الدرس السابع والعشرون: آلام يسوع المسيح الروحية
لم تكن آلام السيد المسيح آلاما جسدية فحسب بل إنه تألم وهذا ما يغْرب عن بالنا عندما نتكلم عن موضوع آلام المخلص له المجد. ولذلك فإننا سنبحث الآن في موضوع آلام السيد المسيح الروحية لكي نُكَوِّن فكرة متزنة عن جميع الآلام التي تذوقها ولئلا نُفكر بأنها كانت جسدية فقط.
قبل أن يأتي الخائن يهوذا بشرذمة الجنود للقبض على المسيح كان الرب في بستان جثسيماني حيث يمكننا أن نشاهد معركة روحية شديدة تدور رحاحا في نفس المخلص. إنه له المجد لم يكن خائفا من الموت على الصليب الذي كان أمرا أكيدا، بل كان حسب قول البشير لوقا: " في جهاد وكان يُصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض" (الإنجيل حسب لوقا 22: 44) أي أن يسوع المسيح كان يخوض معركة روحية شديدة لدرجة أن الدم أخذ ينـزل من جبينه. لم يكن الموت على الصليب يُخيفه ولم يحدث في تاريخ البشرية بأسرها إن تكرر هذا الأمر لدى الذين كانوا على باب الاستشهاد في سبيل إيمانهم. كان جهاد الجثسيماني جهادا روحيا عنيفا إذ أن المخلص كان يتألم روحيا حاملا على نفسه خطايا العالم. فكما أن قصاص الخاطئ يأتي على جسده وروحه هكذا أيضا تألم المسيح جسديا وروحيا لإنقاذ جميع المؤمنين به عبر التاريخ البشري. وقد انتصر المخلص له المجد جسديا وروحيا على الشيطان. نشاهد على أكمة الجلجثة آلام المخلص الجسدية أكثر مما نشاهد آلامه الروحية بينما في بستان الجثسيماني نرى آلامه الروحية التي استمرت أيضا على الصليب. ولذلك يمكننا القول بعض الاضطلاع على هذه المعلومات الكتابية إن تقدمة المسيح يسوع كانت تامة وكاملة ولذلك فإن الخلاص الذي كسبه لنا هو تام وكامل ويشمل الجسد والنفس.
وهذا ما يسرد لنا الرسول متى في الإنجيل المعروف باسمه:
" حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جثسيماني فقال للتلاميذ: اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلي هناك. ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت، امكثوا ههنا واهروا معي. ثم تقدم قليلا وخرّ على وجهه وكان يصلي قائلا: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تُريد أنت. ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياما. فقال لبطرس: أهكذا ما قَدَرْتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف. فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا: يا أبتاه إن لم يكن أن تَعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك. ثم جاء فوجدهم أيضا نياما، إذ كانت أعينهم ثقيلة. فتركهم ومضى أيضا وصلى ثالثة قائلا ذلك الكلام بعينيه. ثم جاء إلى تلاميذه وقال لهم: ناموا الآن واستريحوا، هو ذا الساعة قد اقتربت وابن الإنسان يُسلِّم إلى أيدي الخطاة. قوموا ننطلق، هوذا الذي يُسلِّمني قد اقترب" (26: 36- 46).
ولكن لماذا كان على المسيح يسوع أن يتألم بهذه الصورة الشديدة؟ لأنه تقدَّم أمام المحكمة الإلهية ليكفر عن خطايا الناس وكممثل للبشرية الجديدة. ولذلك كان لا بد له من أن يشعر ضمن ضميره بهذا الحزن الشديد الذي لا يوصف والذي ينتج عن الخطية. وقد مثل المسيح المؤمنين به وناب عنهم إلى هكذا درجة حتى أنه شعر وكأن الله الآب تركه وغضب عليه. وإذ كان في وَهْدَة هذه الآلام الشديدة قال وهو مسمرا على الصليب: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ طبعا إن الله لم يكن قد غضب على المسيح في ذاته بل إن غضب الله هذا كان عليه كممثل ونائب عن البشرية. وبذلك تمت نبوات أشعياء التي تفوه بها قبل مئات السنين من الميلاد:
" لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمَّلها ونحن حسبناه مصابا مضروبا من الله ومذلولا وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبِحُبُرِهِ شُفينا" (53: 4و 5) وكتب الرسول بطرس أيضا عن هذا الموضوع في رسالته الأولى:
" الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر، الذي بِجَلْدته شُفيتم" (2: 24).
وبما أن السيد المسيح تألم بهذه الصورة الشديدة التي وصفها لنا الأنبياء والرسل فإننا نقول أن الإنسان الذي لا يحتمي بالمخلص ولا يثق به ثقة تامة ليس عليه سوى مقابلة الموت ونتائج الخطية لوحده. فآلام الجحيم التي تذوقها الرب أثناء آلامه الروحية الشديدة تعني أن المؤمن به لن يتذوقها مطلقا في الحياة الآتية ولكن الذي لا يؤمن به فأي رجاء له من النجاة من العقاب الأبدي هو مترتب على كل بشري غير تائب وغير مؤمن بمخلص البشرية؟
ويصعب علينا جدا أن نتفهم بصورة تامة قيمة هذا العمل الخلاصي العظيم الذي أتمه الرب يسوع المسيح ولكننا نفرح ونتهلل لأنه قام بكل شيء كممثل عنا لينقذنا من الموت الأبدي الذي يدعوه الرسول يوحنا في سفر الرؤيا بالموت الثاني. كفى أن تعلم أن السيد له المجد بآلامه الروحية والجسدية الشديدة وبموته على الصليب أنقذنا من الجحيم ومن حياة البؤس الأبدي. وإن كنا قد أُنقذنا من أهول وأفظع خطر يكمن للإنسان في المستقبل فهل يوجد شيء في الوجود يقدر أن يُخيفنا ويَجعلنا تحت رحمة الهلع الدائم؟ فلنفرح ونتهلل اليوم وكل يوم من حياتنا ولنقدم ذواتنا لخدمة المسيح يسوع معترفين به كرب وكسيد لكل حياتنا.
وأخيرا نقتبس هذه الكلمات من قول أحد قادة عصر الإصلاح في القرن السادس عشر عن نتائج عمل المسيح الكفاري على الصليب:
" نعترف بأن السيد يسوع المسيح هو معنا إلى هكذا درجة حتى أنه بالإمكان القول أن ما له هو أيضا لنا وما لنا هو له. وهذا التبادل العجيب الذي قام به حسب جَودته اللامتناهية جعله يأخذ فِقْرنا ويُعطينا غِناه، وإذ حمل على نفسه ضعفنا منحنا أيضا قوته، وإذ أخذ عنا أعطانا عدم موته، وإذ أخذ أيضا عبء خطايانا الثقيل على نفسه ذلك العبء الذي كان يطفو علينا أعطانا بره، وإذ نـزل إلى الأرض أعطانا طريقا للسماء، وإذ صار ابن الإنسان مكننا من أن نكون أولاد الله".
- عدد الزيارات: 6620