بالأمسِ كاهن واليومَ مُرسَل
شهادة شخصيَّة من الكاهن المولود ثانيةً
"داريو آ. سانتاماريّا"
وُلِدتُ في "بَلُّو" بمنطقة "أنطيوكيو" في "كولومبيا" في الثاني والعشرين من حزيران (يونيو) 1942. وكانت مدرستي الأولى مؤسَّسة "مانويل خوسيه كايْسِيدو" التي يديرها "الإخوة المسيحيُّون"، وهم رهبانيَّة متخصِّصة في تعليم الأولاد. هناك تعلَّمتُ ستَّ سنين. وبعد ذلك درستُ في مدرسة "الآباء السالِزيِّين" مدَّة خمس سنوات. أمَّا آخر سنة لي في المرحلة الثانويَّة فكانت في "بوغوتا" عاصمة "كولومبيا" عند الآباء الدومنيكان.
ثُمَّ حُزت إجازةً في الفلسفة. وفي الثامن من كانون الأول (ديسمبر) تسلَّمت رداء "الرهبان المبشِّرين" المعروفين بِاسم الدومنيكانيين أيضاً. ومنذ ذلك اليوم بدأتُ سنة تَرَهبُني الأولى، وارتديتُ الثوب الأبيض والكاب البُنِّي اللذين يلبسهما المُتَرَهْبِنون، وحُلق رأسي ما عدا حاشيةً صغيرة من الشعر. وفي تلك السنة درستُ القوانين الدستوريَّة والعوائد والالتزامات والامتيازات التي تنظِّم الحياة الدينيَّة في كنيسة روما الكاثوليكيَّة.
وقد حفلَتْ تلك السنة بكثير من العمل الشاقّ وبنظامٍ صارم، ولم يكن يُسمَحُ لنا بمحادثة الغرباء، ولا بأكل اللحم إلاَّ في أيام معيَّنة. وكان علينا أن نصوم كلَّ يوم جمعة، وأن نصلِّي ونرتِّل المزامير باللاتينيَّة. وكان واجباً أن نستيقظ في الرابعة من فجر كلِّ يوم، ونظلَّ صامتين حتّى الثانية عشرة والنصف. كما كان ينبغي لنا في كلِّ يوم أحد أن نعترف بخطايانا علناً أمام زملائنا ورؤسائنا. وكثيراً ما طُلِب إلى المخطئين أن ينطرحوا في الممشى حيث يخطو الإخوة الكهنة فوق أجسادهم الممدَّدة. ثمَّ نذرتُ بأن أبقى في الرهبنة ثلاث سنين. وفي الحال باشرتُ دراساتي الفلسفيَّة. وعلى مدى ثلاث سنين قضيتُ وقتي أدرسُ الماورائيّات والكونيّات والسيكولوجيا وعلم المنهج وتاريخ الفلسفة واليونانيَّة والعبريَّة. وبعد ذلك نذرتُ نذوري الرسميَّة، ثمَّ بدأتُ دروسي اللاهوتيَّة. وفي تلك السنة 1961، تعرَّفت بطليعة مفكِّري الكنيسة الكاثوليكيَّة. وفي نهاية السنة تلقَّيت رتبتي الأولى، وكانت درجة أُخرى في السلَّم الاكليريكيَّة.
في السنة الثانية من الدراسة اللاهوتيَّة، تلقَّيتُ رتبتين أو درجتين أُخريين في السلك الاكليريكيّ الكاثوليكيّ. وفي السنة الثالثة درستُ اللاهوت العقائديَّ والتاريخ وعقيدة التثليث. ثُمَّ حظيتُ بأولى الرُّتَب الكبرى، وهي رتبة شمّاس مُعاوِن. أمّا في آخِر سنة فقد درستُ القانون الأدبيَّ والواجبات الراعويَّة، ثُمَّ رُسِمتُ كاهناً كاثوليكيّاً.
غير أنَّ الربَّ دعاني إلى طريقٍ أُخرى. وأودُّ أن أُخبِركم ببعض ما جرى في داخلي فيما كنت أُحضِّر دروسي طيلة تلك السنين. فقد قرأتُ مقالةً عن الكتاب المقدَّس كتبها "دونوصو كورتيز"، وهو كاتبٌ اسبانيّ. وفيها يتحدَّث عن عظَمة الكتاب المقدَّس وإسهامه في الأدب العالميّ. ثمَّ يختم بحثه بفِقرة يتحدَّث فيها عن الكتاب المقدَّس باعتباره كتاب الله للبشر. عندئذٍ أدركتُ أهميَّة الكتاب المقدَّس بوصفه كتاباً خلاصيّاً.
وكان في بيتنا كتابٌ مقدَّس جميل دَوَّنّا فيه تاريخ الزيجات والوفَيَات والولادات، فكان شاهداً صامتاً للماجَرَيات في أُسرتنا، إلاَّ أنَّه كان شاهداً لم يتكلَّم إلينا قطّ لأنَّنا لم نُعلَّم قطُّ أن نقرأه. فبدأتُ أقرأ بعض المقاطع، فثارت في داخلي شكوكٌ كثيرة، أبتغيت لها حلاًّ. وتأكَّد لي أنَّه ينبغي أن أتقرَّب أكثر إلى الذين يعيشون ما يعلِّمه الكتاب. وعلى ذلك قصدتُ إلى صديقٍ إنجيليّ، وابتعتُ منه كتاباً مقدَّساً، ثُمَّ أجريت معه محادثاتٍ كثيرة. وأنجزتُ سلسلة دروسٍ بالمراسلة يقدِّمها الإنجيليُّون، إلاَّّ أنَّ أسئلة عديدة بقيت بغير إجابات.
حضرتُ مرَّةً اجتماع شبيبة إنجيليّاً، وأدهشتني معرفة أولئك القوم للكتاب المقدَّس. حتّى إذا صادف عيدُ مولدي، أهداني صديقي الإنجيليُّ مؤشِّرة كتابيَّة مدوَّناً عليها نصُّ الآية الواردة في يوحنّا 16:3. هذه الآية غدت مفتاح حياتي: "لأنَّه هكذا أحبَّ الله العالم حتَّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية". كنتُ قد ذهبت إلى مدرسة اللاهوت ظنّاً منِّي بأنَّ تلك الطريقة تُتيح لي تقديم ذاتي للربّ. ومن بين الرهبانيّات الكاثوليكيَّة الرفيعة الطراز، اخترتُ رهبانيَّتَي توما الأكويني والتفتيش، نظراً لعلماء اللاهوت الوعّاظ البارزِين فيهما وللخدمات الدفاعيَّة الجليلة التي قدَّمتهما للكنيسة. غير أنَّي لم أجد في معهد اللاهوت أيَّ سلامٍ داخليّ.
أبقى الربُّ دائماً تلك الآية الكريمة، يوحنّا 16:3، ماثلةً أمامي. ورحتُ أُسائل نفسي عن سبب وجودي في الدير ما دام الربُّ قادراً على تخليصي إلى التمام. فكلُّ ممارسات الدير والكنيسة زوائد لا داعي لها إن كان الخلاص بالإيمان. وحاولتُ التفتيش عن ممارسات الكنيسة في الأناجيل، فإذا بكلِّ شكٍّ يُفضي إلى شكٍّ جديد.
اِعتدتُ قراءة العهد الجديد باليونانيَّة منذ سنة دراستي الثانية. وبَدَت لي بعض الترجمات في رسالتَي رومية وغلاطية مستغربةً جدّاً. كما بدا أنَّ طريق الإيمان هي سبيل الضمان والأمان للمسيحيِّ المؤمن. ولكنْ لمّا سألتُ أُستاذي عن بعض الشروح لتبديد هذه الشكوك، أجابني بكلمات يوحنا الذهبيِّ الفم: "كلَّما توغَّلتُ في قراءة رسائل بولس، قلَّ فهمي لِما كتبه". غير أنَّ شكوكي تعاظمت حتّى غلَّفَت نفسي الظُّلمة. ولم أكُن آنذاك أومن بقيامة المسيح، لأنَّني اعتمدتُ "بَلطمانّ" مرجعاً رئيسيّاً.
ولكنَّ الاستزادة من دراسة كلمة الله أخذت تبدِّد شكوكي. وقد طالعتني الآية الواردة في رسالة كورنثوس الأولى 14:15 بالجواب القاطع: "وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطلةٌ كرازتنا، وباطلٌ أيضاً إيمانكم". من ثَمَّ صارت قيامةُ المسيح هي أعظمَ حقيقة تاريخيَّة في حياتي. وكنتُ قد صرتُ إنجيليَّاً في صميم القلب. ومن إنِّي لم أكن أومن بطقوس الكنيسة، فقد كنتُ ما أزال فيها. ثمَّ بدأتُ أرى أنَّ حياتي كلَّها كانت كذباً بكذب، إذ كنتُ عائشاً حياةً لم أعُد أومن بها.
وهكذا ذهبتُ عصرَ أحد الأيام لزيارة قسِّيس إنجيلي. وقد كان ذلك خلال العطلة الأولى التي أمضيتُها في المنـزل بعد سبع سنين من العُزلة. إذ ذاك درسْنا كلمة الله معاً، صدِّقوني. ثُمَّ ماذا كان عليَّ أن أفعل بعد؟ صلِّينا معاً وقبلتُ يسوع المسيح شخصيّاً بصفته مخلِّصي وربِّي الكليَّ الكفاية. وعندئذٍ صرتُ إنساناً جديداً.
وفي أعقاب ذلك أقبلت مشاكلُ كثيرة، ولا سيَّما من جهة عائلتي، لأن وجود كاهن في العائلة الكاثوليكيَّة أفضل من تقديم مذبح ذهبيِّ إلى الكنيسة. وقال أبي: "منذ مئتي سنة لم يطلع من أُسرة سانتاماريّا قاتلٌ أو لصٌّ أو زانيةٌ أو بروتستانتيّ... أنتَ أول واحد!" فاضطُرِرتُ إلى ترك عائلة عزيزة من ستَّة أفراد لأجل الإنجيل، إلاَّ أنَّني كسبتُ عائلةً قوامُها آلافُ المؤمنين الحقيقيِّين بالمسيح.
حاولتِ السلطات الكاثوليكيَّة أن تزجَّ بي في السجن، ولكنَّ كثيرين من المُرسَلين والمؤمنين المولودين ثانيةً وقفوا معي، وأنقذني الربُّ بمعجزة. كان عليَّ مغادرة كولومبيا، ولكنَّ الربَّ سدَّ حاجاتي وفتح لي الباب لدراسة كلمته في مدرسة للكتاب المقدَّس.
ثُمَّ وضع الربُّ على قلبي عبئاً لخدمة الشعب الاسبانيّ. وها أنا أعمل الآن مُرسَلاً في اسبانيا مع "مركز الهداية" ناشداً إيصال نور الإنجيل إلى القلوب الاسبانيّة الغارقة في الظلام. وإنِّي لَفي حاجةٍ إلى صلواتكم يوميّاً كي يجد كثيرون من الاسبان سلامهم في المسيح: "فإذ قد تبرَّرنا بالإيمان، لنا سلامٌ مع الله بربِّنا يسوع المسيح" (رومية 1:5).
(الكاهن المولود ثانيةً: داريو آ. سانتاماريّا)
- عدد الزيارات: 2303