Skip to main content

الفصل الثالث عشر: شهود يهوه والدم

لا يسعني أن أختم "الرد على شهود يهوه" من دون أن أحدد موقف المسيحية من تعليمهم الغريب الذي ينادي بالامتناع عن نقل الدم إلى جسم إنسان بغية إنقاذه من إصابة تعرّض لها، مهما كان لذلك من عواقب على الحياة.

تأثرّتُ جداً بقراءتي حادثة نشرتها جمعية برج المراقبة [139] عن طفل يبلغ من العمر عشر سنوات، كان قد تعرّض لحادث فجائي نُقل على أثره إلى المشفى للمعالجة. وحين استلزم الأمر نقل الدم إليه امتنع والداه،وهما من جماعة شهود يهوه، عن منح الأطبّاء موافقة خطية بذلك، مدّعين أنّ الكتاب المقدس لا يسمح بنقل الدم. وهكذا سُلّم الطفل إلى قبضة الموت المرير بموافقة أبويه وعلى مرأى منهما. وإذ ذاك مدحت المنظمة الوالدين على الشجاعة التي أبدوها في هذا الموقف العصيب، لاسيما وقد ضبطوا عواطفهم في سبيل إطاعة يهوه.*

ليست هذه إلاّ حادثة من فيض الحوادث التي فيها يقدّم شهود يهوه أنفسهم وأطفالهم للموت تحت شعار "طاعة الله". وبما أنّ هذه العقيدة خطرة على جسد الإنسان ونفسه وروحه، نرى من واجبنا أن نبيّن بطلانها في ضوء كلمة الله.

ما يختص بأكل الدم 

قالوا:"كلمة الله تنهي عن أكل الدم في العهد القديم (تكوين9: 3 و4، لاويين17: 10)؛ كما تلزم المسيحيين أيضاً في العهد الجديد "لأنه قد رأى الروح ونحن...أن تمتنعوا غمّا ذُبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا" (أعمال15: 28 و29)".[140]

الرد:

1- أمر الله بالامتناع عن الدم لأنّ حياة الجسد هي في الدم. وقد أمر أن يؤتى به على المذبح للتكفير عن خطية الإنسان (لاويين17: 11). من أجل هذا ما زال اليهود يقدّسون الدم كرمز للحياة ولقدسيّتها، وهم بذلك ملزمون بالامتناع عن أكله بحسب أمر الناموس الموسوي. أما كلمة الله فلا تلزم في موضع ما المسيحيين العمل بهذا الناموس الذي حرّرنا منه المسيح. ومن أجل إزالة غبار الشكوك وإنارة الأذهان وهدم كل مساعٍ لتهويد المسيحية والرجوع بها إلى عبودية الناموس، نزيد على ما اقتُبس قبلاً من كلمة الله الآيات التالية:

"إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرّر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح" (غلاطية 2: 16).

"لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة" (غلاطية 3: 10).

"قد تبطّلتم عن المسيح أيها الذين تتبرّرون بالناموس. سقطتم من النعمة" (غلاطية 5: 4).

فإن كان الناموس لا يبرّر أحداً فلا يعقل أن الله يلزم المسيحيين بالعمل به.

2 - قرار الرسل والمشايخ في الكنيسة الأولى بشأن حثّ المؤمنين الأمم على الامتناع عمّا ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا، ليس وصية يعمل بها في كل العصور والأزمنة، بل هو قرار يختص بالكنيسة الأولى وله غرض أساسي وحيد ألا وهو مراعاة شعور المؤمنين بالمسيح من يهود صعب عليهم قبول ممارسات الأمم التي قبلت المسيح، وبذلك تتوطّد العلاقة بين هذين الفريقين في الكنيسة. لأن عدم مراعاة مشاعر الفريق اليهودي كان سيؤدّي حتماً إلى تعثّر واضطراب في مسيرة الكنيسة، وذلك بسبب ضميرهم الذي كان لا يزال يراعي الناموس إلى حدّ كبير. ويعالج الرسول بولس في رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس المتحدّرة من أصل أممي أمر العثرات فيوصيهم، "كونوا بلا عثرة لليهود ولليونانيين ولكنيسة الله" (1كورنثوس 10: 32). إذاً، القرار لا يتعلّق بمسألة حفظ نواميس ووصايا، لكنّ الظروف التي واكبت الكنيسة في ذلك العصر حتّمتة. وما يؤكّد ذلك، عدم ذكر أمر الدم في أيّ مكان آخر من العهد الجديد، بل نقرأ بالمقابل: "فلا يحكم عليكم أحد في أكل وشرب" (كولوسي 2: 16). كذلك "كل الأشياء تحلّ لي لكن ليس كل الأشياء توافق...الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة والله سيبيد هذه وتلك" (1كورنثوس 6: 12 و13).

اعتراض: "يجب أن نمتنع عن الدم، وقيامنا بذلك هو قضية خطيرة إذ جرى وضعها على مستوى الزنا والصنمية". [141]

نقول: إن المفاد بالزنا الوارد ذكره في قرار الرسل والمشايخ هو بالأكثر الزواج الوثني المتناقض مع عادات اليهود وسُنّة زواجهم. هذا لأن الزنا على العموم، وفي كلّ الأحوال، لا مكان له في المسيحية، وبالتالي لا يحتاج الأمر إلى مجامع خاصة تقرّر منعه أو لتبتّ في ما يجب حفظه من الوصايا المتعلّقة بالأخلاقيات، وإلا لجاز لنا الاعتقاد بأنّ الزنا كان مباحاً قبل انعقاد المجمع، وإن خطايا أخرى كالقتل والكذب والسرقة لم تُعتبر على قدر من الأهمية لأنّ القرار لم يلحظها.

خلاصة الكلام في موضوع أكل الدم هو، أن معشر المسيحيين، وإن امتنعوا عن أكل الدم فإنما يمتنعون عن ذلك لأجل تجنّب العثرات وعدم جرح ضمير الغير (1كورنثوس 8: 12 و13)، وليس على اعتبار الوصية هي أعظم من غيرها شأناً وأهمية. ونحن على يقين بأنّ الذين اغتسلوا بدماء المسيح لن يتنجّسوا بأكل الدم، كما أن النجسين لن يتطهّروا بعدم أكله.

ما يختص بنقل الدم إلى الجسم 

يرى قادة شهود يهوه أن نقل الدم إلى جسم الإنسان هو كأكله، وعليه ينهون  أتباعهم  عنه  مهما  كان  للأمر  من  عواقب *

------------------------------

*صاغت جمعية برج المراقبة إقراراً خطياً وزعته على جميع أعضائها. ينص هذا الإقرار بعدم موافقة حامله على نقل الدم إلى جسمه في حال تعرّضه لإصابة خطرة ولو أدى الأمر إلى موته. ويحمل غالبية الشهود هذا الإقرار ليكون بمتناول اليد عند الحاجة. كما أنه يُعلّق في أعناق الأطفال بعد توقيع ولي أمرهم عليه.

قالوا: "إن شريعة الله شملت كلّ أنواع الدم، دم الحيوان والإنسان...إن الأطباء يستعملون نقل الدم بكثرة في معالجة المرضى. فهل ينسجم ذلك مع مشيئة الله؟...إن الامتناع عن الدم يعني عدم إدخاله إلى أجسادنا على الإطلاق - لا يجب بأية طريقة على الإطلاق أن نُدخل إلى أجسادنا دم أشخاص آخرين  أو حتى دمنا الخاص الذي جرى خزنه ". [142]

نقول: ليس من وصية في كتاب الله تنهي عن حقن الدم في جسم الإنسان لإنقاذ حياته. وهناك فرق لا يجوز تجاهله بين تناول الدم بغرض إشباع الجسد وبين استخدام الدم من أجل إنقاذ حياة مهدّدة بالموت. ونحن إن كنا لا نأكل الدم من أجل الضمير، غير إننا نقبله بضمير صالح من أجل إنقاذ الحياة ناظرين إليه كعملٍ إنساني ينطوي على التضحية، ويذكّرنا بفداء المسيح وبدمائه الكريمة التي ارتضى بسفكها من أجل إحياء نفوسنا.

اعتراض: "يصاب كثيرون بسبب نقل الدم ويموت آلاف منهم كل سنة نتيجة لذلك". [143]

نقول: هذا منطق فاسد تماماً، والسير بموجبه يعني إلغاء معظم الوسائل التي اخترعتها واكتشفتها وطورتها البشرية. إن الذين يموتون بواسطة التخدير الطبي اليوم يشكلون أضعاف الذين يموتون جراء نقل الدم، فهل نطالب بإلغاء التخدير؟ ومئات الآلاف يموتون كل سنة بحوادث السير، لماذا لا نذم وسائل النقل ونقول بعدم توافقها مع فكر الله؟ لا ننكر حقيقة السلبيات التي تجلبها عملية نقل الدم، لكن الإصابات تبقى نادرة ومحدودة وسببها هو الإهمال والتكاسل في فحص الدم قبل نقله. فليس من الأمانة التعكز على الأخطاء البشرية وتضخيم النتائج لتثبيت معتقدهم. وهل افتكروا بالنتائج التي ستحصدها البشرية  لو  تبنى  الطب فكرة عدم نقل الدم؟

اعتراض: "ولكن المريض قد يموت حتى ولو قبل الدم...إذاً حاولنا إنقاذ حياتنا، بكسر شريعة الله، خسرناها إلى الأبد. لذلك قال يسوع: "فإنّ من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها. ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها" (متى 16: 25)...لنا إيمان تام بقدرة الله على إعطائنا الحياة ثانية...لا ننظر إلى حياتنا الحاضرة كشيء أثمن من ولائنا لله.[144]

الرد: وصلنا الآن إلى لبّ هذا التعليم الخطير والفتّاك بالإنسان وظهرت مقاصدهم بكلّ وضوح. إنه تعليم ينادي بالانتحار، ولكنه انتحار متستّر برداء التضحية والولاء لله. ولا نرى فرقاً ما بين معتقدهم وتعاليم إبليس، قتّال الناس، الذي طلب من المسيح أن يرميبنفسه من على جناح الهيكل مشجعاً إياه بآية من كتاب الله (متى 4: 6). وهذا عينه ما يروّج له شهود يهوه "اقتل نفسك بالامتناع عن نقل الدم مؤمناً بقدرة الله على إحيائك". وإننا نحدّد موقفنا من هذا التعليم كالآتي:

1 - يوجد موقف واحد لا يمكننا أن نتردّد فيه عن تسليم رقابنا للموت، وهو موقف الاستشهاد للمسيح. أما الموت بسبب الامتناع عن نقل الدم فلا ينمّ قط عن الولاء لله، بل هو تحقير للحياة. كما أنّ منع نقل الدم إلى الأطفال بغية إنقاذهم وضمان استمرارية حياتهم، يعني إنهاء هذه الحياة خلافاً لوصية الله: "لا تقتل". وعجباً كيف يمتنعون عن نقل الدم حفاظاً منهم على وصية استنبطوها ولا يمنعون سفكه خلافاً لوصية أعظم. فإنه بالحق يصدق فيهم قول الرب: "يصفّون عن البعوضة ويبلعون الجمل" (متى 23: 24).

2 – رغبة منا في إهداء نفوسهم إلى ما هو حق، سنقرّ جدلاً بوجوب الامتناع عن الدم فنسألهم: هل بلغوا الكمال المطلوب في كلمة الله حتى بات أمر خلاصهم أو هلاكهم متوقّفاً كلّياً على موقفهم من الدم؟ أين يذهبون بالخطايا اليومية من أفكار رديئة، وكلمات بذيئة، وظنون سيئة؟ إنّ الذي يرفق بضعف الإنسان في هذه كلّها قادر أيضاً أن يرفق بضعفه في أمر الدم. وكما أوجد الله لداود منفذاً من الموت جوعاً وسمح له بأكل خبز التقدمة الذي لا يحلّ أكله إلا للكهنة (متى 12: 3 و4)، وكما أشفق على المواشي والحمير وسمح بحلّها وسقيها في السبت المقدس (لوقا 13: 15)، فهو يسمح بإنقاذ حياة طفل احتاج إلى الدم، لأنّ غاية كلّ وصية من وصاياه هي سلامة الإنسان وخيره. لكن حين يتمسك الإنسان بحرفية الوصية ويهمل روحها وغايتها ينقاد إلى التعصّب الذي يفقده البصيرة الروحية، فيخفق إذ ذاك في التمييز بين الخير والشر. وشهود يهوه اليوم هم خير صورة للفريسيين بالأمس، الذين إطاعةً لناموسهم أبَوا دخول دار الولاية لئلا يتنجّسوا، في الوقت الذي كانوا فيه يسلّمون المسيح البار للموت ويرتكبون أبشع الجرائم وأشنعها. فليس الدافع وراء قبول الشهود بالموت حباً وولاء لله، بل هو استعباد ضمائرهم لتعاليم هيئة بشرية.

3 - وقد فاتهم أيضاً أن الرحمة في ميزان الله هي أثقل بما لا يقاس من حفظ الناموس. وإنه لا توجد ذبيحة أو تقدمة ترضي الله وتفرّح قلبه كالرحمة: "وماذا يطلبه منك الرب إلاّ أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك" (ميخا 6: 8). فإنه حين وقف المسيح بين الحفاظ على السبت – يوم راحة الله - وبين الشفقة على المرضى والمصابين الذين أتوا إليه في السبت طالبين الشفاء، فضّل الرحمة على الناموس وشفاهم. كما أنه لم يردع تلاميذه عن اقتطاف السنابل في السبت من أجل سد جوعهم الجسدي، مما يؤكّد بلا شك أنّ استمرار الحياة وسلامتها هما لديه أثمن من التمسك بحرفية الناموس.

يا ليت معشر شهود يهوه، قبل أن يسلّموا أنفسهم وأبناءهم للموت اعتقاداً منهم بالتضحية في سبيل إرضاء الله، أن يلتفتوا ويصغوا لقول المسيح: "فاذهبوا وتعلّموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة" (متى 9 :13).

  • عدد الزيارات: 3709