Skip to main content

الفصل السادس: الحياة الأبدية

إن غاية جميع الأشياء ومقصدها، شأنهما شأن بداءتها ووجودها، يكتنفهما ضباب لا يستطيع عقل الإنسان أن يخترقه. وكلُّ من يحاول النفاذ إلى هذين السرّين بالتماس النور من العلم، لابد له - عاجلاً أو آجلاً - من الوصول إلى اعتراف أحد علماء العصر الحديث إذ قال: "ما هي غاية التاريخ وما هو مقصده؟ هذا أمر لا أعلمه أنا ولا أحد يعلمه".

ومع ذلك ما تزال تجري مغامرات جديدة للوصول إلى جواب لهذا السؤال المحيِّر، أو محاولة لإزالته واستئصاله من قلب الإنسان. فليس منذ عهدٍ بعيد وقف كثير من العلماء هذا الموقف. إذ كانت المادية هي الزّي الشائع وأعلنت جهاراً أن الموت هو نهاية كل شيء وأن الإيمان بالخلود ضربٌ من السخف. وقد صرّح أحد دعاة المادية علناً بأن الوجود ما وراء القبر هو آخر عدو ينبغي أن يحاربه العلم ويدحره إن أمكن. ومن ثم اعتبر هذا العالم المرئي والمحسوس أنه العالم الوحيد الموجود فعلاً، وما من أحد يستطيع أن يتحدث عن أصل لهذا العالم ولا عن نهاية له، لأنه يهيم في متاهات أزلية. وقد كانت النتيجة العملية لهذا الاعتقاد السطحي والمزعج أنه لا جدوى من كل جهدٍ لاعتبار الأبدية ودعا الإنسان إلى التمتع بهذه الحياة الحسية بكل معانيها: لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت!

وما زال كثيرون اليوم يفكرون ويتصرفون على هذا النحو، ولكن حدث رغم ذلك تغيير في الاتجاه. فعند النظر عن كثب في الأسئلة المتعلقة بالأبدية، لم تَبدُ هذه الأسئلة سخيفة وعميقة، ولا ظهر أن الإجابة عليها سهلة جداً كما كان يُظَنّ أولاً. فإن دراسة الأديان عند جميع الشعوب أبرزت إلى النور حقيقة كون الإيمان بالخلود مشتركاً لدى جميع البشر وموجوداً حتى عند أكثر القبائل البدائية وغير المتحضرة. وقد شهد منذ سنين عالِم هولندي، حاز شهرةً واسعة في حقل المعرفة هذا، أننا نجد الإحساس بالخلود في كلِّ مكان، وبين جميع الشعوب، وعلى كلِّ مستوى من مستويات التطور الحضاري، إلا أن بعض الأفكار الفلسفية قد بلَّدت ذلك الإحساس، أو بعض العوامل الأخرى قد طمسته. وقال ذلك العالم أيضاً إن هذا الإحساس بالخلود مرتبط بالدين في كل مكان. وبالحقيقة أن جميع الشعوب والقبائل تتصرف على أساس اعتقادها أن الإنسان خالدٌ بطبيعته، وأنه لا يعوزنا إثبات الخلود بل علة تفسير الموت. ففي كلّ مكان يسود الشعور بأن الموت هو أمر غير طبيعي. وحسب معتقدات كثير من الشعوب، يُعتبر الموت عملاً من أعمال أرواح معادية للبشر. بكلمة أخرى، يعتقد هؤلاء أنه كان زمن لم يكن فيه للموت وجود وأن البشر تمتعوا حيناً بحياةٍ لم يعكرها شيء ولم يقطع استمرارها شيء.

أما فيما يتعلق بحالة النفوس بعد الموت فإن العالم الوثني يطالعنا بأفكار شتى. فبعض الشعوب تعتقد أن النفوس تبقى مع الأجساد في القبور، وأنها تستمر في شركتها مع الأحياء، وتمارس بعض التأثير عليهم، حتى إنها قد تظهر لهم. ويرى آخرون أن جميع النفوس بعد الموت تتجمع في عالم الموتى الكبير حيث تحيا في وجود شبحيٍّ باهت، أو تستغرق كلياً في حالة اللاوعي والسبات. كذلك تنتشر أيضاً على نطاق واسع الفكرة القائلة بأن النفوس، بعد خلعها الجسد البشري، تدخل للحال في جسدٍ آخر، وتبعاً لما كانت قد فعلته ولكيفية حياتها على الأرض تتخذ جسد شجرة، أو حيوانٍ ما، أو إنسان، أو مخلوق أسمى. أخيراً، تُعبِّر فكرة الخلود أيضاً عن ذاتها في الغالب بالمفهوم القائل بأن الأبرار والأشرار يواجهون بعد الموت مصيرين مختلفين ويستمر وجودهم في مكانين متغايرين. وبمقدار ما تختلف الأفكار في حالة النفوس ومقامها بعد الموت، تختلف أيضاً الطقوس التي تُمارَس عند دفن الموتى، أو إحراق جثثهم، وكذلك الخدمات التي تؤدّى للراحلين. وفي بعض الأحيان تتخذ ديانة الشعوب الوثنية عملياً صورة عبادة الأجداد. وغالباً ما تكون وجهة النظر الوثنية مقصورة على حالة النفوس بعد الموت؛ ولكن يحدث أيضاً في بعض الأحيان أن تكون الرؤية أوسع بحيث تقع الآخرة ضمن نطاقها. ومن ثم يظهر مراراً وتكراراً التوقّع بأن الأبرار سينتصرون يوماً على الأشرار وأن النور سيقهر الظلمة، والقوات السماوية ستدحر القوات التي على الأرض والتي تحت الأرض.

جميع هذه التصورات الوثنية التي قللت المسيحية من شأنها أو أزالتها، عادت للظهور في الأزمنة الحديثة ولقيت لها عدداً من المناصرين. ولم يكن في وسع المادية بعد فترة قصيرة أن تُقنع غير قلة ضئيلة، حتى إن بعضهم جنحوا إلى النقيض المواجه. فالإنسان يبقى على حاله، وقلبه لا يتغير، فلا يستطيع أن يحيا بلا رجاء. والاعتقاد أن النفوس تبقى حية بعد الموت، وأنها تظهر وتتراءى للأحياء، وأنها عند الموت تتخذ جسداً آخر وتُرقِّي ذاتها من خلاله، وذلك تبعاً لسلوكها على الأرض: هذا كله يُرحَّب به الآن في أوساط عديدة باعتباره حكمةً جديدة، بل الحكمة العليا. وفي الواقع أن أرواح الموتى، في بعض الحالات، عادت تُستحضر وتُعبد وتُتَّقى، وها هي عبادة الأرواح - أو الطريقة الأرواحيَّة - تعود لتحلَّ محل عبادة الإله الواحد الحقيقي.

ومن علامات هذا الزمان الحاضر على نحو خاص أن عبادة الأرواح هذه ترتبط بعقيدة التطور ارتباطاً وثيقاً. وقد يتصور المرء، بادئ بدء، أن ارتباطً كهذا غريب. فكيف يُعقل أن يؤمن شخص يقبل تطور الإنسان من الحيوان بوجود للنفس بعد الموت؟ ولكن عند إعادة النظر يتبين أن الارتباط بسيط وطبيعي جداً. فإذا كان للحي أن ينشأ في الماضي مما هو ميت، وللنفس أن تنشأ من المادة، وللإنسان أن يتطور من الحيوان، فلماذا يكون مستحيلاً إذاً أن يُطوِّر الكائن البشري نفسه في المستقبل على نحوٍ أكثر تعقيداً وسمواً، لا على الأرض فقط، بل أيضاً في ما وراء القبر؟ وإذا كانت الحياة قد نشأت من الموت، فمن الممكن أن يؤدي الموت أيضاً إلى مستوى من الحياة أسمى. وإذا كان الحيوان قد صار إنساناً، فقد يكون في وسع الإنسان أيضاً أن يصير ملاكاً. هذه الفكرة بالذات من أفكار التطور بدا أنها جعلت كل شيء ممكناً وفسّرت كل شيء. ولكن ما إن أُنشئ هذا البيت الكرتوني بدقة، وعُلِّلت النفوس بهذا الأمل، حتى أخذ يتزعزع الأساس الذي بُني عليه.

وبالحقيقة أن أنصار نظريتي الفناء والتطور لا يريدون أن يسمعوا شيئاً عن تعليم الكتاب المقدس في موضوع الموت والقبر والدينونة والعقاب. فالموت برأيهم ليس هو عقوبة الخطيئة بل مجرد وسيلة انتقالية إلى حياة أسمى وأفضل. وليس في الموت من حكم إلا بهذا المعنى: أن على كل إنسان أن يتحمل عواقب إرادته وعمله. وهكذا لا يبقى مكانٌ للجحيم ما دام كل إنسان يُدخَل في عملية التطور وعليه بالتالي أن يُخرج منها عند النقطة المناسبة، عاجلاً أو آجلاً، وبعد فترة من الخطأ والضلال تطول أو تقصر. وعليه، فإذا سُئِل هؤلاء الأنصار عن إمكانية وجود ما يُدعى حياة أبدية ،حيث تعمّ الحياة سعادة ومجد لا ينتيهان، يلجأون حالاً إلى الصمت كأمر حتمي. فطالما شنّ هؤلاء حربهم على العقائد المسيحية المختصة بالموت والقبر والدينونة والعقاب، وطالما ابتهجوا بإبطال هذه العقائد على زعمهم، حتى فاتهم أن يطرحوا هذا السؤال: ألا يسقط أيضاً، بسقوط هذه العقائد، الرجاء بحياة أبدية وبسعادة لا تنتهي البتة؟ وحالما يؤتى بهذا السؤال، يتوضح أن الرجاء بحياة أبدية قد فقد بطريقة ما في حمّى المعركة. فبالسكين التي استُخدمت لاستئصال كل خوف من قلب الإنسان، استؤصل أيضاً كل رجاء.

والثابت أنه لو كان التطور هو الناموس الكلي الشمول للعالم والبشرية، حاضراً ومستقبلاً، لجُرِّد الرجاء بحياة أبدية من كل أساس متين. والفكرة القائلة بأن كل شيء في النهاية سوف يصل إلى غاية مرضية، هذه الفكرة بحد ذاتها، تبقى تخميناً بتخمين؛ وهي فكرة لا تلقى أي سند - لا في الكتاب المقدس ولا في الضمير، لا في الطبيعة ولا في التاريخ. ولكن لنفترض لحظة أن هذا التخمين كان صحيحاً، فعندئذٍ يكون لدينا وضعٌ لا يمكن أن يستمر على حاله البتة. ذلك أن ناموس الارتقاء الذي كان سارياً من قبل والذي أدى إلى هذا الوضع الجديد، لابد أن يظل سارياً حتى يجعل الكائن البشري يدخل حالةً مختلفة. فليس في أي مكان من نظرية التطور نقطة استراحة، ولا نهاية ولا غاية. أما السعادة التي ستأتي بها، حسب توقّع كثيرين من أنصارها، فهي دائماً في طور الصيرورة. وإذاً، فلا يمكن أن يكون ثمة شيء مما يدعى حياة أبدية سعيدة. ومن هنا أن بعضهم، وقد اقتنعوا بعدم وجود استقرار أو استراحة، عادوا فاستدعوا من جديد تلك العقيدة الوثنية القديمة القائلة بأنه سيكون لكل شيء تكراره الدائم أبداً، وهم الآن يقدمون هذه الفكرة باعتبارها الحلّ لمعضلة العالم. وإذا كان العالم الموجود الآن قد بلغ ذروة تطوره، فلابد أن ينهار أيضاً ليبدأ كل شيء من جديد. فبعد المدّ جزر، والجزر لابد أن يسبب المدّ من جديد. وبعد التطور يأتي التقهقر، الأمر الذي يؤدي إلى التطور من جديد. وهكذا دواليك دون توقف البتة. فليس ثمة ما يسمى أبدية، بل هنالك فقط الزمان. هناك فقط حركة، وليس من راحة. هناك فقط صيرورة، وليس من كينونة. هناك فقط المخلوق، وليس من خالقٍ كائن وكان ويكون.

هذا كلُّه يؤيد ما تقوله الكلمة المقدسة من أن الذين هم بلا مسيح، وأجنبيون عن رعوية الشعب القديم، وغرباء عن عهود الوعد الإلهي، ليس لهم رجاء وهم في العالم بلا إله (أف 2: 12). لهم أن يُخمنوا وأن يأملوا، هذا صحيح. وبالحقيقة أنهم لا يكفُّون عن التخمين والأمل، ولكن ليس لديهم أساس راسخ لآمالهم. فإنهم يفتقرون إلى يقينية الرجاء المسيحي.

ولكن ما إن نلتفت نحو الشعب القديم حتى يُفضي بنا السبيل إلى مفهوم مختلف جداً. فالعهد القديم لا يتكلم البتة عما يُسمى خلود النفس، ولا يقدم ولو بيّنة واحدة على هذا الأمر، إلا أنه يعزز فكراً في الحياة والموت لا يمكن العثور عليها في مكان آخر وتلقي على المستقبل ضوءاً مختلفاً جداً.

ولا تشير البتة إلى الموت باعتباره معادلاً للفناء أو عدم الوجود. فأن يموت الإنسان ويكون ميتاً هو أمرٌ يشير إليه الكتاب المقدس باعتباره نقيضاً للحياة الكاملة والغنية والتامة التي كانت في الأصل من نصيب الإنسان في حال الشركة مع الله هنا على الأرض. وعليه، فعندما يموت الإنسان لا يتأثر جسده فقط بل نفسُه أيضاً. فالإنسان بجملته يموت، ومن ثم يُوجَد في حال الموت جسداً ونفساً معاً؛ ولا يعود ينتمي إلى الأرض بل يصير من المقيمين في عالم الموتى (شيئول أو الهاوية)، وهو مكانٌ اعتقد الأقدمون أنه في أعماق الأرض، وتحت المياه وأسس الجبال.[239] صحيحٌ أن المتوفين ما يزال لهم وجودٌ ما هنالك، ولكن هذا الوجود لا يعود يستحق أن يسمى حياة، وهو أشبه بعدم الوجود.[240] إنهم ضعفاء وعاجزون (مز 88: 5؛ إش 14: 10)، ويسكنون في أرض السكوت،[241] وفي أرض الظلام (أي 10: 20، 21) والفساد (أي 26: 6؛ 28: 22). وكل ما يحملُّ اسم الحياة ينقطع هناك؛ كما أن الله والناس لا يُرَون هناك بعد (إش 38: 11)؛ والرب لا يُسَبَّح ويُحمَد هناك بعد (مز 6: 5؛ 115: 17)، وليس هنالك من يُحدِّث بفضائله ويُعرِّف عجائبه (مز 88: 11 - 13). وليس للأموات معرفة، ولا حكمة ولا علم، وهم لا يعملون عملاً ما، وليس لهم نصيب في جميع ما يجري تحت الشمس.[242] والهاوية هي أرض النسيان (مز 88: 13). هكذا كان قديسو العهد القديم ينظرون إلى الموت: باعتباره طرحاً كلياً خارج دائرة الحياة والنور. وفي مقابل هذا كُلَّه، اعتُبرت الحياة ملء السعادة والخلاص. فلم تكن الحياة تُفهَم بمعنىً فلسفي مُطلق كنوعٍ من أنواع الوجود المجرد. إذ اشتملت الحياة، من حيث طبيعتها بالذات، على ملء البركة، وذلك في الشركة مع الله قبل كلِّ شيء، ولكن بالتالي أيضاً في الشركة مع شعبه والتمتع بنصيبٍ في الأرض التي أعطاها الرب لشعبه. فالحياة إذ ذاك تتضمن وجود الإنسان الكامل والغني في وحدة نفسه وجسده، وفي اتحادٍ مع الله وانسجامٍ مع المحيط، كما تتضمن أيضاً البركة والمجد، الفضيلة والسعادة، السلام والفرح. ولو ظلَّ الإنسان مطيعاً لوصية الله، لكان قد ذاق هذه الحياة الغنية ولم يرَ الموت (تك 2: 17)، ولا حصل انقسامٌ بين جسده ونفسه، ولا انقطعت الصلة التي كانت تربطه بالله، وبالجنس البشري، وبالأرض. ولو كان ذلك كذلك، لظلَّ الإنسان حياً إلى الأبد، في الشركة الغنية التي وُضِع فيها منذ البدء؛ ولبقي خالداً كإنسان في وحدة كينونته وملئها.

وإذا كان الموت قد دخل العالم من جراء الخطية، فإن الله مع ذلك جدّد بالنعمة الشركة مع الإنسان وأقام عهده مع الشعب القديم. في ذلك العهد أُعيد تأسيس تلك الشركة التامة من حيث المبدأ. وقد اشتمل ذلك العهد، كما وُجد في العهد القديم، على الشركة مع الله، ولكن بالتالي أيضاً على الشركة مع شعبه وأرضه. أما الشركة مع الله فهي البركة الأولى والأهم من بركات العهد، ومن دونها لا يمكن التحدث عن الحياة فعلاً. وقد التزم الله عهده مع إبراهيم قائلاً: أكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك (تك 17: 7). ثم أُخرج بني إسرائيل من مصر، وفي سيناء دخل معهم في عهدٍ مُبرَم.[243]

ومن ثم لم يكن للشعب عموماً ولكلِّ واحدٍ منه بمفرده أي فرح إلا في الشركة مع الرب. أما الأشرار فلم يفهموا هذا، ونقضوا العهد، وطلبوا الحياة والسلام بطرقهم الخاصة. فقد تركوا ينبوع المياه الحية وحفروا لأنفسهم آباراً، آباراً مشققة لا تضبط ماءً (إر 2: 13). وأما القديسون فقد عرفوا الحياة الفاضلة وعبّروا عنها في صلواتهم وتسابيحهم. فالرب نصيب قسمتهم، وصخرتهم وحصنهم، وترسهم وملجأهم (مز 16: 5؛ 18: 2). ورحمته أفضل من الحياة (مز 63: 3). وهو خيرهم الأسمى الذي ليس سواه في السماء ولا على الأرض فيُرتجى (مز 73: 25). حتى لو تخلى عنهم الجميع، وطاردهم الأعداء وقهروهم، فإنهم يبتهجون بالرب ويفرحون بإله خلاصهم، ويطفرون فرحاً (حب 3: 18). وبهذه الشركة مع الله يمكّنوا من التغلب على كلِّ ما في الحياة الأرضية من شقاء، وأيضاً على رهبة الموت وخوف القبر وظلمة الهاوية. وربما أصاب الأشرار نجاحاً وقتياً، لكنهم في آخرتهم يهلكون (مز 73: 18 - 20). فطريق هؤلاء تؤدي بهم إلى الموت رأساً (أم 8: 36؛ 11: 19)، أما القديسون فمخافة الرب عندهم ينبوع حياة (أم 8: 35؛ 14: 27). وغالباً ما ينجّيهم الرب في هذه الحياة، إلا أن له أيضاً سلطاناً على عالم الموتى، فهو بروحه حاضر هناك أيضاً (مز 139: 7، 8). ولا يخفى عليه تعالى أيُّ شيء، ولو كان في قلوب بني البشر.[244] وهو يُميت ويحيي؛ وله القدرة على الهبوط إلى الهاوية والصعود منها أيضاً.[245] وقد أصعد أخنوخ وإيليا إليه دون أن يموتا (تك 5: 24؛ 2مل 2: 11)، وهو القادر أن يُحيي الموتى.[246] بل إنه قادر أن يبيد الموت ويدحره كلياً بإقامة الذين ماتوا.[247]

ولكن مؤمني العهد القديم عاشوا غالباً في جوٍّ فكريٍّ مختلف، وإن كان حقاً أنهم أدركوا - إلى مدى يطول أو يقصر - أن الشركة مع الرب لا يُمكن أن ينقضها، ولا أن يقطعها لو وقتياً، الموتُ والنـزولُ إلى القبر والبقاء في حال الموت. قد اختلفوا عنّا كثيراً في التفكير بالنسبة إلى هذه الأمور. فعندما نفكر نحن في المستقبل، نفكر على أكثر تقدير في موتنا ورفع نفوسنا إلى السماء. ولكن شعب العهد القديم كانت لديهم عن الحياة فكرةٌ أغنى كثيراً مما لدينا. كان عندهم الوعي بالشركة مع الله مرتبطاً بالشركة مع شعبه وأرضه. والحياة الحقيقية الكاملة كانت الانتصار على كل انفصال، إذ تركزت في استعادة وتثبيت تلك الشركة الغنية التي كان فيها الإنسان عند خلقه أصلاً، وقد أبرم الله العهد لا مع شخص واحد، بل مع شعبه وأيضاً مع الأرض التي أعطاهم إياها ميراثاً. من ثم فأن الموت يُدحر كلياً، والحياة بكل ملئها تبرز إلى النور، عندما يأتي الرب نفسه ليسكن بين شعبه، ويطهرهم من كل إثم، وينصرهم على جميع الأعداء، ويُسكنهم آمنين في أرض ازدهار وسلام. ومن ثم كان نادراً، إلى حد ما، أن تشخص عين الإيمان عند قديسي العهد القديم إلى نهاية حياته الخاصة. فإن نظرة المؤمن كقاعدة عامة، اشتملت على ما هو أكثر: إذ شملت أيضاً مستقبل بلده وشعبه. فقد كان يشعر دائماً بأنه جزء من الكل، فردٌ من أفراد الأسرة والسلالة، والسبط والأمة، والأمة التي أبرم الله عهده معها، والتي لذلك لا يمكن أن يتخلى عنها أو يبيدها. وقد وجد مؤمن العهد القديم في مستقبل شعبه ضماناً لمستقبله هو: فإن خلوده وحياته الأبدية مضمونتان بنصيبه في مُلك الله. إلى لحيظة غضبه حياة في رضاه وإذا دام غضب الله يوماً، فإن حياة كاملة في رضاه ستعقب. وربما يوحي الحاضر أن الله قد نسي شعبه، وأن حقهم قد فات إلههم، ولكن الله سوف يعود بعد التأديب ويقيم عهداً جديداً لا يُنقَض البتة. فإن حنين قديسي الشعب القديم انصبّ على ذلك المستقبل المجيد بكل أشواق النفس، إذ كان لدى ذلك الشعب رجاء عظيم وقد كان الوعد بالمسيح الآتي هو جوهر توقعاتهم وآمالهم.

تلك التوقعات كان لها أرضية وأساس في العهد الذي أقامه الله مع شعبه. وقد نصّت شريعة ذلك العهد أن الشعب، إذا عصوا صوت الرب ومضوا يسلكون في طرقهم الخاصة، سيعاقبهم الرب عقاباً قاسياً ويرسل عليهم جميع أنواع الأوبئة. فبالذات، لأن الله اختار قديسي ذلك الشعب من بين جميع شعوب الأرض، لذلك يعاقبهم على جميع ذنوبهم (عا 3: 2). ولكن هذا التأديب سيكون وقتياً؛ فبعد اكتماله يعود الله فيتراءف على شعبه ويجعله يشترك في خلاصه.[248]

فإن الرب لا يمكن أن ينسى عهده (لا 26: 42). إنه يؤدب شعبه إلى حين، ويتركه لحيظة فقط.[249] وهو يحب شعبه محبة أبدية (مي 7: 19؛ إر 31: 3، 20)، وعهد سلامه لن يتزعزع (إش 54: 10). فهو في التزام تجاه اسمه، ومجده بين الأمم، أن يفدي شعبه عند انتهاء فترة العقاب وأن ينصره على جميع أعدائه.[250]

وعلى هذا، فإن "يوم الرب" آتٍ، وهو عظيم ورهيب،[251] وفيه سيرحم الله شعبه ويصب غصبه على أعدائه. والمملكة التي سيقيمها في ذلك الوقت لن تبرز إلى الوجود من طريق التطور التدريجي عبر سلطة الشعب الأدبية، بل بالأحرى ستأتي من فوق، من السماء، وتنـزل إلى الأرض على يد مسيح الرب. والوعد بهذا المسيح يعود إلى أقدم الأزمنة في تاريخ العبرانيين والجنس البشري كلِّه. ففي الفردوس أُعلن النـزاع بين نسل المرأة ونسل الحية، وأُعطي الوعد بانتصار الأول على الثاني (تك 3: 15) وقد وُعِد إبراهيم بأنه فيه تتبارك جميع شعوب الأرض (تك 13: 3؛ 26: 4). ويهوذا ممدوح أكثر من إخوته لأن منه سيأتي شيلون (صاحب الأمر) الذي له ستخضع جميع الشعوب (تك 49: 10).

ولكن هذا الوعد يتخذ صورة مجسمة على نحوٍ خاص عندما تعين داود ملكاً على كل إسرائيل وقيل له إن بيته سيكون ثابتاً إلى الأبد (2صم 7: 16؛ 23: 5). ومن ثم تقدم النبوة هذا الوعد بتفصيل أكثر. فالرئيس الذي بواسطته سوف يوطِّد الله مملكته سيولد من بيت داود الملكي في بيت لحم (مي 5: 1، 2). ولسوف ينبت كقضيب من الجذع (إش 11: 1، 2)، وكغصنٍ من داود.[252] وسوف ينشأ في ظروف الفقر (إش 7: 14 - 17)، ويكون وديعاً ومتواضعاً، راكباً على جحش ابن آتان (زك 9: 9)، بصفته عبد الرب المتألم سوف يحمل آثام شعبه (إش 53). ولكن ابن داود، هذا المتواضع، هو في الوقت عينه ربّ داود (مز 110: 1؛ مت 22: 43)، والمسيح أو الممسوح، ملك إسرائيل الحقيقي، من يجمع إلى جانب جلاله الملوكي وظيفتي النبي والكاهن.[253] إنه الحاكم الذي ستُخضَع له جميع الشعوب (تك 49: 10؛ مز 2: 12)، ويدعى عمانوئيل، والرب برُّنا، عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام.[254]

والمملكة التي سيأتي المسيح ليؤسسها هي مملكة برّ وسلام، وسوف تجلب معها كنـزاً من البركات الروحية والمادية. والمزامير والأنبياء زاخرة بمجد تلك المملكة المسيانية. فإن الرب، على يد مسيحه، يجعل شعبه يرجعون من السبي، ومع هذه العودة سيهبهم في الوقت عينه توبة القلب الحقيقية. صحيح أنهم لن يرجعوا جميعاً فيتحولوا إلى الرب، وسيهلك كثيرون منهم في الدينونة التي ستأتي على شعبه أيضاً.[255] إلا أن بقيّةً منهم ستُحفظ حسب اختيار النعمة.[256] هذه البقية تكون شعباً مقدَّساً للرب، وهو يكون أميناً نحوها إلى الأبد.[257] وسيقيم مع هذه البقية عهداً جديداً، يغفر لهم خطاياهم، ويطهرهم من كل نجاستهم، ويعطيهم قلباً جديداً، ويكتب شريعته في قلوبهم، ويسكب روحه عليهم ويسكن فيما بينهم.[258]

ولسوف تصحب هذه المملكة جميع أنواع البركات، لا الروحية فقط بل المادية أيضاً. ولن تكون حرب فيما بعد، فالسيوف تُحوَّل سكك فلاحة، والرماح مناجل، ويجلس الجميع آمنين كلٍّ تحت كرمته وتينته. وتصير الأرض مخصبة ومنتجة على نحوٍ مذهل؛ وتُعطى الحيوانات طبعاً جديداً غير الذي كان لها من قبل؛ وتجدَّد السماوات والأرض؛ ولن يكون مرضٌ بعد، ولا حزنٌ ولا بكاء، ويُبتلع الموت في غمرة الغلبة. أما قديسو العهد القديم الذين ماتوا، فسيقامون من الموت ليشتركوا أيضاً في البركات (إش 26: 19؛ دا 12: 2)؛ والشعوب الوثنية أيضاً ستعترف في النهاية أن الرب هو الله، وستفتخر به.[259] وشعب القديسين سيولَّى السلطان على جميع ممالك الأرض (دا 7: 14، 27)، ويملك الملك الممسوح، الآتي من بيت داود، من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض.[260]

جميع هذه النبوءات الواردة في العهد القديم لقيت بداءات إتمامها لما ظهر المسيح في الجسد؛ إذ في شخصه ومن خلال عمله تأسس على الأرض ملكوت السماء ذاك الذي طال انتظاره عبر العصور. وبدمه ثبت العهد الجديد والأفضل الذي سوف يقيمه الله مع شعبه في الأيام الأخيرة. وفي يوم الخمسين أرسل روح النعمة والتضرعات ليسكن في الكنيسة ويرشدها إلى جميع الحقّ ويكملها إلى النهاية. إلا أن ما أجملته نبوة العهد القديم في صورة واحدة كبيرة، تفرّق فيما بعد إلى أجزاء شتى. فقد برز إلى الوجود شيء بعد الآخر من قبيل هذه النبوة. وهي لن تتحقق في لحظة واحدة أو يومٍ واحد، بل على مرّ الزمن وفي فترات متعاقبة تمت على أجزاء. وبمزيد من التحديد: يعلّمنا العهد الجديد أن مجيء المسيح الذي توقَّعه الأنبياء ينبغي أن نضع فاصلاً بين مجيء أول ومجيء ثانٍ. فبحسب النبوة، ينبغي أن يأتي المسيح لغرض الفداء والدينونة - فداء شعبه ودينونة أعدائه. ولكن عند إتمام هذه النبوة يتبيّن واضحاً أن كلاًّ من هذين الغرضين يقتضي مجيئاً خاصاً من المسيح.

ومهما يكن، فإن المسيح، في أثناء إقامته بالجسد على الأرض، عبَّر مراراً وتكراراً عن حقيقة كونه قد جاء ليطلب ويخلِّص ما قد هلك (لو 19: 10)، وليخدم ويبذل نفسه فديةً عن كثيرين (مت 20: 28)، وليس ليدين العالم بل ليوفِّر له الخلاص.[261] ولكن المسيح، في الوقت عينه، يقول بوضوح وصراحة إنه من طريق النور الذي بنشره يأتي بدينونة وانقسام إلى العالم (يو 3: 19؛ 9: 39) وأنه سوف يعود يوماً ليدين الأحياء والأموات (يو 5: 22، 27 - 29). صحيح أنه ينبغي أن يصلب ويموت، ولكنه بعد ذلك سيقوم من الموت ثم يصعد راجعاً إلى السماء (مت 16: 21؛ يو 6: 62) لكي يأتي في ما بعد ثانيةً ليجمع أمامه كل الشعوب ويجازي كل واحدٍ حسب عمله.[262]

وهكذا يوجد اختلاف كبير بين هذين المجيئين للسيد. ففي المجيء الأول ظهر المسيح في ضعف الجسد، في صورة عبد، ليتألم ويموت عن خطايا شعبه (في 2: 6 - 8)؛ وفي المجيء الثاني سيُظهر ذاته للجميع في قوةٍ ومجد بصفته ملكاً خرج غالباً ولكي يغلب.[263] إلا أن مجيئيّ الرب هذين، مع ذلك، مترابطان على نحوٍ وثيق. فالأول ممهِّد للثاني، لأنه - بحسب مفهوم الكتاب المقدس وقانون ملكوت السماء الأساسي - لا يمكن لغير الآلام أن تؤدي إلى المجد، ولا لغير الصليب أن يُفضي إلى التاج، ولا لغير الاتضاع أن يؤدي إلى الارتفاع (لو 24: 26).

في المجيء الأول وضع المسيح الأساس، وفي الثاني سيتم بناء الله؛ فالأول هو بداية عمله وسيطاً، والثاني نهاية هذا العمل. فلأن المسيح مخلّص كامل لم يأتِ فقط بإمكانية الخلاص بل أيضاً بحقيقته الواقعية، فلا يمكن ولا يجوز أن يستريح قبل أن ينجز فداء خاصته بدمه، وتجديدهم بروحه، والإتيان بهم إلى حيث هو، ليكونوا هناك معانين لمجده وشركاء فيه (يو 14: 3؛ 17: 24). ولابد أن يُعطي الحياة الأبدية للذين أعطاه الآب إياهم (يو 6: 39؛ 10: 28)، وأن يحضر كنيسته - وهي بلا دنس ولا غضن ولا شيء من مثل ذلك - إلى الآب (أف 5: 27)، وأن يسلّم المُلك له بعد إتمامه وإكماله كلياً (1كو 15: 23 - 28).

ولما كان كل من المجيء الأول والثاني مترابطين هذا الترابط الوثيق، ولأنه لا يمكن التفكير باحتمال وقوع الأول دون الثاني، فإن الكلمة المقدسة لا تشدّد كثيراً على طول الزمان الواجب أن ينقضي بين الاثنين، ولا على قصره. فالارتباط الوقتي هو في الكتاب المقدس أقل من الارتباط الماديّ كثيراً من حيث الأهمية. والزمن المعترض بين المجيئين غالباً ما يقدَّم بوصفه قصيراً جداً. فمؤمنو العهد الجديد يعيشون في أواخر الدهور (1كو 10: 11)، والأزمنة الأخيرة (1بط 1: 20)، والساعة الأخيرة (1يو 2: 18). وليس لهم إلا زمان يسير يتألمون فيه (1بط 1: 6؛ 5: 10)، لأن اليوم يقترب (عب 10: 25، 37). والمستقبل بات قريباً (يع 5: 8)، والوقت قريب (رؤ 1: 3؛ 22: 10)، والديّان واقفٌ عند الباب (يع 5: 9)، والمسيح آتٍ سريعاً (رؤ 3: 11؛ 22: 7، 20). ولم يعدَّه بولس أمراً بعيد الاحتمال أن يحيا هو ومعاصروه ليشهدوا رجوع المسيح (1تس 4: 15؛ 1كو 15: 51).

كلمة الله المقدسة في ذكر هذه الأشياء، لا تقدِّم لنا أية تعليمات محددة بخصوص هذه الفترة الفاصلة، إذ تقول لنا صراحةً في موضع آخر إن اليوم والساعة مخفيان عن البشر والملائكة، وإن الآب جعلهما في سلطانه (مت 24: 36؛ أع 1: 7). فكل محاولة حسابية لتحديد ساعة بدء الأمور الأخيرة إنما هي عقيمة وغير مجدية (أع 1: 7)، لأن يوم الرب سيأتي كلصّ في الليل، في ساعةٍ لا يعلمها البشر.[264] وفي الواقع أن ظهور المسيح لن يتم قبل إكمال البشارة بالملكوت في جميع المسكونة (مت 24: 14) حتى يكون ملكوت السماوات قد خمَّر الكل (مت 13: 33)، وظهور إنسان الخطية علناً (2تس 2: 2 وما يلي). فإن عند الرب معياراً آخر لقياس الوقت يختلف عما لدينا: لأن يوماً واحداً عنده كألف سنة، وألف سنة كيومٍ واحد. وتأنيه الذي يبدو كأنه إرجاء إنما هو تأن من رحمته، لأنه لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة (2بط 3: 8، 9).

لكن ما تريد الكلمة المقدسة أن تعلِّمنا إياه بهذه الأقوال المتنوعة بخصوص الفترة الفاصلة بين مجيء المسيح الأول والثاني، فهو أن كلا المجيئين مرتبط بالآخر ارتباطاً وثيقاً. فالعمل الذي أعطاه الآب للمسيح هو عمل واحد؛ وهذا العمل يمتدّ عبر جميع العصور ويشتمل على تاريخ البشرية بكامله. فقد بُدئ به في الأزل، واستمر عبر الزمن؛ وسوف يكتمل أيضاً في الأبد. وما الفترة الوجيزة التي عاشها المسيح في الجسد على الأرض إلا جزء يسير جداً من الأجيال التي تعيِّن سيداً وملكاً عليها. وما أنجزه خلال تلك الفترة بآلامه وموته، طبقه عملياً في الكنيسة، بواسطة كلمته وروحه، منذ وقت صعوده، وسوف يتمّه في مجيئه الثاني. وبالحقيقة أنه صعد إلى السماء ليكون أقرب ما يكون إلى خاصته، ليكون على الدوام مرتبطاً بهم أوثق ارتباط، ولكي يقترب منهم أكثر فأكثر كل حين. حتى إن الزمن الذي ينصرم بين مجيئي المسيح الأول والثاني إنما هو في الواقع مجيء مستمر من قبل المسيح إلى العالم.

وكما أعلن عن مجيئه في الجسد بكل أنواع الإعلانات والأفعال، في أيام العهد القديم كذلك هو الآن عاكف على الإعداد لرجوعه كي يدين ويميز، دينونة وفصلاً يحدثهما بكلمته وروحه في عالم البشر. فإن مجيء المسيح الذي جُعِل مؤمنو العهد الجديد شهوداً له هو مجيء مستمر. ذلك أنهم يرون ابن الإنسان جالساً عن يمين الله القوي وآتياً على سحاب السماء (مت 26: 64). وهم يرون مجيئه في الكرازة بكلمته وفي عمل روحه (يو 14: 18 - 20؛ 16: 16، 19 وما يلي). فليس صحيحاً أن نقول إن المسيح جاء مرة واحدة إلى الأرض بل بالأحرى إنه يجيء باستمرار، بحيث إنه الآتي والذي سيأتي (عب 10: 37؛ رؤ 1: 4، 8).

لأجل هذه الأسباب يتطلّع مؤمنو العهد الجديد بشوقٍ عظيم إلى رجوع المسيح. مثل ما كان قديسو العهد القديم كذلك أولئك في العهد الجديد كلما فكروا وتكلموا عن نهايتهم الشخصية بالموت. إذ كانت جميع آمالهم موجهة نحو رجوع المسيح وتحقيق ملكوت الله. وقد كانوا مدركين جداً لحقيقة كونهم يحيون في يوم الإتمام، أي في ذلك اليوم الذي صوّرته نبوة العهد القديم بأنه يوم الرب العظيم الشهير، والذي يمتدّ من صعود المسيح إلى رجوعه. وما اقتراب ذلك اليوم، كما فكروا فيه، إلا تعبيرٌ آخر عن اليقينية المطلقة التي بها انتظروه. فإن إيمانهم القوي هو أساس رجائهم غير المتزعزع.

تحدّث المسيح، في أثناء إقامته مع تلاميذه، كثيراً عن الإيمان والمحبة وقليلاً عن الرجاء، لأن ما كان يهم آنذاك هو أن يتركز انتباههم على شخصه وعمله. لكنه تفوّه بوعود كثيرة تختص بقيامته وصعوده، وإرساله الروح القدس، ورجوعه في المجد. وبآلام المسيح وموته تعرّضت آمال التلاميذ للخيبة واليأس حيناً، لكنهم بقيامته ولدوا ثانيةً لرجاء حيّ (1بط 1: 3، 21). إذ ذاك صار المسيح نفسه هو رجاءهم، أي غرض كلِّ آمالهم ومحتواها (1تي 1: 1). فإنه عندما يعود يتمم جميع وعوده ويمنح المعترفين به حقاً الخلاص الكامل والحياة الأبدية. ولذلك يحيا المؤمنون به على الرجاء، وينتظرون دائماً الرجاء المبارك الممهِّد لظهور مجد الرب يسوع المسيح - إلههم ومخلّصهم العظيم (تي 2: 13). وهذا الرجاء تشترك فيه الخليقة التي تئن كلها؛ فإذ هي مُخضَعة للبُطل، تتوق أيضاً لأن تُحرَّر من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله (رو 8: 20، 21).

ولكن مع أن اهتمام مؤمني العهد الجديد منصبّ فعلاً على رجوع المسيح، يقدّم العهد الجديد بعض التفاصيل التي تُلقي ضوءاً ما على مكانة الموت في تقديرهم. وبحسب تعليم الكنيسة الكاثوليكية، أن قلّة من القديسين والشهداء - صورة نسبية - يستطيعون بأعمالهم الصالحة أن يحققوا على الأرض ما يوفر لهم عند الموت أن ينتقلوا مباشرةً إلى السماء. وتبعاً لهذا الرأي، فإن أغلبية المؤمنين الساحقة ينبغي أن يقضوا بعد الموت فترةً في المطهر، تقصر أو تطول، لكي يؤدوا هنالك العقوبات الزمنية التي استحقوها بخطاياهم والتي لم يستطيعوا إكمال تأديتها في أثناء حياتهم على الأرض.

وهكذا يصوِّر المطهر لا مكاناً للتوبة تعطى فيه فرصة الخلاص لغير المؤمنين والأثمة، لأن غير المؤمنين والأثمة يذهبون رأساً إلى الجحيم. وليس هو أيضاً مكاناً للتطهير أو التقديس، لأن المؤمنين الذين يذهبون إليه لا يستطيعون أن يحزروا فضائل أو استحقاقات جديدة هنالك. بل إنه بالأحرى مكان عقابٍ فقط وليس إلا، فيه يخضع المؤمنون، المباركون من جهة والذين هم نفوس مسكينة من جهة أخرى، لعقاب النار المادية الذي يدوم إلى أن تستوفى عقوباتهم الزمنية. وإذاً، ففضلاً عن الكنيسة المجاهدة على الأرض، والكنيسة الظافرة في السماء توجد - بحسب رأي الكنيسة الكاثوليكية - كنيسة خاملة أو متألمة في المطهر. ويقولون بأن المرء يمكن أن يساعد الذين في المطهر بواسطة الصلوات والأعمال الصالحة والتقشف، وخصوصاً بإقامة الجنازات وتوزيع القربان. وما دام المقيمون في المطهر قد سبقوا المؤمنين وصاروا أقرب إلى الخلاص، فإنهم - مثلهم مثل الملائكة والقديسين الذين في السماء - ممّن يمكن توجيه الدعاء إليهم طلباً للمساعدة والمعونة.

ولأن كثيرين لم يفهموا هذه العقيدة الكاثوليكية حقّ الفهم، فغالباً ما عظّموا أمرها بإسراف واستغلوها لمناصرة استمرار التطهير للمؤمنين بعد الموت. فلم يقدر هؤلاء أن يقبلوا أن المؤمنين الذين ظلوا حتى ساعة موتهم غير كاملين ومعرَّضين لكل شرّ يحرَّرون عند موتهم حالاً من كلّ خطية ويصيرون أهلاً للسماء. وقد سلك آخرون سبيلاً أبعد من هذا أيضاً، إذ طبقوا فكرة التطور على الحياة الآخرة أيضاً، وهم يصوّرون المسألة على هذا النحو: أن جميع الناس دون استثناء، يستمرون في ما وراء القبر بالسير على الخط الذي بدأوه على الأرض، وربما كانوا قد بدأوا في حياة سابقة لحياتهم على الأرض. وعليه لا يكون الموت انقطاعاً لهذه الحياة وعقوبة على الخطية، بل مجرد الانتقال من أحد أنواع الوجود إلى نوعٍ آخر،كالذي يحصل مثلاً عند تحوّل اليرقة إلى فراشة. ويذهبون إلى أن هذا التطور سوف يستمر إلى أن يُوضَع كلُّ شيء في نصابه الصحيح أو يعود إلى اللا شيء.

غير أن كلمة الله المقدسة لا تعرف شيئاً من جميع هذه التعاليم العديمة الرجاء والعزاء. فهي تبيّن في كل موضع منها أن الأرض هي المكان الوحيد للتوبة والتطهير، ولا تذكر في أي موضع أي شيء عن أي تبشير بالإنجيل في ما وراء القبر، لا في (متى 12: 32)، ولا في (1بطرس 3: 18 - 22)، ولا في (1بطرس 4: 6). فالموت، بوصفه عقوبة الخطية، يمثل انقطاعاً كلياً للحياة على الأرض هنا؛ وعند الدينونة الأخيرة لا تولى الفترة الفاصلة أي اعتبار. فالدينونة معنيّة فقط بما حدث في الجسد، خيراً كان أو شرّاً (2كو 5: 10). ولكن الذين يؤمنون بالمسيح لا يعود الموت والدينونة كلاهما يشكّلان لهم أي خوف. لأنه بالشركة مع الله، بربنا يسوع المسيح، لا يعود الموت موتاً بعد. والعهد الذي يقيمه الله مع خاصته بالنعمة، يضمن الخلاص الكامل والحياة الأبدية. فالله ليس إله أموات، بل إله أحياء (مت 22: 32). وكل من آمن بالمسيح ولو مات فسيحيا؛ ومن كان حياً وآمن به فلن يموت إلى الأبد (يو 11: 25، 26)، ولن يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة (يو 5: 24).

ومن هنا أن المؤمنين يُؤخذون عند موتهم فوراً ليكونوا بأرواحهم مع المسيح في السماء. فلو كان التبرير والتقديس من عمل الإنسان، وقد أنجزهما بقوته هو أو بقوة نعمةٍ فائقة سُكِبَت فيه، لما كان ممكناً فهم هذا - أعني إمكانية إنجازه لهذا العمل خلال عمره القصير في هذه الحياة. ومن ثم ينبغي أن الذين يفكرون هكذا يشددون على فكرة وجود مطهرٍ واستمرارٍ للتطهير بعد هذه الحياة. غير أن المسيح قد أنجز كلَّ شيءٍ بخاصته. فهو لم يحمل عنهم عقوبة خطاياهم فقط، ولم يكسب لهم الغفران الكامل لها جميعاً وحسب، بل أتمّ أيضاً الناموس نيابةً عنهم وأنار لهم الحياة والخلود. فمن يؤمن يُنقَذ حالاً من غضب الله ويصبح وارثاً للحياة الأبدية. في تلك اللحظة بالذات يصير أهلاً للسماء. وإذا تُرِك على الأرض، فليس ذلك لأنه ينبغي له بعد أن يكمِّل نفسه ويكسب الحياة الأبدية بأعماله؛ بل بالأحرى لأجل الإخوة - لكي يسلكوا في أعمال صالحة أعدها الله (في 1: 24؛ أف 2: 10). حتى أن الآلام التي يجب أن يحتملها مثل هذا الشخص على الأرض غالباً، ليست عقاباً ولا قصاصاً، بل هي تأديب أبوي يؤول إلى البنيان (عب 12: 5 - 11). إنه إكمال لما نقص من شدائد المسيح في جسد المؤمن لأجل جسد المسيح الذي هو الكنيسة، لبنائها وترسيخها في الحقّ (كو 1: 24).

وإذاً، فعلى أساس عمل المسيح الكامل، تنفتح السماء للمؤمنين حالاً عند موتهم وليس عليهم أن يكابدوا بعد أية عقوبات في أي مطهر، لأن المسيح قد أكمل كلَّ شيء وأنجز العمل تماماً. وبحسب ما جاء في الخبر المذكور في (لوقا 16)، فإن لعازر المسكين حُمِل عند موته للحال إلى حضن إبراهيم على أيدي الملائكة، ليتمتع هناك بالغبطة الأبدية في الشركة مع إبراهيم. ولما مات المسيح على الصليب، استودع روح في يديّ الآب، ووعد قُبيل ذلك اللص بأنه في ذلك اليوم بالذات سيكون معه في الفردوس (لو 23: 43، 46). والشهيد المسيحي الأول، اسطفانوس، بينما كان يُرجَم صرخ إلى الرب يسوع وطلب إليه أن يقبل روحه (أع 7: 59). وبولس على يقين من أنه عندما يُحلُّ من الجسد سيكون مع المسيح ويقيم عند الربّ (2كو 5: 8؛ في 1: 23). وبحسب (رؤيا 6: 8؛ 7: 9؛ ومواضع أخرى) فإن أرواح الشهداء وجميع المخلَّصين في السماء حاضرة أمام عرش الله وأمام الحَمل، مكتسية ثياباً طويلة وبأيديها سعف النخل. فحقاً، طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن؛ إنهم يستريحون من أتعابهم، وأعمالهم تتبعهم (رؤ 14: 13؛ عب 4: 9)، وهم سيعيشون ويملكون مع المسيح عند رجوعه (رؤ 20: 4، 6).

ومع أن المؤمنين يصبحون عند موتهم في الحال شركاء في السعادة السماوية من حيث نفوسهم، فإن حالتهم ما تزال - بمعنى من المعاني - حالةً تمهيدية وغير مكتملة تماماً. فمع كل هذا، ما تزال أجسادهم راقدة في القبور وعرضةً للفساد هناك؛ إذ ما يزال الجسد والروح منفصلين بعضهما عن بعض ولا يتمتعان مُتّحدين بالسعادة الأبدية. وعليه، فبنظرة شاملة يجد المؤمنون أنفسهم في هذه الفترة المؤقتة ما يزالون في حالة الموت، كحالة يسوع - بعد موته وقبل قيامته، مع أن روحه أُخذَت إلى الفردوس. وتبعاً لهذا، فالمؤمنون الذين في هذه الحالة يُدعون الراقدين في المسيح أو الذين ماتوا فيه،[265] وموتُهم يُدعى رقاداً، أي نوماً (يو 11: 11؛ 1كو 11: 30) ومعاينة للفساد (أع 13: 36). وهذا كُلُّه يقدم البرهان على أن هذه الحالة ليست هي الحالة النهائية بعد. ولما كان المسيح هو المخلِّص إلى التمام، فهو لا يكتفي بفداء النفس، بل سيُجري أيضاً فداء الجسد. وعليه، فإن ملكوت الله يكتمل فقط عندما يكون المسيح قد أبطل كل رئاسة وسيادة وسلطان، وجعل جميع الأعداء تحت قدميه، غلب آخر عدوٍّ - أي الموت (1كو 1: 24 - 26).

فإن في السماء وهكذا على الأرض شوقاً وتوقاً إلى ذلك المستقبل المجيد الذي يتمُّ فيه القضاء المبرم وإحراز النصرة النهائية. فإن نفوس الشهداء في السماء تصرخ بصوتٍ عالٍ: حتى متى - أيها السيد القدوس والحق - لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض (رؤ 6: 10)؟ والروح والعروس على الأرض يقولان: تعال أيها الرب يسوع، نعم، تعال سريعاً (رؤ 22: 17)! وليس ذلك فقط، بل إن المسيح نفسه يُعدَّ لمجيئه الثاني، على الأرض وفي السماء معاً. ففي بيت أبيه يُعِدُّ مكاناً لخاصته، ومتى أعدّه يأتي ثانيةً ويأخذ خاصَّته إليه، حتى حيث يكون هو يكونون هم أيضاً (يو 14: 2، 3). وعلى الأرض يسود ملكاً، بنعمته في الكنيسة وبقوته في العالم، إلى أن يجمع مختاريه ويُخضِع جميع أعدائه (1كو 15: 25). إنه لا يستريح، بل يعمل في كلِّ حين؛ وهو إذ يعمل يعبِّر أيضاً عن حقيقة رجوعه قائلاً: ها أنا آتي سريعاً، وأجرتي معي، لأُجازي كل واحدٍ كما يكون عمله (رؤ 22: 12، 20).

وتاريخ العالم في الحقبة بين صعود المسيح ورجوعه هو مجيء متواصل للمسيح، جمعٌ تدريجي لكنيسته على الأرض، وإخضاع مستمرٌّ لأعدائه. ومع أننا في الغالب لا نرى هذا الأمر ولا نفهمه، فإن المسيح هو بالحقيقة ملك الدهور وسيّد الأزمنة: إنه الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر (رؤ 22: 13). ولأن الآب قد أحبّ الابن، فقد خلق العالم فيه، واختار الكنيسة، ووهب لجميع الذين أعطاه إياهم أن ينظروا مجده ويكونوا معه (يو 17: 24).

إذاً فليس إتمام ملكوت الله نتيجةً لتطور الطبيعة على نحوٍ تدريجي ولا هو حصيلة للجهد البشري. فمع أن ملكوت السماوات يُشبه بزرة خردل وخميرة وحبة حنطة، إلا أنه ينمو دون علم البشر ومساهمتهم (مر4: 27). وربما كان لبولس أن يغرس ولأبلُّوس أن يسقي، ولكن الله وحده هو الذي يُنمي (1كو 3: 6). فلا يعترف الكتاب المقدس بطبيعة لها الاكتفاء الذاتي وإنسانٍ مستقلٍّ بذاته - إذ إن الله هو دائماً من يضبط نظام الكون ويصنع التاريخ. وعندما تقترب الآخرة، على الخصوص، سوف يتدخّل في التاريخ بطريقةٍ فائقة للعادة، وبظهور المسيح يوقف عجلة التاريخ وينقله من الزمن إلى الأبد. ولسوف تكون تلك حادثةً رهيبة عندما يظهر على سحاب السماء المسيح المُرسَل من قبل الآب (أع 3: 20؛ 1تي 6: 15). فكما صعد إلى السماء عند تركه للأرض، هكذا تماماً سيعود من السماء إلى الأرض (في 3: 20). وعند صعوده حجبته سحابةٌ عن أنظار تلاميذه وعلى سُحُب السماء المنتشرة تحته كمركبة نصر عظيمة سيعود إلى الأرض (مت 24: 30؛ رؤ 1: 7). وفي صورة عبدٍ ظهر على الأرض في مجيئه الأول، أما في المجيء الثاني فسيأتي بقوة عظيمة ومجدٍ فائق (مت 24: 30) بوصفه ملك الملوك وربّ الأرباب، راكباً على فرسٍ أبيض، وسيفٌ حادّ يخرج من فمه، تحفُّ به ملائكته وقديسوه.[266] ولسوف يُعلَن قدومه بصوت رئيس ملائكة وبوق ملائكة.[267]

ولكي يعطينا الكتاب المقدس انطباعاً عن الجلال والمجد اللذين بهما سيظهر المسيح، لابد أن يستخدم كلمات وصوراً نستطيع فهمها، الأمر الذي يفعله حقاً. وغالباً ما يون صعباً علينا أن نُجري تمييزاً بين الحقيقة بعينها والصورة التي تُعبِّر عنها. ولكن مما لاشك فيه أن المسيح آتٍ ثانيةً حتماً، المسيح نفسه الذي وُلد من مريم العذراء، والذي تألم في عهد بيلاطس البنطي، ومات ودُفن وقام وصعد إلى السماء؛ سيعود في مجدٍ ليدين الأحياء والأموات. فإن الذي نـزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السماوات، لكي يملأ الكلَّ (أف 4: 10). والذي أخلى نفسُه واتضع هو نفسه الذي رفعه الله عالياً، وأعطاه اسماً يفوق كلَّ اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ويعترف كلُّ لسان أن المسيح هو ربٌّ، لمجد الله الآب (في 2: 6 - 11). والذي قدّم مرةً نفسه ذبيحةً ليحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه (عب 9: 28). أجل، إن هذه الـ"ماران آثا" هي عزاء الكنيسة: فإن الذي أحب الكنيسة منذ الأزل، وأسلم نفسه للموت لأجلها، سيأتي حتماً ليأخذها إليه ويجعلها تشترك في مجده إلى الأبد. والشخص الواحد بعينه هو مخلِّص الكنيسة وقاضيها.

غير أن عزاء المؤمنين هذا يعدّله على نحوٍ لافت الألفيون أنصار العقيدة الألفية المتشددة. فهؤلاء يقسمون مجيء المسيح ثانيةً إلى رجوع أول ورجوع ثانٍ. في الرجوع الأول يُخضِع المسيح القوات المضادة للمسيحية، ويقيّد الشيطان، ويقيم المؤمنين الأموات، ويجمع الكنيسة - خصوصاً كنيسة إسرائيل التائب - ومن ثم يملك على الأمم في هذه الكنيسة وبها. وبعد أن تكون هذه المملكة قد دامت زماناً يطول أو يقصر، والشيطان قد حُلّ، يرجع المسيح أيضاً فيقيم جميع البشر من الموت، وينطق بحكم الدينونة عليهم، ويؤسس على الأرض الجديدة ملكوت الله المكمّل.

بهذا الفصل بين رجوعين في مجيء المسيح ثانيةً، تُرجأ آخرة التاريخ زمناً طويلاً. وعليه، فعندما يعود المسيح على سُحُب السماء، لا تكون آخرة الدهر قد حلّت بعد، بل تعمّ فقط فترة تمهيدية من السيادة والسلطان، والبركات الروحية والمادية: فترةٌ لا يكاد الألفيون المتشددون أنفسهم يستطيعون أن يكوّنوا عنها فكرة محددة، كما يختلفون كثيراً في ما بينهم أيضاً حول طول مدّتها.

والخطأ الأساسي في ابتعاد الألفيين المتشددين للحقّ على هذا النحو إنما يكمن في مفهومٍ خاطئ للعلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد. فإن اختيار إبراهيم ونسله لم يكن هدفه جعل بني إسرائيل، في زمن ما من المستقبل، ولا في ملكوت السماء المكمَّل أيضاً، على رأس جميع الأمم، بل بالأحرى مباركة جميع شعوب الأرض في ذاك الذي هو نسل إبراهيم الحقيقي.[268] إذ إن الشعب القديم اختبر لخير البشرية، وليس على حسابها. وعليه، فلما ظهر المسيح على الأرض، بدأت جميع مواعيد العهد القديم تتمُّ في كنيسته. وليست هذه المواعيد، طوال تدبير العهد الجديد، موضوعة جانباً في حالة ركودٍ بانتظار إتمامها، بل إنها تلقى إتمامها على الدوام منذ مجيء المسيح أول مرة حتى عودته. فالمسيح هو في شخصه النبي والكاهن والملك الحقيقي، وعبد الرب الحقيقي؛ ومن حيث ذبيحته الكفارية هو ذبيحة الخطية الحقيقية، والختان الحقيقي، والفصح الحقيقي.[269] ولكن ليس هذا كلَّ ما في الأمر، بل إن كنيسة المسيح هي أيضاً نسل إبراهيم الحقيقي. فإن جميع بركات إبراهيم ومواعيد العهد القديم تُضفى على الكنيسة في المسيح وتُحقق فيها عبر توالي الأجيال.[270]

ولكن كما أن حياة المسيح يمكن أن تُقسم إلى حالة اتضاع وحالة ارتفاع، فكذلك أيضاً كنيسته، وكل مؤمنٍ على الخصوص، لا يمكن أن يُدخل ملكوت المجد إلا بعد الاجتياز في مدرسة الآلام. فليس في المطهر كنيسة متألمة مستقلة - على ما يذهب إليه الكاثوليك - بل إن الكنيسة المتألمة هي عينها الكنيسة المجاهدة هنا على الأرض. والعهد الجديد لا يقدّم لكنيسة المسيح أي أمل بأنها ستتمتع بالسلطة والسيادة خلال التدبير الحالي. بل على العكس، فإن التلميذ ليس أفضل من معلِّمه، ولا العبد أفضل من سيده؛ فإذا كانوا قد اضطهدوا المسيح، أفلا يضطهدون أتباعه (يو 15: 19، 20)؟ وفي العالم سيكون لهم ضيق (يو 16: 33). ولن تكون لهم الحياة الأبدية إلا في الدهر الآتي (مر 10: 30)، لأنهم إن تألموا مع المسيح فسوف يُمجَّدون معه أيضاً (رو 8: 17). وفي الواقع أن العهد الجديد يعبّر أكثر من مرة عن فكرة أنه في أواخر الزمان يزداد الشرّ ويستفحل الضلال والارتداد.[271] فالذي يسبق يوم ظهور المسيح هو الارتداد العظيم، واستعلان إنسان الخطية - أي ضدّ المسيح (2تس 2: 3 وما يلي). صحيحٌ أن أنبياء كذبةً وأضداداً للمسيح كثيرين سيمهّدون السبيل أمام ضدِّ المسيح هذا،[272] إلا أنه أخيراً سيظهر هو نفسُه، وسيركّز كل قوته وسلطانه في مملكة شاملة للعالم (الوحش الصاعد من البحر أو الهاوية) في (رؤ 11: 7؛ 13: 1 - 10)، وستؤيده الديانة الباطلة (الوحش الطالع من الأرض) في (رؤ 13: 11 - 18)، ويجعل مركزه في بابل (رؤ 17: 18)، ومن ثم يشنّ هجمته الأخيرة واليائسة على المسيح ومملكته.

إلا أن المسيح، بظهوره في المجد (رؤ 19: 11 - 16)، يُنهي مرةً وإلى الأبد سلطة الوحش الطالع من البحر وذاك الطالع من الأرض (رؤ 19: 20)، ويُخضِع الشيطان أيضاً. ولكن لهذه الحادثة الأخيرة مظهرين: فأولاً، يتم القبض على الشيطان وتقييده باعتباره مُغوي الشعوب المسيحية (رؤ 20: 1 -3؛ قارن 12: 7 – 11) ومن ثم يُقيَّد باعتباره مُغوي الأمم الساكنين في أربع زوايا الأرض (رؤ 20: 7 - 10). أما في تلك الأثناء، فإن المؤمنين الذين ظلوا أُمناء لشهادة يسوع وكلمة الله، حتى الموت، سوف يعيشون ويملكون مع المسيح في السماء بوصفهم ملوكاً طوال تلك الفترة (وهي فترة معبَّر عنها رمزياُ بألف سنة - رؤ 20: 3، 4، 6، 7) والتي يكون الشيطان في أثنائها مطروداً من الأمم التي تنتشر فيها الكنيسة ومنهمكاً في تنظيم قوة جديدة ضدّ مملكة المسيح في وسط الشعوب الوثنية.[273] ثم إن القيامة الأولى هي هذا الإحياء والمُلك مع المسيح؛ أما الأموات الآخرون، الذين اتبعوا الوحش وصورته فلا يحيون ولا يملكون، على خلاف أهل القيامة الأولى الذين ليس لهم أن يخافوا الموت الثاني، أي عقاب الجحيم - فهم منذ الآن كهنة لله والمسيح (رؤ 20: 6)، وبعد القيامة الأخيرة ودينونة العالم يُصعَدون ليكونوا مواطنين في أورشليم الجديدة.

أما قيامة الأموات فتأتي في إثر ظهور المسيح. ومع أن قيامة الأموات هذه تُنسب عموماً إلى الله (1كو 6: 14؛ 2كو 1: 9)، فهي بصورة محددة من عمل الابن الذي أعطاه الآب حياة في ذاته (يو 5: 26) والذي هو نفسه القيامة والحياة (يو 11: 25) والذي أُعطي السلطان على إقامة الموتى من القبور بصوت فمه (يو 5: 28، 29). وهذا كلَّه يعلَّم بوضوح - هنا وفي مواضع أخرى أيضاً - أنه ستحدث قيامة لجميع البشر، الأشرار والأبرار على السواء.

إلا أن بين القيامتين فرقاً شاسعاً. فإن قيامة الأشرار هي بيّنة على سلطان الرب يسوع المسيح وبرّه؛ أما قيامة الأبرار فهي تجلٍّ لرحمته ونعمته. تلك لا تتعدى إعادة الالتئام بين الروح والجسد وتحصل لأجل الدينونة (يو 5: 29)، وهذه قيامة تؤدي إلى الحياة، وهي إحياءٌ للإنسان بجملته وتجديد للروح والجسد في الشركة مع المسيح وبروحه.[274] ولا يُستنتج من هذا أن القيامتين تتفاوتان من حيث الزمان، أي أن قيامة الأبرار ستسبق قيامة الأشرار بزمن طويل أو قصير؛ بل يُستنتج فعلاً أن طبيعة إحداهما وخصائصها تختلف كثيراً عمّا للأخرى. إنما القيامة الأولى وحدها قيامةٌ مباركة، ولها في قيامة المسيح علتها ويقينيتها. فالمسيح هو الباكورة، البِكرُ من بين الأموات؛ ويأتي بعده الذين هم له، وذلك عند مجيئه (1كو 15: 20 - 23).

وفي تلك القيامة تُحفظ وحدة الشخص، روحاً وجسداً على السواء. أما كيف يمكن ذلك رغم كارثة الموت الرهيبة، فأمرٌ لا نعرفه. من هنا يرفض كثيرون قيامة الجسد ويرون أن النفس تتخذ بعد الموت جسداً آخر، سواءٌ كان بشرياً أو حيوانياً، مادياً ألطف أو أكثف. ولكن هؤلاء القوم، بفعلتهم هذه، ينسون أن المحافظة على وحدة النفس، وإن كان في نوع آخر، تعترضها في الأساس الصعوبات المهولة عينُها. ولذا، يعلِّم كثيرون بخلود النفس فقط بمعنى أن روح الإنسان تظلُّ حيّة، ولكن دون أية محافظة على وحدة إدراكه. غير أن هذا التعليم الخلود بجملته، لأنه إذا كان وعي الذات والذاكرة ينقطعان كلياً عند الموت، فإن الشخص الذي يظل حياً لا يعود هو نفسه ذلك الإنسان الذي سبق أن عاش على الأرض.

على أن وعي الكائن البشري الذاتي هذا يشتمل على امتلاك جسد فضلاً على نفس. فليس الجسد سجناً للروح، بل ينتمي إلى جوهر الإنسان. ولهذا فهو مفديٌّ أيضاً، شأنه شأن النفس، بالمسيح - المخلِّص الكامل. فإن الإنسان بكامله خُلق على صورة الله، والإنسان بكامله أصابه الفساد؛ ولذا فإن الإنسان بكامله افتدي من الخطية والموت بالمسيح، وأُعيد خلقُه حسب صورة الله، وأُدخل إلى ملكوته. غير أن الجسد الذي يناله المؤمنون عند القيامة يماثل الجسد الأرضي في الجوهر فقط، لا في الهيئة الخارجية ولا في الخصائص العارضة ولا في الكمية المادية. فهو ليس جسداً طبيعياً، لكنه جيدٌ حيٌّ وحقيقي. وهو أرفع من مستوى العلاقة الجسدية (مت 22: 30)، والحاجة إلى الطعام والشراب (1كو 6: 13). غير أنه فانٍ وغير فاسد وروحاني وممجَّد (1كو 15: 42 - 44)، وهو مشابهٌ في شكله لجسد المسيح كما كان بعد قيامته (في 3: 21).

وفي أعقاب القيامة تأتي الدينونة طبقاً لما أجراه الله منذ البدء في إقامة فاصل كبير بين نسل المرأة ونسل الحية (تك 3: 15). سرى هذا الفاصل وفي العهد القديم بين كلٍّ من شيث وقايين، وسام ويافث، وبني إسرائيل والأمم؛ وضمن الشعب القديم نفسه سرى الفاصل بين أولاد الموعد وأولاد الجسد.ولما جاء المسيح إلى الأرض ثبّت هذا الفاصل وتحدد، مع أن الغرض من مجيئه الأول لم يكن أن يدين العالم بل أن يوفّر له الخلاص (يو 3: 17). فبكلمته وشخصه أقام حداً وفاصلاً بين الناس (يو 3: 19 - 21). هذه الدينونة مستمرة حتى أيامنا، وتبلغ ذروتها في الدينونة الأخيرة. ففي الحقيقة أن هنالك دينونة تجري عبر تاريخ الشعوب والأجيال والأُسر والأشخاص. ولو كُشفت لنا سرائر قلب الإنسان، لكنّا نعلم المزيد عن هذا ونـزداد اقتناعاً راسخاً به، غير أن تاريخ البشر ليس هو الدينونة الأخيرة. ولذا يمضي كثير من الإثم بغير عقاب، وكثير من الصلاح بغير ثواب، ولا يمكن لضمائرنا أن تستريح على التدبير الحاضر من هذه الجهة. فإن رأس البشرية وقلبها، العقل والضمير، الفلسفة والدين، وتاريخ العالم بكامله، تستدعي جميعاً دينونة أخيرة، عادلة وحاسمة.

في اتجاه هذه الدينونة، بحسب شهادة الوحي، نحن سائرون. فقد وُضِع للناس أن يموتوا مرة، وبعد ذلك الدينونة (عب 9: 27). ومع أن الله وحده هو المشترع والديّان لجميع البشر،[275] فإن الدينونة الأخيرة - رغم ذلك - يجريها المسيح بصفة خاصة، لأن الآب أُوكل إليه ذلك لأنه ابن الإنسان.[276] ذلك أن دينونة الأحياء والأموات هي إتمام لعمله كوسيط، لكونه آخر خطوة في ارتفاعه. ولسوف يظهر من تلك الدينونة أنه قد أكمل كل ما أعطاه إياه الآب ليعمل، وأنه قد وضع جميع أعداءه تحت قدميه، وقد افتدى كل كنيسته إلى التمام وإلى الأبد.

ولكن عندما يجري المسيح الدينونة، نعلم أيضاً أية دينونة ستكون: إذ إنها تتصف بالرحمة والعطف، لكنها دينونة عادلة عدالة مطلقة في الوقت نفسه. فإنه يعلم طبيعة الإنسان وكل ما في داخله؛ يعلم سرائر القلب ويلاحظ كل شرّ وارتداد فيه؛ ولكنه يرى أيضاً أصغر بداءة للإيمان والمحبة تكون فيه. وهو لا يدين بحسب المظاهر، ولا يحابي الوجوه، بل يدين حسب الحق والبرّ. وباستعمال الناموس والإنجيل معياراً، سوف يدين أعمال الإنسان (مت 25: 35 وما يلي) وكلمات الإنسان (مت 16: 36) وأفكار الإنسان (رو 2: 16؛ 1كو 4: 5) لأنه لا يبقى أي شيء مخفياً ، وكل شيء سيظهر (مت 6: 4؛ 10: 26). فلجميع الذين يستطيعون أن يقولوا مع بطرس: "أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف أني أحبك" ستكون هذه الدينونة مصدر عزاء. أما جميع الذين لم يريدوا أن يملك المسيح عليهم، فستكون لهم باعث خوفٍ ورعبٍ رهيب.

فإن هذه الدينونة تأتي معها بفصلٍ كاملٍ أبديٍ بين إنسان وإنسان. وكما وُجد في الشعب القديم من قالوا: "الرب لن يرى وإله يعقوب لن يلاحظ ذلك"، ومن زادوا قائلين: "كل من يفعل الشرّ فهو صالح في عينيّ الربّ، وهو يُسرّ بهم"؛ أو: "أين إله العدل؟" (مل 2: 17)، فهكذا يوجد اليوم أيضاً من يخدّرون أنفسهم بالقول بأنه لا دينونة أخيرة، وبأن إمكانية التوبة تبقى مفتوحة بعد هذه الحياة، وبعد إنهاء تاريخ العالم أيضاً، وهكذا يصير جميع البشر، وحتى الشياطين أيضاً، شركاء في الخلاص في نهاية المطاف، أو بأن الأشرار الذين يستمرون في تقسية أنفسهم بالخطية سيُلاشَون إلى الأبد.

على أن الضمير والكتاب المقدس كليهما على السواء لابد أن يتوليا دحض هذه الأوهام الباطلة. ففي ليلة الدينونة يكون رجلان نائمين في سرير واحد، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر؛ وامرأتان تطحنان على الرحى، فتؤخذ الواحدة "وتُترك" الأخرى؛ واثنان يعملان في الحقل، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر (لو 17: 34 - 36). أما الأبرار فيمضون إلى حياة أبدية، وأما الأشرار فإلى عذاب أبدي (مت 25: 46). فهنالك سماء مجد، لكن هنالك جهنم أو جحيماً، حيث الدود لا يموت والنار لا تطفأ (مر 9: 44)، وحيث البكاء وصرير الأسنان (مت 8: 12)، وحيث الظلام والفساد والموت إلى الأبد (مت 7: 13؛ 8: 12؛ رؤ 21: 8). إنه ذلك المكان الذي فيه يُعلَن غضب الله بكل هوله.[277]

ومع ذلك فإن العقاب الأبدي الذي سيكابده جميع الأشرار سيشهد فرقاً في الدرجة أو الحدّة والشدة. فالوثنيون الذين لم يعرفوا ناموس موسى لكنهم أخطأوا إلى الناموس الذي كان معروفاً عندهم بالطبيعة، سيهلكون أيضاً بغير ذلك الناموس (رو 2: 12). وستكون حالة سدوم وعمورة، وصور وصيداء، في يوم الدين أكثر احتمالاً من حالة كفرناحوم وأورشليم (مت 10: 15؛ 11: 22، 24). والذين عرفوا إرادة الرب ولم يعملوا بها سيُضربون ضرباً مضاعفاً (لو 12: 47). حتى في الأرواح الشريرة هنالك تمييز في الدرجة من حيث الشرّ (مت 12: 45). وعليه فإن كل واحد سينال جزاءه حسب عمله.[278] ولسوف تكون الدينونة عادلةً إلى التمام بحيث لن يقدر أحد أن ينتقدها من أية ناحية؛ بل سيضطر ضميره الخاص أن يقرّ بها كلها. وكما أن المسيح هنا على الأرض لا يحارب إلا بالأسلحة الروحية، فكذلك في يوم الدينونة سيبرر نفسه، بحكمه وكلمته، في ضمائر جميع البشر.

ونحن نعلم أن المسيح هو الأمين والصادق، وبالعدل يحكم ويحارب، والسيف الحاد الخارج من فمه هو سيف الكلمة (رؤ 19: 11، 15، 21). ولذلك ففي الزمان الأخير، سواء طوعاً أو كرهاً، سوف تجثو كل ركبة باسم يسوع ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربّ لمجد الله الآب (في 2: 11). وليس عقاب الأسرار في حدّ ذاته هو الغرض النهائي، بل إن هذا الغرض هو بالأحرى مجد الله الذي يُعلَن على جميع أعدائه في انتصار المسيح عليهم. فالخطاة سيُبادون من الأرض، والأشرار لا يكونون بعد... باركي يا نفسي الرب، هللويا (مز 104: 35)!

وبعد الدينونة الأخيرة وإهلاك الأشرار، يأتي تجديد الكون. وغالباً ما يتكلم الكتاب المقدس عن هذا الأمر بعبارات قوية جداً، فيقول لنا إن السماء والأرض ستزولان كالدخان، وكثوبٍ تبلى كلها، ومن ثم يخلق الله سماوات جديدة وأرض جديدة.[279] صحيح أن السماء والأرض الموجودتين حالياً سوف تزولان بهيئتهما الحاضرة (1كو 7: 31)، وإنهما - مثلهما مثل الأرض القديمة التي أُهلكت بالطوفان - ستُحرقان وتُطهّران بالنار (2بط 3: 6، 7، 10). ولكن كما أن الإنسان نفسه يُخلق من جديد في المسيح فعلاً، لكنه لا يُمحق بل يُخلق خلقاً ثانياً إذ ذاك (2كو 5: 17)، وهكذا أيضاً سيُحفظ الكون في جوهره، وإن كان في هيئته سيُغيَّر تغييراً عظيماً جداً بحيث يصحّ أن يدعى سماءً جديدة وأرضاً جديدة. والعالم بجملته يجري أيضاً نحو يوم تجديده العظيم (مت 19: 28).

ومن ثم، ففي هذه الخليقة الجديدة يوطد الله ملكوته. إذ يكون المسيح قد أنجز العمل الذي عُيِّن له بوصفه الوسيط، وقد ساد ملكاً على مدى زمن طويل حتى وضع جميع أعدائه تحت قدميه، وأقام جميع الذين أعطاه الآب إياهم. صحيح أنه بعد ذلك أيضاً سيظل في الأبدية هو رأس الكنيسة، من يعطيهم مجده لينظروه ويملأهم بملئه (يو 17: 24؛ أف 1: 23). إلا أن عمله الفدائي يكون قد أكمل شوطه، ويكون هو قد حقق الملك وسلّمه لله الآب، لكي يخضع هو نفسه - باعتباره الوسيط - لذاك الذي أخضع له كل شيء، كي يكون الله هو الكل في الكل (1كو 15: 24، 28).

هذا الملكوت يشتمل على السماء والأرض، ويصطحب مقداراً وفيراً جداً من البركات الروحية والمادية. فليس العهد القديم فقط، بل العهد الجديد أيضاً، يعلّم أن القديسين سوف يرثون الأرض (مت 5: 5). فإن الخليقة كلَّها سوف تُعتق يوماً من عبودية الفساد إلى حرية أولاد الله المجيدة (رو 8: 21). وأورشليم السماوية التي هي فوق، والتي يُطلق اسمها على مسكن الله مع شعبه، سوف تنـزل إلى الأرض (رؤ 21: 2). وفي أورشليم الجديدة هذه، في حضرة الله المباشرة، ليس بعد خطية ولا مرضٌ ولا موت، بل يسود المجد وعدم الفساد أيضاً في العالم المادي.[280] وفي هذا أيضاً صورة جلية للحياة الأبدية، المباركة والمقدسة، التي يشترك فيها جميع مواطني تلك المدينة في شركة مع الله.[281]

وفي هذا الملكوت أيضاً سيكون تفاوت واختلاف ضمن الشركة الواحدة للجميع. فسيكون هنالك صغير وكبير (رؤ 22: 12) وأول وأخير (مت 20: 16). وكل امرئ سينال هناك اسمه الخاص ومكانه الخاص (رؤ 2: 17) وفقاً لأعمال الإيمان والمحبة التي قام بها على الأرض. لأن من يزرع بالشحّ، فبالشحّ أيضاً يحصد؛ ومن يزرع بالبركات، فلسوف يحصد حصاداً وفيراً مباركاً (2كو 9: 6). وفي السماء مكافأة على جميع الاضطهادات التي احتملها أتباع المسيح في سبيله، وعلى كل عمل فعلوه باسمه (مت 5: 12؛ 6: 1، 6، 18). وبمقدار ما كان الشخص أميناً في استخدام الوزنات التي أُعطيت له، ينال في ملكوت الله أجراً أعظم ونصيباً من المُلك (مت 25: 14 وما يلي). حتى كأس الماء البارد التي تُقدَّم باسم المسيح إلى أحد إخوته الأصاغر، لن تنسى يوم الدين. فإنه سوف يتوّج ويجازي الأعمال الصالحة التي جعلها هو بذاته وبقوته تجري على أيدي خاصته. وهكذا يشترك الجميع في البركات عينها، والحياة الأبدية نفسها، والشركة مع الله ذاتها. ولكن في ما بينهم، رغم ذلك، فرقاً في البهاء والمجد. وبمقدار أمانة الكنائس وغيرتها، تستلم من الرب الملك تيجاناً ومكافآت مختلفة (رؤ 2، 3). وفي بيت الآب منازل كثيرة جداً (يو 14: 2).

بهذا الفارق في المنـزلة والمكانة والمهمة، تغتني شركة القديسين. وكما أن جودة الترنيمة تعززها نوعية الأصوات، وبهاء النور يتضاعف من جراء غنى ألوانه ودرجاته، هكذا أيضاً سيتمجَّد المسيح مرة واحدة في جمهرة قديسيه، وتظهر عظمته العجيبة في الألوف المؤلفة من المؤمنين باسمه. فإن جميع ساكني أورشليم الجديدة سوف يعاينون وجه الله، ويحملون اسمه على جباههم. وهم جميعاً سينشدون عالياً ترنيمة موسى أمام العرش، وكذلك ترنيمة الحمل، وسيخبر كلٌّ منهم، بطريقته الخاصة، بأعمال الله العظيمة: "عظيمة وعجيبة هي أعمالك، أيها الربّ الإله القادر على كل شيء. عادلةٌ وحقٌّ هي طرقك، يا ملك القديسين. من لا يخافك، ويمجّد اسمك؟" (رؤ 15: 3، 4).

لأن منه وبه وله كلَّ الأشياء، له المجد إلى الأبد. آمين.

[239]- عد 16: 30؛ تث 32: 22؛ أي 26: 5؛ مز 63: 10.

[240]- أي 7: 21؛ 14: 10؛ مز 39: 13.

[241]- أي 3: 13، 18؛ مز 94: 17؛ 115: 17.

[242]- أي 14: 21؛ جا 9: 5، 6، 10.

[243]- خر 19: 5؛ 20: 2؛ حز 16: 8.

[244]- أي 26: 6؛ 38: 17؛ أم 15: 11.

[245]- تث 32: 39؛ 1صم 2: 6؛ 2مل 5: 7.

[246]- 1مل 17: 22؛ 2مل 4: 24؛ 13: 21.

[247]- أي 14: 13 – 15؛ 19: 25 – 27؛ هو 6: 2؛ 13: 14؛ إش 25: 8؛ 26: 19؛ حز 37: 11، 12؛ دا 12: 2.

[248]- لا 26: 24 وما يلي؛ تث 4: 29 وما يلي؛ 30: 1 – 10؛ 32: 15 – 43.

[249]- إش 27: 7 وما يلي؛ 54: 7، 8؛ إر 30: 11.

[250]- تث 32: 27؛ إش 43: 25؛ 48: 9؛ حز 36: 22.

[251]- يؤ 2: 11، 31؛ مل 4: 5.

[252]- إش 4: 2؛ إر 23: 5، 6؛ 33: 14 – 17؛ زك 3: 8؛ 6: 12.

[253]- تث 18: 15؛ مز 110؛ إش 11: 2؛ 53: 1 وما يلي؛ زك 5: 1 وما يلي؛ مل 4: 5؛ إلخ...

[254]- إش 7: 14؛ 9: 5؛ إر 23: 6.

[255]- عا 9: 8 – 10؛ هو 2: 3؛ حز 20: 33 وما يلي.

[256]- إش 4: 3؛ 6: 13؛ إر 3: 14؛ صف 3: 20؛ زك 13: 8، 9.

[257]- هو 1: 10؛ 2: 15؛ إش 4: 3؛ 11: 9.

[258]- يؤ2: 28؛ إش 44: 21 وما يلي؛ 43: 25؛ إر 31: 31؛ حز 11: 19؛ 36: 25 وما يلي؛ ومواضع أخرى.

[259]- إر 3: 17؛ 4: 2؛ 16: 19؛ حز 17: 24؛ وآيات أخر.

[260]- مز 2: 8؛ 22: 28؛ 72: 8 وما يلي.

[261]- يو 3: 17؛ 12: 47؛ 1يو 4: 14.

[262]- مت 16: 27؛ 24: 30؛ 25: 32؛ ومواضع أخرى.

[263]- مت 24: 30؛ رؤ 6: 2؛ 19: 11.

[264]- مت 24: 42 – 44؛ 1تس 5: 2، 4؛ 2بط 3: 10؛ رؤ 3: 3؛ 16: 15.

[265]- 1تس 4: 14، 16؛ 1كو 15: 18.

[266]- مت 25: 31؛ 1تس 3: 13؛ رؤ 19: 14.

[267]- مت 24: 31؛ 1كو 15: 52؛ 1تس 4: 16.

[268]- غل 3: 16؛ تك 12: 3؛ غل 8: 14.

[269]- رو 3: 25؛ 1كو 2: 11؛ ومواضع أخرى.

[270]- رو 9: 25، 26؛ 11: 7؛ 2كو 6: 16 – 18؛ غل 3: 14، 29؛ ومواضع أخرى.

[271]- مت 24: 37 وما يلي؛ لو 17: 26 وما يلي؛ 18: 8.

[272]- مت 7: 5؛ 25: 5، 24؛ 1يو 2: 22؛ 4: 3.

[273]- رؤ 20: 4؛ قارن 2: 26؛ 3: 21.

[274]- يو 5: 29؛ رو 8: 8؛ في 3: 21.

[275]- تك 18: 25؛ مز 50: 6؛ إش 33: 22؛ يع 4: 12.

[276]- يو 5: 22؛ أع 10: 42؛ 17: 31؛ رو 14: 9.

[277]- رو 2: 8؛ 9: 22؛ عب 10: 31؛ رؤ 6: 16، 17.

[278]- مت 16: 27؛ رو 2: 6؛ رؤ 22: 12.

[279]- مز 102: 27؛ إش 34: 4؛ 51: 6؛ 65: 17؛ 66: 22؛ مت 24: 35؛ عب 1: 11، 12؛ 2بط 3: 10، 12، 13؛ 1يو 2: 17؛ رؤ 21: 1.

[280]- 1كو 15: 42 – 44؛ رؤ 7: 16، 17؛ 21: 4.

[281]- 1كو 13: 12؛ 1يو 3: 2؛ رؤ 21: 3؛ 22: 1 – 5.

  • عدد الزيارات: 472