الدرس الخامس والثلاثون: أومن بالروح القدس
ابتدأنا في درسنا السابق بدراستنا لموضوع الروح القدس. في هذا الدرس نهتم بصورة خاصة بالبحث في الأمور العملية التطبيقية لهذه العقيدة. لأن كل عقيدة كتابية كما قد ألمحنا في مناسبات سابقة ليست عبارة عن تعليم نظري فلسفي بل إنها عقيدة حياة وعمل. ويمكن تلخيص ما ذكرناه في الدرس الماضي بقولنا أن عمل الروح القدس هو ضروري بشكل مطلق لأن الإنسان لا ينتفع مطلقا من الخالص العظيم الذي أتمه المسيح يسوع بدون بركة وعمل الروح القدس. عندما صهد المسيح إلى السماء بعد قيامته المجيدة الظافرة من الأموات وعد بإعطاء أتباعه المؤمنين عطية الروح القدس ليستطيع جميع المؤمنين به أن يثابروا على الحياة الجديدة التي يدعوهم إليها الله في المسيح يسوع.
ويمكننا الآن أن نقول مايلي عن عمل الروح القدس الخلاصي في قلب وحياة كل مؤمن:
أولا: ينير الروح القدس أذهاننا لكي نصل إلى معرفة حقيقية وأكيدة بالمسيح يسوع ونعمه الخلاصية. مجرد سماع كلمة الإنجيل لا يُحْدِث تغييرا في قلب المستمع. إننا جميعا حسب طبيعتنا البشرية الحالية التي ورثناها عن آدم كالتربة غير الصالحة التي لا تسمح لبذار كلمة الله بان تعمل فينا. فحاجتنا الماسة إذن ليست فقط إلى سماع الكلمة بشكل خارجي بل إلى إنارة أذهاننا وعقولنا لنقبل كلمة الإنجيل ككلمة الله المنقذة والمحررة. والروح القدس الذي أوحى بكلمة الإنجيل هو الذي يهيء قلوب السامعين لقبولها. وهناك فرق كبير بين كلمة الله وكلمة الإنسان، كلمة الله تصل إلى آذاننا وتدخل عقولنا وإن صاحبتها قوة الروح القدس المنعشة تأتي بالأثمار الجيدة أما كلمة الإنسان فإنها تعمل من تلقاء نفسها وتأثيرها سطحي ووقتي وجزئي ولا تأتي بالإنسان إلى معرفة خلاصية بالله لأن منبعها عقل الإنسان المظلم.
ثانيا: الروح القدس يختم نِعم الله الخلاصية في قلوبنا ويطبعها عليها بهكذا صورة حتى أنها تُصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا. لا يكتفي الروح بإنارة أذهاننا بل إنه يداوم على عمله الهام في قلوبنا ولا يتركنا مطلقا لأنفسنا لئلا نخسر ما حصلنا عليه من نعم روحية. وبعبارة أخرى لا يُعطينا الله روحه القدوس فقط في بدء حياتنا الجديدة بل إنه يهبنا روحه القدوس لسائر أيام حياتنا.
ثالثا: الروح القدس يجدّدنا جاعلا منا خلائق جديدة وهكذا نحظى بواسطته على سائر الخيرات والمواهب التي تُقدم لنا في المسيح يسوع وهو يعزينا في سائر أيام حياتنا على الأرض ويبقى دوما معنا أثناء الأبدية. وهذا الأمر لا يمكن وصفه كما يجب لأننا نعجز بالحقيقة عن إيجاد كلمات كافية للتعبير عن هذا التغيير الشامل والتام الذي يُحدثه الروح القدس في قلوب الذين يؤمنون بالمسيح يسوع. ولكننا نعمل جيدا أن نَحْذوَ حَذوَ الكتاب المقدس ونشير إلى عمل الروح القدس في قلوب الذين صاروا من المؤمنين كالولادة الثانية أو الولادة من السماء أو الخليقة الجديدة. وهنا نرى كمال العمل الإلهي العظيم الذي غايته خلاص الإنسان: لا يكتفي الله تعالى بإرسال ابنه الوحيد إلى العالم ولا يكتفي الابن بالموت عن الناس الخطاة للتكفير عن خطاياهم بل يُرسل الله الروح القدس إلى العالم ليُغيِّر قلوب الناس ويجعلها قلوبا متجددة وراغبة في قبول الخلاص العظيم الذي أعده الآب وأتمه الابن.
وهذه بعض الآيات الكتابية التي تُلقي نورا على هذا الموضوع:
أنهى الرسول بولس مقدمته في الرسالة إلى مؤمني أفسس بهذه الكلمات التي تشير إلى عمل الروح القدس:
" وفيه أنتم أيضا، إذ قد سمعتم كلمة الحق، إنجيل خلاصكم، وبعدما آمنتم به، خُتمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عُربون ميراثنا لفداء مقتناه، لمدح مجده" (1: 13و 14).
وفي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس كتب الرسول بولس عن بركة الروح القدس على المناداة بالإنجيل قائلا:
" وأنا لما أتيت إليكم أيها الأخوة، أتيتُ ليس بسمو الكلام أو الحكمة مناديا لكم بشهادة الله، لأني لم أعزم أن أعرف بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبا. وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة. وكلامي وكرازتي (أي مناداتي بالإنجيل) لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المُقْنع بل ببرهان الروح والقوة، لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله.
" لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يُبطلون. بل نتكلم بحكمة الله في سر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا، التي لم يَعلمها أحد من عظماء هذا الدهر، لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد. بل إنسان ما أعده الله للذين يُحبونه. فأعلنه الله لنا نحن بروحه. لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَنْ مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟ هكذا أيضا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لِيَعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله، التي نتكلم بها أيضا لا بأقوال تُعَلِّمها حكمة إنسانية بل بما يُعَلِّمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات. ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرف لأنه إنما يحكم فيه روحيا. وأما الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يحكم فيه من أحد. لأنه من عرف فِكر الرب فيعلِّمه؟" (الفصل الثاني).
- عدد الزيارات: 2972