هيّن وخفيف ومريح للنفوس (مت 11: 29، 30). وقد كرز المسيح بإنجيل ملكوت الله، وجمع حوله تلاميذاً اعترفوا به سيداً لهم، واقتادهم إلى التعمّق أكثر فأكثر في معرفة شخصه وعمله.

ومن بين مجموعة التلاميذ، اختار المسيح، بالنظر إلى أسباط إسرائيل الاثني عشر (مت 19: 28)، اثني عشر تلميذاً سمّاهم أيضاً رسلاً (لو 6: 13). وتتضح خطورة هذا الاختيار وأهميته من حقيقة كون المسيح قد قام به بعدما قضى ليلة كاملة على الجبل وهو يصلي وحده لله (لو 6: 12). فبحسب المنطق البشري، مستقبل ملكوت الله، يتعلق جزء كبير منه، بهذا الاختيار. والاسم "رسول" الذي أطلقه على كل واحد من هؤلاء التلاميذ، يعني مبعوثاً أو مُرسَلاً، ولم يكن نادر الاستعمال يومذاك. ويرجَّح جداً أن اليهود أطلقوا اسم "الرسل" على الرجال الذين أرسلوهم من أورشليم ليجمعوا الأموال للهيكل. كذلك في العهد الجديد يُدعى المسيح نفسه رسولاً (عب 3: 1)، وهكذا يُدعى برنابا أيضاً (أع 14: 4، 14)، وربما دعي بهذا الاسم أيضاً خادمٌ أو آخر من خدّام الإنجيل هنا أو هناك. ولكن سرعان ما أصبح الاسم "رسول" مقتصراً على الاثني عشر الذين اختارهم المسيح، وعلى بولس الذي دعي فيما بعد وبطريقة خاصة جداً ليكون رسولاً إلى الأمم.[212]

أما الغرض المباشر لاختيار الرسل هذا فكان أن يرافقوا المسيح وأن يرسلهم ليكرزوا ويشفوا المرضى (مر 3: 14، 15). وبحسب (متى 10: 1 وما يلي) (مر 6: 7 وما يلي؛ لو 9: 1 وما يلي)، أرسل الرب هؤلاء فعلاً إلى مختلف المدن والقرى في الجليل. ولا شك أن المسيح قصد من وراء هذه الإرسالية أن يصل الإنجيل إلى اليهود الذين لم يتسنّ له هو أن يصل إليهم، لكنه كان في الوقت عينه يُعِدّ رسله لمهمتهم المقبلة. ولم تكن دعوتهم في المستقبل شيئاً سوى هذا الأمر: أن ينطلقوا في وسط العالم شهوداً للمسيح يعد قيامته ويثبتوا بنيان كنيسته على أساس هذه الشهادة. وقد أعدَّهم لهذا الغرض بطريقة خاصة، بدخوله وخروجه معهم وبتعليمه لهم، وبالإفساح لهم كي يكونوا شهوداً لكلامه وأعماله، وسيرته وآلامه، وموته وقيامته أيضاً على الخصوص،[213] وبوعده أن يرسل إليهم روح الحق الذي يرشدهم إلى جميع الحقّ ويعزيهم ويمكث معهم إلى الأبد.[214] ومع هذا الإعداد زوّدهم أيضاً بسلطة خصوصية، ألا وهي سلطة الكرازة والتعليم، وشفاء المرضى بطريقةٍ خاصة، وإجراء المعمودية، وممارسة عشاء الرب والتأديب الكنسي، وفتح ملكوت السماء وإقفاله بغفران الخطايا أو إمساكها.[215] وقد كان الرسل خداماً للمسيح ووكلاء سرائر الله (1كو 4: 1).

وكان لبطرس المقام الأول بين الرسل. فقد كان ابن يونا، صياد سمك من بيت صيدا (يو 1: 43، 44)، وكان قد تزوج في كفرناحوم قبل تعرّف المسيح إليه (مر 1: 21، 29). أما اسمه في الأصل فهو سمعان، ولكن المسيح زاد عليه الاسم "صفا"، أو بطرس، ويعني صخراً، وذلك حالما التقاه أول مرة (يو 1: 42). وهذا الاسم يعبِّر عن طبع بطرس، عن حبه للمغامرة واستقلاليته ورحابة صدره وصلابة عوده. وعلى هذه الصورة نتعرّف به أثناء حياة المسيح على الأرض. فهو أول من اختير من الرسل (مر 3: 13) وقد تولى دور ممثلهم والناطق باسمهم. وقُدِّر لصلابته أن تجتاز امتحاناً صعباً خلال آلام المسيح حتى هانت وولّت بإنكاره الرهيب للسيد. ولكن بعدما أُنهِض ورُدَّت نفسه على يد المسيح (لو 22: 32؛ يو 21: 15 وما يلي)، صار في وسعه أن يثبِت إخوته خير تثبيت (لو 22: 32). ومن هنا تولى بطرس زمام القيادة من جديد حالما صعد المسيح. ويظهر منه ذلك في اختيار متياس (أع 1: 15 وما يلي)، وكرازة يوم الخمسين (أع 2: 14 وما يلي)، وإجراء المعجزات (أع 3: 6)، والدفاع عن الكنيسة أمام المجلس (أع 4: 8 وما يلي)، والحكم المنطوق به على حنانيا وسفيرة (أع 5: 4 وما يلي)، والسفرة التفقّدية إلى السامرة (أع 8: 14)، والكرازة بالإنجيل للأمم (أع 10: 1 وما يلي)، والمجمع الذي عُقِد في أورشليم (أع 15: 7 وما يلي).

بهذه الوقائع يتذرّع الكاثوليك ليُثبتوا أن بطرس كانت له مكانة أسمى من سائر الرسل وأنه فيما بعد صار البابا الأول في روما. ولكن ذلك ليس له أيُّ أساس. صحيح أنه كان الأول والمتقدِّم بين أقرانه، غير أنه لم يكن ذا رتبة أو سلطة تفوقهم. فالأحد عشر الآخرون كانوا رسلاً، مثلهم مثله. وسلطة الكرازة والتعليم، وإجراء المعمودية والعشاء الرباني، وفتح ملكوت السماء وإقفاله، لم تُعطَ له وحده (مت 16: 19)، بل أُعطيت أيضاً لسائر الرسل.[216] وفي الواقع أن بطرس، بعد أعمال 15، ينسحب إلى المؤخرة بحيث لا نعرف عنه بعدُ إلا الأمور التالية: أنه كان في إنطاكية (غل 2: 11)، وفي بابل (1بط 5: 13)، وأنه فيما بعد مات في روما شهيداً (يو 21: 18، 19). وعلى ذلك يُفسح بطرس في المجال لبولس الذي - من جهة - يدعو نفسه أصغر الرسل (1كو 15: 9) ولكنه - من جهة أخرى - لا يريد أن يُحسب أقل شأناً منهم في الرتبة أو الوظيفة أو السلطة أو العمل،[217] حتى إنه يوبِّخ بطرس في إنطاكية (غل 2: 11).

ونقرأ في (متى 16: 18) أن الرب يسوع، بعد اعتراف بطرس بمسيانيَّته على نحوٍ واضح وصريح وجريء، خاطبه قائلاً: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي. وإذ يقول الرب هذا لا يقصد شخص بطرس، ولا حتى الاعتراف الذي نطق به لتوِّه بمعزلٍ عن شخصه، بل يقصد بالأحرى بطرس المعترف (بطرس معترفاً بالمسيح، وعلى نحوٍ أكثر تحديداً: بطرس معترفاً بالمسيح باسم الرسل جميعاً). ولم يكن بطرس وحده من اعترف هذا الاعتراف، بل شاركه فيه أيضاً جميع الرسل، بحيث إن الكنيسة لم تُبنَ على بطرس وحده بل على الرسل جميعاً (أف 2: 20؛ رؤ 21: 14). فجماعة الرسل هي الأساس الذي بُنيت الكنيسة عليه، ولا شركة مع المسيح إلا من خلال الشركة معهم ومع كلامهم (يو 17: 20؛ 1يو 1: 3).

هؤلاء الرسل صاروا على رأس الكنيسة في أورشليم بعد صعود المسيح حالاً، وقد شكّلوا ما يمكن أن يُسمّى مجلساً كنسياً، إذا جاز التعبير. فقد كانت السلطة بأيديهم، وهم تسلّموها لا من الكنيسة بل من المسيح نفسه. ولكنا كانت سلطة قُصِد بها - على حدّ تعبير بطرس بالذات عنها فيما بعد - رعاية رعيّة الله والمناظرة عليها، لا كرهاً بل طوعاً، ولا طمعاً بالربح القبيح بل بنشاط، ولا كسادة على ما يخص الله، بل كأمثلة للرعية (1بط 5: 2 - 3). فمع أن جماعة الرسل تولّت قيادة الكنيسة، فهي لم تكن في الوقت عينه مرتّبة إلا لخدمة الكنيسة وخيرها. ذلك أن الرسل جعلوا لأجل منفعة الكنيسة (أف 4: 11، 12). ونرى هذا بوضوح في الكنيسة بأورشليم. فقد مارس الرسل القيادة في جماعات المؤمنين (أع 1: 15)، وبشّروا وعمّدوا (أع 2: 38)، وحافظوا على نقاوة الحقّ والمواظبة على كسر الخبز والشركة والصلوات (أع 2: 42). وأجروا آيات وعجائب (أع 2: 43)، وتولّوا توزيع التقدمات على الفقراء من الإخوة والأخوات (أع 4: 37؛ 5: 2). وفي بادئ الأمر لم يكن في الكنيسة وظيفةٌ أخرى غير وظيفة الرسل. فقد قاموا بكلِّ ما يقوم به الآن المعلمون والرعاة، والشيوخ والشمامسة.

ولكن لم يكن ممكناً لهذا الوضع أن يستمر طويلاً. فلما انتشرت الكنيسة، ولاسيما لما نشأ مزيدٌ من الكنائس خارج نطاق أورشليم، في اليهودية والسامرة والجليل، ثم أيضاً في العالم الأممي فيما بعد، أصبح من اللازم توفير المشورة والمعونة. وقد حدث ذلك بطريقتين: لجميع الكنائس باعتبارها وحدةً واحدة، ولكل كنيسة بمفردها.

إن الكنائس المتعددة التي نشأت وانتشرت خارج أورشليم في مدن وقرى أخرى، لم تكن تابعة للكنيسة في أورشليم، بل باتت صارت إلى جانبها على نحوٍ مستقلّ. ومن الجائز أن نسمّي الكنيسة في أورشليم "الكنيسة الأم" ما دمنا نعني بهذا أنها أول كنيسة، وأن الكنائس الأخرى وُجِدَت يتجه عملها التبشيري. ولكن هذه التسمية تعتبر خاطئة إذا قصدنا بها أن الكنائس الأخرى كانت لها علاقة التبعية بالنسبة إلى الكنيسة في أورشليم. وبهذا المعنى ليس هنالك، ولا يمكن أن يكون، ما يُسمّى كنيسةً أماً، لأن كل كنيسة، حتى الصغرى والأقل شأناً، تدين بفضل مصدرها ووجودها فقط للمسيح وروحه مباشرة، وإن كانت واسطة ذلك هي خدمة التبشير التي تقوم بها كنيسةٌ أكبر. وعليه، فكل كنيسة هي كنيسةٌ للمسيح، وليست فرعاً أو جزءاً من كنيسة أخرى، سواء كانت هذه في أورشليم أو روما أو أي مكانٍ آخر. على أنه، وإن كانت الكنائس التي نشأت بالتدريج في فلسطين وخارج البلد تعتبر "كنائس أخوات" لا "كنائس بنات" للكنيسة التي في أورشليم، فقد بقيت جميعاً - بغير استثناء وبالمعنى نفسه - معتمدةً على سلطان الرسل وخاضعةً له.

فقد كان الرسل أكثر من مجرّد مجلس كنسي محلي، إذ قاموا بدور مجلس عام للكنيسة المسيحية كلها حيثما وُجِدَت. ولذلك فحالما قبلت السامرة كلمة الله، بعث الرسل إليها بطرس ويوحنا ليصليا لأجل المؤمنين هناك ويضعا الأيدي عليهم لقبول عطيّة الروح القدس، ويكرزا من ثم بالكلمة بينهم (أع 8: 13 - 25). وفيما بعد جال بطرس على جميع الكنائس في اليهودية والسامرة والجليل، لكي يقويهم ويعزز الشركة المتبادلة بين الجميع (أع 9: 31، 32). وهكذا كان أن الكنائس لم تُقِم الواحدة إلى جانب الأخرى على تباعد، وأنها لم تكن متروكة على هواها لتمضي كلّ في حال سبيلها، بل بالأحرى ظلّت قائمة على أساس الرسل ومركزهم.

ولكن هذا الواقع أدى إلى وضع جعل العمل يتراكم على الرسل. فبات ضرورياً توزيع العمل وزيادة الفعلة. أما توزيع العمل فقد حصل في مجمع أورشليم لما أجمع الرأي بعد التشاور على توجُّه الرسل إلى اليهود في أورشليم وانطلاق بولس إلى الأمم (غل 2: 6 - 9). ومن الطبيعي أن توزيع العمل على هذا النحو لم يكن المقصود منه التقسيم الصارم بحيث أن بولس لا يستطيع بعد ذلك البتة أن يتوجه بالخطاب إلى اليهود، والرسل في أورشليم لا يمكنهم البتة أن يعملوا بين الأمم فيما بعد. فقد ظلّ بولس معنياً في الدرجة الأولى ببني قومه وجنسه الذين أحبهم محبة شديدة، كما أن بطرس ويوحنا ويعقوب نشطوا أيضاً بين المسيحيين الراجعين من الأمم، على حدّ ما تبيّن الرسائل التي كتبها هؤلاء الرسل. غير أن توزيع العمل هذا أرسى حدوداً عامة، ترك لكلا الطرفين بعض الراحة والحرية في العمل.

وعلينا أن نضيف أيضاً إلى هذه النقطة نقطةً ثانية، مؤداها أن الرسل اتخذوا لهم معاونين، أي أشخاصاً ساعدوهم في مختلف نشاطاتهم. هؤلاء المعاونون كانوا أناساً مثل برنابا (أع 13: 2) ومرقس ولوقا (أع 12: 25؛ 13: 5؛ فل 24) وتيموثاوس (رو 16: 21؛ 1تس 3: 2) وتيطس (2كو 8: 23) وسيلا (أع 15: 40).[218] وأحياناً دُعي هؤلاء مبشرين كفيلبس (أع 5: 8، 40؛ 21: 8؛ أف 4: 11؛ 2تي 4: 5). وإلى هذا تلقّى الرسل مساعدة من الأنبياء - وهم أشخاص وهبهم الله موهبة خاصة ولم تُسنَد إليهم وظيفةٌ محددة. هكذا كان أغابوس (أع 11: 28؛ 21: 10) وبنات فيلبس (أع 21: 9). وهؤلاء أيضاً ساهموا في تنوير الكنيسة وبنيانها في الحق.[219]

هذه الوظائف كلُّها - أي وظائف الرسل والأنبياء والمبشرين - قد تلاشت ما دام أصحابها قد ماتوا ولم يخلفهم سواهم بطبيعة الحال. وقد كانت هذه الوظائف ضرورية في ذلك الزمن غير العادي الذي تخلله تأسيس الكنيسة على الأرض. غير أن عمل أصحاب هذه الوظائف لم يكن باطلاً في الرب. فإنهم، أولاً، بنوا الكنيسة فعلاً على أساس يسوع المسيح (1كو 3: 11). وثانياً، ما تزال شهادتهم حيّة في أسفار العهد الجديد، في الأناجيل والرسائل، في سفر الأعمال وسفر الرؤيا، ما تزال حيّة في الكنيسة كلها فعلاً حتى اليوم. وبفضل هذه الشهادة ما برحت الكنيسة قادرة في كل زمان على المواظبة على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات (أع 2: 42). فإن كلام الرسل، وقد قيل شفهياً أولاً ومن ثم جرى تدوينه كتابة، يؤيد ويضمن وحدة الكنيسة، ليس فقط إذ تنتشر في جميع أنحاء العالم، بل أيضاً إذ تمتدّ عبر العصور.

وكما أن الرسل في قيامهم بعمل تدبير الكنيسة ككل وجدوا العون في وظيفتي الأنبياء والمبشرين الفائقتين للعادة، فكذلك تماماً كان لهم في خدمة الشيوخ والشمامسة عونٌ على الاعتناء بكل كنيسة محلية. وينبغي لنا أن نذكر أن الرسل أنفسهم كانوا في بادئ الأمر هم موزّعي تقدمات الرحمة (أع 4: 37؛ 5: 2). ولكن لما صارت الكنيسة أكبر بصورة واضحة، لم يعد في وسعهم أن يقوموا بهذا العمل وحدهم. فبمناسبة خلاف نشب في الكنيسة حول الخدمة اليومية، أشار الرسل باختيار سبعة رجال مملوئين من الإيمان والروح القدس، للقيام بخدمة الموائد (أع 6: 1 - 6). وطالما دار كثير من الجدل حول هذا العمل: هل تأسيس لوظيفة الشماس أولاً؟ إنما ليس بمستبعد أن تكون وظيفة هؤلاء السبعة، كما عيّنها لهم الرسل في أعمال 6، قد اشتملت في الأصل على عمل وخدمة أكثر مما اشتملت عليه وظيفة الشمامسة اللاحقة. على أننا نقرأ صراحة أن الرسل احتفظوا لأنفسهم بخدمة الكلمة والصلاة (أع 6: 4) وأن السبعة كُلِّفوا إذ ذاك لخدمة الموائد، أي تنظيم كل ما يتعلق بالولائم أو الواجبات المشتركة - وكانت ممارسة عشاء الرب تحصل في ختامها عادةً - وكل ما يتعلق بالتوزيع على الفقراء مما تم التبرع به من قبل المؤمنين للخدمة المشتركة في الولائم، ومما بقي بعدها من طعام وشراب مال.

وقد أُسِّست وظيفة الشماس في كنائس أخرى أيضاً. فنقرأ عن شمامسة في فيلبي (في 1: 1) وفي أفسس.[220] وفي (1تي 3: 8 وما يلي)، يلخّص بولس المؤهلات الواجب توفرها في الشماس. وهذا الأمر قام بمثله الرسل في أورشليم أيضاً. فقد أشاروا على الكنيسة باختيار سبعة رجال، وبيَّنوا القدرات المطلوبة وطبيعة الوظيفة ومهامها. وعلى هذا الأساس اختارتهم الكنيسة. ولكن الرسل هم الذين عهدوا إليهم بالعمل واضعين الأيدي عليهم.

وإلى جانب الشمامسة، يشغل الشيوخ مكانتهم. ولا يُقال لنا شيء عن أصل هذه الوظيفة. ولكن عندما نتذكر أنه كان بين اليهود حكمٌ للشيوخ بصورة عامة، سواءٌ في الحياة المدنية أو في المجامع، فليس مما يدعو إلى الدهشة في واقع الحال أن يتم اختيار بعض المتقدمين من أفراد الكنيسة لتولّي مسؤولية المناظرة والتأديب. وهكذا نقرأ عن هؤلاء في (أعمال الرسل 11: 30)، وكإشارة عابرة، أنهم تسلَّموا من برنابا وشاول للإخوة المقيمين في اليهودية؛ ونجدهم في (أع 15: 2 وما يلي) مشاركين في المجمع الذي عُقِد لتنظيم شؤون العمل التبشيري بين اليهود والأمم.

وسرعان ما أُدخلت وظيفة الشيوخ هذه على كنائس أخرى. فقد دبّر بولس وبرنابا اختيار شيوخٍ في كلّ كنيسة أسساها في أثناء جولاتهما التبشيرية (أع 14: 23؛ قارن 21: 18). ونجد شيوخاً في أفسس (أع 20: 28) وفيلبي (في 1: 1)، حيث يُدعون قسوساً أو أساقفة. وربما كان مشاراً إليهم في 1كورنثوس 12: 28 بالتعبير "تدابير"، كما نلتقيهم في أفسس 4: 11 كرعاةٍ ومعلمين.[221] وفي (1تيموثاوس 3: 1 وما يلي)، و(تيطس 1: 6 - 9)، يبيّن بولس مؤهلاتهم، كما يوصي تيطس في الرسالة إليه (1: 5) أن يقيم في كل كنيسة شيوخاً. وكانت المهمة الموكولة إلى هؤلاء الشيوخ هي مناظرة الكنيسة،[222] وقد عُرِفوا - حتى في العصر الرسولي - بأنهم المدبّرون والعاملون أيضاً في خدمة الكلمة وتعليم الحقّ. وربما كان ديوتريفس، المذكور عنه في 3 يوحنا 9 أنه يحبّ أن يكون الأول في الكنيسة وقد أساء استخدام وظيفته، وكذلك أيضاً ملائكة الكنائس السبع (رؤ 2: 1 - 8)، هم جميعاً معلِّمين أيضاً من الذين يتبعون في خدمة الكلمة، على خلاف رفقائهم الشيوخ الآخرين، وهكذا شغلوا مكانة مهمة وفريدة.

هكذا كانت هيئة التدبير البسيطة التي نظمها الرسل لإدارة الكنيسة. فالوظائف التي رتبوها كانت قليلة جداً، بل إنها في الواقع لم تتعدّ وظيفتين: وظيفة الشيخ، ووظيفة الشماس؛ وإن كانت الأولى يمكن أن تُقسم أيضاً إلى شيخٍ معلم وشيخٍ مدبِّر. تلك هي الوظائف التي عيّنها الرسل ونظموها بالفعل: فقد حدّدوا واجباتها ومؤهلاتها، ولكنهم تشاوروا مع الكنيسة لأجل اختيار شاغليها، وحالما تم اختيارهم هكذا، كان الرسل يعلنون حقهم في مباشرة خدمتهم بواسطة وضع الأيادي. ولم يكن في الكنيسة ما يمكن أن يسمى سلطة سيادية. لأن المسيح وحده هو رأس الكنيسة (أف 1: 22) والمعلم والسيد (مت 23: 8 - 10) والرب،[223] فلا يمكن أن تقوم في الكنيسة عامة أية سلطة فردية إلى جانب سلطة المسيح أو مقابلها، بل فقط تلك السلطة التي ينتدبها والتي تظلّ داخل حدودها التي رسمها لها.

ذلك كان صحيحاً بالنسبة إلى الوظائف الفائقة للرسل والمبشرين والأنبياء في تلك الفترة الأولى، إذ رُتِّبت في تلك الفترة السابقة لتأسيس الكنيسة في العالم. وقد تلقى هؤلاء وظيفتهم وسلطتهم من المسيح وليس من الكنيسة، وإن كان عليهم أن يستخدموا تلك السلطة التي أُعطيت لهم في خدمة الكنيسة (مت 20: 25 – 27؛ 1بط 5: 3). وهذا الأمر عينه ينطبق، وبمعنى أقوى أيضاً، على الوظائف التي ما تزال قائمة في الكنيسة. فإن الرعاة والمعلمين، والشيوخ والشمامسة، يدينون أيضاً بالفضل في وظائفهم وسلطانهم للمسيح الذي رتَّب هذه الوظائف والذي يغذيها باستمرار، فيهيّئ الأشخاص ويزودهم بالمواهب ويحمل الكنيسة على تعيينهم (1كو 12: 28؛ أف 4: 11). ولكن هذه الموهبة وهذه السلطة قد أُعطيت لهم لكي يستخدموها لخير الكنيسة ويعملوا بها في سبيل بنيان القديسين (أف 4: 12). وقد رُتِّبت الوظيفة لكي يُتاح للكنيسة أن تواظب على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات (أع 2: 42).

ولكن مجمل هذا الترتيب أو التدبير، كما كان على بساطته وجماله، سرعان ما لحقه التشويه والتشويش بعد العصر الرسولي. وأول ما يطالعنا هنا هو وظيفة الأسقف (في النظام الأسقفي). وفي العهد الجديد، وفي بعض الكتابات العائدة إلى العصر اللاحق للرسل أيضاً، كانت الكلمتان "شيخ" (أو قسيس) و"أسقف" (أو ناظر) ما تزالان تستخدمان للدلالة على شخصٍ واحدٍ بعينه. فإن مهمة المناظرة، أي الإشراف والتأديب، كانت هي المسؤولية الموكولة إلى الشيخ المعيَّن (أو الشيوخ).[224]

ولكن في أوائل القرن الثاني كان قد جرى في بعض الكنائس تمييز بين الأمرين: فالناظر أو الأسقف ارتفع منصبه فوق الشيوخ والشمامسة من حيث الرتبة، واعتبر صاحب منصب خاص - باعتباره خليفة الرسل والمحافظ على نقاوة التعليم وحجر الزاوية في الكنيسة. وقد كان هذا بالطبع مدخلاً إلى سبيل الترتيب الكنسي، كما أدى - من جهة - إلى حرمان الشيوخ والشمامسة كل امتيازاتهم والنـزول بالمؤمنين إلى مستوى العلمانيين غير الناضجين وحسب، ومن جهة ثانية أدى إلى رفع رتبة الأساقفة والكهنة عالياً فوق الكنيسة، ومن ضمن هؤلاء أن تولي أسقف روما منصب رئيس الكهنة كلها. وباعتباره خليفة لبطرس افتُرِض أنه حامل مفاتيح الملكوت ونائب المسيح على الأرض في السيادة، كما أنه، باعتباره البابا، أُضيفت عليه في مسائل الإيمان والحياة سلطةٌ إلهية معصومة.

لقد لقي قيام حكم الكهنة في كنيسة المسيح عند كل خطوة خطاها للتقدم الرفض والاعتراض، ولكن في زمن الإصلاح فقط بلغ هذا النـزاع من الشدة ما جعل العالم المسيحي ينشقّ إلى قسمين كبيرين. ومن ثم وقع بعض هؤلاء، مثل الذين يشددون على ضرورة تكرار المعمودية (ولو كان الإنسان قد اعتمد باسم الثالوث الأقدس سابقاً)، في تطرُّف آخر إذ رأوا أن كل وظيفة أو سلطة أو نفوذ هي على نقيض كنيسة المسيح. وكسر آخرون الطوق الذي كان يربطهم بالبابا في روما، لكنهم حافظوا على مقام الأسقفية، ومن هؤلاء الكنيسة الأنجليكانية في إنكلترا. واستردّ اللوثريون وظيفة الوعظ، إلا أنهم جعلوا تدبير شؤون الكنيسة والاعتناء بالفقراء كلياً في يد السلطة المدنية. وهكذا تواجدت آراء شتى فيما يتعلق بإدارة الكنيسة، بعضها إزاء بعض. وما زال حتى اليوم اختلاف في الرأي بين مختلف الطوائف المسيحية حول إدارة الكنيسة لا يقلّ عن الاختلاف حول قانون إيمان الكنيسة.

وإلى كالفن يعود الفضل في استعادة وظيفتي الشيخ والشماس، فضلاً عن وظيفة الواعظ، في حين شنّ حربه على الترتيبات الكهنوتية في الكنيسة الكاثوليكية. وعلى يده استعادت الكنيسة ما فقدته واسترجعت وظيفتها المستقلة. فقد جاهد جهاداً مريراً دام سنين في سبيل استقلال الكنيسة، وممارستها للتأديب دون قيود، وحفاظها على الطهارة في خدمة الكلمة والعشاء الرباني. ذلك أن كالفن، عند تفكيره في الكنيسة، لم يفكر بالدرجة الأولى في وظائف تلك الكنيسة، ولا في الكنيسة كمؤسسة، بل رأى فيها قبل كل شيء باعتباره جماعة أو شركة من المؤمنين الذين عليهم، باعترافهم وسلوكهم، أن يثبتوا أنهم شعب الله وقد مسحهم المسيح شخصياً ليكونوا أنبياء وكهنة وملوكاً. فالكنيسة في آن واحد أم المؤمنين وشركتهم. إنها شيء يختلف ويزيد عن جمهورٍ يجتمع في مكانٍ واحد يوم الأحد لسماع الوعظ؛ إذ إنها جماعة متحدة أو شركة مجتمعة تجعل تأثيرها في الداخل والخارج معاً ملموساً خلال أيام الأسبوع كلِّها. وليست وظيفة الوعظ إلا واحدة من الوظائف الكنسية: فإلى جانبها وظيفة الشيخ التي لها عملها الخاص في افتقاد البيوت والإشراف والتأديب؛ وهنالك أيضاً وظيفة الشماس القائمة على إبداء الرحمة تجاه الفقراء والمرضى؛ وهنالك أخيراً وظيفة المعلم، ومهمته أن يفصل الحق ويعلّم به ويحامي عنه.

وفيما تشكّل كل كنيسة وحدةً مستقلة، وتدين للمسيح وحده بالفضل في مواهبها وسلطانها ووظائفها وخدماتها، ترتبط أيضاً ارتباطاً وثيقاً بجميع الكنائس التي تقوم معها على الأساس الواحد بعينه. هكذا كانت الحال في العصر الرسولي. فكل كنيسة مهما كانت صغيرة أو حقيرة، كانت كنيسة للمسيح، جسداً له وهيكلاً؛ ولكن كل كنيسة كانت أيضاً منذ البداية داخلة ضمن نطاق الوحدة الروحية مع جميع الكنائس الأخرى - دون أن يكون لها هي خيار أو قرار في ذلك. فقد تكوّنت من جميع الكنائس معاً كنيسة واحدة (مت 16: 18)، وكانت جميع الكنائس خاضعة لسلطان الرسل الذين وضعوا بكلامهم الأساس للكنيسة بكاملها (أف 2: 20). وجميع الكنائس واحدة في الحياة والاعتراف، ولها جميعاً معمودية واحدة، وإيمان واحد، وروح واحد، وربّ واحد، وإله وآب واحد فوق الجميع وفي الجميع (أف 4: 3 - 6). وقد حافظت الكنائس على الشركة بعضها مع بعض، كما يظهر في جولات بعض الأفراد على غير واحدة منها (كأكيلا وبريسكلا مثلاً)،[225] وفي التحيات المتبادلة،[226] وفي خدمة بعضها لبعض بتقدمات المحبة.[227] كذلك تناقلت الكنائس رسائل كتبها الرسل إليها (كو 4: 16)، ولجأ المؤمنون إلى سابقة التشاور في القضايا المختلف عليها توصلاً إلى قرارات مشتركة (أع 15).

من بين كل أشكال النظام الكنسي، فإن النظام المشيخي كما استعاده كالفن هو الأكثر مطابقة لترتيب العصر الرسولي.

إن جميع الخدمات والوظائف التي عينها المسيح لكنيسته تتركز في الكلمة المقدسة. فهو لم يعطِ تلاميذه أي سلطان عالمي (مت 20: 25 - 27) ولا أية سيادة كهنوتية (1بط 5: 3)، لأنهم جميعاً أشخاص روحيون (1كو 2: 10 - 16) وقد مسحهم الروح القدس (1يو 2: 20) وهم يشكّلون معاً كهنوتاً ملوكياً (1بط 2: 9). وللمواهب والوظائف غاية واحدة فقط، ألا وهي أن يخدم الحاصلون عليها الآخرين بها في المحبة (رو 13: 18؛ غل 5: 13). أما أسلحة محاربة المؤمنين فروحية بطبيعتها (2كو 10: 4)، وهي تتألف من منطقة الحقّ، ودرع البرّ، وترس الإيمان، وخوذة الخلاص، وسيف الروح (أف 6: 14 - 17).

ولهذا السبب فكلمة الله أيضاً هي السمة الوحيدة التي بها يمكن أن تُعرَف كنيسة المسيح في حقها وطهارتها. فبالكلمة وُلد جميع أعضاء الكنيسة الحقيقيين وجيء بهم إلى الإيمان والتوبة، وطُهِّروا وقُدِّسوا، وجُمِعوا ووُطِّدوا؛ وهم بدورهم مدعوون إلى حفظ تلك الكلمة (يو 8: 31؛ 14: 23) ودرسها (يو 5: 39) وامتحان الأرواح بواسطتها (1يو 4: 1) والإعراض عن الذين لا يعلّمون بها.[228] فكلمة الله هي بالحقيقة - على حدّ تعبير كالفن - روح الكنيسة.

وكلمة الله هذه لم تُعطَ حصراً للكنيسة كمؤسسة، ولا لأصحاب الوظائف فيها، بل لجميع المؤمنين (يو 5: 39؛ أع 17: 11) حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لهم رجاء (رو 15: 4) ولكي يعلِّم بعضهم بعضاً ويحرِّض أحدهم الآخر بالتبادل.[229] وبعدما كانت الكنيسة الكاثوليكية قد سحبت الكتاب المقدس من أيدي العامة، عاد الإصلاح فوضع الكتاب في أيدي الجميع، وبهذا مهَّد سبيل الإفادة من هذا المصدر الفريد للتعليم والتوجيه أمام الأسرة والمدرسة، والعلم والفن، والمجتمع والدولة، وأمام كل مؤمن فرد. وإلى ذلك، دبّر الله خدمة الكلمة بصورة رسمية. فهو أعطى وما زال يعطي الكنيسة رعاةً ومعلمين[230] مهمتهم خدمة الكلمة علناً وفي البيوت (أع 20: 20)، يقدمونها لبناً لغير البالغين وطعاماً قوياً للبالغين في الكنيسة؛[231] وعليهم أن يقوموا بذلك وفقاً لمقتضى الحاجات لدى كل شعب وفي كلّ زمان، وعند كل كنيسة وكل مؤمن بمفرده.[232] وبعبارة أخرى، إن خدمة الكلمة تتضمن حفظها وترجمتها وتفسيرها ونشرها وحمايتها وإذاعتها على جميع الناس؛ وهكذا تظل الكنيسة مبنية على أساس الرسل والأنبياء (أف 2: 20)، كما أنها عامود الحقّ وقاعدته، وهكذا ينبغي أن تكون (1تي 3: 15).

وقد كان للكلمة تثبيتها في الممارسات الكنسية التي هي علامات وختوم لعهد النعمة والتي تعمل بالتالي على تقوية الإيمان. أما في العهد القديم فقد استخدم الله لهذا الغرض الختان (تك 17: 7) والفصح (خر 12: 7 وما يلي). وكان لكلتا هاتين العلامتين دلالة روحية بعيدة، إذ كان الختان ختماً لبرّ الإيمان (رو 4: 11) ولختان القلب (تث 30: 6؛ رو 2: 28، 29). كذلك يرمز الفصح، بما فيه من ذبيحة خطية ووليمة تذكارية، إلى المسيح (يو 1: 29، 36؛ 19: 33، 36). وعليه فإن الختان والفصح تمّ رمزاهما في آلام المسيح وموته (كو2: 11؛ 1كو 5: 7)، وقد حلّ محلهما بالتالي في العهد الجديد المعمودية (مت 28: 19) والعشاء الرباني (مت 26: 17). هاتان العلامتان هما الممارستان المعروفتان عالمياً باسم "الأسرار المقدسة" أُضيفت إليهما خمسة أسرار أخرى (الاعتراف، التوبة، الزواج، التثبيت، المسحة الأخيرة) وطقوس لا تكاد تحصى، وذلك بغير مسوّغ من الكتاب المقدس. ويجب ألا تُعتبر الممارستان المذكورتان أنهما تحتويان على نعمة الله في ذاتهما مكانياً ومادياً، بل إنهما بالأحرى تذكّران وتؤكدان النعمة التي يعطيها الله بالروح القدس لقلوب مؤمنيه. فهذان "السران المقدسان" ينطويان على كامل عهد النعمة بكل خيراته، إذ إن المسيح نفسه هو محتواهما، وبالتالي لا يمكن أن ينقلا هذه الخيرات إلا بطريق الإيمان. وتبعاً لذلك فقد رُسمت هاتان الممارستان للمؤمنين، وهما تؤكدان لهؤلاء المؤمنين نصيبهم في المسيح. إنهما لا تتقدمان الكلمة المقدسة بل تتبعانها؛ فهما لا تحويان القدرة على منح نعمة خاصة لا يمكن إعطاؤها من خلال الكلمة أو قبولها بالإيمان، بل إنهما بالأحرى مؤسستان على إقامة عهد النعمة من جانب الله وتثبيت ذلك العهد من جانب الإنسان.

وبالتحديد فإن المعمودية علامة وختم لبركة الغفران (أع 2: 38؛ 22: 16) والتجديد (تي 3: 5) ودمج المؤمن في شركة المسيح وكنيسته (رو 6: 4). ولذلك لا تجرى المعمودية فقط للبالغين الذين تمّ اكتسابهم للمسيح بالعمل التبشيري بل أيضاً لأولاد المؤمنين، لأنهم مشمولون مع آبائهم بعهد النعمة،[233] وتابعون للكنيسة (1كو 7: 14) وقد أُدخلوا في الشركة مع الرب.[234] وعندما يكبر الأولاد، يقبلون ذلك العهد شخصياً بالاعتراف العلني، وإذ يبلغون سنّ الإدراك ويستطيعون أن يميزوا جسد الرب ودمه (1كو 11: 28)، عندئذ يُدعون إلى الاشتراك مع الكنيسة كلها في المواظبة على الإخبار بموت الرب إلى أن يجيء، وهكذا يتقوون في الشركة مع المسيح. فمع أن المعمودية والعشاء الرباني ينطويان على عهد النعمة، ومع أنهما كليهما يؤكدان بركة غفران الخطايا، فإن العشاء الرباني يختلف عن المعمودية من حيث كونه علامة ً وختماً ليس للاتحاد في الشركة مع المسيح وجميع أعضاء جسده بل للترقية والتقوية في تلك الشركة (1كو 10: 16، 17).

وإلى خدمة الكلمة والأسرار يجب أن تضاف أخيراً ممارسة التأديب وأعمال الرحمة. أما التأديب، ويدعى أيضاً في بعض الأحيان سلطة المفاتيح التي أُعطيت أولاً لبطرس (مت 18: 18؛ يو 20: 20) ومن ثم للكنيسة كلها كمنظمة رسمية،[235] فقوامه حقيقة كون الكنيسة بلسان المسؤولين فيها تقول - باسم الرب - للصدّيق إنه سيكون له خيرٌ، وللأشرار إنهم سيجنون ثمر أفعالهم (إش 3: 10، 11). هذا الأمر تقوم به الكنيسة عموماً وعلناً في خدمة الكلمة عند كلّ اجتماع يعقده المؤمنون، كما تقوم به خصوصاً وشخصياً في افتقاد البيوت دورياً. وقد حلّ هذا، في الكنائس المصلحة، محل الاعتراف عند الكاثوليك، وهو مؤسَّس على المثال الرسولي.[236] أخيراً تمارس الكنيسة أيضاً مثل هذا التأديب في الإنذارات الخصوصية الموجهة إلى مصلِّبي رقابهم في الإمعان بالخطية، وفي الفرز من الشركة.[237]

ولكن بينما تهتم الكنيسة على هذا النحو بالممارسات الكنسية باسم المسيح وتُقصي المخطئين من شركتها، تُشفق أيضاً بعطف عظيم على جميع المرضى والفقراء، وتقدم لهم ما يحتاجون إليه لسدّ فاقتهم الروحية والمادية. هذا الأمر فعله المسيح بالذات (مت 11: 5)، وأوصى رسله أيضاً به.[238] ويطلب إلى أفراد الكنيسة أن يساهموا في سدّ احتياجات القديسين (رو 12: 13) موزّعين بسخاء وراحمين بسرور (رو 12: 8) مفتقدين الأرامل واليتامى في ضيقتهم (يع 1: 27)، رافعين الصلوات لأجل المرضى، وذلك باسم الرب (يع 5: 14)، وحاملين على العموم بعضهم أثقال بعض، متممين بهذا ناموس المسيح (رو 12: 15؛ غل 6: 2).

فالإيمان والمحبة هما قوة كنيسة الرب، يُضاف إليهم الرجاء. وفي وسط عالمٍ لا يدري أين يمضي وهو يتردّى في مهاوي الفساد لافتقاره إلى العزاء والرجاء، تبثّ الكنيسة رجاءها السعيد: إننا لنؤمن بمغفرة الخطايا، وبقيامة الجسد، وبالحياة الأبدية!

[178]- مز 56: 11؛ 118: 6؛ رو 8: 31.

[179]- خر 19: 5؛ تث 4: 20؛ 7: 6.

[180]- تك 12: 7؛ لا 20: 24.

[181]- عا 5: 15؛ إش 1: 9؛ 4: 3؛ 8: 18؛ ومواضع أخرى.

[182]- مز 1: 1؛ 16: 3؛ 22: 23؛ 26: 4 – 12؛ 35: 18؛ 40: 10؛ 66: 16؛ 122: 1 وما يلي؛ 133: 1 وما يلي.

[183]- أع 2: 46؛ 3: 1؛ 5: 12.

[184]- أع 2: 41؛ 2: 47؛ 4: 4؛ 5: 14؛ 6: 7.

[185]- أع 8: 4، 14، 25؛ 9: 31، 35، 38.

[186]- أع 13: 5، 14؛ قارن رو 1: 16؛ 2: 9؛ 3: 1؛ 9: 6؛ 11: 13 وما يلي؛ 1كو 1: 22 وما يلي؛ 9: 20.

[187]- أع 13: 46؛ 17: 17؛ 18: 4، 6؛ 28: 25 – 28.

[188]- رو 2: 28، 29؛ 9: 8؛ 1كو 10: 18.

[189]- أع 15: 14؛ رو 9: 25، 26؛ 2كو 6: 16 – 18؛ غل 3: 29؛ 6: 16؛ عب 8: 8 – 10؛ يع 1: 1، 18؛ 1بط 2: 9؛ رؤ 21: 3، 21.

[190]- 1كو 16: 2؛ أع 20: 7؛ رؤ 1: 10.

[191]- أع 2: 1، 46؛ 3: 11؛ 5: 12، 20، 42.

[192]- رو 16: 5؛ 1كو 16: 19؛ كو 4: 15؛ فل 2.

[193]- أف 1: 22، 23؛ 4: 15؛ كو 1: 18، 24.

[194]- أف 5: 32؛ 2كو 11: 2؛ رؤ 21: 2.

[195]- أف 2: 20 – 22؛ 1تي 3: 15؛ 1بط 2: 5؛ رؤ 21: 3.

[196]- 1كو 8: 6؛ أف 2: 18؛ 4: 3 – 6.

[197]- 1كو 12: 13؛ أف 2: 18؛ 4: 4.

[198]- رو 14: 6 – 8؛ 1كو 10: 31؛ كو 3: 17.

[199]- أع 4: 1 وما يلي؛ 5: 17 وما يلي؛ 6: 12 وما يلي؛ 9: 1 وما يلي.

[200]- أع 9: 23 وما يلي؛ 13: 50؛ 14: 2؛ 17: 5، ومواضع أخرى.

[201]- أع 17: 9؛ 18: 17؛ 19: 35 وما يلي؛ 21: 32؛ 23: 17 وما يلي.

[202]- أع 16: 37؛ 22: 25؛ 25: 10؛ 2تي 2: 7.

[203]- رو 13: 1 – 7؛ 1تي 2: 2؛ تي 3: 1؛ 1بط 2: 3 – 17.

[204]- رو 12: 14، 17؛ 13: 10؛ غل 6: 10؛ كو 4: 5؛ 1تس 3: 12؛ 2بط 1: 17.

[205]- رو 17: 17، 19؛ 1كو 1: 2؛ 6: 11؛ أف 26: 27.

[206][206]- غل 5: 19؛ كو 3: 5؛ عب 12: 1، 4.

[207]- غل 5: 22؛ في 4: 8؛ كو 3: 12؛ تي 2: 14، وآيات أخر.

[208]- مت 18: 15 – 22؛ 1تس 5: 14؛ عب 10: 24.

[209]- مت 18: 17؛ 1كو 5: 5؛ 2كو 5 – 10؛ تي 8: 10.

[210]- يؤ 2: 32؛ ميخا 4: 1، 2؛ صف 2: 11؛ إش 25: 6 – 10.

[211]- مت 5: 3 وما يلي؛ لو 12: 32؛ أع 14: 22؛ 1كو 15: 24 – 28؛ 2تس 1: 5؛ ومواضع أخرى.

[212]- أع 1: 2؛ 2: 37؛ غل 1: 17؛ 1كو 9: 5؛ 15: 7؛ رؤ 2: 2؛ 18: 20؛ 21: 14.

[213]- أع 1: 8، 22؛ 2: 32؛ 3: 15، وآيات أخر.

[214]- يو 14: 17؛ 15: 26؛ 16: 17؛ 20: 23.

[215]- مت 16: 19؛ 18: 18؛ 28: 19؛ يو 20: 23.

[216]- مت 18: 18؛ 28: 19؛ يو 20: 23.

[217]- 1كو 15: 10؛ 2كو 11: 23 وما يلي؛ 12: 11.

[218]- قارن رو 16: 9؛ في 2: 25؛ 4: 3؛ كو 4: 10، 11.

[219]- 1كو 12: 28؛ 14: 4؛ أف 4: 11.

[220]- 1تي 3: 8؛ قارن رو 12: 8؛ 1كو 12: 28.

[221]- 1تس 5: 12؛ 1كو 16: 15، 16؛ رو 12: 8؛ عب 13: 7؛ 1بط 5: 1؛ يع 5: 14 – 16؛ 1تي 4: 14؛ 5: 17 – 22؛ تي 1: 5 – 9.

[222]- أع 21: 28؛ أف 4: 11؛ 1بط 5: 2.

[223]- يو 13: 13؛ 1كو 8: 6؛ في 2: 11.

[224]- أع 20: 17؛ قارن أع 20: 28؛ تي 1: 5، 7؛ 1بط 5: 1، 2.

[225]- أع 18: 2، 18؛ رو 16: 3؛ 2تي 4: 19.

[226]- رو 16: 16؛ 1كو 16: 20؛ 2كو 13: 12؛ ومواضع أخرى.

[227]- أع 11: 29؛ 1كو 16: 1؛ 2كو 8: 1؛ 9: 1؛ غل 2: 10.

[228]- غل 1: 8؛ تي 3: 10؛ 2يو 9.

[229]- رو 12: 7، 8؛ كو 3: 16؛ عب 10: 24، 25.

[230]- 1كو 12: 28؛ أف 4: 11؛ 1تي 5: 17؛ 2تي 2: 2.

[231]- 1كو 3: 2؛ عب 5: 12؛ 1بط 2: 2.

[232]- أع 20: 20، 27؛ 2تي 2: 15؛ 4: 2.

[233]- تك 17: 7؛ مت 18: 2، 3؛ 19: 14؛ 21: 16؛ أع 2: 39.

[234]- أف 6: 1؛ كو 3: 20.

[235]- مت 18: 17؛ 1كو 5: 4؛ 2تس 3: 14.

[236]- مت 10: 12؛ يو 21: 15 – 17؛ أع 20: 20؛ عب 13: 17.

[237]- مت 18: 15 – 17؛ رو 1: 16، 17؛ 1كو 5: 2؛ 5: 9 – 13؛ 2كو 2: 5 – 10؛ 2تس 3: 6؛ تي 3: 10؛ 2يو 10؛ رؤ 2: 2.

[238]- مت 5: 42 – 45؛ 6: 1 – 4؛ 25: 34 وما يلي؛ مر 14: 7؛ ومواضع أخرى.

  • عدد الزيارات: 472