وقفة إكرام للأمومة
عندما اراد الله ان يعبّر عن قلبه المحب الذي يهتم بنا (اشعياء 66: 13)، لم يجد الا صورة الام التي تعزي ابنها وعندما اراد الخالق ان يعبّر عن علاقته القوية بشعبه(اشعيا 49: 15)، لم يجد اوضح من صورة الام.
وعندما اراد الرب يسوع ان يصف لنا مجيئه الثاني لاخذ كنيسته (يوحنا 16)، لم يجد اجمل وادق من صورة الام وهي تلد، ثم تفرح بوليدها وتنسى المها
وعندما اراد الرسول بولس ان يعبّر عن قلبه الخادم المضحّي لاجل شعب الرب(1 تس 2: 7)، لم يجد افضل من صورة الام التي تضحّي، ولا تكلّ من اجل اولادها
والرسول بطرس في رسائله استخدم كثيرا صورة الامومة والولادة، وشبّه كلمة الله بام تلد وترضع وتشبع ..
في العهد القديم في سفر اشعياء الانجيلي، اراد الله ان يصف للبشر مدى تعلّقه بمخلوقاته، ومدى اهتمامه بشعبه وقربه لهم، فبحث الله وجال بفكره، ولم يجد اجمل من صورة الام التي تدلّل طفلها وتتعلق به وتهتم به وهي تحتضنه... كانت صورة الام التعبير الصحيح والدقيق الذي وجده الخالق القدير في كل هذا الكون... فلا يهم موقف الطفل كثيرا، بل التشديد هو على موقف الام الرؤوم والحنون التي كل همّها ارضاء طفلها واشعاره بالامان والاكتفاء والشبع والحماية... وكل مرة يرى الله أمّا تحتضن ابنها، يشعر القدير بالرضى لانها تعبّر عما يدور في خلده... ربما لا يعرف العالم قيمة الام الحنون، ولا الاولاد يدركون قيمة تعب والدتهم، فالاولاد عادة يميلون الى مهابة الاب واحتقار امهم. وحتى الام ربما تشعر بعدم اهمية مسار ولادة الاولاد، لكن بلا شك يرى الله القدير في ذلك اهمية قصوة وجمالا لا حدود له، وصورة وجدت نعمة في عيني الله... فالخالق وجد مسرة ان يعلن ذاته ليس كخالق بلا عواطف، بل كأم قلبه مليء بالرحمة والرأفة والعناية والعطف.. كل هذا يتجلّى في الأم...
وفي العهد الجديد في انجيل يوحنا (16)،عندما اراد الرب يسوع وصف مشاعر شعبه في انتظار عودة حبيبهم وعريسهم، لم يجد يسوع اجمل من الام التي تتوجع وتتمخض وتعاني وهي تلد، لكن في اللحظة التي تلد، تشعر بالارتياح.. ورؤية طفلها نتاج مخاضها، ينسيها همّها والمها.. هكذا المؤمن وهو في هذا العالم، يتألم ويتمخض ويئن ويشتاق الى عتق السماء، لكن عندما يأتي الفادي ويلتقي باحبائه، ينسى المؤمن كل حزنه وضناه.. كما ان رؤية الطفل المولود بعد مشقة، تنسي الام كل مشقتها، هكذا رؤيتنا ليسوع الذي احبنا حتى الموت، سينسّينا كل آلام الزمان الحاضر الذي لا يقاس بالمجد العتيد ان يستعلن فينا...
والرسول بولس بحث في كل مكان ليجد صورة معبّرة عمّا يشعر به في اعماق قلبه، فلم يجد الا صورة الام .. فتنفس الصعداء وشعر بالارتياح، عندما وجد مشاعر الأم وتضحيتها لاولادها مشابهه تماماً لمشاعره كخادم امين للرب يخدم اولاد الله.. لم يخدم ويعظ كواجب او ثقل، بل شعر بدافع قوي ومحبة جيّاشة في اعماقه، فكان مستعداً لكل تضحية لاجل خلاص وبنيان شعب الرب، ولم تهمه النتائج وردود الفعل، ولم يبحث عن مكافأة من بشر.. وجد في الأم المضحّية عزاءا واكتفاءا وتعبيرا لكل عواطفه ومشاعره.... شعر للحظات انه أم بكل معنى الكلمة...
واريد ان انبّر عن اهمية وعظمة الامومة في عيني الخالق القدير، ولا شك ان فكرة الامومة التي ابدعها الخالق، نتجت عن دراسة متقنة وحكمة الهية، وقد شعر الخالق بارتياح عظيم عندما خلق الامومة... للاسف في هذا الايام، ايام التقدم العلمي والتكنولوجيا، نرى ان فكرة الامومة تزداد ازدراءا واحتقارا، حتى اصبحت المراة تفتخر بالعمل خارج البيت والتجميل والسفر والنجاح العالمي، لكنها لا تحبّذ فكرة ولادة طفل والاهتمام به وممارسة الامومة... ليتنا نتبنّى الفكر الالهي، ونحترم ونكرم الامهات، ونرى حكمة وعظمة الخالق في الامومة، ونرى في قلب الام وتضحيتها ورأفتها وعطفها، صورة جميلة ومنعشة لقلب خالقنا الملآن بالحنان والعطف للبشر الخطاة ...
وقفة اكرام لكل الامهات وتحية عطرة للامومة، وسجود عميق لالهنا الرحوم والرؤوم والعطوف الذي ولدنا بكلمته الحية الفعالة، ويرضعنا من لبن كلمته عديم الغش لكي ننمو به، وهو يحضننا ويعزّينا كالام، وقد ضحى بحياته لاجلنا ليهبنا حياة ابدية...
ان الأم لهي صورة مصغّرة لالهنا، لان الله خلق الانسان الرجل والمرأة على صورته هو، فالرجل هو صورة لله في سلطانه وحُكمه وتحليله ومنطقيته، اما المرأة فهي صورة لله في حنانه ورحمته وعطفه وتضحيته... ان الهنا هو صاحب السلطان والهيبة، لكنه ايضا اله كل نعمة وكل رحمة وعطف، نستطيع ان نتقدّم اليه بقدوم وبلا خوف، لانه لا خوف في المحبة، بل نتقدم بثقة البنين الواثقين من رأفة وحب أمّهم...
- عدد الزيارات: 6492