"ما كنتُ قطُّ أكبرَ سنّاً من أن أعتنق الحقَّ وأتخلَّى عن الضلال"
شهادة شخصيَّة من الكاهن المولود ثانيةً
"أنطوان بايلي"
(في أثناء خدمةٍ كنسيَّة أُقيمت في الكنيسة الإنجيليَّة المصلحة المستقلَّة في "تولوز" يوم السابع من تشرين الأول -أكتوبر- 1990)
"أبتهج وأفرح برحمتك، لأنَّك نظرت إلى مذلَّتي، وعرفتَ في الشدائد نفسي، ولم تحبسني في يد العدوّ، بل أقمتَ في الرُّحـب رجلـي" (المزمور 7:31-9).
أرى في دعوتكم العأجلة لي إلى مخاطبتكم بادرةَ إيمان مؤثِّرة. فمنذ ثمانية أيام فقط نـزلتُ من على المنبر بصفتي كاهناً في كنيسة روما الكاثوليكيَّة.أتُريدون شهادتي؟ أجل، كيف يمكنني أن أروي لكم ما حصل لي وكيف انقلبت حياتي رأساً على عقب؟ وإني لي أن أفيَ كلمة الله كما يليق بها؟ وكيف يتأتي لي، من خلال هذه الكلمة بواسطة الإيمان، أن أكتشف إرشاد الربّ؟ أعتقد أنَّ في قصَّة إبراهيم ما يُلقي ضوءاً عارماً على حالتي.
تعرفون أنَّ إبراهيم كان مقيماً في أور الكلدانيِّين، أي العراق حاليّاً. وكان ما يزال شابّاً لمّا سمع فجأةً صوتَ الإله، الذي كان مجهولاً حتّى ذلك الحين، داعياً إيّاه، فلم يستطع أن يُبديَ أيَّةَ مقاومة له، وقد تضمَّن وعداً فريداً: "اِذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أُريك، فأجعلك أُمَّةً عظيمة" (تكوين 1:12و2). وأطاع إبراهيم، سائلاً نفسه هذا السؤال: "كيف أقلق وأنا بين يدي إله الوعد هذا؟ إن آلهة الآخرين الكثيرين جدّاً ليست صالحةً مثل هذا الإله الذي أعرفه! ألم يفرضِ الله نفسه عليَّ بصورةٍ ما استطعتُ مقاومتها قَطّ؟"
وقد خطَّط إبراهيم خُططاً، واتَّخذ مبادرات: "سأجعل القيِّم على بيتي، أليعازر الدمشقيَّ، وريثاً لي". إلاَّ أنَّ الربَّ قال له: "لا!" وقدَّمت سارة نصيحتها: "أُدخلْ على جاريتي لعلِّي أُرزق منها بنين" (تكوين 2:16). ثمَّ تدخَّل الربُّ بينهما ثانيةً: "لا، ليس اسماعيل هو ابن الموعد، بل إسحاق!" وهكذا رأىنا أنَّ إبراهيم، وإن كان قد بذل كلَّ جهدٍ لتحقيق خطط الله، دخل في صراعٍ مرَّةً بعد مرَّة مع إله الوعد هذا. فكان عليه أن يتعلَّم أنَّ كلَّ شيءٍ سوف يُرسَل إليه من قِبَل الله، ويَقضي به الله وقد وعده بتتميم وعده "في هذا الوقت، في السنة الآتية". قصَّةٌ يمكنكم أن تتتبَّعوها بأنفسكم.
سبق لي في حياتي القصيرة أن اختبرت طريق الربّ نفسه. فكانت لي دعوةٌ قويَّة وحاسمة؛ واكتشفتُ بلوغَ الإنسان نهايةَ حدِّه، حيث لا يعود يدري ماذا يفعل؛ وإعلان الله لنفسه من خلال أفعاله، حيث تأتي نتيجةُ هذه الأفعال فائقةً لكلِّ ما قد يتوقَّعه الإنسان.
قبل دعوة الربّ لي
منذ ثماني سنين تقريباً دخلَ أبرشيَّتنا شابٌّ كان قد انتقل إلى "تولوز". وكان شابّاً كرَّس حياته كليّاً للتبشير بالمسيح. فمن طريق اتِّصالي به، بدأتُ أرى، على رغم اجتهادي وتكريسي، أنَّني كنت مشغولاً ببنيان قطيع المسيح على أُسُسٍ من قَشّ. كنتُ أُعنى بإقامة واجهةِ بناءٍ قويَّة وجميلة المنظر، ولكنْ داخلَ تلك الكنيسة قلَّما وُجِد مَنِ اهتدى إلى المسيح حقاً ويعرف دعوة الله العُليا. وتبيَّن لي أنَّني أنا شخصيّاً لم أكُن مكرَِّساً لملكوت الله، بل لملكوتي الخاصّ. إذ كنت أخدم لمجد مملكتي ورؤسائي من سلطات روما الكاثوليكيَّة.
هذا الاكشافُ صدَّعني ومزَّقني، فتداعى بناء حياتي وانهار، بعدما عملت عشرين سنة في سبيل ما بدا لي فجأةً أنَّه عديم المعنى. تلك كانت نقطة الانطلاق في تحوُّلي إلى المسيح. ومنذ ذلك الحين واظبت على الوعظ عن ضرورة الولادة الجديدة، قائلاً: "لا يكفي أن تُعمَّدوا حتّى تخلصوا، بل ينبغي لكم شخصيّاً أن تهتدوا إلى المسيح وتضعوا ثقتكم فيه".
إلاَّ أنَّ ذلك لقي م عارضةً هائلة، حتّى رُفِعت شكوى عليَّ إلى المطران، فطلب الأخير إليَّ أن أستقيل حفظاً للسلام في الأبرشيَّة، ويُستحسَن لو أُغادر البلد كلّه. ولكنْ أين أذهب؟
كنتُ قد عرفتُ بأمر "الكنيسة الإنجيليَّة المُصلَحة المستقلَّة" من خلال احتكاكاتي الكنسيَّة، ولكن... هل أذهب إلى تلك الكنيسة؟ لم يبدُ لي عمليّاً. مع ذلك لاح في الأُفق بصيصُ نور جديد. فذات مساء من شتاء 1978، سمعتُ عظةً القاها الدكتور لوران (التابع لجماعات الله). وقد تكلَّم أمام حشدٍ من الشباب بينهم خمسةٌ أو ستَّة من جماعته. هذا الواعظ كرز بيسوع المسيح على أنَّه مُخلِّص الخطاة الوحيد. وقد شهد أيضاً لعمل الله في حياته، ذاكراً أنَّه قبلَ نحوِ ثلاثين سنة انتشله الربُّ من حمأة الخطيَّة التي كان يتخبَّط فيها.
مضيتُ قُدماً وفرحٌ عظيم يغمرني. لقد رأيت شخصاً متَّكلاً على المسيح كليّاً، وأنا قد تخلَّيتُ عن الكثير أيضاً منذ اهتدائي إلى المسيح.
وبعد بضعة أسابيع سمعتُ الدكتور "أوجين بُوَييه" في الكنيسة "بِسالان"، خلال أُسبوع الصلاة لأجل وحدة المسيحيِّين. ومرَّةً أُخرى لاحظتُ أنَّ هذا الواعظ أيضاً يعيش إيمانه في المسيح وحده. هذه المرَّةَ أيضاً اختبرتُ ذلك الفرح عينه. وعندئذٍ عقدتُ العزم على الاتِّصال بهذا الواعظ. وقد استقبلني بالترحاب، وقدَّم إليَّ "اعترافات دي لا روشيل" و"اعترافات البروفسور كورتيال" و"خلاصة هايدلبرغ للتعليم المسيحيّ"، فزوَّدني بزادٍ روحيٍّ يُشبع الروح والقلب. كذلك عرَّفني بالمعهد اللاهوتيّ في "آيْ أُن ابْروفُنس" إلاّ أنَّه لم يرغمني على اتِّخاذ أيِّ قرار.
لم يُدهَش الأخ أُوجين لمّا أخبرتُه بمسيرتي داخل كنيسة روما الكاثوليكيَّة. فقد سبق أن عرف كلَّ ما يحيط بهذه الصراعات من خلال "اعترافات" الكهنة الذين قابلهم.
"إذهب إلى الأرض التي أُريك". تلك الأرض قد سبق الله فعيَّنها لي. وهي "الكنيسة الإنجيليَّة المُصلَحة المستقلَّة". ولكنْ كيف أخطو إلى داخلها؟ إذ ذاك ارتفعت أمامي أسوار أريحا، فبدت لي صعوباتٌ لا تكاد تُقهَر، منها تقدُّمي في السنّ، ووضعي المادِّيّ، وحقيقةُ كوني قدِ اعتدتُ ممارسة دوري ككاهنِ رعيَّة، ورغبتي في البقاء بتولوز، والوضع الجديد الذي سأكون فيه.
وهكذا كوَّمتُ أنا نفسي الصعوبات أمام اللجنة التي كانت ستبتُّ في قبولي خادماً رسميّاً، وكان على تلك اللجنة أيضاً أن تستمزج رأى الكنيسة ذات العلاقة رغماً عن كلِّ شيء آخر. فقد شعرتُ بأنَّ جواب طلبي سيكون سلبيّاً، فعمدتُ إلى سحبه. وكان في ذلك خيبةٌ كبيرة لي، ولكنْ كنتُ واثقاً بسلامة حُكم الخدّام الذين يشكِّلون تلك اللجنة. فقولهم "لا" كان يعني لي "لا" من عند الربّ ("آنذاك لم أفكِّر في مغامرة الإيمان" التي عاشها إبراهيم).
بشأنِ انسحابي، عقدتُ العزم آنئذٍ على انتظار الحصول على ملء الحريَّة للاتِّصال بالكنيسة الإنجيليَّة المُصلَحة المستقلَّة. ولكنْ عندئذٍ أيضاً قال الربُّ "لا" وأفهمني أنَّ عليَّ الإقدامَ من دون تلكُّؤ. ففي ذلك الحين دعا الربُّ شخصاً آخر من بلدٍ آخر، هو الدكتور "هِيغَر"، وهو كاهنٌ مولودٌ ثانيةً أسَّس منظَّمة تهدف إلى مساعدة الكهنة الذين يرغبون، بدافعٍ من الضمير، في مغادرة كنيستهم. فإنَّ رئيس اللجنة كان قد اتَّصل به، ولكنْ بدا في أول الأمر أنَّ أيَّ حلٍّ لن يأتي من قِبَله. وقرَّرتُ في الرابع عشر من تمُّوز (يوليو) أن أذهب في عطلةٍ إلى لندن حيث أُقضي أُسبوعين عند بعض الأصدقاء. وإذ أزمعتُ على السفر، وجدت في صندوقي البريديّ رسالةً من الدكتور "هيغَر" تُفيدُني أنَّه جاء أولاً إلى "تولوز" للبحث عنِّي، لكنَّه لم يوفَّق، وأنَّه سيتولَّى إقامة مؤتمر روحيّ بين 16و20 تموز (يوليو) في لندن؛ ويُريد منِّي أن أوافيَه إلى هناك. ولكنَّ العنوان الظاهر على الظرف الذي أرسله إليَّ الدكتور "هيغَر" كان غير واضح، ولم أستطع أن أقرأ منه إلاَّ الكلمتين "القاعة المركزيَّة" حيثُ سيُقام المؤتمر. ولكن لم أوفق إلى العثور عليه وإذ أعوزتني الشجاعة، وكنتُ منهكاً من جرّاء طول التفتيش، وأخفقتُ في تحديد المكان، أردتُ أن أتخلَّى عن محاولة التقائه في أيِّ مكان. إلاَّ أنَّ أصدقائي ألحُّوا عليَّ بتكرار المحاولة غداً مرَّةً أُخرى.
عندئذٍ نجحت المحاولة. كان المكان في منطقة "القاعة المركزيَّة الميثوديَّة" قرب "مباني البرلمان" في وسط لندن. وقد سبق لي أمسِ أن سرتُ في تلك المنطقة حول مُنعطَفٍ آخر، ولم أتنبَّه إلى أنَّ "القاعة المركزيَّة" المُشار إليها هي بعينها "القاعة المركزيَّة الميثوديَّة".
كان اجتماعاً تميَّز بالمودَّة والترحاب. وبعد طولِ محادثة، قدَّم الدكتور هيغر اسمي إلى مجلس إدارة مؤسَّسته المدعوّة "في الزقاق المستقيم". وجاء ردُّهم في الحال: "يمكنك أن تنطلق حالاً. نحن نضمن تأمين مصروفك حتَّى قبولك رسميّاً".
ثمَّ اصطحبني الدكتور هيغر إلى أحد قادة المؤتمر. وهذا الرجل صلَّى في خضمِّ زحمة الممشى، ثمَّ سحب من جيبه دفتر شيكات، وحرّر لي شيكاً يكفي لدفع نفقات سفري وإقامتي في لندن، وناولني إيّاه. وقد أربكني هذا اللطفُ الزائد، فلم أُحِرْ كلاماً. حتّى الكلمةُ الإنكليزية الوحيدة التي فكَّرتُ فيها آنذاك فرَّت منِّي.
من ثَمَّ واجهتني أولى الصعاب عند اضطراري إلى التخلِّي عن العضويَّة في "الكنيسة الإنجيليَّة المصلحة المستقلَّة". ثُمَّ توالت الأحداث بسرعةٍ كبيرة. فإذ عُدتُ إلى تولوز صرفتُ جُلَّ همِّي ناحية العثور على شقَّة صغيرة تُناسِبني. حتَّى إذا وجدتُ واحدةً، لقيتُ لدى المؤجِّرين تردُّداً لإعتقادهم بأنِّي ربّما لا أتمكَّن من دفع بدل الإيجار في حينه. إلاَّ أنَّ شقيقةً لي، سبق أن آزرتْني لمّا علمت بعزمي على مغادرة الكنيسة الكاثوليكيَّة، كفلتْني خطيّاً، بَرّاً بوعدها أن تكون إلى جانبي عند الحاجة. وهكذا تيسَّر لي استئجار تلك الشقَّة الصغيرة.
وفي غضون أُسبوعين أزال الربُّ كلَّ عقبة أساسيَّة اعترضت في طريقي. فما اعتقدناه مستحيلاً، أجراه بكلِّ يُسر.
كنتُ قد حدَّدتُ موعد مغادرتي للكنيسة الكاثوليكيَّة. ولكنَّ الربَّ استخدم حادثاً أفضى إلى كسر عظم رُكبتي، لعلِّي أتعلَّم مرَّةً أُخرى أنَّه هو مَن يُقرِّر، لا أنا. لكأنَّه أراد أن يقول لي: "أوافقك على المغادرة، ولكنْ في اللحظة التي اعتبرُها أنا الفُضلى. استخدِمْ فترة النقاهة الضروريَّة بسب ركبتك المجبَّرة بالجصّ، حتّى تدعَ سلامي يفيض في داخلك، وحتّى تسمح لخُلُقك بالنُّضج لبلوغ الروح الصحيحة من طريق الصلاة التي يجب أن تُرافق كلمتك الوداعيَّة التي ستُلقيها قريباً على رعيَّتك!"
كم كان صعباً أن تتحسَّن حالتي! وهكذا "سمح" الربُّ بإرجاء الموعد أُسبوعين. وقد قلتُ له إنَّني بعد ذلك، بساقٍ مجبَّرة أو بغير جصّ، سوف أخطو خارجاً. وحسُن في عيني الربّ أنَّني قرَّرتُ ذلك التغيير.
وللحيلولة دون مفاخرتي بنفسي، عليَّ أن أُضيف شيئاً بعد. فثمَّة خياران شككتُ فيهما وتعثَّرتُ قبلَ خطوتي المنشودة، عشيَّةَ الثلاثين من أيلول (سبتمبر) وأنا على بُعد بضعة أمتار من النقطة التي طالما أراد لي الربُّ أن أبلغها. وقد كان عليه آنذاك أن يقول لي: "يا قليل الإيمان، لماذا شككتَ؟" ولسوف يرى لزاماً أن يقول لي هذا مرَّةً بعد مرَّة!
"ربّاه! ما كان أعظم صبرك عليَّ! وكم أنقذتَني من براثن الشرِّ على صعيدَي الروح والجسد، منذ ولادتي حتّى الآن! ربِّ، أعلمُ أنّك تحبُّني، وأنا أختبر هذا دائماً، ولا سيَّما فيما تتقدَّم بي السنون، وفوقَ كلِّ شيءٍ في هذه الأيام، إذ تملأُني سلاماً وبهجةً عجيبين! فأستطيعُ أن أقول مع الرسول بولس" "إنِّي عالمٌ بمن آمنت".
"أمَا أتساءل: كيف يُمكِن، يا ربّ، ألاَّ أخذلك بنفاد صبري، سائلاً إيّاك: ماذا تريدُ منِّي أن أفعل؟ أيَّة خدمة تفوِّضُها إليَّ بعدُ، وأنا الآن في الرابعة والستين، في عمرٍ يتقاعد فيه الكثيرون؟ ربِّ، أرِني طريقك!"
(الكاهن المولود ثانيةً: أنطوان بايلي)
- عدد الزيارات: 2269