Skip to main content

نورٌ يشرق في بولندا

شهادة شخصيَّة من الكاهن المولود ثانيةً

"رومان مازيرْسكي"

    وُلِدتُ في بولندا، وهو بلدٌ غالبيَّة أهله من الكاثوليك، إذ إنَّ نحو 92 بالمئة منهم ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكيَّة، رسميّاً على الأقلّ. وقد كانت عائلتي عائلةً كاثوليكيَّة متشدِّدة. ولمّا بلغتُ السابعة من عمري، أُرسِلتُ إلى المدرسة الابتدائيةَّ، حيثُ كُنَّا نتلقَّى -فضلاً عن الدروس العادِيَّة- تعليماً دينيّاً يتولَّى أمَره كاهنٌ يُعلِّمنا بعض قصص الكتاب المقدَّس، بعهديه القديم والجديد، وكثيراً من الصِّيَغ المألوفة في التعليم المسيحيّ. ومنذ ذلك الزمن بدأت تنشأ في قلبي الصغير رغبتان: أن أقترب إلى المسيح، وأن أحوز معرفةً أفضل بالله. لِكأنَّني سمعتُ دعوة الربّ في قلبي، مع أنِّي حينذاك لم أُدرِك أنَّها كانت دعوته فعلاً، كما كان إدراكي لكيفيَّة الإجابة عنها وتتميمها أقلَّ بكثير. وما كان في وسعي أن ألتمس التوجيه في كلمة الله إذ لم يكن لدينا أيَّة نسخة من الكتاب المقدَّس. ولم يكُنِ الصغارُ ولا الكبار يُشجَّعون على اقتناء الكتب المقدَّسة، بل على العكس أشاع َ رؤساء الكهنةِ إلى أنَّ قراءة الكتاب المقدَّس هي أمرٌ خَطِرٌ إذ إنّ الكتاب ينطوي على بذورِ مختلف البِدَع، والكنيسةُ وحدَها قادرةٌ على أن تُميِّز وتختار من الكتاب ما هو صحيحٌ لكي يُتلى على المنابر في خدمات أيام الأحد. وقد دأب المعلِّمون، كُلَّ يومِ أحد، في اقتيادنا من المدرسة لحضور القُدّاس في كنيسةٍ قريبة، وما كُنَّا لنفهم كلمةً واحدةً منه لأنَّه كان باللاتينيَّة. وهكذا ظلَّ القلب جائعاً وعطشاناً لِلّه وحقِّه طيلةَ سنين كثيرة.

ولكنْ في أثناء تلك السنين الدراسيَّة التي يمرُّ بها أولاد الكاثوليك تأتي على الأقلِّ لحظةٌ واحدة يُفتَرض أن يتقرَّبوا فيها إلى المسيح تقرُّباً كثيراً. تلك هي اللحظة المهيبة التي يتلقَّون فيها مناولتهم الأولى. غير أنَّ تلك اللحظة خلَّفت لديَّ خيبةً مُرَّة، إليكَ سببَها.

قبل أن يتمَّ قبول أولئك الأولاد الصِّغار، وهم دونَ العاشرة من العمر، لتَلقِّي مناولتهم الأولى، ينبغي أن يؤدُّوا اعترافهم الأول بخطاياهم. وإعداداً لذلك يجتازون فترةَ تدريبٍ طويلةً ودقيقة. وخلال فترة تدريبنا التي دامت ستَّة أشهر لإجراء اعترافنا الأول ومناولتنا الأولى، لم يجتهد كاهنُنا في مَلْءِ قلوبنا بالثقة في المسيح والمحبَّة له، بل كان متشوِّقاً بالأحري لملئها بالخوف والرعب، إذ ذكَّرنا مراراً وتكراراً بأنَّ علينا أن نعترف بجميع خطايانا "المميتة" أمام الكاهن، لأنَّنا إذا لم نفعل ذلك نُدنِّسُ المقدَّسات ويُحكَم علينا بنار جهنَّم إلى أبد الأبدين. وقد كان ذلك مُعتاداً حسب اللاهوت الكاثوليكيّ بشأنِ الاعتراف، إلاَّ أنَّه أمرٌ مُروِّعٌ أن يُفرَض على أذهان الناشيءة الطريَّة مثلُ هذا التعليم القاسي القادر على سحق قلوبهم وإخضاعهم للخوف طوال حياتهم. وكانت نتيجةُ ذلك أنَّنا نسينا كلَّ ما يتعلَّق بمقابلتنا المرتقبة مع المسيح وركَّزنا كل جهودنا على المهمَّة الصعبة المتمثِّلة في تذكُّر جميع خطايانا (كماكان صعباً علينا جدّاً أن نتيقَّن أيَّةُ خطيئةٍ هي مميتةٌ وأيَّةٌ ليست مميتة) محاولين ألاَّ ننسى واحدةً منها البتَّة. كان ذلك عذاباً مروِّعاً للنفس تُهيمن عليه دائماً فكرةُ الخوف من الدينونة الأبدية. ومضى بعضُ الأولاد يطلبون إلى والِديهم أن يُساعِدوهم على تذكُّر خطاياهم، فيما أمضى آخرون ساعاتٍ بطولها وهُم يدوِّنون لوائح طويلة جدّاً تتضمَّن تعدِّياتهم، ثُمَّ يُحاولون أن يحفظوها غيباً. ولكن رُغمَ كلِّ شيء، بقيَ يُسَيطر علينا خوفُ نسيانِ بعض الخطايا لحظةَ الاعتراف الحاسمة. وهكذا اعتاد بعضُنا أن يأخذوا تلك اللوائح الطويلة إلى الكنيسة، حيث يجثون أمام كرسيِّ الاعتراف محاولين قراءتها خلسةً على مسمع الكاهن وهم يرتجفون خوفاً لأنَّ ذلك محظور. وما أكثر القلوب التي لازمها ذلك الخوف مدى الحياة فأضعف وعطَّل الإرادات حتّى بات أصحابُها مستعبَدين كليّاً تحت السلطة الاستبداديَّة المتمثِّلة في كنيستهم ورجال الاكليروس عندهم. فكان يكفي في ما بعد أن تُطلَب إليهم إطاعةُ الكنيسة وحدَها -ولو لم تُطاوِعْهم ضمائرُهم- وعدمُ حضور أيَّة اجتماعاتٍ "هرطوقيَّة" حيثُ يُكرز بالإنجيل صرفاً، بل أيضاً عدمُ التفكير البتَّة في مغادرة كنيستهم الأُمّ التي سوف يُحرَمون من شركتها فيُعاقَبون تالياً بالنار الأبدية. ولقد كان ذلك كافياً لسحق قلوب كثيرٍ من الأولاد سحقاً كليّاً، وتسبيب مرضٍ فعليٍّ لهم طوال حياتهم. وقد رأيت بعينيَّ هذا النوع من ضحايا الإرهاب الدينيِّ، وهالني ما رأيت أيَّ هول!

بعد تخرُّجي في المرحلتين الابتدائيَّة والثانويَّة، كان عليَّ اتخاذُ قراري بشأن مهنة الحياة. وكنت ما أزال اسمع صوت الربّ يدعوني للإقبال إليه، وأشعر في قلبي بالرغبة في تكريس حياتي كلِّها له. ولكنْ كيف أفعل ذلك؟ لقد عُلِّمتُ دائماً أنَّ الطريق الوحيدة المُفضية إلى الربّ تمرُّ عبر كنيسته الحقيقية فقط، ألا وهي الكنيسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة. وهكذا لم أرَ طريقةً أُخرى لاستجابة الدعوة غير أن أصير كاهناً في هذه الكنيسة الحقيقيَّة الواحدة. أمّا جميع الكنائس الأخرى فكانت تُعتبَر زائفة ومُهَرطِقة ومضادَّة للمسيح، وأنا كنتُ أومن بذلك حقاً.

تبعاً لذلك القرار، تسجَّلتُ طالباً في كليَّة اللاهوت بجامعة "لُوْوُو". وقد كُنَّا، نحنُ طلبةَ اللاهوت، مُلزَمين أن نعيش في معهدِ لاهوتٍ يُشبِه الدير إلى حدٍّ بعيد، يقع على تلٍّ وتحيط به أسوارٌ عالية، فيه حجرات صغيرة وممرّاتٌ طويلة.

في بادئ الأمر، شعرتُ بسعادة غامرة في ذلك المعهد. فقد بدا كلُّ ما فيه مختلفاً تماماً عن العالم الخارجي ومُقدَّراً له أن يوصِلنا سريعاً جدّاً إلى اتِّحادٍ شخصيٍّ بإلهِنا ومخلِّصنا. وآنذاك كُرِّست حَيَواتُنا لأمرين رئيسين: التأمُّل التعبُّديّ، ودراسة اللاهوت. وقد بدا أنَّ كِلا هذين سوف يؤدِّي حتماً إلى اتِّحاد المرء شخصيّاً بالله من طريق ابنه يسوع المسيح. وهكذا، فبكلِّ ما لدى الشابِّ من حماسةٍ وتشوُّق، عكفتُ على إنجاز جميع " العِبادات" المقرَّرة أو الموصى بها من قِبَل الكنيسة. فكنتُ أحضرُ كلَّ يومٍ قُدّاساً أو اثنين، وأتناول كلَّ صباح، وأعترف مرَّةً في الأسبوع، وأُنجِز بكلِّ دقَّة التأمُّلاتِ اليوميَّة والقراءات الدينية والصلوات المرعيَّة، وأحضر الخدمات المسائيَّة، وأُصلِّي السُّبحة والابتهالات، وأقرأ كتباً كثيرة تصف حياة القدِّيسين المطوَّبين محاولاً تقليدهم بأمانة حتَّى صِرتُ أُعَدُّ -بعد وقتٍ قصير- واحداً من أفضل تلامذة المعهد وأتقاهم. غير أنَّ جميع تلك المجهودات و"الاستحقاقات" لم تُقرِّبْني إلى المخلِّص. وقد كان ذلك اختباراً مُحبِطاً، إلاَّ أنَّ شخصاً آخر قد سبقني على هذه الطريق، أعني به الرسول بولس الذي كان قبل اهتدائه فرِّيسيّاً مخلصاً فحاول إحراز برِّه الخاصِّ بمجهوداته الشخصيَّة في مراعاة جميع قوانين الناموس الموصوفة كما علَّمه إيّاها معلِّمو دينه، إلاَّ أنَّ ذلك كُلَّه لم يُوصِلْه إلى السلام مع الله، وهو يعترف -في بساطةٍ وصراحة- بأنَّه قد أخفق (فيلبِّي 3). وأنا أيضاً قد أخفقت!

كان على جميع طَلَبة اللاهوت (المدعوِّين "إكليريكيِّين") أن يحضروا في الغالب طقوساً طويلة، لكنْ جميلة، في كاتدرائيَّة المدينة، يُجريها إمَّا رئيسُ الأساقفة وإمّا المطران، يعاونه عددٌ كبير من الكهنة بأثوابهم الفضيَّة والذهبيَّة المرصَّعة بالأحجار الكريمة المتألِّقة؛ حيثُ المذبحُ المزيَّنُ بالأزاهير الجميلة والذي تتوهَّج فوقه أضواءُ الشموع والمصابيح الكهربائيَّة الكثيرة، وعَبَق البخور، وحركاتُ الكهنةِ البطيئةُ والمدروسةُ فيما يحتفلون بالقُدّاس، وتراتيلُهم حسب الألحان الغريغوريَّة التي شاعت في القرون الوسطى، ذلك كلُّه يُشيع جوّاً سحريّاً إلى حدٍّ يجعل الكنيسةَ تبدو لكثيرٍ من نفوسِ البُسَطاء أشبه بغُرفةِ انتظارٍ للسماء. إلاَّ أنَّني تبيَّنتُ بالتدريج أنَّ تلك الاحتفالاتِ الكنسيَّة الأخَّاذةَ والآسِرةَ ليست إلاَّ مظاهر خارجيَّة لا يُحرِّكها أيُّ دافعٍ من الروح القدس على الإطلاق. وكثيراً ما كان يؤدِّيها الكهنةُ على نحوٍ أشعرني بالذُّعر. فلم يكن من العسير أن يتنبَّه المرءُ إلى كونهم هم لا يؤمنون بما كانوا يفعلون. وما كان بنادرٍ في أثناء الاحتفالات الطقسيَّة المهيبة الجارية في الكاتدرائيَّة أن يعمَد حتَّى كبارُ الكهنة إلى التهامُس ورواية النكات أو التندُّر ببعض أجزاء "الطقوس المقدَّسة" التي يُجرونها. وكانوا في بعض الأحيان يحتفلون على عجل، كزمرةٍ من الموظَّفين الرسميِّين يُريدون الإسراع في إنهاء أعمالهم وإقفال ملفّاتهم. وما أكثر ما ذكَّرني ذلك بالشكوى المرَّة التي وضعها الربُّ في فم نبيِّه: "فقال السيِّد: لأنَّ هذا الشعب قد اقترب إليَّ بفمه وأكرمني بشفتيه، وأمّا قلبه فأبعده عنِّي، وصارت مخافتهم منِّي وصيّة الناس معلَّمةً" (إشعياء 13:29). حتّى لقد روَّعتْني فكرةُ أن أصير في المستقبل كواحدٍ منهم، على حدِّ ما كتب واحدٌ من شعرائنا البولنديين الكبار: "بِلا قلبٍ ولا روحٍ، هاكُمْ شعب الهياكل العظميَّة!" (آ. مِيكِيْوَيْز).

يُعرَّف اللاهوت بأنَّه العلمُ الذي يدرس ما يتعلَّق بالله. ولكي نحوزَ هذا العلمَ كُنّا نحضرُ محاضراتٍ يُلقيها خيرةُ الأساتذةِ الكهنة في الجامعة المحليَّة. وأول مرَّةٍ اضطُرِرنا فيها إلى قراءة الكتاب المقدَّس ودراسته أخيراً كانت في سياق دراستنا للعهدين القديم والجديد. وقد دأبَ أساتذتُنا في التعليق على بعض المقاطع خصوصاً. وكان الكتاب المقدّس الذي استخدمناه هو الطبعةَ المصدَّقة والحافلة في كلِّ صفحة تقريباً بالتعليقات الوافية استناداً إلى تفسيرات الكنيسة الرسميَّة. ولم يكن مسموحاً لنا بأن نقرأ الكتاب المقدّس بغير هذه "الملاحظات" لكيلا يفهمه أحدٌ على خِلاف ما قصدته الكنيسة. وما لبثتُ أن تبيَّنتُ أنَّ تلك الملاحظات تميل إلى إلغاز معنى كلمة الله الواضح، بل وجدتُها في بعض الأحيان أيضاً مناقضةً له. فأخذت تُساورني بعضُ الشكوك، حتَّى ترسَّخت لديَّ قناعةٌ بأنْ لا بُدَّ من وجود خطأ ما في مكان ما. ولمّا حاولتُ أن أعثرَ على الجواب الشافي من طريق دراستي تعاليمَ الكنيسةِ الرسميَّة (المدعوَّة "العقائد") تبيَّن لي سريعاً أنَّها غير مؤسَّسة على كلمة الله وأنَّ منها ما يناقضها تماماً. لقد بدا لي أنَّ ثمَّة خطأً ما. ولكنْ ماذا وأين، لستُ ادري! وإذ أقلقتني تلك الشكوك التي عصفت بضميري، توجَّهتُ إلى مقابلة "أبينا الروحيّ"، وكان كاهناً عُيِّن خصيصاً لتوجيهنا وإرشادنا في مصاعبنا الروحيَّة. وبعدما أصغى بانتباه إلى ما أفضيتُ به، أعطاني هذا الجواب: "أنت تعلم أنَّه لا يُمكن أن يكون أيُّ خطإٍ في تعليم كنيستنا ما دامت هي كنيسة المسيح الوحيدة الحقيقيَّة على الأرض. فإن كان من خطإٍ فإنَّما هو في ضميرك، حيث إنَّك، وأنت شابٌّ بعد، تثور متمرِّداً على سلطةِ الكنيسة. فما هذا إلاّ نوعٌ من التجربة الروحيَّة التي يتعرَِّض لها طَلَبةُ اللاهوت الشبّان". ثمَّ نصحني بألاَّ أقلق، وألاَّ أُحاول العثور على حلولٍ لشكوكي، بل بالأحري أنساها كليّاً.

عملاً بهذه النصيحة، حاولت مخلصاً أن أكفَّ عن التفكير في شكوكي وأن أنساها. وما أكثر ما قاومتُ صوت ضميري الذي ما انفكَّ يُنذِرني بأنَّ ثمَّة خطأً ما، إلاَّ أنَّني لم أُفلِح طويلاً. فقد استمرَّ صراعي الروحيُّ هذا فعلاً طوال فترة دراساتي اللاهوتيَّة، حتّى حان موعدُ رسامتنا بعد نجاحنا في جميع الامتحانات المطلوبة. إذ ذاك أزِفَت لحظةُ قرارٍ صعبٍ جدّاً. فإذ كنتُ ما أزال في خضمِّ شكوكي وشعوري بوجود خطإٍ ما، ساءلتُ نفسي عن وجوب قبولي الرسامة أو الاستعفاء. ولمّا لم أشأ أن أركن إلى مشاعري الذاتيَّة، ذهبتُ لرؤية واحدٍ من أكثر كهنة المدينة تقوى وخبرةً، وطرحتُ عليه سؤالاً حول ما ينبغي أن أفعله. فكان جوابه: "ليس من داعٍ على الإطلاق لاستعفائك من الرسامة. فكلُّ امرئٍ تُساوره أحياناً بعضُ الشكوك حول تعاليم كنيستنا، غير أنَّها ليست خطيئةً ما دُمتَ تُحاربُها وتحاول التخلُّص منها. وعلى كُلٍّ، فبعد أن تُرسَم كاهناً سيُرسلك المطران سريعاً، مع زملائك، كُلاًّ إلى مركز عمله في الأبرشيّات، حيث لن يكون لك مُتسَّعٌ من الوقت ولو للاستمرار في التفكير في شكوكك". نصيحةٌ طمأنَتْني، فقبلتُ الرسامة وصِرتُ كاهناً.

ولم يكد يمرُّ أُسبوعان حتَّى تلقَّيتُ من أمين سرِّ رئيس الأساقفة إعلاماً بتعييني مُساعِداً لكاهنٍ في مدينة صغيرة واقعة في الجزء الجنوبيِّ الشرقيِّ من بولندا. والظاهر أنَّ ذلك الكاهن اعتبرني أصغرَ سنّاً وأقلَّ خبرةً من أن أتولَّى الخدمة في المدينة، فعهد إليَّ بأن أعتني روحيّاً بالريفيِّين في اثنتي عشرة قريةً تابعة للأبرشيَّة عينها. فوجدتُ أولئك الفلاّحين الفقراء شِبه أُمِّيين، لكنَّهم كانوا من النفوس البسيطة المُخلِصة للكنيسة والراغبة في ضمان خلاصها بأيَّة وسيلة. وكثيراً جدّاً ما أشفقتُ عليهم وعلى أولادهم، بالنظر إلى بساطتهم في الإيمان بكلِّ ما يقوله لهم كهنتُهم الذين تعلَّموا أن يحترموهم أقصى احترامٍ بوصفهم وسطاء بينهم وبين الله، وممثِّلين ليسوع المسيح. وكم آلمني وصدمَني أن أرى كيف تعوَّد الكهنة استغلال مراكزهم، ليس فقط لتعليمهم كلَّ نوعٍ من خرافات القرون الوسطى، واللجوء إلى وسيلة الترهيب بأهوال جهنَّم لاستبعاد نفوسهم، بل أيضاً لتحصيل الرِّبح المادِّيِّ بانتهاز سذاجتهم.

يقيناً أنَّ تلكَ لم تكُنِ الطريقةَ التي بها كان الربُّ يسوع يُعامِل جموعَ المقبِلين إليه. وقد قادني لأنْ أُحاول اتِّباع مثالِه إذ ملأ قلبي بالعطف عليهم لأنَّهم "كانوا منـزعجين ومنطرحين كغنمٍ لا راعيَ لها" وقد تسلَّط عليهمِ الأُجراء. كما ألهمني الربُّ حماسةً كبيرةً لهذا العمل، وأعتقد أنَّ إرشاده قد جعلني أعقد العزم، في تعليمي ووعظي، على أن أكون أقربَ ما يُمكن إلى إنجيله الكريم. وإنَّما شعرتُ بأنَّه، مهما كان الخطأ، لا يُمكِن أن يكون في الإنجيل أيُّ خطأ. وقد تعلَّمتُ أيضاً من مِثال الربِّ يسوع ألاَّ أعمد إلى بثِّ الخوف أو الرُّعب في قلب أحد، ولا سيَّما الأولاد الصغار الذين كنتُ أُلقِّنهم " التعليم الدينيّ" مصوّراً لهم المسيح بوصفه صديقَهم المُحِبَّ الذي لا داعيَ لأن يخافوا منه، وفقاً لكلامه المطَمْئن: "أمّا يسوع فدعاهم وقال: دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأنَّ لمثل هؤلاء ملكوت السماوات" (لوقا 16:18).

وخُيِّل إليَّ أحياناً أنَّني فعلاً قرَّبتُ إلى المخلِّص تلك النفوس الساذجة التي كنتُ مؤتمَناً عليها، ولكنَّني أنا بالذات كنت ما أزالُ بعيداً عنه. فقد كنت في طريق الضلال، ولم أكُن قادراً على الاهتداء إلى الطريق الحقّ المُفضي إلى المخلِّص العظيم. ومن ثَمَّ لم يبقَ عندي إلاَّ شيءٌ واحدٌ يمكنني أن أفعله بكلِّ يقين، ألا وهو أن أُصلّي. فكُنتُ أحبس نفسي في الكنيسة الفارغة، إمَّا عصراً حين لا يكون فيها أحد، وإمّا ليلاً حين تتسرَّب أشعَّةُ القمر من خلال الزجاج المُحجَّر فتبدِّد شيئاً من الظُّلمة، وأجثو على ركبتيَّ صارخاً إلى الربّ: "أللهمَّ أرِني الطريق الذي يُوصِلني إليك ويُبدِّدُ ظلامي؛ قُلْ لي ما هو خطأٌ وما هو صواب!"

هكذا صلَّيتُ سنةً بعد أُخرى، ولم يحصل أيُّ تغيير مرئيّ، ودام صراعي الروحيّ. لكنَّ الربَّ الرؤوف كان يُعطيني، بين الحين والآخر، بعض البراهين على سماعه لصلواتي. فمرَّةً بعد مرَّة كان يُرسِل إلى ظلمة قلبي شيئاً مثل أشعةِ النور، وفي ذلك النور تمكَّنتُ أن أُميِّز بوضوح ما هو صحيحٌ لأنَّه مؤسَّسٌ على صخرة كلمته المقدَّسة، وما هو خطأٌ لأنَّه مبنيٌّ على الرمال المتحرِّكة المتمثَّلة في التقاليد والتعاليم البشريَّة. في ذلك النُّور بَدَت لي أحياناً الكنيسةُ بكُلِّ نظامها وروحها محكوماً عليها بدينونة الله. ويكون أسهلَ فهمُ ما أعنيه بهذه الإنارات إن قدَّمتُ أمثلةً عليها.

مرَّةً جاءتني امرأةٌ ريفيَّة فقيرة مصطحبةً ابنةً لها في السادسة عشرة من العمر، وأخذت تشكو إليَّ حالة ابنتها باكيةً: "لقد حدث لابنتي شيءٌ ما. كانت في ما مضى فتاةً سعيدةً جدّاً. أمّا الآن فهي لا تتحدَّث إلاَّ عن جهنَّم، وهي مقتنعة بأنَّه قد حُكم عليها بالذهاب إليها". ولمَّا لم أكن قد سمعتُ من قبل شيئاً مثل ذلك، نظرتُ إلى وجه الفتاة متعجِّباً، فإذا بها شاحبةٌ جدّاً وفي عينيها بلاهة. أيُعقَل أن تكون ممسوسة؟ سألتُها سؤالاً أوِ اثنين، فلم تنبس ببنت شفة. ومن الخير أنَّها لم تكن عائشة في القرون الوسطى، وإلاَّ فإنَّها كانت قد أُحرِقت مربوطةً إلى عمودٍ بوصفها ساحرة مسكونة. ولكنْ ما العمل الآن؟ اِلْتَفَتُّ إلى والدتها وقلتُ: "ما قولُك في الأمر؟ متى وكيف بدأ هذا؟" لم تشإ الأُمُّ في بادئ الأمر أن تُطلِعني على رأىها؛ وفي ما بعدُ عرفتُ السبب. فقد خشيت أن تُثير غضبي بصفتي كاهناً. ولكنْ لمَّا شدَّدتُ على أنَّني لا أستطيعُ مساعدتها ما لم أعرف حقيقة الأمر كلِّه، رَوَت لي بعد تردُّدٍ القصَّة بكاملها: "قبل بضعة أشهرٍ من بدئك العملَ في أبرشيَّتنا، وفد إلى كنيستنا بعضُ الرُّهبان وأقاموا سلسلة اجتماعاتٍ دينيَّة. وعلى مدى أُسبوعين كانت كنيسة أبرشيَّتنا تكتظُّ كلَّ صباحٍ ومساءٍ بأُناسٍ تقاطروا، لا من البلدة وحدها بل من قرًى بعيدة أيضاً، للاستماع إلى العِظات في تلك الاجتماعات. وقد حضرت ابنتي تلك الاجتماعات كلَّها وأصغت بشغفٍ إلى كلِّ موعظة. غير أنَّ مُعظَم وعظ أولئك الرُّهبان كان عن جهنَّم المعدَّة للخَطَأة. وقُبيلَ رحيلهم، ابتاعت ابنتي منهم كتاباً تبشيريّاً، وعكفت على قراءته يوماً بعد يوم. إلاَّ أنَّ ذلك الكتاب أيضاً مملوء بقصصٍ مدارُها الدينونة الأبدية ونار جهنَّم" ثمَّ ختمت باكيةً قصَّتها المأساويَّة، فبتُّ أعرفُ ما حصل. لا بُدَّ أنَّ ابنتها مُخلِصة حقاً، لأنَّها اقتنعت بكونها خاطئة. لكنَّها سمعت الرُّهبان الذين لا بُدَّ أنَّهم بَدَوا في نظرها أشبه بقدِّيسين هبطوا من السماء مُنذرين الخُطاةَ بجهنَّم، وواصفين مختلف أنواع العذاب التي تنتظرهم هناك، ومِن ثمَّ اقتنعت بأنَّها صائرةٌ حتماً إلى جهنَّم لأنَّها خاطئة. وقد أكَّد لها فكرتَها هذه المروِّعةَ ذلك الكتابُ الذي صدَّق عليه المطران. أوّاه، ما أرهبَ العذاب الروحيَّ الذي اجتازتْه نفسُها قبل أن تعلوَ وجهَها هذه البسمةُ الذَّاهلة وتبدو عليها أعراضُ الاختلال العقليّ! هوذا أمامي واحدةٌ من الضحايا الكثيرين الذين جنى عليهم نظام الرُّعب الذي استخدمته الكنيسةُ التي أُمثِّلها وأخدمها. وشعرتُ كما لو كنتُ مُدَّعىً عليه متَّهماً بالمشاركة في تلك الفظاظات، أو أفعلَ شيئاً لبلسمة جراح هذه الفتاة التي أنـزلَتْها بها محكمةُ تفتيشٍ روحيَّةٌ. ثُمَّ في غمرة صدمتي، قلتُ للمرأة: "خُذي ابنتك إلى البيت، وأول شيءٍ تفعلينه هناك هوأن تجعلي ذلك الكتاب التبشيريَّ طعماً للنار، لئلاّ تتمكَّن ابنتُك من قراءته بعد. ثُمَّ خُذيها إلى أقرب مدينةٍ كبيرة فيها مصحٌ للأمراض العقليَّة، وأخبري الأطبّاء هناك بما أخبرتِني. والأرجح أنَّهم سيُبقونها هناك مدَّةً يجب في أثنائها أن نُصلِّيَ لأجل شفائها". بعد ذلك مَضتِ الأمُّ والبنت، وغالباً ما ذكرتُ هذه الفتاةَ المعذَّبة أمام الربّ.

مرَّت أشهُر، وذاتَ يومٍ عادت إليَّ تلك المرأةُ مع ابنتها لتشكرني على النصيحة التي أسديتُها إليها. قالت: "فعلتُ كلَّ ما قلتَ لي، وها قد ردُّوا إليَّ ابنتي من المستشفى لأنَّها شُفيَت". وبالفعل، بدت لي الفتاة أوفر صحَّةً، ولم أرَ في عينيها أثراً للبلاهة. وتكلَّمت معها فجاوبتني أجوبةً عاقلة ولم تذكُر جهنَّم بعد. ولكنْ كان ما يزال في عينيها شيءٌ أشبه بالحزن العميق جدّاً، أو قُلْ هو سؤالٌ مهمٌّ جدّاً: "هل أنا مُخلَّصةٌ أم هالكة؟" بلى، إنَّه لَسؤالٌ بالغ الأهميَّة بالنسبة إلى كلِّ إنسان، إليها وإليَّ وإليك. وعلى جوابِ هذا السؤال توقَّفت لا صحَّتُها فقط، بل حياتها الأبدية كذلك. من ثَمَّ بدأت أُقنع تلك النفس المسكينة بأنَّ ربَّنا يسوع المسيح لم يأتِ لكي يديننا بنار جهنَّم، مهما كُنّا مستحقِّين لها: "لقد جاء لكي يُخلِّصَكِ. لهذا قدَّم نفسه على الصليب، وسفك دمه، ومات لأجلك كي يأخذك إلى السماء". وبينما أنا أتكلَّم، إذا ببسمة السعادة تُشرق على وجهها شيئاً فشيئاً كالشمس الساطعة، ثمَّ ترتسم هُناك علامةً دائمةً على أنَّها صارت واحدةً من أولاد الله المؤمنين به. وهكذا تحطَّمت قيود الرعب الجهنَّميِّ التي قيَّدها بها أولئك الرهبان، ومضت في سبيلها بصبحة أُمّها في سلامِ أولاد الله وحرِّيَّتهم.

وكم من مرَّةٍ فتح الربُّ عينيَّ على حالاتٍ من هذا النوع، حيث أدَّى بَثُّ الخوفِ من الدينونة الأبدية في الصِّغَر بخيرة الرجال والنساء ذوي الضمائر الحسّاسة إلى معاناةِ اضطرابٍ عقليٍّ دائم في خضَمِّ خوفٍ مُقيم! هؤلاء يذهبون إلى كرسيِّ الاعتراف كلَّ أُسبوع، بل كلَّ يومٍ أحياناً، ويقضون ساعاتٍ معترفين بخطاياهم وأحوالهم "لآباء اعترافهم"، ثُمَّ يغادرون حُجرَة الاعتراف بشكوكٍ دائمة ومخاوِفَ من أن تكون اعترافاتُهم -لسببٍ أو لآخر- باطلة، ومن أنَّهم -نتيجةً لذلك- إذا ماتوا ينبغي أن يذهبوا إلى الجحيم. هؤلاء يُشبهون بَلوى تحلُّ بالكهنةِ المعرِّفين الذين يُعلَّمون خصوصاً خلال إعدادهم للكهنوت كيف يتعاملون مع أُناسٍ كهؤلاء يعانون "الوساوس". ولكنْ لا يبدو أنَّ أيَّ شيء يُريح هذه النفوس المُتعَبة من جهة مسألة خلاصهم المهمَّة جدّاً.

وكان من شأن حالةِ هذه الفتاة التي شُفيت من خوفها بوضعها ثقتَها في المخلِّص أن ذكَّرتني بضحيَّةٍ أكثرَ مأساويَّةً بعدُ كانت ما تزال ماثلةً أمام عينيَّ كُلَّما رجعتُ إلى مسقط رأسي في أيام العطلة. ففي أثناء زيارتي لوالديَّ هناك كانت تُتاح لي فرصةٌ محزنةٌ لمقابلةِ واحدٍ من أقربائنا الأدنَين كان زميلاً لي في المدرسة الابتدائيَّة الّتي أمَّيناها صغاراً. وكُنَّا كلَّ يومٍ بعد المدرسة نقصد إلى بستانٍ مجاور حيثُ نلعبُ مع أولاد آخرين. كان ذلك الفتى يصغرني بسنتين، وكان ذكيّاً ومجتهداً يحصِّل أعلى العلاماتِ دائماً. إلاَّ أنَّه تغيَّر كُليّاً بعد اعترافه الأول والاستعداد له. فلم يعُد يلعبُ بفرحٍ ومرح مع سائر الأولاد، بل كان يقصد مكاناً منعزلاً في البستان، حيث كنّا نجده أحياناً واقفاً قربَ شجرةٍ يهمسُ لنفسه ببعض الكلمات. وكانت أُمُّه تسأله: "ما خطبُك يا بُنيّ؟ لماذا تُكلِّم نفسك؟"فلم يكُن يُقدِّم لها أيَّ جواب. وأسوأُ من ذلك أنَّه لم يعُد ذلك التلميذَ الألمعَ، مع أنَّه كان يحاول بذل كلِّ جهدٍ في الدرس حتّى ساعة متأخِّرة من الليل، إذ كانت أفكاره منشغلةً بالخوف حتّى لم يعُد قادراً على تركيز الانتباه على وظائفه المدرسيَّة. وبينما هو يكبر، كان خوفه يكبر في داخله حتَّى استولى على عقله كليّاً. ولم يتمكّن من إنهاء دراسته الجامعيَّة بعد المباشرة بها، وجرَّب بضع وظائف، فطُرد من جميعها بعد فترة قصيرة. وكثيراً ما ردَّد موظَّفوه القول: "إنه لا يستطيع التركيز على عمله. حتّى إنَّه لمّا بلغ مبلغ الرجال ظلَّ يعتمد على إعالة أُمِّه الأرملة الفقيرة. حتّى أمهرُ الأطباء النفسيِّين لم يستطيعوا شفاءه. وآخرُ مرَّة رأيته فيها كانت قُبيل الحرب الأخيرة. كان آنذاك رجلاً في الخامسة والثلاثين من عمره. ولم يكن ينامُ، ليلةً بعد ليلة، بل يقف في وسط غرفة النوم والأنوارُ مُضاءة يُحدِّق أمامَه بعينين متَّسعتين خوفاً. ثمَّ جاءت الحرب، وفي أثناء الاحتلال النازيّ لبولندا، أُلقي عليه القبض مع كثيرين سواه وأُرسلوا إلى مُعتقَل، حيثُ كان عليهم أن يعملوا أعمالاً شاقَّة تحت حراسة عسكريِّين ألمان. وقد تبيَّن أن جهوده في العمل لم تكُن مُرضية، ولم يقتنع المسؤولون عن المُعتقَل أنَّه مشلولٌ جسميّاً من جرّاء الخوف. فبدأ الحرّاس الأفظاظ يضربونه دائماً حتّى إنَّه فارق الحياة بعد بضعة أشهر. تلك كانت النهايةَ المأساويَّة لرجُلٍ كان في صِغَره ولداً سعيداً يفتخر به والداه ويرجوان له مستقبلاً زاهراً حتَّى وقع عقلُه الغضُّ تحت إرهاب روما!

ولكنْ على الرغم من هذه الاستنارات والاختبارات الكاشفة للتناقض بين النظام الكاثوليكيِّ وإنجيل يسوع المسيح، بقيتُ على إعتقادي أنَّ الكنيسة الكاثوليكيَّة هي الكنيسة الوحيدة الحقيقيَّة في العالم، مُصِرّاً على اعتبار تلك المساوئ كلّها بمثابة أفعالٍ فرديَّة من قِبَل كهنتها الذين إمّا أفرطوا في حماستهم وهم يجتهدون للسيطرة على نفوس رعاياهم وضمائهم (مُثبِتين بذلك أنّهم "أكثر كثلكةً من البابا" ومستخدمين حتَّى الأساليب الرديئةَ للوصول إلى غاياتٍ رفيعة) وإمَّا فقدوا إيمانهم وغدَوا مُجرَّد "متكسِّبين" من طريق تأدية واجباتهم الرسميَّة أوتوماتيّاً. بيدَ أنَّني شعرتُ مرتعباً بأنَّني قد أصير من الصنف الأخير في المستقبل. لكنَّ الربَّ لم يسمح لي بأن أتردَّى في هذه الهوَّة الرهيبة، وإن كان قد عمل عملاً طويلاً ومُضنياً في التصدِّي لعنادي. فقد ظلَّ يعطيني إناراته العجيبة، مبيِّناً لي الخطأَ والصواب. استمرَّ ذلك عدَّة سنين، ولكنَّ بعض الاستنارات كانت بالغة الوضوح والأهميَّة حتَّى لم أقوَ على نسيانها، وما تزال ماثلةً في ذهني حتّى الآن.

ففي صبيحة يومٍ ربيعيّ، حينَ تكون الأيام في بلدي قاتمةً وباردةً لكثرة الثلج والمطر، وبُعيدَ عودتي إلى غرفتي من الاحتفال بالقُدّاس في الكنيسة، قُرِع بابي، ودخل سائقُ عربة خيل يسألني: "هلاَّ تأتي، يا أبَتِ، لإجراء المراسم الأخيرة لرجلٍ يُحتضَر!" قلتُ: "طبعاً، أُرافقك حالاً!" ثمَّ ذهبت إل الكنيسة لإحضار الخبر المقدَّس والعُدّة اللازمة في مثل هذه الحالة. وبعد دقائقَ قليلةٍ ألفيتُني راكباً بغير استِقرار في العربة على مقعِد مُرتجَل مصنوعٍ من القشّ؛ وسرنا في شوارع المدينة والسائقُ يدقُّ جرساً صغيراً فيما العابرون يُبدون أجلالهم للقربان المقدَّس بالجُثوِّ على الأرصفة وإحناء رؤوسهم، على ما هي العادةُ في البلدان ذات الأكثريَّة الكاثوليكيَّة.

وما هو إلاَّ قليلٌ حتَّى وصلنا إلى كوخٍ صغير في ضواحي المدينة. وأُدخِلتُ إلى غرفةٍ فقيرةِ الأثاث، واطئة السقف بحيث اضطُررت إلى الانحناء لئلا يرتطم به رأسي. لا شكَّ أن أناساً فقراء جدّاً يعيشون هناك؛ إذ كان الجزء الأكبر من الغرفة يشغله سريرٌ كبير عليه بعضُ القشِّ عوضَ الفراش وقد غُطّيَ بملاءة بيضاءَ عليها رجلٌ يموت. لم يكُن مُسِنّاً، بل كان في السادسة والأربعين تقريباً، لكنَّه بدا منهوكاً جدّاً -إمَّا من مرضه وإمّا من فقره أو من عمله الشاقّ؟ لستُ أدري، ولم يكنِ الوقت يتَّسع للسؤال، إذ لاحظتُ أنَّ روحه تكاد تُفارقه. فقد كان مستلقياً على ظهره، وعيناه مفتوحتان تحدِّقان إلى السقف، وهو يتنفَّس بمُنتهي الصعوبة. إذاً، كان ينبغي الإسراع بإتمام المراسم الأخيرة قبل موته. وهكذا بدأتُ أُحدِّثه لأُعِدَّه لاعترافه الأخير قبل إعطائه التحليلة ومناولته ومسحه بالزيت المقدّس. إلاَّ أنَّ شخصاً قاطعني. كانت هي زوجتَه وقد وقفت مستندةً إلى حائط باكيةً بمرارة. قالت: "عفوَك، يا أبتِ، لا أعتقد أنَّه يقدر أن يسمعك لأنَّه قد فقد وعيه". ولكنَّني فكَّرتُ أنَّها ربَّما تكون مُخطئة إذ تحسب ثِقَلَ سَمْعه المُحتَمَل دخولاً في الغيبوبة. فبدأتُ أصرخ في أُذنه: "إنَّ كاهنك هُنا، فحاول تذكُّر خطاياك واعترف بها". إلاَّ أنَّه لم يتنبَّه إليَّ قَطّ. حتَّى إنه لم يلتفت نحوي. الظاهر أنَّه قد فقد سمعه كُليّاً، ولكنَّ عينيه ما تزالان مفتوحتين، فلعلَّه يرى؟ فمحاولةً منِّي للوصول إلى نفسه الموشِكة على مغادرة هذا العالم، ولضمان خلاصه بإجراء المراسم الأخيرة له، استدرتُ حول سريره ووقفت ناحيةَ قدميه مُقابلَ وجهه راجياً أن ينظر إلى الأسفل لحظةً فيراني بردائي الأسود، وفوقَه مدرعتي البيضاء وبطرشيلي، فيُدرك أنَّ تلك فرصته الأخيرة للاعتراف والحصول على تحليلة الغفران. لكنَّني عبثاً انتظرت، إذ لم ينظر صوبي قطّ. الظاهر أنَّه فقد بصره ولم يعُد يرى شيئاً. ومرَّةً أُخرى حاولتُ الوصول إلى نفسه باستعمال حاسَّة اللمس. فمددتُ يدي إلى صليبٍ صغير يُحمَل دائماً في علبة القربان وقرَّبته إلى شفتيه، متوقِّعاً أن يُبديَ ولوِ العلامةَ المألوفةَ على ما كان جارياً، بتقبيل الصليب، ولكنَّه لم يتجاوبْ. ولكمْ تضايقَت نفسي لأنَّ كلَّ جهودي باءت بالفشل. فألفيتني واقفاً عند سرير ذلك الرجل المحتضر عاجزاً، رُغمَ حيازتي السلطةَ والقدرة الكهنوتيِّتين على تخليص نفسه وفتْح باب السماء له. طبعاً، عرفتُ من جرّاء دراستي اللاهوتيَّة أنَّ في وسعي أن أمنحه ما يُسمَّى "مغفرةً مشروطة" تكون نافذةً ولو لم يعترف بخطاياه، إن كان قد تاب عنها بإخلاص قبل دخوله في الغيبوبة. ولكنْ ماذا لو لم يكُن قد تاب؟ حسناً، يقول اللاهوتيُّون إنَّ الغلطة عندئذ تكون غلطته هو، وإن كان في حالة "خطيئة مميتة" لا تنفعه "المغفرة المشروطة" ويذهب تالياً إلى الجحيم. ولكنَّ ذلك ما لم أكُن أُريده. فقد كان يكفيني ما عانيتُ من أمر نفسي، ولم أشأ أن أكون مسؤولاً عن ذهاب ذلك المسكين إلى الجحيم. وهكذا بقيت واقفاً هُناك، واجِفاً قَلِقاً، شاعراً بعجزي الكلِّيِّ على رغم الوسائط التي توفِّرها الكنيسة لتخليص نفسٍ هالكة. لقد أثبتت تلك الوسائط قُصورها، وعدم يقينيَّتها، ولو طُبِّقت في هذه الحالة. وفي غمرة ضيقتي ألقيتُ نظرةً أُخرى على وجهه الشاحب الهزيل، فإذا بشيءْ غريبٍ يصعقني: كانت شفتاه تتحرَّكان! ها هما تتحرّكان باستمرار، فهل كان يقول شيئاً، وما هو؟ لم اسمع شيئاً حتَّى اقتربتُ إليه وقرَّبتُ أُذني من شفتيه. عندئذٍ فقط سمعت همساً واهياً جدّاً، ولكنْ لم أقدر على تمييز معناه. وركَّزتُ كلَّ انتباهي، فتمكَّنتُ أخيراً من سماع ما يقوله. لقد كان يردِّد: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي". إنَّها نفسُها الكلمات التي قالها الربُّ يسوع وهو يموت لأجل خلاص الإنسان "لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنّا 16:3). وإذ كان معلَّقاً على الصليب، أسلم روحه في يدي أبيه ناطقاً بهذه العبارة: "يا أبتاه، في يديك استودع روحي". والآن، ذلك الرجل المائت، العاجزُ عن رؤية أيِّ شيء، والفاقدُ الإحساس كليّاً، وغير الواعي لحالته في احتضاره، ظلَّ يُردِّد تلقائيّاً بهمسٍ متضائل: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي!" ثُمَّ تُوفِّي على هذه الحال.

لقد أخفقت الكنيسة وطقوسُها في تخليص نفس هذا الرجل. ولكنْ مهما كان شرُّه، فقد أعطاني الربُّ أقوى تأكيدٍ في اللحظة عينها أنَّه لا يحتاج إلى مغفرة مشروطة أو غير مشروطة، ولا إلى أيَّة شعائر أو أسرار مقدَّسة، ولا إلى مساعدتي الكهنوتيَّة لكي يخلص. ذلك لأنَّه سبق أن خلص من طريق إيمانه الشخصيِّ بالكاهِن والمخلِّص الحقيقي الوحيد، ربِّنا يسوع المسيح. ولا بُدَّ أنَّ ذلك الإيمان كان هو العاملَ الأساسيَّ منذ زمنٍ بعيد في أثناء حياته الشاقَّة ومرضه الأخير، وقد عزّاه وطمأنَ خاطره، حتّى إنَّه عند احتضاره تمكَّنت نفسُه المؤمنة من أن تُطلق، عبر ذهنه اللاواعي، هذه الصلاةَ المستمرّة: "يا أبتاه، في يديك..".

كان ذلك إعلاناً حقيقياً لي من عند الله وأحسنَ محاضرةٍ لاهوتيَّة سمعتُها في حياتي، إذ علَّمني الربُّ نفسُه قرب سرير إنسان محتضَرٍ أنَّ خلاص النفس لا يتعلَّق بأيَّة مجهوداتٍ بشريَّة، ولا بأيَّة طقوسٍ وعقائد من صنع الإنسان، بل هو مؤسَّسٌ على ذبيحة الربّ يسوع فوق الصليب ومتعلِّق بإيماننا الشخصيّ به وبالآب السماويِّ من خلاله. ولم أجد إثبات هذا الحقِّ في الكتاب المقدَّس إلاَّ بعد اهتدائي، وقد وجدته في كِلا العهدين: القديم (حبقوق 4:2 "... البارُّ بإيمانه يحيا")، والجديد (رومية 17:1 "...كما هو مكتوبٌ: أمّا البارُّ فبالإيمان يحيا"). وقد صدَّع إعلان الحقِّ لي وقوَّضَ إيماني بالعقيدة الكاثوليكيَّة القائلة بآليَّةِ قوّة شعائر الكنيسة وأسرارها. فمن الخير الكُلِّيِّ أنَّ خلاصَنا لا يتوقَّف على هذه الإجراءات غير اليقينيَّة وغير القابلة للتطبيق أحياناً، بل على رحمة الآب السماويِّ الشاملة لنا بذبيحة ابنه الحبيب والكاملة والوافية والحاسمة.

لكنَّني ظللتُ ملتصقاً بكنيستي "الحقيقيَّة الوحيدة"، حتَّى استجاب الله صلواتي أخيراً بضربي ضربةً قاسية. فانهارت صحَّتي وابتُليت بمرضٍ في كليتي اليُسرى. وعلى الرغم من كلِّ العناية الطبيَّة التي حظيتُ بها، صرتُ إلى أردأ، حتَّى أُحِلتُ بعد سنةٍ ونصف من المعاناة على طبيبٍ مختصٍّ فحصني فحصاً دقيقاً ثُمَّ قال لي إنَّ العلاج السابق كان خاطئاً بجملته وإنَّه ينبغي أن تُجرى لي جراحةٌ عأجلة لأنَّ حياتي في خطر. فأدخِلتُ المستشفى وأنا لا أدري كم ستكون العمليَّة طويلة وصعبة. ولمّا أفقتُ من التخدير كنت أُحِسُّ بضعفٍ شديد حتَّى لم أستطَعِ الحراك إلاَّ بصعوبةٍ بضعةَ أيام، ولم تكن لي رغبةٌ في العيش. فقد بدا لي أن حياتي كلَّها كانت فاشلة، بل غلطةً كُبرى، وأخفقتُ في العثور على طريقي إلى الله. شعرتُ بأنَّني مُتخَمٌ وقَرِفٌ من كُلِّ شيء، وخُيِّل إليَّ أنّ الحلَّ الأفضل هو أن أرحل عن هذه الحياة. ولم يبدُ ذلك مُستبعَداً على كلّ حال، إذ كنتُ تحت الخَطَر، حتَّى إنَّ طبيباً عادَني في الليل ليَرى هل ما زلتُ على قيد الحياة، لأنَّهم تصوّروا أنَّني سأفارق الحياة تلك الليلةَ بالذات. وقد استبدَّت بي اللامبالاة الكلِّيَّة، فرفضتُ أن أتناول الأدوية الموصوفة. وإذ كنتُ ما أزال أتوقَّعُ الموت، لأتحرَّر على الأقلِّ من عذابي الروحيِّ، عادَني عصرَ ذاتِ يومٍ أقربائي وسألني أحدهم هل كنتُ أُصلِّي لأجل شفائي. فأجبتُ بالنَّفي. وأدهشهم جوابي كثيراً، وطلبوا إليَّ متوسِّلين أن أُصلِّي. ولمَّا لم استطع أن أشرح لهم السبب، وعدتُهم بأنَّني سأُصلِّي لأنَّني أشفقتُ عليهم إذ رأيت مدى قلقهم عليَّ. كذلك انـزعج الطبيبُ منِّي كثيراً لمَّا عرف أنَّني لا أتناول الأدوية، وكان عليَّ أن أعِدَه بألاَّ أتركها على الطأولة بعد. ووفيتُ بِكلا الوعدين، ولو على الرُّغم من إرادتي. ولكنْ في صلاتي طلبتُ إلى الربِّ خصوصاً أن يشفيني فقط إن كان يقدرُ أن يُحدِث تغييراً في حياتي ويستخدمني في المستقبل حسبَ مشيئته. هذه الصلاة استُجِيبت على وجه السرعة. فأخذت حالتي تتحسَّن يوماً بعد يوم، حتّى اندهش الأطبّاء أنفسُهم لأنَّهم -كما قالوا لي لاحقاً- كانوا قلمَّا يَرجُون شفائي. وبعد إقامةٍ في المستشفى دامت شهرين، أُخرِجتُ منه، ثمَّ باشرتُ العمل على الرغم من كوني ما أزال ضعيفاً جدّاً، متسائلاً كيف سيَشفي الربُّ نفسي ويستخدمني بحسب مشيئته. وجاءتِ الاستجابةُ الكاملة بعد سنتين من الزمان تقريباً، حينَ بلغت معاناتي الروحيَّة حدّاً لا يكاد يُطاق. وكان ذلك في نهاية خمس عشرة سنة من خدمتي في كنيسة روما الكاثوليكيَّة. إذ ذاك أدركتُ أنَّني في المكان غير الصحيح.

بعد إنارات الربِّ لي خلال تلك السنين، أوقفَني أمام خيارٍ صعب: فإمَّا البقاء في الكنيسة الكاثوليكيَّة التي فيها وُلِدتُ ورسمتُ خادماً، وبذلك أحافظ على امتيازات الكاهن واحترام الشعب ورِضى الرؤساء والأمل الواعد بمنصبٍ هامٍّ في الهرميَّة الكنسيّة، ولكنْ أفقدُ الإيمان كليّاً ولا أتمكَّن البتَّة من الإقبال إلى الربّ؛ وإمّا مغادرةُ الكنيسة والكهنوت لأنَّ الأمر بجملته مغلوط وغيرُ مؤسِّس على كلمة الله، مسلِّماً نفسي بجملتها للربّ. وإن تصوَّرتَ أنَّني أطعتُ دعوة الربِّ هذه في الحال، فأنت مُخطئ. تصوَّر أنَّك منذ طفوليَّتك تعلَّمتَ أنْ "لا خلاص خارج هذه الكنيسة" وأنَّ كلَّ من ترك تلك الكنيسة يذهب إلى الجحيم وأنَّ أقسى العذابات هناك محفوظةٌ للكهنة المحرومين. وأن تُفصَل من الكهنوت في بلدٍ كاثوليٍّ، كإيطاليا أو اسبانيا أو بولندا، معناه أن يعتبرك أقرباؤك وأصدقاؤك ومُعظمُ الناس خائناً لا للكنيسة وحدها بل لوطنك أيضاً لأنَّ "الكاثوليكيَّ وحده هو الإيطاليُّ أو الاسبانيُّ أو البولنديُّ الحقيقيُّ". وهكذا يكون عليك أن تواجه نوعاً من المقاطعة الاجتماعية، أو على الأقلِّ جفاءً من قِبلَ أصدقائك القُدامى. ولذلك لم أقوَ على اتِّخاذ القرار الصحيح. لكنْ في الوقت عينه علمتُ أنَّها كانت آخر فرصة يقدِّمها لي الربّ، ومع ذلك عسر عليَّ انتهازها. فاستمرَّ عذابُ ضميري وصراعُه سنةً أُخرى. إنَّما كان أمامي أمرٌ واحدٌ أستطيع أن أفعله،وهو أن أُصلِّي: "ربّاه، اِفعلْ شيئاً ما لأنَّني ضعيفٌ للغاية، شدِّدْ روحي وساعدْني". هكذا كنتُ أصرخُ إليه، ليلاً ونهاراً، من أعماق قلبي.

وفي الأخير غمرتني نعمتُه فملأني بالجُرأة الكافية لإطاعة دعوته، حتّى استَهنتُ بأيِّ ألَمٍ قد يواجهني لاحقاً. وهكذا وضعتُ كلَّ ثقتي فيه، ولم أندم على ذلك قطّ. فإنَّ اهتدائي تمَّ بفضله تعالى، ولم يكُن لي أيُّ استحقاق ذاتيّ في الأمر، بل كان ذلك كما لو أنَّ ذراعيه الأزليَّتين حملتاني من الظلام ونقلتاني إلى حريَّة أولاد الله المباركة.

ثُمَّ ماذا حدث بعد ذلك؟ سؤالٌ طُرِح عليَّ مراراً وتكراراً بعد تخبيري عن رحمة الله العظيمة في هدايتي إلى ذاته. يُعوِزني كتابٌ بكامله للتحدُّث عن عنايته وجودته غير المحدودَّتين وعن البركة التي آتاني إيّاها بعد ولادتي الثانية. فلعلِّي ذاتَ يومٍ أُباشر كتابة كتابٍ كهذا لتمجيد الله. إنَّما الآن أودُّ أن أختم شهادتي بهذه العبارة الوجيزة:

إنَّ عذابي الروحيَّ وعدمَ يقيني ومخاوفي ولَّت عنِّي بجملتها، وأنا الآن سعيدٌ مع الربَّ كما لم أكُن يوماً. هذه السعادةُ أرغبُ وأُصلِّي أن يحوزها جميعُ الذين ما يزالون يتخبَّطون في الظلمة التي كنتُ أنا فيها حتَّى الْتفتَ إليَّ الربُّ ورحمني.

(الكاهن المولود ثانيةً: رومان مازيرْسكي)

  • عدد الزيارات: 2349