الدرس الخامس والخمسون: الله روح
لا زلنا نقوم بدراستنا لوصايا الله العشر التي تلخص لنا الشريعة الأخلاقية. وقد انتهينا في درسنا السابق من الكلام عن الوصية الأولى التي تأمر بعبادة الله الواحد تمجّد اسمه وتنهانا عن عبادة الآلهة الوهمية التي يعبدها الوثنيون.
وهذا هو نص الوصية الثانية: قال الله بواسطة كليمه موسى:
"لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيّ، واصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي" (سفر الخروج20: 4- 6).
علينا أن نتذكر جيداً أن الله أعطى هذه الوصية لشعبه في أيام النظام القديم عندما كانت الدنيا غارقة بصورة شبه عامة في بحر الوثنية. فقد كانت أمم العالم تعبد الآلهة المختلفة وكانت هناك التماثيل المنحوتة لهذه الآلهة. ولذلك نرى أن الله لم يكتف بتحريم عبادة الآلهة الوهمية بل أمر شعبه أن يمتنعوا عن صنع أي تمثال ما كطريقة للعبادة حتى ولو كان ذلك التمثال أو الصورة يُنظر إليهما كمساعد لعبادة الله الواحد. والسبب الهام لهذه الوصية الثانية هو أن الله روح وعلينا ألا نعمد إلى تشبيهه بأي شيء حسيّ. إن الإنـزلاق إلى خطية عبادة الآلهة الكاذبة إنما يجري عادة بالانـزلاق إلى تمثيل الله بواسطة تماثيل حسية. وبالفعل نعلم من دراساتنا لحضارات الأمم الوثنية القديمة والحديثة أن أصنامهم هي تماثيل يُقصد منها مساعدتهم في عبادة ألهتهم وهذه التماثيل هي إما تماثيل تُشبه بني البشر أو الحيوانات. وبما أن الله تعالى يعرف عمق الوهدة السحيقة التي سقط فيها الإنسان فإنه يطلب من الذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً بأن يمتنعوا عن التمثل بالوثنيين في أمور العبادة. الله روح كما علّمنا السيد المسيح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا. وإن كان الله يرغب منا أن نحيا حسب مشيئته المقدسة في أمور حياتنا وفي جميع النواحي التي تتعلق بهذه الدنيا فكم بالحري علينا أن نتمسك بوصيته المتعلقة بطريقة عبادته.
ومن المعلوم أن الذين يقومون بتمثيل الله بواسطة تماثيل حسية لا بد لهم من أن يفكروا أن الله هو على شاكلتهم أي أن الذين يحاولون عبادة الله بواسطة تماثيل إنما يقعون في خطية كسر الوصية الأولى. لأن جميع وصايا الله كما سنرى في دروسنا المقبلة هي متشابكة حتى إن من ابتدأ بكسر واحدة منها لا بد له من الوقوع في خطايا تتعلق بالوصايا الأخرى.
وقد أظهر الله في نص هذه الوصية مقدار غضبه على تشبيهه بآلهة الوثنيين عندما تكلم عن غيرته التي تفتقد ذنوب الآباء في الأبناء وهذا يُظهر لنا أن الباري لا يتساهل مطلقاً في موضوع طريقة عبادته. وهو يظهر لنا مقدار سخطه وغضبه على مرتكبي هذه الخطية ليكون كل إنسان على حذر وليعلم تماماً أن التعدي على هذه الوصية إنما تكون له عواقب وخيبة حتى إلى أجيال متتالية. وهذا يتفق مع قوانين الحياة التي وضعها الله في صلب هذه الدنيا: كل متعدّ على قانون الحياة ينال جزاء تعديه. فالإنسان إنما يحصد ما قد زرع في حياته. فكما أن الإنسان الذي لا يبالي بقانون الجاذبية يرى أنه يُعاقب فوراً بالسقوط وربما بالموت الجسدي هكذا أيضاً في أمور الروح وعلاقة الإنسان بالله.
ولا يكتفي الله بالكلام عن مخالفي وصيته الثانية بل إنه يتكلم أيضاً عن حافظي هذه الوصية عندما يقول لنا هذه الكلمات المشجعة والمعزية: "واصنع إحساناً إلى ألوف من محبيّ وحافظي وصاياي" إنه تعالى يعلّمنا بأن الذين يعبدونه حسب تعاليم كلمته والذين يبتعدون كل الابتعاد عن خطية تمثيله بواسطة التماثيل المنحوتة يصبحون موضوع إحسانات الله وبركاته وليس هم فقط بل أولاد أولادهم وأحفادهم البعيدين. إن بركة الرب تأتي بشكل غزير وتنهال أيضاً بشكل مستمر على كل من يعبد الله عبادة روحية حقيقية.
طبعاً علينا ألا نظن أن هذه الكلمات تعني أن أولاد غير المؤمنين يجدون باب التوبة مقفولاً بشكل مطلق لأن آباءهم كانوا قد عبدوا الأصنام، لأن الله لا يرغب في موت الخطاة ولذلك فإنه يرغب في رؤية الجميع يتوبون وإلى معرفة الحق يُقبلون. ولكنه من الغالب أن نرى أن شر الأشرار يستمر في عمله التدميري إلى عدة أجيال ولولا نعمة الله المجانية وعمله الفدائي في المسيح يسوع لما كان هناك أي مخلوق تائب ولكان باب التوبة والخلاص موصداً في وجه الجميع.
وكذلك علينا ألا نتصور بأن الأبناء باتكالهم على إيمان آبائهم إلى هكذا صورة حتى أنهم يستطيعون أن يتنصلوا من واجباتهم تجاه الله وعبادته عبادة حقيقية وقلبية. إنه من الاعتيادي أن يسير الأبناء على طريق الآباء المؤمنين ولكنه من المؤسف جداً أن نرى البعض يزيغون عن الطريق المستقيم ولا يعبدون الرب عبادة روحية قلبية كما كان يقوم بذلك آباؤهم. ولذلك ليهتم كل إنسان بأن يكون من حافظي هذه الوصية بشكل يتفق مع جميع تعاليم وتفاسير كلمة الله. فكل إنسان مسؤول عن نفسه، وواجب كل واحد منا أن نعبد الله عبادة حقيقية، عبادة تتفق مع روح الوصية الثانية والأولى لأن الذي نعبده هو الله خالقنا وفادينا ومجددنا له المجد إلى الأبد، آمين.
- عدد الزيارات: 2862